إظهار الحق - ج ١ ـ ٢

رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي

إظهار الحق - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

القصيرة ، كانوا قادرين على الإتيان بمثلها ، قلت : هذه الملازمة ممنوعة لأن حكم الجملة قد يخالف حكم الأجزاء. ألا ترى أن كل شعرة شعرة لا يصلح أن يربط بها الفيل أو السفينة ، وإذا سوّي من الشعرات حبل متين يصلح أن يربط بهذا الحبل الفيل أو السفينة ، لأنها ، لو صحّت ، لزم أن يكون كل أحاد العرب قادرا على الإتيان بمثل فصحائهم كامرئ القيس واضرابه!؟

الأمر الثالث : كون القرآن منطويا على الإخبار عن الحوادث الآتية فوجدت في الأيام اللاحقة على الوجه الذي أخبر. / ١ / كقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ...) [الفتح : ٢٧] ، فوقع كما أخبر ودخل الصحابة المسجد الحرام آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين غير خائفين / ٢ / وكقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) [النور : ٥٥]. فكان الله وعد المؤمنين بجعل الخلفاء منهم وتمكين الدين المرضي لهم وتبديل خوفهم بالأمن ، فوفى وعده في مدة قليلة بأن ظهر في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أهل الإسلام تسلطوا على مكة وخيبر والبحرين ومملكة اليمن وأكثر ديار العرب ، وأن إقليم الحبش صار دار الإسلام بإيمان النجاشي الملك ، وأن أناسا من هجر وبعض المسيحيين من نواحي الشام قبلوا الإطاعة وأداء الجزية ، وأن هذا التسلط زاد في خلافة الصديق الأكبر رضي الله عنه بأن تسلّط أهل الإسلام على بعض ديار فارس وعلى بصرى ودمشق وبعض الديار الأخر من الشام أيضا ، ثم زاد هذا التسلط في خلافة الفاروق رضى الله عنه بأن تسلطوا على سائر ديار الشام وجميع مملكة مصر وعلى أكثر ديار فارس أيضا ، ثم زاد هذا التسلط في خلافة ذي النورين رضي الله عنه بأن تسلطوا في جانب الغرب إلى أقصى الأندلس والقيروان وفي جانب الشرق إلى حد الصين ، ففي مدة ثلاثين سنة تسلط أهل الإسلام على هذه الممالك تسلطا تاما وغلب دين الله المرضي على سائر الأديان في هذه الممالك ، فكانوا يعبدون الله آمنين غير خائفين. وفي خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، وإن لم يتسلط أهل الإسلام على الممالك الجديدة ، لكنه لا شبهة في ترقي الملة الإسلامية في عهده الشريف أيضا. / ٣ / وكقوله تعالى : (... سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ...) [الفتح : ١٦]. ووقع كما أخبر ، لأن المراد ب «قوم أولي بأس» ، على أظهر الوجوه وأشهرها بنو حنيفة ، قوم مسيلمة الكذاب والداعي الصدّيق الأكبر رضي الله عنه». / ٤ / وكقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ

٣٠١

بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة : ٣٣]. وحال هذا القول كحال القول الثاني. وسيظهر الوفاء الكامل لهذا الوعد عن قريب على ما هو المرجو إن شاء الله ، وهو على كل شيء قدير. / ٥ / وكقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) [الفتح : ١٨ ـ ٢١]. والمراد ب «الفتح القريب» فتح خيبر ، وب «المغانم الكثيرة» في الموضع الأول مغانم خيبر أو هجر. وب «المغانم الكثيرة» في الموضع الثاني المغانم التي تحصل للمسلمين من يوم الوعد إلى يوم القيامة ، وب «أخرى» مغانم هوازن أو فارس أو الروم. وقد وقع كما أخبر. / ٦ / وكقوله تعالى : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ...)) [الصف : ١٣]. فقوله (أُخْرى) أي يعطيكم خصلة أخرى. وقوله (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) مفسّر للأخرى. وقوله (فَتْحٌ قَرِيبٌ) أي عاجل ، وهو فتح مكة ، وقال الحسن هو فتح فارس والروم. وقد وقع كما أخبر / ٧ / وكقوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) [النصر : ١ ـ ٢]. والمراد ب «الفتح» فتح مكة ، لأن الأصح أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة ، لأن «إذا» يقتضي الاستقبال ، ولا يقال فيما وقع إذا جاء وإذا وقع. فحصل فتح مكة ودخل الناس في الإسلام فوجا بعد فوج من أهل مكة والطائف وغيرها في حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. / ٨ / وكقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ ...) [آل عمران : ١٢] ، وقد وقع كما أخبر فصاروا مغلوبين. / ٩ / وكقوله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ) ـ أي اذكروا إذ يعدكم ـ (اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) ـ القافلة الراجعة من الشام والقافلة الآتية من بيت الله الحرام ـ (أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) ـ أي القافلة الراجعة ـ (تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) [الأنفال : ٧] ، فوقع كما أخبر. / ١٠ / وكقوله تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٥]. لما نزلت هذه الآية بشّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بأن الله كفاه شرّهم وأذاهم ، وكان المستهزءون نفرا بمكة ينفرون الناس عنه ويؤذونه فهلكوا بضرب البلاء وفنون العناء ، فتمّ نوره وكمل ظهوره. / ١١ / وكقوله تعالى : (... وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ...) [المائدة : ٦٧] ، وقد وقع كما أخبر مع كثرة من قصد ضرره ، فعصمه الله حتى انتقل من الدار الدنيا إلى منازل الحسنى في العقبى. / ١٢ / وكقوله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) ـ أي أرض العرب ـ (وَهُمْ) ـ أي الروم ـ (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) ـ أي الفرس ـ (فِي

٣٠٢

بِضْعِ سِنِينَ) ـ أي ما بين الثلاثة والعشر ـ (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) [الروم : ١ ـ ٧]. الفرس كانوا مجوسا والروم والنصارى ، فورد خبر غلبة الفرس إياهم مكة ، ففرح المشركون وقالوا : أنتم والنصارى أهل الكتاب ونحن وفارس أميون لا كتاب لنا وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرن عليكم. فنزلت هذه الآيات. فقال أبو بكر رضي الله عنه : لا يقرّن الله أعينكم ، فو الله لتظهرن الروم على فارس في بضع سنين. فقال أبيّ بن خلف : كذبت أجعل بيننا وبينك أجلا. فراهنه على عشر قلائص من كل واحد منهما ، وجعلا الأجل ثلاث سنين. فأخبر أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، فزايده في الإبل وماده في الأجل ، فجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين. ومات أبيّ بعد ما رجع من أحد وظهرت الروم على فارس في السنة السابعة من مغلوبيتهم ، فأخذ أبو بكر القلائص من ورثة أبيّ. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصدق بها.

قال صاحب ميزان الحق في الفصل الرابع من الباب الثالث : «لو فرضنا صدق ادعاء المفسرين أن هذه الآية نزلت قبل غلبة الروم الفرس ، فنقول أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بظنه أو بصائب فكره لتسكين قلوب أصحابه. وقد سمع مثل هذه الأقوال من أصحاب العقل والرأي في كل زمان». انتهى. فقوله (لو فرضنا صدق ادعاء المفسرين) يشير إلى أن هذا الأمر ليس بمسلم عنده. وهذا عجيب ، لأن قوله تعالى : (سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) نص في أن هذا الأمر يحصل في الزمان المستقبل القريب ، في زمان أقل من عشر سنين ، كما هو مقتضى لفظ السنين والبضع ، وكذا قوله : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) وقوله : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) لأنهما يدلان على حصول فرح في الزمان الآتي ، وحصول هذا الأمر فيه ، ولا معنى للوعد وعدم الخلف في الأمر بعد وقوعه. وقوله أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بظنه أو بصائب فكره مردود بوجهين : الأول : ان محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من العقلاء عند المسيحيين أيضا. ويعترف بهذا القسيس النّبيل هاهنا ، وفي المواضع الأخر من تصانيفه. وليس من شأن العاقل المدّعي للنبوّة أن يدّعي ادعاء قطعيا أن الأمر الفلاني يكون في المدة القليلة هكذا البتة ، ويأمر معتقديه بالرهان على هذا ، سيما في مقابلة المنكرين الطالبين لمذلته المتفحصين لمزلة أقدامه في أمر لا يكون وقوعه مفيدا فائدة يعتد بها ويكون عدم وقوعه سببا لمذلته وكذبه عندهم ، ويحصل لهم سند عظيم لتكذيبه. والثاني : ان العقلاء وإن كانوا يقولون في بعض الأمور بعقولهم ويكون ظنهم صحيحا تارة وخطأ أخرى ، لكن جرت العادة الإلهية بأن القائل ، لو كان مدّعي النبوّة كذبا ويخبر عن الحادثة الآتية ويفتري على الله بنسبة هذا الخبر إلى الله ، لا يكون هذا الخبر صحيحا ، بل يخرج خطأ وغلطا البتة ، كما ستعرف في آخر هذا المبحث إن شاء الله.

٣٠٣

/ ١٣ / وكقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر : ٤٤ ـ ٤٥] وعن عمر ، رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : لما نزلت لم أعلم ما هو حتى كان يوم بدر ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يلبس درعه ويقول : سيهزم الجمع ، فعلمته. / ١٤ / وكقوله تعالى : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) [التوبة : ١٤] ، وقد وقعت هذه الأقوال كما أخبر. / ١٥ / وكقوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) ـ إما بالطعن في محمد وعيسى عليهما‌السلام ، وإما بتخويف الضعفة من المسلمين ـ (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) [آل عمران : ١١١]. فأخبر فيه عن ثلاث مغيبات : الأول : ان المؤمنين يكونوا آمنين من ضرر اليهود. والثاني : لو قاتلوا المؤمنين ينهزمون. والثالث : انه لا يحصل لهم قوة وشوكة بعد الانهزام. وكلها وقع. / ١٦ / وكقوله تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ...) [آل عمران : ١١٢] ، وقد وقع كما أخبر. وليس لليهود وحكومة في موضوع من المواضع ، وفي كل إقليم يوجدون رعايا مضروبا عليهم الذلة. / ١٧ / وكقوله تعالى : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ...) [آل عمران : ١٥١] ، وقد وقع يوم أحد بوجهين كما أخبر : الأول : ان المشركين لما استولوا يوم أحد على المسلمين وهزموهم أوقع الله الرعب في قلوبهم ، فتركوهم وفروا منهم من غير سبب. والثاني : انهم لما ذهبوا إلى مكة ، فلما كانوا في بعض الطريق ندموا ، فقالوا : بشما صنعتم أنكم قتلتموهم ، حتى إذا لم يبق إلا الشديد تركتموهم. ارجعوا فاستأصلوهم قبل أن يجدوا قوة وشوكة. فقذف الله في قلوبهم الرعب ، فذهبوا إلى مكة. / ١٨ / وكقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] أي من التحريف والزيادة والنقصان مما تواتر عند علماء الأعيان من قرّاء الزمان. وقد وقع كما أخبر. فما قدر أحد من الملاحدة والمعطلة والقرامطة أن يحرّف شيئا منه ، لا حرفا من حروف مبانيه ولا من حروف معانيه ، ولا إعرابا من إعراباته إلى هذه المدة التي نحن فيها ، أعني ألفا ومائتين وثمانين من الهجرة ، بخلاف التوراة والإنجيل وغيرهما ، كما عرفت في الباب الأول والثاني. والحمد لله على إتمام هذه النعمة. / ١٩ / وكقوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) ـ أي التحريف بالزيادة والنقصان ـ (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢]. وحال هذا القول كالقول السابق. / ٢٠ / وكقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) ـ أي أحكامه وفرائضه ـ (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥] روي أنه ، عليه‌السلام ، لما خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب ، فلما أمن ، رجع إلى الطريق ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة ، وعرف الطريق

٣٠٤

إلى مكة ، واشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه. فنزل جبريل عليه‌السلام وقال : تشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال عليه‌السلام : نعم. فقال جبريل عليه‌السلام : فإن الله تعالى يقول : إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد ، يعني إلى مكة ، ظاهرا عليهم. / ٢١ / وكقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ) ـ أي أيها اليهود ـ (الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) ـ أي ما عاشوا ـ (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [البقرة : ٩٤ ـ ٩٥] والمراد بالتمني بالقول ولا شك أنه ، عليه الصلاة والسلام ، ومع تقدمه في الرأي والحزم وحسن النظر في العاقبة ، كما هو المسلم عند المخالف والموافق ، والوصول إلى المنزل الذي وصل إليه في الدارين ، والوصول إلى الرئاسة العظيمة ، لا يجوز له ، وهو غير واثق من جهة الرب بالوحي ، أن يتحدى أعدى الأعداء بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجة ، لأن العاقل الذي لم يجرب الأمور لا يكاد يرضى بذلك ، فكيف الحال في أعقل العقلاء؟ فثبت أنه ما أقدم على هذا التحدي إلا بعد الوحي واعتماده التام. وكذا لا شك أنهم كانوا من أشد أعدائه ، وكانوا أحرص الناس في تكذيبه ، وكانوا متفكرين في الأمور التي بها ينمحي الإسلام أو يحصل الذلة لأهله ، وكان المطلوب منهم أمرا سهلا لا صعبا. فلو لم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادقا في دعواه عندهم لبادروا إلى القول به لتكذيبه ، بل أعلنوا هذا التمني بالقول مرارا وشهروا أنه كاذب يفتري على الله أنه قال كذا ، ويدّعي من جانب نفسه ادعاء ، ويقول تارة : والذي نفسي بيده لا يقولها رجل منهم إلّا غصّ بريقه ، يعني مات مكانه ، ويقول تارة : لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ونحن تمنينا مرارا وما متنا مكاننا. فظهر ، بصرفهم عن تمنيهم مع كونهم على تكذيبه أحرص الناس ، معجزته وبانت حجته. وفي هذه الآية إخباران عن الغيب : الأول : أن قوله (لَنْ يَتَمَنَّوْهُ) يدل دلالة بينة على أن ذلك لا يقع في المستقبل من أحد منهم ، فيفيد عموم الأشخاص. والثاني : ان قوله (أَبَداً) يدل على أنه لا يوجد في شيء من الأزمنة الآتية في المستقبل ، فيفيد عموم الأوقات. فبالنظر إلى العمومين هما غيبان. / ٢٢ / وكقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٣ ـ ٢٤]. فأخبر بأنهم لا يفعلون البتة ، ووقع كما أخبر. وهذه الآية دالة على الإعجاز من وجوه أربعة : أولها : انّا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا في غاية العداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي غاية الحرص على إبطال أمره ، لأن مفارقة الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج من أقوى الأدلة على ذلك ، فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع ، وهو قوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) صار حرصهم أشد. فلو كانوا قادرين على الإتيان بمثل

٣٠٥

القرآن أو بمثل سورة منه لأتوا به ، فحيث ما أتوا به ظهر الإعجاز. وثانيهما : ان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان متهما عندهم في أمر النبوّة ، لكنه كان معلوم الحال في وفور العقل والفضل والمعرفة بالعواقب. فلو كان كاذبا ما تحداهم بالغا في التحدي إلى النهاية ، بل كان عليه أن يخاف مما يتوقعه من فضيحة يعود وبالها على جميع أموره. فلو لم يعلم بالوحي عجزهم عن المعارضة لما جاز أن يحملهم عليها بهذا التقريع. وثالثها : انه لو لم يكن قاطعا في أمره لما قطع في أنهم لا يأتون بمثله ، لأن المزوّر لا يجزم بالكلام ، فجزمه يدل على كونه جاز ما في أمره. ورابعها : انه وجد مخبر هذا الخبر على ذلك الوجه لأنه من عهده عليه‌السلام إلى عصرنا هذا لم يخل وقت من الأوقات ممن يعادي الدين والإسلام ، وتشددوا عليه في الوقيعة فيه ، ثم أنه مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة قط. فهذه الوجوه الأربعة في الدلالة على الإعجاز مما تشتمل عليه هذه الآية. فهذه الأخبار وأمثالها تدل على كون القرآن كلام الله لأن عادة الله جارية على أنّ مدّعي النبوّة لو أخبر عن شيء ونسب إلى الله كذبا لا يخرج خبره صحيحا. في الباب الثامن عشر من كتاب الاستثناء هكذا : «فإن أحببت وقلت في قلبك كيف أستطيع أن أميّز الكلام الذي لم يتكلمه الرب ، فهذه تكون لك آية ان ما قاله ذلك النبيّ باسم الرب ولم يحدث ، فهذا الرب لم يكن تكلم به ، بل ذلك النبيّ صوّره في تعظيم نفسه ولذلك لا تخشاه».

الأمر الرابع : (١) ما أخبر من أخبار القرون السالفة والأمم الهالكة. وقد علم أنه كان أميا ما قرأ ولا كتب ولا اشتغل بمدارسة مع العلماء ولا مجالسة مع الفضلاء ، بل تربّى بين قوم كانوا يعبدون الأصنام ولا يعرفون الكتاب وكانوا عارين عن العلوم العقلية أيضا ، ولم يغب عن قومه غيبة يمكن له التعلم فيها من غيرهم. والمواضع التي خالف القرآن فيها ـ في بيان القصص والحالات المذكورة ـ كتب أهل الكتاب ، كقصة صلب المسيح عليه‌السلام وغيرها ، فهذه المخالفة قصدية ، إما لعدم كون بعض هذه الكتب أصلية كالتوراة والإنجيل المشهورين ، وإما لعدم كونها إلهامية. ويدل على ما ذكرت قوله تعالى إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون.

الأمر الخامس : ما فيه من كشف أسرار المنافقين حيث كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكر والكيد. وكان الله يطلع رسوله على تلك الأحوال حالا فحالا ويخبره عنها على سبيل التفصيل. فما كانوا يجدون في كل ذلك إلا الصدق. وكذا ما فيه من كشف حال اليهود وضمائرهم.

__________________

(١) يتابع المؤلّف تفصيل الأمور المشتمل عليها الفصل الأول من الباب الخامس ، والتي يتأيّد بها أن القرآن كلام الله. وقد سبق تفصيل ثلاثة أمور ...

٣٠٦

الأمر السادس : جمعه لمعارف جزئية وعلوم كلية لم تعهد العرب عامة ولا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خاصة من علم الشرائع والتنبيه على طرق الحجج العقلية والسير والمواعظ والحكم وأخبار الدار الآخرة ومحاسن الآداب والشيم وتحقيق الكلام.

في هذا الباب أن العلوم إما دينية أو غيرها. ولا شك أن الأولى أعظمها شأنا وأرفعها مكانا. فهي إما علم العقائد والأديان ، وإما علم الأعمال. أما علم العقائد والأديان فهو عبارة عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، أما معرفة الله تعالى فهي عبارة عن معرفة ذاته ومعرفة صفات جلاله ومعرفة صفات إكرامه وأفعاله ومعرفة أحكامه ومعرفة أسمائه. والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل وتفاريعها وتفاصيلها على وجه لا يسويه شيء من الكتب ، بل لا يقرب منه. وأما علم الأعمال فهو إما أن يكون عبارة عن علم التكاليف المتعلقة بالظواهر ، وهو علم الفقه ، ومعلوم أن جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن ، وإما أن يكون علم التصوّف المتعلق بتصفية الباطن ورياضة القلوب. وقد حصل في القرآن من مباحث هذا العلم ما لا يوجد في غيره. كقوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] ، وقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ...) [النحل : ٩٠] ، وقوله : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت : ٣٤]. فقوله «ادفع بالتي هي أحسن» يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالخصلة التي هي أحسن ، وهي الصبر ومقابلة السيئة بالحسنة. وقوله : «فإذا الذي ... إلخ» يعني إذا قابلت إساءتهم بالإحسان ، وأفعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة ، تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ، ومن البغضة إلى المودة. ونحو هذه أقوال كثيرة فيه. فثبت أنه جامع لجميع العلوم النقلية أصولها وفروعها. ويوجد فيه التنبيه على أنواع الدلالات العقلية ، والرد على أرباب الضلال ببراهين قاهرة وأدلّة باهرة ، سهلة المباني ، مختصرة المعاني ، كقوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ...) [يس : ٨١] ، وكقوله تعالى : (... يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ...) [يس : ٧٩] ، وكقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ...) [الأنبياء : ٢٢]. ولنعم ما قيل : جميع العلم في القرآن ، لكن تقاصر عنه افهام الرجال.

الأمر السابع : كونه بريئا عن الاختلاف والتفاوت ، مع أنه كتاب كبير مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم. فلو كان ذلك من عند غير الله لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة ، لأن الكتاب الكبير الطويل لا ينفكّ عن ذلك. ولما لم يوجد فيه ذلك ، علمنا أنه ليس من عند غير

٣٠٧

الله كما قال الله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢]. وإلى هذه الأمور السبعة المذكورة أشار الله تعالى بقوله : (... أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) [الفرقان : ٦] ، لأن مثل هذه البلاغة والأسلوب العجيب والأخبار عن الغيوب والاشتمال على أنواع العلوم والبراءة عن الاختلاف والتفاوت ، مع كون الكتاب كبيرا مشتملا على أنواع العلوم لا يأتي إلا من العالم الذي لا يغيب عن علمه مثقال ذرّة مما في السموات والأرض.

الأمر الثامن : كونه معجزة باقية متلوة في كل مكان مع تكفل الله بحفظه ، بخلاف معجزات الأنبياء ، فإنها انقضت بانقضاء أوقاتها ، وهذه المعجزة باقية على ما كانت عليه من وقت النزول إلى زماننا هذا. وقد مضت مدة ألف ومائتين وثمانين وحجتها قاهرة ، ومعارضته ممتنعة. وفي الأزمان كلها القرى والأمصار مملوءة بأهل اللسان وأئمة البلاغة ، والملحد فيهم كثير ، والمخالف العنيد حاضر ومهيأ ، وتبقى إن شاء الله هكذا ما بقيت الدنيا وأهلها في خير وعافية. ولما كان المعجز منه بمقدار أقصر سورة ، فكل جزء منه بهذا المقدار معجزة. فعلى هذا ، يكون القرآن مشتملا على أكثر من ألفي معجزة.

الأمر التاسع : إن قارئه لا يسأمه ، وسامعه لا يمجه ، بل تكراره يوجب زيادة محبته ، كما قيل :

وخير جليس لا يمل حديثه

وترداده يزداد فيه تجمّلا

وغيره من الكلام. ولو كان بليغا في الغاية يمل مع الترديد في السمع ويكره في الطبع. ولكن هذا الأمر بالنسبة إلى من له قلب سليم ، لا إلى من له طبع سقيم.

الأمر العاشر : كونه جامعا بين الدليل ومدلوله ، فالتالي له إذا كان ممن يدرك معانيه يفهم مواضع الحجة والتكليف معا في كلام واحد باعتبار منطوقه ومفهومه ، لأنه ببلاغة الكلام يستدل على الإعجاز ، وبالمعاني يقف على أمر الله ونهيه ووعده ووعيده.

الأمر الحادي عشر : حفظه لمتعلميه بالسهولة ، كما قال الله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ...) [القمر : ١٧ و ٢٢ و ٣٢ و ٤٠] ، فحفظه ميسّر على الأولاد الصغار في أقرب مدة. ويوجد في هذه الأمة في هذا الزمان أيضا ، مع ضعف الإسلام في أكثر الأقطار ، أزيد من مائة ألف من حفاظ القرآن بحيث يمكن أن يكتب القرآن من حفظ كل منهم من الأول إلى الآخر بحيث لا يقع الغلط في الإعراب ، فضلا عن الألفاظ. ولا يخرج في جميع ديار أوروبا عدد حفاظ الإنجيل بحيث يساوي الحفاظ في قرية من قرى مصر مع فراغ بال

٣٠٨

المسيحيين وتوجههم إلى العلوم والصنائع منذ ثلاثمائة سنة. وهذا هو الفضل البديهي لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكتابهم.

الأمر الثاني عشر : الخشية التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماع القرآن ، والهيبة التي تعتري تاليه. وهذه الخشية قد تعتري من لا يفهم معانيه ولا يعلم تفسيره. فمنهم من أسلم لها لأول وهلة ، ومنهم من استمر على كفره ، ومنهم من كفر حينئذ ثم رجع بعده إلى ربه. روي أن نصرانيا مرّ بقارئ فوقف يبكي ، فسئل عن سبب البكاء ، فقال : الخشية التي حصلت له من أثر كلام الرب. وأن جعفرا الطيار ، رضي الله عنه ، لمّا قرأ القرآن على النجاشي وأصحابه ما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر ، رضي الله عنه ، من القراءة. وأن النجاشي أرسل سبعين عالما من العلماء المسيحية إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأ عليهم سورة يس فبكوا وآمنوا ، فنزل في حق الفريقين أو أحدهما قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة : ٨٣]. وقد عرفت حال جبير بن مطعم ، رضي الله عنه ، وعتبة وابن المقنع ويحيى بن حكم الغزالي. وقال نور الله الشوشتري في تفسيره أن العلّامة علي القوشجي لما راح من وراء النهر إلى الروم ، جاء إليه حبر من أحبار اليهود لتحقيق الإسلام ، وناظره إلى شهر وما سلم دليلا من أدلة العلّامة إلى هذا الحين. فجاء يوما وقت الصبح ، كان العلّامة مشتغلا بتلاوة القرآن على سطح الدار وكان كريه الصوت في الغاية ، فلما دخل الباب وسمع القرآن أثر القرآن في قلبه تأثيرا بليغا. فلما وصل إلى العلّامة قال إني أدخل في الإسلام ، فأدخله العلّامة في الإسلام ، ثم سأل عن السبب ، فقال : ما سمعت مدة عمري كريه الصوت مثلك ، فلما وصلت إلى الباب سمعت منك القرآن وقد حصل تأثيره البليغ فيّ فعلمت أنه وحي. فثبت من الأمور المذكورة أن القرآن معجز وكلام الله. كيف لا ، وحسن الكلام يكون لأجل ثلاثة أشياء : أن تكون ألفاظه فصيحة ، وأن يكون نظمه مرغوبا ، وأن يكون مضمونه حسنا. وهذه الأمور الثلاثة متحققة في القرآن بلا ريب.

ونختم هذا الفصل ببيان ثلاث فوائد :

الفائدة الأولى : سبب كون معجزة نبيّنا من جنس البلاغة أيضا ، أن بعض المعجزات تظهر في كل زمان من جنس ما يغلب على أهله أيضا ، لأنهم يبلغون فيه الدرجة العليا ، فيقفون فيه على الحدّ الذي يمكن للبشر الوصول إليه. فإذا شاهدوا ما هو خارج عن الحدّ المذكور ، علموا أنه من عند الله. وذلك كالسحر في زمن موسى عليه‌السلام ، فإنه كان غالبا على أهله وكاملين فيه. ولما علم السحرة الكلمة أن حد السحر تخييل لما لا ثبوت له حقيقة ، ثم رأوا

٣٠٩

عصاه انقلبت ثعبانا يتلقف سحرهم الذي كانوا يقلبونه من الحق الثابت إلى المتخيل الباطل من غير أن يزداد حجمها ، علموا أنه خارج عن السحر ومعجزة من عند الله ، فآمنوا به. وأما فرعون فلما كان قاصرا في هذه الصناعة ظن أنه سحر أيضا ، وإن كان أعظم من سحر سحرته.

وكذا الطب لما كان غالبا على أهل زمن عيسى عليه‌السلام وكانوا كاملين فيه ، فلما رأوا إحياء الميت وإبراء الأكمه علموا بعلمهم الكامل أنهما ليسا من حدّ الصناعة الطبية ، بل هو من عند الله. والبلاغة قد بلغت في عهد الرسول عليه‌السلام إلى الدرجة العليا ، وكان بها فخارهم ، حتى علقوا القصائد السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها ، كما تشهد به كتب السير. فلما أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما عجز عن مثله جميع البلغاء ، علم أن ذلك من عند الله قطعا.

الفائدة الثانية : نزول القرآن منجما ومفرقا ولم ينزل دفعة واحدة بوجوه : أحدها : ان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن من أهل القراءة ، فلو نزل عليه ذلك جملة واحدة كان لا يضبطه ولجاز عليه السهو. ثانيها : لو أنزل الله عليه الكتاب دفعة فربما اعتمد على الكتّاب وتساهل في الحفظ. فلما أنزله الله منجما حفظه وبقي سنّة الحفظ في أمته. وثالثها : في صورة نزول الكتاب دفعة. لو كان نزول جميع الأحكام دفعة واحدة على الخلق لكان يثقل عليهم ذلك ولما نزل مفرقا لا جرم نزلت التكاليف قليلا قليلا فكان تحملها أسهل كما روي عن بعض الصحابة ، أنه قال : لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان. كنا مشركين ، فلو جاء رسول الله بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا ، فما كنا ندخل في الإسلام ، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة. فلما قبلناها وذقنا حلاوة الإيمان ، قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة ، إلى أن تمّ الدين وكملت الشريعة. ورابعها : انه إذا شاهد جبريل حالا بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته. فكان أقوى على أداء ما حمل ، وعلى الصبر على عوارض النبوّة ، وعلى احتمال أذية القوم. وخامسها : انه لما تمّ شرط الإعجاز فيه ، مع كونه منجما ، ثبت كونه معجزا. فإنهم لو قدروا لوجب أن يأتوا بمثله منجما مفرقا. وسادسها : كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم والوقائع الواقعة لهم ، فكانوا يزدادون بصيرة. لأن الاخبار عن الغيوب كان ينضم بسبب ذلك إلى الفصاحة. وسابعها : ان القرآن لما نزل منجما مفرقا وتحداهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أول الأمر ، فكأنه تحداهم بكل واحد من نجوم القرآن ، فلما عجزوا عنه كان عجزهم من معارضة الكل أولى. فثبت بهذا الطريق أن القوم عاجزون عن المعارضة لا محالة. وثامنها : ان السفارة بين الله وبين أنبيائه وتبليغ كلامه إليهم منصب عظيم ، فلو نزل القرآن دفعة واحدة كان زوال هذا المنصب عن جبريل عليه‌السلام محتملا ، فلما نزل مفرقا منجما بقي ذلك المنصب العظيم عليه.

٣١٠

الفائدة الثالثة : سبب تكرار بيان التوحيد وحال القيامة وقصص الأنبياء في مواضع ، أن العرب كانوا مشركين وثنيين ينكرون هذه الأشياء. وغير العرب ، بعضهم مثل أهل الهند والصين والمجوس ، كانوا مثل العرب في الإنكار ، وبعضهم كأهل التثليث كانوا في الإفراط والتفريط في اعتقاد هذه الأشياء. فلأجل التقرير والتأكيد كرر بيان هذه الأشياء. ولتكرار القصص أسباب أخر أيضا ، منها أن إعجاز القرآن ، لما كان باعتبار البلاغة أيضا وكان التحدي بهذا الاعتبار ، فكررت القصص بعبارات مختلفة إيجازا وإطنابا مع حفظ الدرجة العليا للبلاغة في كل مرتبة ليعلم أنّ القرآن ليس كلام البشر. لأن هذا الأمر عند البلغاء خارج عن القدرة البشرية ، ومنها أنه كان لهم أن يقولوا أن الألفاظ الفصيحة التي كانت مناسبة لهذه القصة استعملتها ، وما بقيت الألفاظ الأخرى مناسبة لها ، وأن يقولوا أن طريق كل بليغ يخالف طريق الآخر ، فبعضهم يقدر على الطريق المطنب ، وبعضهم على الموجز ، فلا يلزم من عدم القدرة على نوع عدم القدرة مطلقا ، أو أن يقولوا أن دائرة البلاغة ضيقة في بيان القصص ، وما صدر عنك بيانها مرة فمحمول على البخت والاتفاق ، فلما كررت القصص إيجازا وأطنابا لم يبق عذر من هذه الأعذار الثلاثة ، ومنها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يضيق صدره بإيذاء القوم وشرهم ، كما أخبر الله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) [الحجر : ٩٧] ، فيقصّ الله قصة من قصص الأنبياء مناسبة لحاله في ذلك الوقت لتثبيت قلبه ، كما أخبر الله تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود : ١٢٠] ، ومنها أن المسلمين كانوا يحصل لهم الإيذاء من أيدي الكفار ، أو أن قوما كانوا يسلمون ، أو أن الكفار كان المقصود تنبيههم ، فكان الله ينزل في كل موضع من هذه القصص ما يناسبه ، لأن حال السلف تكون عبرة للخلف ، ومنها أن القصة الواحدة قد تشتمل على أمور كثيرة فتذكر تارة ويقصد بها بعض الأمور قصدا وبعضها تبعا وتعكس مرة أخرى.

٣١١

الفصل الثاني

في رفع شبهات القسّيسين على القرآن

الشّبهة الأولى : لا نسلم أن عبارة القرآن في الدرجة القصوى من البلاغة الخارجة عن العادة. ولو سلمنا ذلك فهو يكون دليلا ناقصا على الإعجاز لأنه لا يظهر إلا لمن كان له معرفة تامة بلسان العرب ، ويلزم أن يكون جميع الكتب التي توجد في الألسن الأخرى مثل اليوناني واللاطيني وغيرهما في الدرجة العالية من البلاغة كلام الله. على أنه يمكن أن تؤدي المطالب الباطلة والمضامين القبيحة بألفاظ فصيحة وعبارات بليغة في الدرجة القصوى.

والجواب : عدم تسليم كون عبارة القرآن في الدرجة العليا مكابرة محضة ، لما عرفت في الأمر الأول والثاني من الفصل الأول. وقولهم : (لأنه لا يظهر إلا لمن كان له معرفة تامة بلسان العرب) حق ، لكن التقريب غير تام. لأن هذه المعجزة ، لما كانت لتعجيز البلغاء والفصحاء ، وقد ثبت عجزهم ولم يعارضوا واعترفوا بها ، وعرفها أهل اللسان بسليقتهم ، وغيرهم من العلماء بمهارتهم في فن البيان وإحاطتهم بأساليب الكلام ، وعرفها العوّام في الفرق بشهادة ألوف ألوف من أهل اللسان والعلماء. فظهر أنها معجزة يقينا ، ودليل كامل لا ناقص ، كما زعموا ، وصارت سببا من الأسباب الكثيرة التي يعلم بها أن القرآن كلام الله. ولا يدّعي أهل الإسلام أن سبب كون القرآن كلام الله منحصر في كونه بليغا فقط ، وكذا لا يدّعون أن معجزة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم منحصرة في بلاغة القرآن فقط ، بل يدّعون أن هذه البلاغة سبب من الأسباب الكثيرة لكون القرآن كلام الله وأن القرآن بهذا الاعتبار أيضا معجزة من المعجزات الكثيرة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما عرفت في الفصل الأول وستعرف في الباب السادس إن شاء الله تعالى. وهذه المعجزة ظاهرة في هذا الزمان أيضا لألوف ألوف من أهل اللسان وماهري علم البيان ، وعجز المخالفين ثابت من ظهورها إلى هذا الحين ، وقد مضت مدة ألف ومائتين

٣١٢

وثمانين من الهجرة. وقد عرفت في الأمر الثاني من الفصل الأول أن قول النظام مردود ، وما قال أبو موسى ـ الملقب بمزدار راهب المعتزلة ـ ان الناس قادرون على مثل هذا القرآن فصاحة ونظما وبلاغة فهو مردود أيضا كقول النظام. على أن مزدار هذا كان رجلا مجنونا استولت على دماغه اليبوسة بسبب كثرة الرياضة ، فهذى بأمثال هذه الهذيانات كثيرا. مثلا كان يقول أن الله قادر على أن يكذب ويظلم ولو فعل لكان إلها كاذبا ظالما ، وأن من لا بس السلطان كافر لا يرث ولا يورث منه ، وقوله يلزم أن يكون جميع الكتب إلخ غير مسلم ، لأن هذه الكتب لم تثبت بلاغتها في الدرجة القصوى باعتبار الوجوه التي ذكرها في الأمر الأول والثاني من الفصل الأول ، ولم يثبت ادّعاء مصنفيها بالإعجاز ولا عجز فصحاء هذه الألسن عن معارضتها. فإن ادّعى أحد هذه الأمور بالنسبة إلى هذه الكتب فعليه الإثبات ، وإلّا فلا بدّ أن يمتنع عن مثل هذا الادعاء الباطل.

على أن شهادة بعض المسيحيين في حق الكتب المذكورة بأنها في هذه الألسن مثل القرآن في اللسان العربي في الدرجة العليا من البلاغة ، غير مقبولة ، لأنهم إذا لم يكونوا من أهل اللسان فلا يميّزون غالبا في لسان الغير بين المذكر والمؤنث ، ولا بين المفرد والتثنية والجمع ، ولا بين المرفوع والمنصوب والمجرور ، فضلا عن أن يميّزوا الأبلغ عن البليغ. وعدم تميزهم هذا لا يختص بالعربي ، بل فيه وفي العبراني واليوناني واللاطيني على طريقة واحدة. ومنشأ عدم التمييز سذاجة كلامهم ، سيما إذا كان هذا البعض من أهل انكلتره. فإنهم يشاركون في هذه السذاجة غيرهم من المسيحيين ويمتازون عنهم بعادة أخرى أيضا وهي أنهم إذا عرفوا ألفاظا معدودة من لسان الغير يظنون أنهم تبحّروا في المعرفة ، وإذا تعلموا مسائل معدودة من علم يعدّون أنفسهم من علماء هذا العلم. والفرنساويون واليونانيون طاعنون عليهم في هذه العادة. ويشهد على الدعوى الأولى أن الأب سركيس الهاروني مطران الشام جمع بإذن البابا اربانوس الثامن كثيرا من القسيسين والرهبان والعلماء ومعلمي اللسان العبراني والعربي واليوناني وغيرها ليصلحوا الترجمة العربية التي كانت مملوءة بالأغلاط الكثيرة والنقصانات الغزيرة ، فاجتهدوا في هذا الباب اجتهادا تاما في سنة ألف وستمائة وخمس وعشرين من الميلاد ، فأصلحوا. لكنه لما بقي بعد الإصلاح التام في تراجمهم النقصانات التي هي لازمة لسجية المسيحيين اعتذروا عنه في المقدمة التي كتبوها في أول تلك الترجمة. فانقل عذرهم عن المقدمة المذكورة بعبارتهم وألفاظهم وهي هذه : «ثم أنك في هذا النقل تجد شيئا من الكلام غير موافق قوانين اللغة بل مضادا لها ، كالجنس المذكر بدل المؤنث ، والعدد المفرد بدل الجمع ، والجمع بدل المثنى ، والرفع مكان الجر ، والنصب في الاسم ،

٣١٣

والجزم في الفعل ، وزيادة الحروف عوض الحركات ، وما يشابه ذلك فكان سببا لهذا كله سذاجة كلام المسيحيين ، فصار لهم نوع تلك اللغة مخصوصا ، ولكن ليس في اللسان العربي فقط ، بل في اللاطيني واليوناني والعبراني تغافلت الأنبياء والرسل والآباء الأولون عن قياس الكلام لأنه لم يرد روح القدس أن نقيد اتساع الكلمة الإلهية بالحدود المضيقة التي حدتها الفرائض النحوية ، فقدم لنا الأسرار السماوية بغير فصاحة وبلاغة». انتهى كلامهم.

ويشهد على الدعوى الثانية أن أبا طالب خان السياح ألف كتابا باللسان الفارسي سماه بالمسير الطالبي ، وهو مشتمل على أحوال سياحته ، وكتب فيه من حالات كل إقليم ساح فيه ما رأى فيه من المحاسن والذمائم. فكتب محاسن أهل انكلتره وذمائمهم ، فأترجم الذميمة الثامنة من كتابه لتعلّق الحاجة بها في هذا المقام فقال : «الثامنة خطؤهم في معرفة حد العلوم ولسان الغير ، لأنهم يحسبون أنفسهم عارفي كل لسان ومن أهل كل علم إذا عرفوا ألفاظا معدودة من ذلك اللسان أو مسائل معدودة من ذلك العلم ويؤلفون الكتب فيهما وينشرون هذه المزخرفات بعد الطبع. ووقفت على هذا المعنى بشهادة الفرانساويين واليونانيين ، لأن تحصيل ألسنتهم رائج في أهل انكلتره ، وحصل لي اليقين بمشاهدة تصرفاتهم في اللسان الفارسي». انتهى. ثم قال : «اجتمع في لندن الكتب الكثيرة من هذا النوع ، بحيث كاد أن تبقى الكتب الحقة بعد برهة من الزمان غير مميزة». انتهى كلامه. وقولهم (على أنه يمكن أن تؤدي المطالب الباطلة إلخ) لا ورود له في حق القرآن لأنه مملوء من أوله إلى آخره بذكر هذه الأمور السبعة والعشرين ، ولا تجد آية طويلة فيه تكون خالية عن ذكر أمر من هذه الأمور : / ١ / الصفات الكاملة الإلهية مثل كونه واحدا وقديما وأزليا وأبديا وقادرا وعالما وسميعا وبصيرا ومتكلما وحكيما وخبيرا وخالق السموات والأرض ورحيما ورحمانا وصبورا وعادلا وقدوسا ومحييا ومميتا وغيرها. / ٢ / تنزيه الله عن المعايب والنقائص مثل الحدوث والعجز والجهل والظلم وغيرها. / ٣ / الدعوة إلى التوحيد الخالص والمنع عن الشرك مطلقا وعن التثليث الذي هو شعبة الشرك يقينا ، كما علمت في الباب الرابع. / ٤ / ذكر الأنبياء عليهم‌السلام. / ٥ / تنزيههم عن عبادة الأوثان والكفر وغيرها. / ٦ / مدح المؤمنين بالأنبياء. / ٧ / ذم منكريهم. / ٨ / تأكيد الإيمان بالأنبياء عموما وبالمسيح خصوصا. / ٩ / الوعد بأن المؤمنين يغلبون المنكرين عاقبة الأمر. / ١٠ / حقيقة القيامة وجزاء الأعمال في يومها. / ١١ / ذكر الجنة والنار. / ١٢ / ذم الدنيا وبيان عدم ثباتها. / ١٣ / مدح العقبى وبيان ثباتها. / ١٤ / بيان حلّ الأشياء وحرمتها. / ١٥ / بيان أحكام تدبير المنزل. / ١٦ / بيان أحكام سياسات المدن. / ١٧ / التحريض على محبة الله وأهل الله. / ١٨ / بيان الأشياء التي هي ذريعة الوصول إلى

٣١٤

الله. / ١٩ / الزجر عن مصاحبة الفجار والفساق. / ٢٠ / تأكيد خلوص النية في العبادات البدنية والمالية. / ٢١ / التهديد على الرياء والسمعة. / ٢٢ / التأكيد على تهذيب الأخلاق بالإجمال والتفصيل. / ٢٣ / التهديد على الأخلاق الذميمة بالإجمال. / ٢٤ / مدح الأخلاق الحسنة مثل الحلم والتواضع والكرم والشجاعة والعفة وغيرها. / ٢٥ / ذم الأخلاق القبيحة مثل الغضب والتكبر والبخل والجبن والظلم وغيرها. / ٢٦ / وعظ التقوى. / ٢٧ / الترغيب إلى ذكر الله وعبادته. ولا شك أن هذه الأمور محمودة عقلا ونقلا ، وجاء ذكر هذه الأمور في القرآن مرارا للتأكيد والتقرير. ولو كانت هذه المضامين قبيحة فأي مضمون يكون حسنا. نعم ، لا يوجد في القرآن / ١ / أن النبي الفلاني زنى بابنته / ٢ / أو زنى بزوجة الغير وقتله بالحيلة / ٣ / أو عبد العجل / ٤ / أو ارتدّ في آخر عمره ، وعبد الأصنام ، وبنى المعابد لها / ٥ / أو افترى على الله الكذب ، وكذب في التبليغ وخدع بكذبه نبيا آخر مسكينا وألقاه في غضب الرب / ٦ / أو أن داود وسليمان وعيسى عليهم‌السلام كلهم من أولاد ولد الزنا وهو فارض بن يهودا / ٧ / أو أن الرسول الأعظم ابن الله البكر أبا الأنبياء زنى ابنه الأكبر بزوجة أبيه / ٨ / وابنه الثاني بزوجة ابنه ، وسمع هذا النبي العظيم الشأن ما صدر عن ابنيه المحبوبين وما أجرى عليهما الحدّ ، غير أنه دعا على الأكبر وقت موته لأجل هذه الحركة الشنيعة ولم ينقل في حق الآخر الغضب أيضا ، بل دعا له بالبركة التامة عند الموت / ٩ / أو أن الرسول العظيم الآخر البكر الثاني أيضا الزاني بزوجة الغير زنى ابنه الحبيب ببنته الحبيبة ، وسمع وما أجرى عليهما الحدّ. لعلّه امتنع عن الحدّ لأنه كان مبتلى بالزنا أيضا في زعمهم ، فكيف يجري على الغير سيما على أولاده؟ وهذا القدر مسلّم بين اليهود والنصارى ومصرّح به في كتب العهد العتيق المسلمة عند الفريقين / ١٠ / أو أن يحيى عليه‌السلام الرسول الذي هو أعظم الأنبياء الإسرائيلية بشهادة عيسى عليه‌السلام ، وإن كان الأصغر في ملكوت السموات ، أعظم منه بشهادة عيسى عليه‌السلام أيضا لم يعرف إلهه الثاني ومرسله الذي هو عيسى ـ باعتبار العلاقة المجهولة ـ معرفة جيدة إلى ثلاثين سنة ما لم يصر هذا الإله مريدا لعبده هذا ، وما لم يحصل الاصطباغ منه ، وما لم ينزل على هذا الإله الثاني الإله الثالث في شكل الحمامة. وبعد ما رأى نزول الثالث على الثاني في الشكل المذكور تذكر أمر الإله الأول الأب أن الإله الثاني هو ربه ومالكه وخالق الأرض والسموات / ١١ / أو أن الرسول الآخر السارق الذي كان عنده الكيس للسرقة ـ أعني يهودا الاسخريوطي الذي هو صاحب الكرامات والمعجزات وأحد الحواريين الذين هم أعلى منزلة من موسى بن عمران وسائر الأنبياء الإسرائيلية على زعمهم ـ باع دينه بدنياه بثلاثين درهما ، ورضي بتسليم إلهه بأيدي اليهود على هذه المنفعة القليلة حتى أخذوا إلهه وصلبوه. لعلّ هذه المنفعة كانت عظيمة عنده لأنه كان صيادا مفلوكا لصا ، وإن كان

٣١٥

رسولا صاحب معجزات أيضا على زعمهم ، فثلاثون درهما عنده كانت أحب وأعظم رتبة من هذا الإله المصلوب / ١٢ / أو أن قيافا رئيس الكهنة الذي ثبتت نبوّته بشهادة يوحنا الإنجيلي ، أفتى بقتل إلهه وكذّبه وكفّره وأهانه ، ووقع في حق هذا الإله المصلوب ثلاثة أمور عجيبة من ثلاثة أنبياء ، عدد التثليث ، أن أعظم أنبيائه الإسرائيلية لم يعرفه معرفة جيدة إلى ثلاثين سنة ، ما لم يصر هذا الإله مريدا له ، ولم ينزل عليه الإله الثالث في شكل الحمامة ، وأن نبيّه الثاني رضي بتسليمه ورجّح منفعة ثلاثين درهما على منزلة ألوهيته ووعده ، وأن رسوله الثالث أفتى بقتله وكذبه وكفره. أعاذنا الله من أمثال هذه الاعتقادات السوء في حق الأنبياء عليهم‌السلام. ولا يؤاخذني على ما نقلت هذه المزخرفات على سبيل الإلزام. والله ثم بالله لا أعتقد في حق الأنبياء هذه الكذبات وهم بريئون منها. وأقول : القدر الذي نقلت من حال يحيى عليه‌السلام إلى حال قيافا مصرّح به في العهد الجديد.

وكذا لا يوجد في القرآن هذه المسائل الفخيمة التي عجزت في أكثرها عقولنا بل عقول العالم ، ويعتقدها الفرقة القديمة العظيمة الشأن ، أعني فرقة كاتلك التي عددها بحسب ادعاء بعض آبائها في هذا الزمان أيضا بقدر مائتي مليون / ١ / ان مريم عليها‌السلام قد حبلت بها أمها بلا قرب الزوج ، كما انكشفت هذه الحقيقة على البابويين من مدة قريبة. / ٢ / أن مريم والدة الله حقيقة. / ٣ / ان كل خبز من الخبزات ، وإن كانت بمقدار مليونات غير متعددة ، يستحيل في العشاء الرباني في آن واحد في أمكنة مختلفة إلى المسيح الكامل بلاهوته وناسوته الذي تولّد من العذراء ، إذا فرض أن مليونات من الكهنة في أطراف العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا قدسوا في آن واحد. / ٤ / ان خبزا واحدا إذا كسره الكاهن ، ولو إلى مائة ألف كسرة ، يصير كل كسرة منه أيضا مسيحا كاملا ، وإن كان وجود الحبوب ثم الطحن ثم العجن ثم وجود الخبز ثم الكسرة كلها من الحوادث بمشاهدة ، فتعطل حكم الحس عندهم في هذه الأمور كلها. / ٥ / انه لا بدّ أن يصطنع الصور والتماثيل ويسجد قدامهن. / ٦ / انه لا خلاص بدون الإيمان بالبابا ، وإن كان غير صالح في نفس الأمر / ٧ / ان أسقف رومية هو البابا دون غيره ، وهو رأس الكنيسة ومعصوم من الغلط. / ٨ / ان كنيسة رومية هي أم الكنائس كلها ومعلمتها. / ٩ / إن للبابا ولمتعلقيه خزانة من قدر جزيل من استحقاقات القديسين أن يمنحوا الغفرانات ، سيما إذا استوفوا ثمنا وافيا لأجلها ، كما هو المروّج عندهم. / ١٠ / ان البابا له منصب تحليل الحرام وتحريم الحلال. قال المعلم ميخائيل مشاقة من علماء پروتستنت في الصفحة ٦٦ من كتابه المسمى بأجوبة الإنجيليين على أباطيل التقليديين المطبوع سنة ١٨٥٢ في بيروت هذا : «والآن تراهم يزوّجون العم بابنة أخيه ، والخال بابنة أخته ، والرجل بامرأة أخيه ذات الأولاد ، خلافا لتعليم الكتب المقدسة ولمجامعهم المعصومة. وقد أضحت هذه المحرمات حلالا عند

٣١٦

أخذهم الدراهم عليها. وكم من التحديدات وضعوها على الاكليريكيين بتحريم الزيجة الناموسية المأمور بها من رب الشريعة» انتهى كلامه بلفظه. ثم قال : «وكم حرموا أصناف الأطعمة ثم أباحوا ما حرموه ، وفي عصرنا أباحوا أكل اللحوم في صومهم الكبير الذي طالما شددوا بتحريمها فيه». انتهى كلامه بلفظه. وفي الرسالة الثانية من كتاب الثلاث عشرة رسالة في الصفحة ٨٨ : «فرنسيس ذا بادلا الكردينال يقول أن البابا مأذون أن يعمل ما يريد حتى ما لا يحلّ أيضا ، وهو أكبر من الله سبحان الله عما يصفون». انتهى كلامه بلفظه.

/ ١١ / ان أنفس الصديقين تتوجه إلى العذاب في المطهر وتتقلب في نيرانه حتى يمنحها البابا الغفران ، أو يخلصها القسوس بقداساتهم بعد استيلائهم على أثمانها ، وهو غير جهنم. وأهل هذه الفرقة يحصلون السندات من نواب البابا وخلفائه لتحصيل النجاة من عذابه. لكن العجب من هؤلاء العقلاء انهم إذا اشتروا سندات من هذا خليفة الله النافذ أمره في الأرض والسماء ، فلم لا يطلبون منه وصولات ممضية بختم الذين أعتقهم عن العذاب؟ ولما كانت قدرة الباباوات تزيد يوما فيوما بفيض روح القدس ، اخترع البابا لاون العاشر للمغفرة تذاكر تعطى منه أو من وكيله للمشتري بمغفرة خطاياه الماضية والمستقبلة أيضا ، وكان مكتوبا فيها هكذا : «ربنا يسوع المسيح يرحمك ويعفو عنك باستحقاقات آلامه المقدسة. وبعد فقد وهب لي بقدرة سلطان رسله بطرس وبولس والباب الجليل في هذه النواحي أن أغفر لك أولا عيوبك الاكليروسية مهما كانت ، ثم خطاياك ونقائصك ولو مهما كانت تفوت الإحصاء ، بل أيضا الخطايا المحفوظ حلها للبابا وبقدر امتداد مفاتيح الكنيسة الرومانية أغفر لك كل العذابات التي سوف تستحقها في المطهر ، وأردك إلى أسرار الكنيسة المقدسة وإلى اتحادها وإلى ما كنت حاصلا عليه عند عمادك من العفة والطهارة ، حتى انك متى مت تغلق في وجهك أبواب العذابات وتفتح لك أبواب الفردوس ، وإن لم تمت الآن فهي باقية لك بفاعليّة تامّة إلى آخر ساعة موتك باسم الأب والابن والروح القدس آمين». كتب بيد الأخ يوحنا تنزل الوكيل الثاني. / ١٢ / ان مسافة جهنم فراغ مكعب في قلب الأرض كل من أضلاعه مائتا ميل. / ١٣ / ان البابا يرسم الصليب على نعليه ، وغيره على وجهه لعلّ نعلي البابا ليسا أدون من الصليب ومن وجوه الأساقفة الآخرين. / ١٤ / ان بعض القديسين وجهه كوجه الكلب وجسده كجسد الإنسان وهو يشفع لهم عند الله. قال المعلم المذكور في الصفحة ١١٤ من كتابه المذكور ، طاعنا على تلك الفرقة : «وربما صوروا بعض قديسين على صورة لم يخلق الله مثلها كتصويرهم رأس كلب على جسم إنسان يسمونه القديس خريسطفورس ، ويقدمون له أنواع العبادة ، إذ يقبلونه ويسجدون أمامه ويشعلون له الشموع ويطلقون البخور ويلتمسون شفاعته. فهل يليق بالمسيحيين الاعتقاد بوجود العقل النطقي

٣١٧

والقداسة في أدمغة الكلاب؟ أين هي من عصمة كنائسهم من الغلط؟» انتهى كلامه بلفظه. وهذا القول (هل يليق بالمسيحيين إلخ) صادق يقينا. وهذا القديس مشابه لبعض قديسي مشركي الهند. ولعلّ محبة المسيحيين من أهل أوروبا للكلاب لأجل كونها على صورة هذا القديس المكرّم.

/ ١٥ / ان خشبة الصليب وتصاوير الأب الأزلي والابن والروح القدس يسجد لها بالسجود الحقيقي العبادي ، وأن صور القديسين يسجد لها بالسجود الإكرامي. وإني متحيّر ، ما معنى استحقاق الأشياء الأولية للسجود العبادي ، لأن تعظيمهم لخشبة الصليب لا يخلو إما أن يكون أن مثلها قد مسّ جسد المسيح وهو ارتفع عليه بحسب زعمهم ، وإما لأجل أنها واسطة فدائه ، وإما لأجل أن دمه سال عليه. فإن كان الأول يلزم أن يكون نوع الحمير معبودا لهم أعلى من الصليب عندهم ، لأن المسيح عليه‌السلام ركب على الأتان والجحش ومساجد المسيح وكان موضوعي راحته ودخوله ممجدا إلى أورشليم ، والحمار يشارك الإنسان في الجنس القريب والحيوانية ، فهو جسم نام حساس متحرك بالإرادة بخلاف الخشب الذي ليس له قدرة الحس والحركة. وإن كان الثاني فيهودا الاسخريوطي الدافع أحق بالتعظيم ، لأنه الواسطة الأولى والذريعة الكبرى للفداء. فإنه لو لا تسليمه لما أمكن لليهود مسك المسيح وصلبه ، ولأنه مساو للمسيح عليه‌السلام في الإنسانية وعلى صورة الإنسان الذي هو صورة الله ، وكان ممتلئا بروح القدس صاحب الكرامات والمعجزات. فالعجب أن هذه الواسطة الأولى عندهم ملعونة ، والصغرى مباركة معظّمة. وأما الثالث فلأن الشوك المضفور إكليلا على رأس المسيح عليه‌السلام قد فاز أيضا بالمنصب الأعلى ، وهو سيلان الدم عليه ، فما باله لا يعظم ولا يعبد ، ويشعل بالنار؟ وهذا الخشب يعبد إلا أن يقولوا أن هذا سر مثل سر التثليث ، والاستحالة له خارج عن إدراك العقول البشرية. وأفحش منه تعظيم صورة أقنوم الأب ، لأنك قد عرفت في الأمر الثالث والرابع من مقدمة الباب الرابع أن الله بريء عن الشبه وما رآه أحد ، ولا يقدر أن يراه أحد في الدنيا. فإذا كان كذلك فأي أب من آبائهم رآه فصوره؟ ومن أين علموا أن هذه الصورة مطابقة لصورته تعالى ، وليست مطابقة لصورة شيطان من الشياطين ، أو لصورة كافر من الكفار؟ ولم لا تعبدون كل إنسان سواء كان مسلما أو كافرا لأن الإنسان على صورة الله بحسب نص التوراة؟ العجب أن البابا يسجد لهذه الصورة الوهمية الجمادية التي لا حسّ ولا حركة لها ، ويحقر صورة الله التي هي الإنسان ، ويمد رجله لذلك الإنسان لكي يقبل حذاءه. وما ظهر لي فرق بين هؤلاء أهل الكتاب ومشركي الهند. وجدت عوامهم كعوامهم ، وخواصهم كخواصهم في هذه العبادة ، وعلماء مشركي الهند يقولون مثل قول علمائهم في الاعتذار. / ١٦ / ان البابا هو القاضي الأعلى في الحكم على تفسير معاني

٣١٨

الكتب. واخترعت هذه العقيدة في الأجيال المتأخرة ، وإلا لما قدر اكستاين وفم الذهب وغيرهما من القدماء ، الذين لم يكونوا باباوات ولم يستأذنوهم ، أن يفسروا جميع الكتب المقدسة من تلقاء أنفسهم ، وتفاسيرهم قبلت عند جميع كنائس عصرهم. لعلّ الباباوات حصل لهم هذا القضاء الأعلى بمطالعة تفاسيرهم بعد ما صنفوها. / ١٧ / ان الأساقفة والشمامسة ممنوعون من الزواج ، ولذلك يفعلون ما لا يفعله المتزوجون ، وقاوم في كثير من الأحيان بعض معلميهم اجتهاد الباباوات. فأنقل بعض أقوالهم عن كتاب الثلاث عشرة رسالة في الرسالة الثالثة في الصفحة ١٤٤ و ١٤٥ : «القديس برنردوس يقول ـ وعظ عدد ٦٦ في نشيد الانشاد ـ نزعوا من الكنيسة الزواج المكرم والمضجع الذي هو بلا دنس ، فملئوها بالزنا في المضاجع مع الذكور والأمهات والأخوات وبكل أنواع الأدناس. والفاروس بيلاجيوس أسقف سلفا في بلاد البورتكال سنة ١٣٠٠ يقول : يا ليت أن الأكليروسيين لم يكونوا نذروا العفة ، ولا سيما اكليروس سبانيا ، لأن أبناء الرعية هناك أكثر عددا بيسير من أبناء الكهنوت.

ويوحنا أسقف سالتزبرج في الجيل الخامس عشر كتب أنه وجد قسوسا قلائل غير معتادين على نجاسة متكاثرة مع النساء ، وإن أديرة الراهبات متدنسة مثل البيوت المخصوصة للزنا». انتهى كلامه بلفظه ملخصا. وكيف يعتقد أن العصمة في حقهم إذا كانوا شابين شاربي الخمر؟ وما نجا روبيل بن يعقوب عليه‌السلام فزنى ببلهاء سرية أبية ، ولا يهوذا بن يعقوب عليه‌السلام فزنى بزوجة ابنه ، ولا داود عليه‌السلام فزنى بزوجة أوريا مع كونه ذا زوجات كثيرة ، ولا لوط عليه‌السلام فزنى في حالة خمار الخمر بابنتيه وهكذا. فإذا كان حال الأنبياء وأبنائهم على عقائدهم هكذا ، فكيف يرجى منهم العصمة؟ بل الحق أن الفاروس بيلاجيوس ويوحنا صادقان في أن أبناء الرعية هناك أكثر عددا بيسير من أبناء الكهنوت ، وأن أديرة الراهبات متدنسة مثل البيوت المخصوصة للزنا.

وأمثال هذه المسائل كثيرة أطوي الكشح عن بيانها خوفا من التطويل فأقول :

لعلّ هذه المضامين العالية التي نقلتها وأمثالها لو وجدوها في القرآن لاعترفوا بأنه كلام الله وقبلوه ، لكنهم لما وجدوه خاليا عنها وعن أمثالها فكيف يعترفون ويقبلون؟ لأن المضامين الحسنة المألوفة عندهم هي هذه المضامين وأمثالها ، لا المضامين التي ذكرت في القرآن. وأما بعض المضامين التي توجد في القرآن في ذكر الجنة والنار وغيرهما ويزعمون أنها قبيحة فأذكرها إن شاء الله تعالى في الشّبهة الثالثة بأجوبتها فانتظر.

الشّبهة الثانية : ان القرآن مخالف لكتب العهد العتيق والجديد في مواضع فلا يكون كلام الله. والجواب الأول : ان هذه الكتب لما لم تثبت أسانيدها المتصلة إلى مصنفيها ،

٣١٩

وكذا لم يثبت أن كل كتاب منها إلهامي ، وقد ثبت أنها مختلفة اختلافا معنويا في مواضع كثيرة ومملوءة بالأغلاط الكثيرة يقينا ، كما عرفت هذه الأمور في الباب الأول ، وقد ثبت التحريف فيها أيضا ، كما عرفت في الباب الثاني ، فلا تضر مخالفتها القرآن في المواضع المذكورة ، بل تكون دليلا على كون المواضع المذكورة غلطا أو محرّفة في الكتب المذكورة كسائر الأغلاط والتحريفات التي عرفتها في البابين الأولين. وقد عرفت في الأمر الرابع من الفصل الأول من هذا الباب أن هذه المخالفة قصدية لأجل التنبيه على أن مخالف القرآن غلط أو محرّف لا أنها سهوية. والجواب الثاني : أن المخالفة التي بين القرآن وبين كتب العهدين في ذم القسيسين على ثلاثة أنواع : الأول : باعتبار الأحكام المنسوخة والثاني : باعتبار بعض الحالات التي جاء ذكرها في القرآن ولا يوجد ذكرها في العهدين؟ والثالث : باعتبار أن بيان بعض الحالات في القرآن يخالف بيان هذه الكتب ، ولا مجال لهم أن يطعنوا على القرآن باعتبار هذه الأنواع.

أما الأول : فلأنك قد عرفت في الباب السادس بما لا مزيد عليه أن النسخ لا يختص بالقرآن ، بل وجد في الشرائع السابقة بالكثرة ، وأنه لا استحالة فيه ، وأن الشريعة العيسوية نسخت جميع أحكام التوراة إلا تسعة أحكام من الأحكام العشرة المشهورة. وقد وقع فيها التكميل أيضا على زعمهم ، والتكميل أيضا نوع من أنواع النسخ ، فصارت هذه الأحكام أيضا منسوخة بهذا الوجه. فبعد ذلك ليس من شأن المسيحي العاقل أن يطعن على القرآن باعتبار هذا النوع.

وأما الثاني : فهو كالأول أيضا ، وشواهد كثيرة أكتفي منها على ثلاثة عشر شاهدا : الشاهد الأول : الآية التاسعة من رسالة يهودا هكذا : «وأما ميخائيل رئيس الملائكة فلما خاصم إبليس محاجا عن جسد موسى لم يجسر أن يورد حكم افتراء بل قال لينتهرك الرب». فمخاصمة ميخائيل إبليس عن جسد موسى لم تذكر في كتاب من كتب العهد العتيق. الشاهد الثاني : ثم في تلك الرسالة هكذا : «١٤ وتنبأ عن هؤلاء أيضا اخنوع السابع من آدم قائلا هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسية ١٥ ليصنع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها ، وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلّم بها عليه خطاط فجار». ولا أثر لهذا الخبر أيضا في كتاب من كتب العهد العتيق. الشاهد الثالث : الآية الحادية والعشرون من الباب الثاني عشر من الرسالة العبرانية هكذا : «وكان المنظر هكذا مخيفا حتى قال موسى أنا مرتعب ومرتعد». وهذا الحال مذكور في الباب التاسع عشر من سفر الخروج لكن لا يوجد فيه ولا في كتاب من كتب العهد العتيق هذه الفقرة «حتى قال موسى أنا مرتعب ومرتعد». الشاهد الرابع : الآية الثامنة من الباب الثالث من الرسالة الثانية إلى

٣٢٠