إظهار الحق - ج ١ ـ ٢

رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي

إظهار الحق - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

وقد عرفت في المثال الثامن عشر. والسادس : ان مقدّسهم ومفسّريهم استعملوا ألفاظا غير ملائمة بالنسبة إلى التوراة وأحكامها ، مع أنهم معترفون أنها كلام الله. السابع : انه لا إشكال في نسخ أحكام التوراة بالمعنى المصطلح عندنا إلّا في الأحكام التي صرّح فيها أنها أبديّة أو يجب رعايتها دائما طبقة بعد طبقة. لكن هذا الإشكال لا يرد عليها ، لأنّا نسلّم أولا أن هذه التوراة هي التوراة المنزلة أو تصنيف موسى ، كما علم في الباب الثاني. ونقول ثالثا إلزاما بأن الله قد يظهر له بدءا وندامة عمّا أمر أو فعل فيرجع عنه ، وكذلك يعد وعدا دائميا ثم يخلف وعده. وهذا الأمر الثالث أقوله إلزاما فقط ، لأنه يفهم من كتب العهد العتيق هكذا في مواضع ، كما ستعرف عن قريب. وإني وجميع علماء أهل السّنّة بريئون ومتبرّءون عن هذه العقيدة الفاسدة. نعم يرد هذا الإشكال عن المسيحيين الذين يعترفون بأن هذه التوراة كلام الله ومن تصنيف موسى ولم يحرّف. والندامة والبدء محالان في حق الله. والتأويل الذي يذكرونه في الألفاظ المذكورة بعيد عن الإنصاف وركيك جدا ، لأن المراد بهذه الألفاظ في كل شيء يكون بالمعنى الذي يناسبه. مثلا إذا قيل لشخص معيّن إنه دائما يكون كذا ، فلا يكون المراد بالدوام هاهنا إلّا المدة الممتدّة إلى آخر عمره. لأنّا نعلم بديهة أنه لا يبقى إلى فناء العالم وقيام القيامة. وإذا قيل لقوم عظيمة تبقى إلى فناء العالم ، ولو تبدّلت أشخاصها في كل طبقة بعد طبقة ، أنهم لا بدّ أن يفعلوا كذا دائما طبقة بعد طبقة ، أو إلى الأبد أو إلى آخر الدهر. فيفهم منه الدوام إلى فناء العالم بلا شبهة. وقياس أحدهما على الآخر مستبعد جدا. ولذلك علماء اليهود يستبعدون تأويلهم سلفا وخلفا وينسبون الاعتساف والغواية إليهم.

وأمثلة القسم الثاني (١) هي هذه : الأول : ان الله أمر إبراهيم عليه‌السلام بذبح إسحاق عليه‌السلام ، ثم نسخ هذا الحكم قبل العمل ، كما هو مصرّح به في الباب الثاني والعشرين من سفر التكوين. الثاني : انه نقل قول نبيّ من الأنبياء في حق عالي الكاهن في الباب الثاني من سفر صموئيل الأول هكذا : «٣٠ فالله إله إسرائيل يقول إني قلت إن بيتك وبيت أبيك يخدمون بين يدي دائما. لكن يقول الله الآن حاشا لي ، لا يكون الأمر كذلك. بل أكرم من يكرمني ومن يحقرني يصير ذليلا ٣٤ وأنا أقيم لنفسي كاهنا متديّنا إلخ» ... فكان وعد الله أن منصب الكهانة يبقى في بيت عالي الكاهن وبيت أبيه ثم أخلف وعده ونسخه ، وأقام كاهنا آخر. في تفسير دوالي ورجرد مينت قول الفاضل باترك هكذا : «ينسخ الله هاهنا حكما كان وعده وأقرّ به بأن رئيس الكهنة يكون منكم إلى الأبد. أعطى هذا المنصب لعازار الولد الأكبر لهارون ، ثم أعطى تامار الولد الأصغر لهارون ، ثم انتقل الآن بسبب ذنب أولاد عالي الكاهن

__________________

(١) أي : أمثلة عن النسخ الذي يكون في شريعة نبي لحكم آخر من شريعة هذا النبي.

٢٤١

إلى أولاد العازار». انتهى. فوقع الخلف في وعد الله مرتين إلى زمان بقاء الشريعة الموسوية. وأما الخلف الذي وقع في هذا الباب عند ظهور الشريعة العيسوية مرة ثالثة ، فهذا لم يبق أثر ما لهذا المنصب ، لا في أولاد العازار ولا في أولاد تامار. الوعد الذي كان للعازار مصرّح به في الباب الخامس والعشرين من سفر العدد هكذا : «إني قد وهبت له ميثاقي بالسلام فيكون له ميثاق الحبورة والخلفة من بعده إلى الدهر». ولا يتحيّر الناظر من خلف وعد الله على مذاق أهل الكتاب ، لأن كتب العهد العتيق ناطقة به ، وبأن الله يفعل أمرا ثم يندم. نقل في الآية التاسعة والثلاثين من الزبور الثامن والثمانين ، أو التاسع والثمانين على اختلاف التراجم ، قول داود عليه‌السلام في خطاب الله عزوجل هكذا : «ونقضت عهد عبدك وبخست في الأرض مقدسه». فيقول داود عليه‌السلام : (نقضت عهد عبدك) وفي الباب السادس من سفر التكوين هكذا : «٦ فندم على عمله الإنسان على الأرض ، فتأسف بقلبه داخلا ٧ وقال امحوا البشر الذي خلقته عن وجه الأرض من البشر حتى الحيوانات من الدبيب حتى طير السماء ، لأني نادم أني عملتهم». فالآية السادسة كلها ، وهذا القول : (لأني نادم أني عملتهم) يدلّان على أن الله ندم وتأسف على خلقة الإنسان. وفي الزبور الخامس بعد المائة هكذا : «٤٤ فنظر الربّ في أحزانهم إذ سمع صوت تضرّعهم ٤٥ وذكر ميثاقهم وندم لكثرة رحمته». في الآية الحادية عشر من الباب الخامس عشر من سفر صموئيل الأول قول الله هكذا : «ندمت على أني صيّرت شاول ملكا. إنه رجع من ورائي ولم يعمل بما أمرته». ثم في الآية الخامسة والثلاثين من الباب المذكور هكذا : «إن صموئيل حزن على شاول لأن الربّ أسف على أنه ملك شاول على إسرائيل». وهاهنا خدشة يجوز لنا أن نوردها إلزاما فقط. وهي أنه لمّا ثبتت الندامة في حق الله ، وثبت أنه ندم على خلق الإنسان ، وعلى جعل شاول ملكا ، فيجوز أن يكون قد ندم على إرسال المسيح عليه‌السلام بعد ما أظهر دعوى الألوهية على ما هو زعم أهل التثليث ، لأن هذه الدعوى من البشر الحادث أعظم جرما من عدم إطاعة شاول أمر الربّ. وكما لم يكن الله واقفا على أن شاول يعصي أمره ، فكذا يجوز أن لا يكون واقفا على أن المسيح عليه‌السلام يدّعي الألوهية. وإنما قلت هذا إلزاما فقد لأنّا لا نعتقد ، بفضل الله ، ندامة الله ولا ادّعاء المسيح عليه‌السلام الألوهية. بل عندنا ساحة الألوهية ، وكذا ساحة نبوّة المسيح عليه‌السلام صافيتان عن قمامة هذه الكدورات والمنكرات.

الثالث : في الباب الرابع من كتاب حزقيال هكذا ترجمة عربية سنة ١٨٤٤ : «١٠ وطعامك الذي تأكله يكون بالوزن عشرين مثقالا في كل يوم من وقت إلى وقت تأكله ١٢ وكخبز شعير تأكله وتلطخه بزبل يخرج من الإنسان في عيونهم ١٤ فقلت : آه آه آه يا ربّ الإله ها هو ذا نفسي لم تنجس ، والميت والفريسة من السبع لم آكل منه منذ صباي حتى

٢٤٢

الآن ، ولم يدخل في فمي كل لحم نجس ١٥ فقال لي : ها أعطيتك زبل البقر عوض رجيع الناس وتصنع خبزك فيه». انتهى. أمر الله أولا بأن (تلطخه بزبل يخرج من الإنسان) ثم لمّا استغاث حزقيال عليه‌السلام نسخ هذا الحكم قبل العمل فقال : (أعطيتك زبل البقر عوض رجيع الناس).

الرابع : في الباب السابع عشر من سفر الأخبار هكذا : «٣ أيما رجل من بني إسرائيل ذبح ثورا أو خروفا أو عنزا في المحلة أو خارجا عن المحلّة ٤ ولا يأتي بقربانه إلى باب قبّة الزمان ليقرّبه قربانا للربّ ، فليحسب على ذلك الرجل سفك دم من أنه أراق دما ويهلك ذلك الرجل من شعبه». وفي الباب الثاني عشر من كتاب الاستثناء هكذا : «١٥ فأما إن شئت أن تأكل وتستلذّ بأكل اللحم فاذبح وكل بالبركة التي أعطاك الربّ إلهك في قراك إلخ ٢٠ وإذا أوسع الربّ إلهك تخومك مثل ما قال لك ، وأردت أن تأكل اللحم ما تشتهيه نفسك ٢١ وكان بعيد المكان الذي اصطفاه الربّ إلهك ليكون اسمه هناك ، فاذبح من البقر والغنم الذي لك كما أمرتك وكل في قراك كما تريد ٢٢ كما يؤكل من الظبي والإبل ، هكذا فتأكلون منها جميعا طاهرا كان أو غير طاهر». فنسخ حكم سفر الأخبار بحكم سفر الاستثناء. قال هورن في الصفحة ٦١٩ من المجلد الأول من تفسيره بعد نقل هذه الآيات هكذا : «في هذين الموضعين تناقض في الظاهر. لكن إذا لوحظ أن الشريعة الموسوية كانت تزاد وتنقض على وفق حال بني إسرائيل ، وما كانت بحيث لا يمكن تبديلها ، فالتوجيه في غاية السهولة». انتهى. ثم قال : «نسخ موسى في السنة الأربعين من هجرتهم قبل دخول فلسطين ذلك الحكم (أي حكم سفر الأخبار) بحكم سفر الاستثناء نسخا صريحا وأمر أنه يجوز لهم بعد دخول فلسطين أن يذبحوا البقر والغنم في أيّ موضع شاءوا ويأكلوا». انتهى ملخصا. فاعترف بنسخ الحكم المذكور ، وأن الشريعة الموسوية كانت تزاد وتنقص على وفق حال بني إسرائيل. فالعجب من أهل الكتاب أنهم يعترضون على مثل هذه الزيادة والنقصان في شريعة أخرى ويقولون إنه مستلزم لجهل الله.

الخامس : في الآية ٣ و ٢٣ و ٣٠ و ٣٥ و ٣٩ و ٤٣ و ٤٦ من الباب الرابع من سفر العدد أن خدّام قبّة العهد لا بدّ أن لا يكونوا أنقص من ثلاثين وأزيد من خمسين ، وفي الآية ٢٤ و ٢٥ من الباب الثامن من السفر المذكور أن لا يكونوا أنقص من خمس وعشرين وأزيد من خمسين.

السادس : في الباب الرابع من سفر الأخبار أن فداء خطأ الجماعة ثور واحد ، وفي الباب الخامس عشر من سفر العدد أنه كان لا بدّ أن يكون ثورا مع لوازمه وجديا. فنسخ الأول.

٢٤٣

السابع : يعلم أمر الله من الباب السادس من سفر التكوين أن يدخل في الفلك اثنان اثنان من كل جنس الحيوانات ، طيرا كان أو بهيمة ، مع نوح عليه‌السلام. ويعلم من الباب السابع من السفر المذكور أن يدخل سبع سبع ذكرا أو أنثى من البهائم الطاهرة ومن الطيور مطلقا ، ومن البهائم غير الطاهرة اثنان اثنان. ثم يعلم من الباب المذكور أنه دخل من كل جنس اثنان اثنان. فنسخ هذا الحكم مرتين.

الثامن : في الباب العشرين من سفر الملوك الثاني هكذا : «١ وفي تلك الأيام مرض حزقيا وأشرف على الموت وأتاه أشعياء النبي ابن عاموص ، وقال له : هكذا يقول الربّ الإله أوص على بيتك لأنك ميت وغير حيّ ٢ فأقبل حزقيا بوجهه على الحائط وصلّى أمام الربّ وقال ٣ يا ربّ اذكر إني سرت بين يديك بالعدل والقلب السليم وعملت الحسنات أمامك.

وبكى حزقيال بكاء شديدا ٤ فلما خرج أشعياء أوحى إليه الربّ قبل أن يصل إلى وسط الدار وقال ٥ ارجع إلى حزقيا مدبّر شعبي وقل له هكذا : يقول الربّ إله داود أبيك قد سمعت صلاتك ورأيت دموعك ، وها أنا أشفيك سريعا حتى إذا كان في اليوم الثالث تصعد إلى بيت الركب ٦ وأزيد على عمرك خمس عشر سنة». إلخ ... فأمر الله حزقيا على لسان أشعياء بأن أوص على بيتك لأنك ميت. ثم نسخ هذا الحكم قبل أن يصل أشعياء إلى وسط الدار بعد تبليغ الحكم وزاد على عمره خمس عشرة سنة.

التاسع : في الباب العاشر من إنجيل متّى هكذا : «٥ هؤلاء الاثني عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا : إلى طريق أمم لا تمضوا ، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا ٦ ولكن انطلقوا خاصة إلى الخراف التي هلكت من بيت إسرائيل». وفي الباب الخامس عشر من إنجيل متّى قول المسيح عليه‌السلام في حقه هكذا : «لم أرسل إلّا إلى خراف بيت إسرائيل الضالّة». فعلى وفق هذه الآيات كان عيسى عليه‌السلام يخصّص رسالته إلى بني إسرائيل. ونقل قوله في الآية الخامسة عشر من الباب السادس عشر من إنجيل مرقس هكذا : «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها». فالحكم الأول منسوخ.

العاشر : في الباب الثالث والعشرين من إنجيل متّى هكذا : «حينئذ خاطب يسوع الجموع وتلاميذه ٢ قائلا جلس الكتبة والفريسيون على كرسي موسى ٣ فكلّ ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه». فحكم بأن كل ما قالوا لكم فافعلوه. ولا شك أنهم يقولون بحفظ جميع الأحكام العملية للتوراة سيما الأبدية على زعمهم. وكلها منسوخة في الشريعة العيسوية ، كما علمت مفصّلة في أمثلة القسم الأول. فهذا الحكم منسوخ البتّة. والعجب من علماء بروتستنت أنهم يوردون في رسائلهم هذه الآيات تغليظا لعوامّ أهل الإسلام ، مستدلّين

٢٤٤

بها على بطلان النّسخ في التوراة. فيلزم أن يكونوا واجبي القتل لأنهم لا يعظّمون السبت ، وناقض تعظيمه على حكم التوراة واجب القتل ، كما عرفت في المثال التاسع من أمثلة القسم الأول.

الحادي عشر : قد عرفت في المثال الثالث عشر أن الحواريين بعد المشاورة نسخوا جميع أحكام التوراة العملية غير الأربعة ، ثم نسخ بولس حرمة الثلاثة منها.

الثاني عشر : في الآية السادسة والخمسين من الباب التاسع من إنجيل لوقا قول المسيح عليه‌السلام هكذا : «إن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلّص». ومثله في إنجيل يوحنّا في الآية السابعة عشر من الباب الثالث ، وفي الآية السابعة والأربعين من الباب الثاني عشر ، ووقع في الآية الثامنة من الباب الثاني من الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي هكذا : «وحينئذ سيستعلن الأثيم الذي الربّ يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهوره». فالقول الثاني ناسخ للأول.

وقد علم من هذه الأمثلة الأربعة الأخيرة ، أعني من التاسع إلى الاثني عشر ، أن نسخ أحكام الإنجيل واقع بالفعل ، فضلا عن الإمكان حيث نسخ عيسى عليه‌السلام بعض حكمه بحكمه الآخر ، ونسخ الحواريون بعض أحكامه بأحكامهم ، ونسخ بولس بعض أحكام الحواريين بل بعض قول عيسى عليه‌السلام بأحكامه وقوله ؛ وظهر لك أن ما نقل عن المسيح عليه‌السلام في الآية الخامسة والثلاثين من الباب الرابع والعشرين من إنجيل متّى ، والآية الثالثة والثلاثين من الباب الحادي والعشرين من إنجيل لوقا ، ليس المراد به أن قولا من أقوالي وحكما من أحكامي لا ينسخ ، وإلا يلزم تكذيب إنجيلهم ، بل المراد بقوله : كلامي هو الكلام المعهود الذي أخبر به عن الحادثات التي تقع بعده. وهي مذكورة قبل هذا القول في الإنجيلين. فالإضافة في قوله : كلامي للعهد لا للاستغراق. وحمل مفسّروهم أيضا هذا القول على ما قلت في تفسير دوالي ورجرد مينت في ذيل شرح عبارة إنجيل متّى وهكذا : «قال القسّيس بيروس مراده أنه تقع الأمور التي أخبرت بها يقينا. وقال دين أستاين هوب إن السماء والأرض ، وإن كانتا غير قابلتين للتبديل بالنسبة إلى الأشياء الأخر ، لكنهما ليستا بمحكمتين مثل أحكام إخباري بالأمور التي أخبرت بها. فتلك كلها تزول وإخباري بالأمور التي أخبرت بها لا تزول. بل القول الذي قلته الآن لا يتجاوز شيء منه عن مطلبه». انتهى. فالاستدلال بهذا القول ضعيف جدا والقول المذكور هكذا «السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول».

وإذا عرفت أمثلة القسّيسين ما بقي لك شك من وقوع النسخ بكلا قسميه في الشريعة

٢٤٥

الموسوية والعيسوية ، وظهر أن ما يدّعيه أهل الكتاب من امتناع النسخ باطل لا ريب فيه. كيف لا ، وإن المصالح قد تختلف باختلاف الزمان والمكان والمكلّفين. فبعض الأحكام يكون مقدورا للمكلّفين في بعض الأوقات ، ولا يكون مقدورا في بعض أخر ، ويكون البعض مناسبا لبعض المكلّفين دون بعض. ألا ترى أن المسيح عليه‌السلام قال مخاطبا للحواريين : «إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ، لكن لا تستطيعون الآن أن تحتملوا وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق». كما هو مصرّح به في الباب السادس عشر من إنجيل يوحنّا. وقال للأبرص الذي شفاه : «لا تخبر عن هذه الحال أحدا» ، كما هو مصرّح به في الباب الثامن من إنجيل متّى. وقال للأعميين اللذين فتح أعينهما : «لا تخبرا أحدا عن هذه الحال» ، كما هو مصرّح به في الباب التاسع من إنجيل متّى. وقال لأبوي الصبية التي أحياها : «لا تخبرا أحدا عمّا كان» ، كما هو مصرّح به في الباب الثامن من إنجيل لوقا. وأمر الذي أخرج الشياطين منه بأن ارجع إلى بيتك وأخبر بما صنع الله بك ، كما هو مصرّح به في الباب المذكور. وقد علمت في المثال السادس والثالث عشر من أمثلة القسم الأول ، وفي المثال الرابع من أمثلة القسم الثاني ما يناسب هذا المقام. وكذلك ما أمر به بنو إسرائيل بالجهاد على الكفّار ما داموا في مصر وأمروا بعد ما خرجوا.

٢٤٦

الباب الرابع

في إبطال التثليث

وهو مشتمل على مقدمة وثلاثة فصول

٢٤٧
٢٤٨

أما المقدمة ففي بيان اثني عشر أمرا

تفيد الناظر بصيرة في الفصول

الأمر الأول : إن كتب العهد العتيق ناطقة بأن الله واحد أزلي أبدي لا يموت ، قادر يفعل ما يشاء ، ليس كمثله شيء لا في الذات ولا في الصفات ، بريء عن الجسم والشكل. وهذا الأمر لشهرته وكثرته في تلك الكتب غير محتاج إلى نقل الشواهد.

الأمر الثاني : إن عبادة غير الله حرام. وحرمتها مصرّحة في مواضع شتّى من التوراة. مثل الباب العشرين والرابع والثلاثين من سفر الخروج وقد صرّح به في الباب الثالث عشر من سفر الاستثناء ، أنه لو دعا نبيّ أو من يدّعي الإلهام في المنام إلى عبادة غير الله يقتل هذا الداعي ، وإن كان ذا معجزات عظيمة وكذا لو أغرى أحد من الأقرباء أو الأصدقاء إليها ، يرجم هذا المغري ولا يرجم عليه. وفي الباب السابع عشر من السفر المسطور ، أنه لو ثبت على أحد عبادة غير الله يرجم ، رجلا كان أو امرأة.

الأمر الثالث : في الآيات الكثيرة غير المحصورة من العهد العتيق إشعار بالجسمية والشكل والأعضاء لله تعالى. مثلا في الآية ٢٦ و ٢٧ من الباب الأول من سفر التكوين ، والآية ٦ من الباب التاسع من السفر المذكور إثبات الشكل والصورة لله. وفي الآية ١٧ من الباب التاسع والخمسين من كتاب أشعياء إثبات الرأس. وفي الآية ٩ من الباب السابع من كتاب دانيال إثبات الرأس والشعر. وفي الآية ٣ من الزبور الثالث والأربعين إثبات الوجه واليد والعضد. وفي الآية ٢٢ و ٢٣ من الباب الثالث والثلاثين من كتاب الخروج إثبات الوجه والقفا. وفي الآية ١٥ من الزبور الثالث والثلاثين إثبات العين والأذن. وكذا في الآية ١٨ من الباب التاسع من كتاب دانيال إثبات العين والأذن. وفي الآية ٢٩ و ٥٢ من الباب الثامن من سفر الملوك الأول ، وفي الآية ١٧ من الباب السادس عشر ، والآية ١٩ من الباب الثاني

٢٤٩

والثلاثين من كتاب أرمياء ، والآية ٢١ من الباب الرابع والثلاثين من كتاب أيوب ، والآية ٢١ من الباب الخامس ، والآية ٣ من الباب الخامس عشر من كتاب الأمثال إثبات العين. وفي الآية ٤ من الزبور العاشر إثبات العين والأجفان. وفي الآية ٦ و ٨ و ٩ و ١٥ من الزبور السابع عشر إثبات الأذن والرجل والأنف والنفس والفم. وفي الآية ٢٧ من الباب الثلاثين من كتاب أشعياء إثبات الشّفة واللسان. وفي الباب الثالث والثلاثين من سفر الاستثناء إثبات اليد والرجل. وفي الآية ١٨ من الباب الحادي والثلاثين من سفر الخروج إثبات الأصابع. وفي الآية ١٩ من الباب الرابع من كتاب أرمياء إثبات البطن والقلب. وفي الآية ٣ من الباب الحادي والعشرين من كتاب أشعياء إثبات الظهر. وفي الآية ٧ من الزبور الثاني إثبات الفرج. وفي الآية ٢٨ من الباب العشرين من أعمال الحواريين إثبات الدم. وللتنزيه في التوراة آيتان وهما الآية الثانية عشر والآية الخامسة عشر من الباب الرابع من سفر الاستثناء ، وهما هكذا : «١٢ فكلّمكم الربّ من جوف النار فسمعتم صوت كلامه ولم تروا الشبه البتّة ١٥ فاحفظوا أنفسكم بحرص فإنكم لم تروا شبيها يوما. كلّمكم الربّ في حوريب من جوف النار». ولمّا كان مضمون هاتين الآيتين مطابقا للبرهان العقلي وجب تأويل الآيات الغير المحصورة لا تأويلها. وأهل الكتاب هاهنا أيضا يوافقوننا ولا يرجّحون الآيات الغير المحصورة على هاتين الآيتين.

وكما يوجد الإشعار بالجسمية لله تعالى ، فكذا يوجد بإثبات المكان لله تعالى في الآيات الغير المحصورة من العهد العتيق والجديد. مثل الآية ٨ باب ٢٥ والآية ٤٥ و ٤٦ من باب ٢٩ من سفر الخروج. وفي الآية ٣ باب ٥ و ٣٤ باب ٣٥ من سفر العدد. وفي الآية ١٥ من الباب السادس والعشرين من سفر الاستثناء. وفي الآية ٥ و ٦ من الباب السابع من سفر صموئيل الثاني. وفي الآية ٣٠ و ٣٢ و ٣٤ و ٣٦ و ٣٩ و ٤٥ و ٤٩ من الباب الثامن من سفر الملوك الأول. وفي الآية ١١ من الزبور التاسع. وفي الآية ٤ من الزبور العاشر. وفي الآية ٨ من الزبور الخامس والعشرين ، وفي الآية ١٦ من الزبور السابع والستّين ، وفي الآية ٢ من الزبور الثالث والسبعين ، وفي الآية ٢ من الزبور الخامس والسبعين ، وفي الآية ١ من الزبور الثامن والتسعين ، وفي الآية ٢١ من الزبور المائة والرابع والثلاثين. وفي الآية ١٧ و ٢١ من الباب الثالث من كتاب يوتيل. وفي الآية ٣ من الباب الثامن من كتاب زكريا. وفي الآية ٤٥ و ٤٨ باب ٥ ، و ١ و ٩ و ١٤ و ٢٦ باب ٦ ، و ١١ و ٢١ باب ٧ ، و ٣٢ و ٣٣ باب ١٠ ، و ٥٠ باب ٢ ، و ١٣ باب ١٥ ، و ١٧ باب ١٦ ، و ١٠ و ١٤ و ١٩ و ٣٥ باب ١٨ ، و ٩ و ٢٢ باب ٢٣ (١) من

__________________

(١) الأرقام الواردة قبل لفظة (باب) هي للآيات.

٢٥٠

إنجيل متّى. ولا توجد في العهد العتيق والجديد الآيات الدالّة على تنزيه الله عن المكان إلّا قليلة. مثل الآية ١ و ٢ من الباب السادس والستّين من كتاب أشعياء ، والآية ٤٨ من الباب السابع من أعمال الحواريين. لكن لمّا كان مضمون هذه الآيات القليلة موافقا للبراهين أوّلت الآيات الكثيرة الغير المحصورة المشعرة بالمكان لله تعالى ، لا هذه الآيات القليلة. وأهل الكتاب أيضا يوافقوننا في هذا التأويل. فقد ظهر من هذا الأمر الثالث أن الكثير إذا كان مخالفا للبرهان يجب إرجاعه إلى القليل الموافق له ، ولا يعتدّ بكثرته. فكيف إذا كان الكثير موافقا والقليل مخالفا؟ فإن التأويل فيه ضروري ببداهة العقل.

الأمر الرابع : قد علمت في الأمر الثالث أنه ليس لله شبه وصورة. وقد صرّح به في العهد الجديد أيضا في مواضع عديدة ، أن رؤية الله في الدنيا غير واقعة في الآية الثامنة عشر من الباب الأول من إنجيل يوحنّا هكذا : «الله لم يره أحد قطّ». وفي الآية السادسة عشر من الباب السادس من الرسالة الأولى إلى تيموثاوس : «لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه». وفي الآية الثانية عشر من الباب الرابع من رسالة يوحنّا الأولى : «الله لم ينظره أحد قطّ». فثبت من هذه الآيات ان من كان مرئيا لا يكون إلها قطّ ، ولو أطلق عليه في كلام الله أو الأنبياء أو الحواريين لفظ الله ومثله. فلا يغترّ أحد بمجرد إطلاق مثل لفظ الله ، ولا يدّعي أن التأويل مجاز ، فكيف يرتكب لأن المصير إلى المجاز يجب عند القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة ، سيما إذا دلّ البرهان القطعي على المنع. نعم يكون لإطلاق مثل هذه الألفاظ على غير الله وجه مناسب لكل محل. مثلا إن إطلاقها في الكتب الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه‌السلام على بعض الملائكة ، لأجل ظهور جلال الله فيه ، أزيد من الغير. وفي الباب الثالث والعشرين من سفر الخروج قول الله سبحانه هكذا : «٢ أنا أرسل ملاكي أمامك ليحفظك في الطريق ويدخلك إلى المكان الذي أنا استعديت ٢١ فاحتفظ به وأطع أمره ولا تشاقّه ، إنه لا يغفر إذا أخطأت ، إن اسمي معه ٢٣ وينطلق ملاكي أمامك فيدخلك على الأموريين والحيثانيين والفرزانيين والكنعانيين والحواريين واليابوسانيين الذين أنا أخرجهم». فقوله : (أرسل ملاكي أمامك) وكذا قوله : (وينطلق ملاكي) نصّان على أن الذي كان يسير مع بني إسرائيل في عمود سحاب في النهار وعمود نار في الليل كان ملكا من الملائكة. وقد أطلق عليه مثل هذه الألفاظ ، كما ستطّلع عليه لأجل ما قلت ، كما يظهر من قوله : (إن اسمي معه). وقد جاء إطلاقها في مواضع غير محصورة على الملك والإنسان الكامل ، بل على آحاد الناس ، بل على الشيطان الرجيم ، بل على غير ذوي العقول أيضا. وقد علم من بعض المواضع تفسير بعض هذه الألفاظ ، وفي بعض المواضع يدلّ سوق الكلام بحيث لا يشتبه على الناظر في بادئ الرأي. وها أنا أورد عليك شواهد هذا الباب وأنقل في هذا الباب عبارة

٢٥١

كتب العهد العتيق عن الترجمة العربية التي طبعت في لندن سنة ١٨٤٤ من الميلاد ، وعبارة العهد الجديد ، إما من الترجمة المذكورة ، وإما من الترجمة العربية التي طبعت في بيروت سنة ١٨٦٠. ولا أنقل جميع عبارة الموضع المستشهد به ، بل أنقل الآيات التي يتعلّق الغرض بها في هذا المقام ، وأترك الآيات الغير المقصودة.

في الباب السابع عشر من سفر التكوين هكذا : «١ ولمّا صار ابرام ابن تسعة وتسعين سنة تراءى له الربّ وقال أنا الله ضابط الكل فسر أمامي وكن تامّا ٤ وقال له الله أنا هو وعهدي معك وستكون أبا الأمم كثيرة ٧ وأقيم ميثاقي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك بأجيالهم ميثاقا أبديا لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك ٨ وسأعطي لك ولنسلك أرض غربتك جميع أرض كنعان ملكا إلى الدهر وأكون لهم إلها ٩ فقال الله لإبراهيم ثانية إلخ ١٥ وقال الله أيضا لإبراهيم إلخ ١٨ وقال الله إلخ ١٩ فقال الله لإبراهيم إلخ ٢٢ ولمّا فرغ الله من خطابه صعد عن إبراهيم». وكان هذا المتكلم المرئي ملكا لما علمت ، ولقوله : (صعد عن إبراهيم) ففي هذه العبارة أطلق عليه لفظ الله والربّ والإله وأطلق هو على نفسه «أنا الله ضابط الكل لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك وأكون إلها لهم». وكذا أطلق أمثال هذه الألفاظ في الباب الثامن عشر من سفر التكوين على الملك الذي ظهر على إبراهيم عليه‌السلام مع الملكين الآخرين ، وبشّره بولادة إسحاق ، وأخبر بأن قرى لوط ستخرّب في أزيد من أربعة عشر موضعا.

وفي الباب الثامن والعشرين من السفر المذكور في حال يعقوب عليه‌السلام ، إذ سافر إلى بلد حاله هكذا : «١٠ وخرج يعقوب من بير سبع ماضيا إلى حرّان ١١ وأتى إلى موضع وبات هناك فأخذ حجرا من حجارة ذلك الموضع ووضعه تحت رأسه ونام هناك ١٢ فنظر في الحلم سلما قائما على الأرض ورأسه يصل إلى السماء وملائكة الله يصعدون ويهبطون فيه ١٣ والربّ كان ثابتا على رأس السلّم وقال أنا هو الربّ إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق ، فالأرض التي أنت عليها راقد أعطيكها لك ولنسلك ١٤ ويكون نسلك مثل رمل الأرض ، ويتّسع إلى المغرب والمشرق ، ويتيمّن ويتبارك بك وبزرعك جميع قبائل الأرض ١٥ وأحفظك حيثما انطلقت وأعيدك إلى هذه الأرض ولا أخلّيك حتى أعمل جميع ما قلته لك ١٦ فاستيقظ يعقوب من نومه وقال : حقّا إن الربّ في هذا المكان وأنا لم أكن أعلم ١٧ وخاف وقال ما أخوف هذا الموضع ما هذا إلّا بيت الله وباب السماء ١٨ وقام يعقوب بالغداة وأخذ الحجر الذي كان توسّد به وأقامه نصبة وسكب عليه دهنا ١٩ ودعا اسم المدينة بيت إيل التي كانت أولا لوزا ٢٠ ونذر نذرا قائلا إن كان الله يكون معي ويحفظني في الطريق الذي أنا سائر به ويرزقني خبزا آكل وكسوة ألبس ٢١ ورجعت بسلام إلى بيت أبي فالربّ يكون لي إلها ٢٢

٢٥٢

وهذا الحجر الذي أقمته نصبة يدعى بيت الله وكل ما أعطيتني أدّيت إليك عشوره».

وفي الباب الحادي والثلاثين من السفر المذكور قول يعقوب عليه‌السلام في خطاب زوجته ليا وراحيل هكذا : «١١ فقال لي ملاك الله في الحلم يا يعقوب. فقلت هو ذا أنا ١٢ فقال لي إلخ ١٣ أنا إله بيت إيل حيث مسحت قائمة الحجر ونذرت لي نذرا. والآن قم فاخرج من هذه الأرض وارجع إلى أرض ميلادك». وفي الباب الثاني والثلاثين من السفر المذكور هكذا : «٩ وقال يعقوب يا إله أبي إبراهيم وإله أبي إسحاق ، أيّها الربّ الذي قلت لي ارجع إلى أرضك وإلى مكان ميلادك وأباركك ١٢ فأنت تكلمت وقلت إنك تحسن إليّ وتوسع نسلي مثل رمل البحر الذي لا يحصى لكثرته».

وفي الباب الخامس والثلاثين من السفر المذكور هكذا : «وقال الله ليعقوب قم فاصعد إلى بيت إيل واسكن هناك وانصب هناك مذبحا لله الذي ظهر لك وأنت هارب من وجه عيسو أخيك ٢ وقال يعقوب لأهله إلخ ٣ نصعد إلى بيت إيل لنصنع هناك مذبحا لله الذي استجاب لي في ضيقتي وكان معي في طريقي ٦ فجاء يعقوب إلى لوزا التي في أرض كنعان هذه هي بيت إيل إلخ ٧ وبنى هناك مذبحا ودعا اسم ذلك المكان بيت الله لأن هناك ظهر له الله إلخ».

وفي الباب الثامن والأربعين من السفر المذكور هكذا : «٣ إن الله الضابط الكل استعلن عليّ في لوزا بأرض كنعان باركني ٤ وقال إني منمّيك وجاعلك بجماعة الشعوب وأعطيك هذه الأرض ولنسلك من بعدك ميراثا إلى الدهر». فظهر من الآية الحادية عشر والثالثة عشر من الباب الحادي والثلاثين أن الذي ظهر على يعقوب عليه‌السلام ووعده ، وعهد ونذر يعقوب عليه‌السلام معه ، كان ملكا وجاء إطلاق لفظ مثل الله عليه في العبارات المذكورة في أزيد من ثمانية عشر موضعا. وقال هذا الملك : «أنا هو الربّ إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق». وقال يعقوب عليه‌السلام في حقه : «يا إله أبي إبراهيم وإله أبي إسحاق أيها الربّ وإن الله ضابط الكل استعلن عليّ».

وفي الباب الثاني والثلاثين من السفر المذكور هكذا : «٢٤ وتخلّف هو وحده وهو ذا رجل فكان يصارعه إلى الفجر ٢٥ وحين نظر أنه لا يقوى به فجسّ عرق وركه ، ولساعته ذبل ٢٦ وقال له : أطلقني لأنه قد أسفر الصبح ، وقال له : لا أطلقك أو تباركني ٢٧ فقال له : ما اسمك؟ فقال يعقوب : ٢٨ قال : لا يدعى اسمك يعقوب بل إسرائيل ، من أجل أنك إن كنت قويت مع الله فكم بالحري لك قوة في الناس ٢٩ فسأله يعقوب عرّفني ما اسمك؟ فقال له : لم تسأل عن اسمي؟ وباركه في ذلك المكان ٣٠ فدعا يعقوب اسم ذلك المكان فنيئيل قائلا رأيت الله وجها لوجه وتخلّصت نفسي». وهذا المصارع كان ملكا لما عرفت ، ولأنه يلزم أن

٢٥٣

يكون إله بني إسرائيل في غاية العجز والضعف حيث صارع يعقوب عليه‌السلام إلى الفجر ولم يغلب عليه بدون الحيلة ، ولأن كلام هوشع نص في هذا الباب في الباب الثاني عشر من كتابه هكذا : «٣ في البطن عقب أخاه وفي جبروته أفلح مع الملاك ٤ وغلب الملك وتقوّى وبكى وسأله ووجده في بيت إيل وهناك كلّمنا» فألق عليه لفظ الله في الموضعين.

وفي الباب الخامس والثلاثين من سفر التكوين هكذا : «فظهر الله ليعقوب أيضا من بعد ما رجع من بين نهري سورية وباركه ١٠ قائلا : لا يدعى اسمك بعدها يعقوب بل يكون اسمك إسرائيل ودعا اسمه إسرائيل ١١ وقال له : أنا الله الضّابط الكلّ ، أتمّ وأكثر الأمم ومجامع الشعوب تكون منك والملوك من صلبك يخرجون ١٢ والأرض التي أعطيت إبراهيم وإسحاق فلك أعطيها وأعطي نسلك من هذه الأرض من بعدك ١٣ وارتفع الله عنه ١٤ ونصب يعقوب حجرا في الموضع الذي كلّمه فيه الله قائمة حجرية ودفق عليه مدفوقا وصبّ عليه دهنا ١٥ ودعا اسم الموضع الذي كلّمه الله هناك بيت إيل». وهذا الذي ظهر هو الملك المذكور. فأطلق عليه لفظ الله في خمسة مواضع وقال هو : «أنا الله الضّابط الكلّ».

وفي الباب الثالث من سفر الخروج : «٢ وتراءى له الربّ بلهيب النار من وسط العليقة تتوقّد فيها النار وهي لم تحترق ٣ ورأى الله أنه جاء إلخ ٦ وقال له : إني أنا الله إله آبائك إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب ، فغطّى موسى وجهه من أجل أنه خشي أن ينظر نحو الله ٧ فقال له الربّ إلخ ١١ فقال موسى لله إلخ ١٢ فقال له الله : أنا أكون معك وهذه علامة لك أني أنا أرسلتك إذا أخرجت شعبي من مصر يعملون ذبيحة قدّام الله على هذا الجبل ١٣ فقال موسى لله : هو ذا أنا أذهب إلى بني إسرائيل وأقول لهم : إله آبائكم أرسلني إليكم ، فإن قالوا لي : ما اسمه؟ ما ذا أقول لهم؟ ١٤ فقال الله لموسى : اهيه شراهيه وقال له : هكذا تقول لبني إسرائيل : اهيه أرسلني إليكم ١٥ وقال الله أيضا لموسى : هكذا تقول لبني إسرائيل : الربّ إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم ، هكذا اسمي إلى الدهر وهذا هو ذكري إلى جيل الأجيال ١٦ فاذهب اجمع شيوخ بني إسرائيل وقل لهم : الربّ إله آبائكم استعلن على إله إبراهيم وإله يعقوب إلخ». فالذي ظهر على موسى وكلّمه وقال في حقه : (إني أنا الله إله آبائك إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب) ثم قال : (اهيه شراهيه) ثم أمر موسى عليه‌السلام أن يقول لبني إسرائيل : (اهيه أرسلني والربّ إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم) وقال : (هذا اسمي إلى الدهر وهذا هو ذكري إلى جيل الأجيال) وأطلق عليه في هذه العبارة لفظ الله والربّ وأمثالهما في أزيد من خمسة وعشرين موضعا ، وأطلق عليه المسيح عليه‌السلام أيضا لفظ الله ، كما نقل مرقس في الباب الثاني

٢٥٤

عشر ، ومتّى في الباب الثاني والعشرين ، ولوقا في الباب العشرين قول المسيح عليه‌السلام في خطاب الصدوقيين هكذا «أفما قرأتم في كتاب موسى في أمر العليقة كيف كلّمه الله قائلا أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب». انتهى بعبارة مرقس وهذا كان ملكا. لما عرفت. ولذلك في أكثر التراجم الهندية والفارسية بدل لفظ (الله) لفظ (فرشته) الذي هو ترجمة الملك. والآية الأولى من الباب السابع من سفر الخروج هكذا : «فقال الربّ لموسى انظر فإني قد جعلتك إلها لفرعون ، وهارون أخوك يكون لك نبيّا» والآية السادسة عشر من الباب الرابع من سفر الخروج هكذا : «هو يتكلم مع الشعب عوضك ، وهو يكون لك ، وأنت تكون له في أمور الله». فوقع لفظ الإله والله في حق موسى عليه‌السلام. ومن هاهنا يظهر ترجيح اليهود على سائر المسيحيين في هذه العقيدة لأنهم مع ادّعاء محبتهم لموسى وترجيحه على سائر الأنبياء ، ما أوصلوه إلى رتبة الألوهية متمسّكين بمثل هذه الأقوال.

وفي الباب الثالث عشر من سفر الخروج هكذا : «٢١ وكان الربّ يسير أمامهم ليريهم الطريق في النهار بعمود سحاب وفي الليل بعمود نار ليهديهم الطريق نهارا وليلا ٢٢ لم يزل قطّ عمود السحاب نهارا ، ولا عمود النار ليلا من قدّام الشعب». ثم في الباب الرابع عشر من السفر المذكور هكذا : «١٩ فانطلق ملاك الله الذي كان يسير قدّام عسكر إسرائيل ومشى خلفهم وعمود الغمام أيضا معه ، فتحوّل من قدّام وجوههم إلى ورائهم ٢٤ فلما كان عند محرس السحر نظر الربّ إلى محلّة المصريين بعمود النار والغمامة وقتل عسكرهم». وهذا السائر كان ملكا كما صرّح به في الآية ١٩ ، وأطلق عليه لفظ الربّ على وفق الترجمة العربية ، ولفظ يهواه على وفق الهندية الموجودة عندي. وفي الباب الأول من سفر الاستثناء هكذا : «٣٠ فإن الربّ الإله الذي يسير أمامكم فهو يقاتل عنكم ، كما عمل في مصر والكل ينظرون ٣١ وفي البرية أنت رأيت بعينيك حملك الربّ إلهك كما أنه يحمل الرجل ولده إلخ ٣٢ ولم تؤمنوا في ذلك بالربّ إلهكم ٣٣ الذي سار أمامكم في الطريق وحدّد لكم المكان الذي كان فيه يجب أن تنصبوا الخيام. في الليل يريكم الطريق بالنار ، وفي النهار بعمود الغمام». فجاء إطلاق لفظ الربّ الإله في ثلاثة مواضع على الملك المذكور ، لأنه كان سائرا أمامهم وقاتلا لعسكر المصريين. وفي الباب الحادي والثلاثين من السفر المذكور هكذا : «٣ فالربّ إلهك هو يعبر قدّامك إلخ ٤ فيصنع الربّ إلخ ٥ فإذا أمكنكم الربّ إلخ ٦ فاجترءوا عليهم وتقوّوا ولا تخافوا ولا ترهبوا إذا نظرتموهم ، إن الربّ إلهك فهو يسير إمامك إلخ ٨ والربّ الذي هو السائر أمامكم فهو يكون معك إلخ». ففي هذه العبارة أيضا إطلاق لفظ الربّ إلهك والربّ على الملك المذكور. والآية ٢٢ من الباب الثالث عشر من كتاب القضاة في حق الذي تكلم مع نوح وامرأته وبشّرهما بالولد هكذا : «فقال منوّح لامرأته بموت نموت لأننا

٢٥٥

عاينّا الله». وصرّح به في الآية ٣ و ٩ و ١٣ و ١٥ و ١٦ و ١٨ و ٢١ من هذا الباب أنه كان ملكا فأطلق عليه لفظ الله.

وكذا جاء هذا الإطلاق على الملك في الباب السادس من كتاب أشعياء ، والباب الثالث من سفر صموئيل الأول ، والباب الرابع والتاسع من كتاب حزقيال ، والباب السابع من كتاب عاموص ، والآية السادسة من الزبور الحادي والثمانين على وفق الترجمة العربية ، ومن الزبور الثاني والثمانين على وفق التراجم الأخر هكذا : «أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم». فكان هاهنا إطلاق الآلهة وأبناء الله على العوامّ فضلا عن الخواص. وفي الباب الرابع من الرسالة الثانية إلى أهل قورنيثوس هكذا : «٣ ولكن إن كان إنجيلنا مكتوما فإنما هو مكتوم في الهالكين ٤ الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان الغير المؤمنين لئلا تضيء لهم نارة إنجيل مجد المسيح». والمراد بإله الدهر الشيطان ، على ما زعم علماء بروتستنت. فجاء مثل هذا الإطلاق على الشيطان الرجيم على زعمهم ، فضلا عن الإنسان. وإنما قلت على زعمهم لأنهم يريدونه هاهنا لئلا يلزم نسبة الإعماء إلى الله تعالى ، فيلزم كون الله خالق الشر. وهذا هوس من هوساتهم لأن خالق الشر على وفق كتبهم المقدسة يقينا هو الله تعالى. وأنقل هاهنا شاهدين وستطّلع على شواهد أخر أيضا في موضعه الآية السابعة من الباب الخامس والأربعين من كتاب أشعياء هكذا : «المصوّر النور والخالق الظلمة ، الصانع السلام والخالق الشرّ ، أنا الربّ الصانع هذه جميعها». وقال مقدّسهم بولس في الباب الثاني من الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيقي : «سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدّقوا الكذب لكي يدان جميع الذين لم يصدّقوا الحق بل سروا بالإثم». ولمّا كان زعمهم ، كما ذكرنا والمقصود النقل على سبيل الإلزام ، فالمقصود حاصل وهو أن إطلاق إله الدهر جاء على الشيطان. والآية ١٩ من الباب الثالث من رسالة بولس إلى أهل فيليس هكذا : «الذين نهايتهم الهلاك الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم». فأطلق مقدّسهم على البطن لفظ الإله. وفي الباب الرابع من الرسالة الأولى ليوحنّا هكذا : «ومن لا يحبّ لم يعرف الله لأن الله محبّة ١٦ ونحن قد عرفنا وصدّقنا المحبة التي لله فينا. الله محبّة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه». فيوحنّا أثبت اتحاد المحبة بالله. وقال في الموضعين : (الله محبة) ثم أثبت التلازم هكذا (من يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه).

وإطلاق الآلهة على الأصنام كثير جدا في الكتب السماوية فلا حاجة إلى نقل شواهد ، وكذا إطلاق الربّ بمعنى المخدوم والمعلّم كثير جدّا يغني عن نقل شواهده. التفسير الواقع في الآية ٣٨ من الباب الأول من إنجيل يوحنّا هكذا : «فقالا ربّي تفسيره يا معلّم». إذا علمت ما ذكرت فقد حصلت لك البصيرة التامّة أنه لا يجوز لعاقل أن يستدلّ بإطلاق بعض هذه

٢٥٦

الألفاظ على بعض الحوادث التي حدّثوها وتغيّرها وعجزها من الحسّيّات. إنه إله أو ابن الله ، وينبذ جميع البراهين العقلية القطعية وكذا البراهين النقلية وراءه ..

الأمر الخامس : إن وقوع المجاز في غير المواضع التي مرّ ذكرها في الأمر الثالث والرابع كثير. مثلا وعد الله إبراهيم عليه‌السلام في تكثير أولاده هكذا الآية السادسة عشر من الباب الثالث عشر من سفر التكوين : «وأجعل نسلك مثل تراب الأرض ، فإن استطاع أحد من الناس أن يحصي تراب الأرض فإنه يستطيع أن يحصي نسلك». والآية السابعة عشر من الباب الثاني والعشرين من السفر المذكور : «أباركك وأكثر نسلك كنجوم السماء ، ومثل الرمل الذي على شاطئ البحر إلخ» ... وهكذا وعد يعقوب عليه‌السلام «بأن نسلك يكون مثل رمل الأرض». كما عرفت في الأمر الرابع. وأولادهما لم يبلغ مقدارهم عدد رطل رمل في الدنيا في وقت من الأوقات ، فضلا عن مقدار رمل شاطئ البحر أو رمل الأرض. ووقع في مدح الأرض التي كان وعد الله إعطاءها في الآية الثامنة من الباب الثالث من سفر الخروج وغيرها من الآيات بأنه يسيل فيها اللبن والعسل ، والأرض في الدنيا كذلك ، ووقع في الباب الأول من سفر الاستثناء هكذا : «والقرى عظيمة محصّنة إلى السماء». ووقع في الباب التاسع من السفر المذكور هكذا : «وأشدّ منك مدنا كبيرة حصينة مشيّدة إلى السماء». وفي الزبور السابع والسبعين هكذا : «واستيقظ الربّ كالنائم مثل الجبّار المفيق من الخمر ، فضرب أعداءه في الوراء وجعلهم عارا على الدهر». والآية الثالثة من الزبور المائة والثالث في وصف الله هكذا : «والمسقف بالمياه علاليه الذي جعل السحاب مركبه الماشي على أجنحة الرياح». وكلام يوحنّا مملوء من المجاز قلّما تخلو فقرة لا يحتاج فيها إلى تأويل ، كما لا يخفى على ناظر إنجيله ورسائله ومشاهداته. وأكتفي هاهنا على نقل عبارة واحدة من عباراته. قال في الباب الثاني عشر من المشاهدات هكذا : «١ وظهرت آية عظيمة في السماء امرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبا ٢ وهي حبلى تصرخ متمخّضة ومتوجّعة لتلده ٣ وظهرت آية أخرى في السماء هو ذا تنّين عظيم أحمر له سبعة رءوس وعشرة قرون وعلى رءوسه سبعة تيجان ٤ وذنبه يجرّ ثلث نجوم السماء ، فطرحها إلى الأرض والتّنين وقف أمام المرأة العتيدة أن تلد حتى يبتلع ولدها متى ولدت ٥ فولدت ابنا ذكرا عتيدا أن يرعى جميع الأمم بعصى من حديد واختطف ولدها إلى الله وإلى عرشه ٦ والمرأة هربت إلى البريّة حيث لها موضع معدّ من الله لكي يعولوها هناك ألفا ومائتين وستّين يوما ٧ وحدثت حرب في السماء. ميخائيل وملائكته حاربوا التّنين ، وحارب التنين وملائكته» إلى آخر كلامه. وهذا الكلام في الظاهر كلام المجاذيب ، فلو لم يؤوّل ، فمستحيل قطعا. وتأويله أيضا يكون بعيدا لا سهلا. وأهل الكتاب يؤوّلون الآيات المذكورة وأمثالها يقينا

٢٥٧

ويعترفون بكثرة وقوع المجاز في الكتب السماوية. قال صاحب (مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدّس الثمين) في الفصل الثالث عشر من كتابه «وأما اصطلاح الكتاب المقدّس فإنه ذو استعارات وافرة غامضة وخاصّة العهد العتيق» ثم قال : «واصطلاح العهد الجديد أيضا هو استعاري جدا ، وخاصّة مسامرات مخلّصنا. وقد اشتهرت آراء كثيرة فاسدة لكون بعض معلّمي النصارى شرحوها شرحا حرفيا. ولأجل ذلك نقدّم بعض أمثال لنرى بها أن تأويل الاستعارات حرفيا ليس صوابا. وذلك كقول المسيح عين هيرودس اذهبوا وقولوا لذلك الثعلب. فمن المعلوم أن المراد بلفظه الثعلب في هذه العبارة جبّار ظالم لأن ذلك الحيوان المدعو هكذا معروف بالحيلة والغدر أيضا. قال ربّنا لليهود : أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء ، فكلّ من أكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد ، والخبز الذي أنا أعطيه هو جسدي ، سوف أعطيه لحياة العالم (يوحنّا ص ٦ عدد ١٥) فاليهود الشهوانيون فهموا هذه العبارة بالمعنى الحرفي ، وقالوا : كيف يقدر هذا الرجل أن يعطينا جسده لنأكله؟ (آية ٥٢) ولم يلاحظوا أنه عنى بذلك ذبيحته التي وهبها كفّارة لخطايا العالم. وقد قال مخلّصنا أيضا عن الخبز عند تعيينه العشاء السرّي : هذا هو جسدي. وعن الخمر : هذا هو دمي (متّى ص ٢٦ عدد ٢٦). فمنذ الدهر الثاني عشر جعل الرومانيون الكاثوليكيون لهذا القول معنى آخر معكوسا ومغايرا لشواهد أخرى في الكتب المقدسة وللدليل الصحيح ، وحتّموا أن ينتجوا من ذلك تعليمهم عن الاستحالة ، أي تحويل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه الجوهريين عند ما يلفظ الكاهن بكلمات التقديس الموهوم ، مع أنه قد يظهر لكل الحواس الخمسة أن الخبز والخمر باقيان على جوهرهما ولم يتغيّرا. فأما التأويل الصحيح لقول ربنا فهو أن الخبز بمثل جسده والخمر بمثل دمه». انتهى كلامه بلفظه. فاعترافه بيّن لا خفاء فيه. لكن لا بدّ من النظر في قوله : (فمنذ الدهر الثاني عشر إلى آخره) فإنه ردّ على الرومانيين في اعتقاد استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح عليه‌السلام ودمه بشهادة الحسّ ، وأوّل قول المسيح عليه‌السلام بحذف المضاف ، وإن كان ظاهر القول كما فهموا لأنه هكذا «٢٦ وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ قال : خذوا كلوا هذا هو جسدي ٢٧ وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلا : اشربوا منها كلكم ٢٨ لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا». فقالوا : إن لفظ (هذا) يدلّ على جوهر الشيء الحاضر كله ، ولو كان جوهر الخبز باقيا لما صحّ هذا الإطلاق. وانهم كانوا ، قبل ظهور فرقة بروتستنت ، أكثر المسيحيين في العالم. وانهم كثيرون من هذه الفرقة إلى هذا الحين أيضا. فكما أن هذه العقيدة غلط بشهادة الحسّ عند هذه الفرقة ، فكذلك عقيدة التثليث غلط. ولو فرضنا دلالة بعض الأقوال المتشابهة بحسب الظاهر عليها ، بل محال بالأدلّة القطعية ، فإن

٢٥٨

قالوا : ألسنا من ذوي العقول فكيف نعترف بها لو كانت محالا؟ قلنا : أليس الرومانيون من ذوي العقول مثلكم وفي المقدار أكثر منكم إلى هذا الحين ، فضلا عن سالف الزمان ، فكيف اعترفوا وأجمعوا على ما هو غير صحيح عندكم ، ويشهد ببطلانه الحسّ أيضا. وهو باطل في نفس الأمر أيضا بوجوه.

الأول : ان الكنيسة الرومانية تزعم أن الخبز وحده يستحيل جسد المسيح ودمه ويصير مسيحا كاملا. فأقول : إذا استحال مسيحا كاملا حيّا بلاهوته وناسوته الذي أخذه من مريم عليهما‌السلام ، فلا بدّ أن يشاهد فيه عوارض الجسم الإنساني ويوجد فيه الجلد والعظام والدم وغيرها من الأعضاء. لكنها لا توجد فيه ، بل جميع عوارض الخبز باقية الآن كما كانت. فإذا نظره أحد أو لمسه أو ذاقه لا يحسّ شيئا غير الخبز ، وإذا حفظه يطرأ عليه الفساد الذي يطرأ على الخبز لا الفساد الذي يطرأ على الجسم الإنساني. فلو ثبتت الاستحالة تكون استحالة المسيح خبزا لا استحالة الخبز مسيحا. فلو قالوا إن المسيح استحال خبزا ، لكان أقلّ بعدا من هذا ، وإن كان هو أيضا باطلا ومصادما للبداهة.

الثاني : إن حضور المسيح بلاهوته في أمكنة متعدّدة في آن واحد ، وإن كان ممكنا في زعمهم ، لكنه باعتبار ناسوته غير ممكن. لأنه بهذا الاعتبار كان مثلنا حتى كان يجوع ويأكل ويشرب وينام ويخاف من اليهود ويفرّ وهلمّ جرّا. فكيف يمكن تعدّده بهذا الاعتبار بالجسم الواحد في أمكنة غير محصورة في آن واحد حقيقة؟ والعجب أنه ما وجد قبل عروجه إلى السماء بهذا الاعتبار في مكانين أيضا ، فضلا عن الأمكنة الغير المتناهية ، وكذا بعد عروجه إلى السماء. فكيف يوجد بعد القرون بعد اختراع هذا الاعتقاد الفاسد بالاعتبار المذكور في أمكنة غير محصورة في آن واحد؟

الثالث : إذا فرضنا أن مليونات من الكهنة في العالم قدّسوا في آن واحد واستحالت تقدمة كلّ من المسيح الذي تولّد من العذراء ، فلا يخلو إما أن يكون كلّ من هؤلاء المسيحيين الحادثين عين الآخر أو غيره والثاني باطل على زعمهم والأول باطل في نفس الأمر ، لأن مادة كل غير مادة الآخر.

الرابع : إذا استحال الخبز مسيحا كاملا تحت يد الكاهن فكسر هذا الكاهن هذا الخبز كسرات كثيرة أو أجزاء صغيرة ، فلا يخلو إما أن يتقطّع المسيح قطعة قطعة على عدد الكسرات والأجزاء ، أو يستحيل كل كسرة وجزء مسيحا كاملا أيضا. فعلى الأول لا يكون المتناول متناول مسيح كامل ، وعلى الثاني من أين جاء هؤلاء المسحاء؟ لأنه ما حصل بالتّقدمة إلّا المسيح الواحد.

٢٥٩

الخامس : لو كان العشاء الربّاني الذي كان قبل صلبه بيسير نفس الذبيحة التي حصلت على الصليب ، لزم أن يكون كافيا لخلاص العالم. فلا حاجة إلى أن يصلب على الخشبة من أيدي اليهود مرة أخرى. لأن المسيح ما جاء إلى العالم في زعمهم إلّا ليخلص الناس بذبيحة مرة واحدة ، وما أتى لكي يتألّم مرارا ، كما يدلّ عليه عبارة آخر الباب التاسع من الرسالة العبرانية صراحة.

السادس : لو صحّ ما ادّعوه ، لزم أن يكون المسيحيون أخبث من اليهود. لأن اليهود ما آلموه إلّا مرة واحدة فتركوا ، وما أكلوا لحمه ، وهؤلاء يؤلمونه ويذبحونه كل يوم في أمكنة غير محصورة. فإن كان القاتل مرة واحدة كافرا وملعونا ، فما بال الذين يذبحونه مرّات غير محصورة ويأكلون لحمه ويشربون دمه؟ نعوذ بالله من الذين يأكلون إلههم ويشربون دمه حقيقة. فإذا لم ينج من أيدي هؤلاء إلههم الضعيف المسكين ، فمن ينجو بعدنا الله من ساحتهم. ولنعم ما قيل (دوستى نادان سراسر دشمنيست).

السابع : وقع في الباب الثاني والعشرين من لوقا قول المسيح في العشاء الرباني هكذا : «اصنعوا هذا لذكري». فلو كان هذا العشاء هو نفس الذبيحة ، لما صحّ أن يكون تذكرة ، لأن الشيء لا يكون تذكرة لنفسه. فالعقلاء الذين عقولهم السليمة تحكم بأمثال هذه الأوهام في الحسّيّات ، لو وهموا في ذات الله أو في العقليات فأيّ استبعاد منهم؟ لكني أقطع النظر عن هذا وأقول : في مقابلة علماء بروتستنت إنه ، كما اجتمع هؤلاء العقلاء عندكم على هذه العقيدة المخالفة للحسّ والعقل تقليدا للآباء أو لغرض آخر ، فكذلك اجتماعهم واجتماعكم في عقيدة التثليث المخالفة للحسّ والبراهين. والأناس الكثيرون الذين تسمّونهم ملاحدة ، ومقدارهم في هذا الزمان أزيد من مقدار فرقتكم بل من فرقة الرومانيين أيضا. وهم عقلاء مثلكم ومن أبناء أصنافكم ومن أهل دياركم وكانوا مسيحيين مثلكم ، فتركوا هذا المذهب لاشتماله على أمثال هذه الأمور يستهزءون بها استهزاء بليغا لا يستهزءون بشيء آخر مثلها ، كما لا يخفى على من طالع كتبهم. وفرقة يوني نيرين من فرقة المسيحيين أيضا ينكرونها. والمسلمون واليهود سلفا وخلفا يفهمونها من جنس أضغاث الأحلام.

الأمر السادس (١) : كان الإجمال يوجد كثيرا في أقوال المسيح عليه‌السلام ، بحيث لا يفهمها معاصروه وتلاميذه في كثير من الأحيان ، ما لم يفسّرها بنفسه. فالأقوال التي فسّرها من

__________________

(١) يتابع المؤلّف هنا تعداد «الأمور» التي نبّه إليه في مقدمة الباب الرابع.

٢٦٠