إظهار الحق - ج ١ ـ ٢

رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي

إظهار الحق - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

هذه الأقوال المجملة فهموها ، وما لم يفسّره منها فهموا بعضها بعد مدة مديدة ، وبقي البعض عليهم مبهما إلى آخر الحياة ، ونظائره كثيرة. أكتفي هنا على بعضها. وقع في الباب الثاني من إنجيل يوحنّا مكالمة المسيح عليه‌السلام مع اليهود الذين كانوا يطلبون المعجزة هكذا : «١٩ أجاب يسوع وقال لهم انقضّوا على هذا الهيكل في ثلاثة أيام أقيمه ٢٠ فقال اليهود في ستّ وأربعين سنة بني هذا الهيكل أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه ٢١ وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده ٢٢ فلما قام من الأموات تذكّر تلاميذه أنه قال هذا فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع». فهنا لم يفهم التلاميذ ، فضلا عن اليهود. لكن فهم التلاميذ بعد ما قام من الأموات. وقال المسيح لنيقوديموس من علماء اليهود : إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله. فلم يفهم نيقوديموس مقصوده ، وقال كيف يمكن أن يولد الإنسان وهو شيخ؟ أيقدر أن يدخل في بطن أمه ثانية ويولد؟ ففهّمه المسيح مرة أخرى ، فلم يفهم مقصوده في هذه المرة أيضا ، وقال : كيف يمكن هذا؟ فقال المسيح : ألا تفهم وأنت معلّم إسرائيل؟ وهذه القصة مفصّلة في الباب الثالث من إنجيل يوحنّا. وقال المسيح في مخاطبة يهودا : أنا خير الحياة إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد ، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي. فخاصم اليهود بعضهم بعضا قائلين : كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل؟ فقال لهم المسيح : إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان ولم تشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية ، لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق. من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه. كما أرسلني الأب الحيّ وأنا حيّ بالأب فمن يأكلني فهو يحيا بي. فقال كثيرون من تلاميذه : إن هذا الكلام من يقدر أن يسمعه؟ فرجع كثير منهم عن صحبته. وهذه القصة مفصّلة في الباب السادس من إنجيل يوحنّا. فهنا لم يفهم اليهود كلام المسيح ، والتلاميذ استصعبوه وارتدّ كثير منهم. وفي الباب الثامن من إنجيل يوحنّا هكذا : «٢١ قال لهم يسوع أيضا أنا أمضي وستطلبونني وتموتون في خطبتكم حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا ٢٢ فقال اليهود : لعلّه يقتل نفسه حتى يقول حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا ٥١ الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد ٥٢ فقال له اليهود : الآن علمنا أن بك شيطانا. قد مات إبراهيم والأنبياء وأنت تقول : إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يذوق الموت إلى الأبد». وهاهنا أيضا لم يفهم اليهود مقصوده في الموضعين ، بل نسبوه فى الموضع الثاني إلى الجنون. وفي الباب الحادي عشر من إنجيل يوحنّا هكذا : «قال لهم : لعازر حبيبنا قد نام لكني أذهب لأوقظه ١٢ فقال تلاميذه : يا سيد إن كان قد نام فهو يشفى ١٣ وكان يسوع يقول عن موته وهم ظنّوا أنه يقول عن رقاد النوم ١٤ فقال لهم يسوع حينئذ علانية لعازر مات». وهاهنا لم يفهم تلاميذ المسيح عليه

٢٦١

السلام كلامه حتى صرّح به. وفي الباب السادس عشر من إنجيل متّى هكذا : «٦ وقال لهم يسوع انظروا تحرّزوا من خمير الفريسيين والصدوقيين. ففكّروا في أنفسهم أننا لم نأخذ خبزا ٨ فعلم يسوع وقال لهم : لما ذا تفكّرون في أنفسكم ، يا قليلي الإيمان؟ إنكم لم تأخذوا خبزا ١١ كيف لا تفهمون اني ما قلت لكم عن الخبز أن تتحرّزوا من خمير الفريسيين والصدوقيين ١٢ حينئذ فهموا أنه لم يقل أن يتحرّزوا من خمير الخبز بل من تعليم الفريسيين والصدوقيين». وهاهنا أيضا لم يفهم تلاميذ المسيح عليه‌السلام مقصوده قبل التنبيه. وفي الباب الثامن من إنجيل لوقا في حال الصبية التي أحياها المسيح عليه‌السلام بإذن الله هكذا : «٥٢ وكان الجميع يبكون عليها ويلطمون فقال : لا تبكوا لم تمت لكنها نائمة ٥٣ فضحكوا عليه عارفين أنها ماتت». وهاهنا لم يفهم الجميع مقصود المسيح عليه‌السلام ، ولذلك ضحكوا عليه. وفي الباب التاسع من إنجيل لوقا قول المسيح في مخاطبة الحواريين هكذا : «٤٤ ضعوا أنتم هذا الكلام في آذانكم ان ابن الإنسان سوف يسلّم إلى أيدي الناس ٤٥ وأما هم فلم يفهموا هذا القول وكان مخفيّا عنهم لكيلا يفهموه ، وخافوا أن يسألوه عن هذا القول». وهاهنا لم يفهم الحواريون ، ولم يسألوه خوفا منه. وفي الباب الثامن عشر من إنجيل لوقا هكذا : «٣١ وأخذ الاثني عشر وقال لهم : ها نحن صاعدون إلى أورشليم ، وسيتمّ كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان ٣٢ لأنه يسلّم إلى الأمم ويستهزأ به ويشتم ويتفل عليه ٣٣ ويجلدونه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم ٣٤ وأما هم فلم يفهموا من ذلك شيئا. وكان هذا الأمر مخفيّا عنهم ولم يعلموا ما قيل» وهاهنا أيضا لم يفهم الحواريون ، مع أن هذا التفهيم كان في المرة الثانية ، ولم يكن في الكلام إجمال أيضا بحسب الظاهر. لعلّ سبب عدم الفهم هو أنهم كانوا سمعوا من اليهود أن المسيح يكون سلطانا عظيم الشأن. فلما آمنوا بعيسى عليه‌السلام وصدّقوه بالمسيحية ، فكانوا يظنون أنه سيجلس على سرير السلطنة ، ونحن أيضا نجلس على أسرّة السلطنة. لأن عيسى عليه‌السلام كان وعدهم أنهم يجلسون على اثني عشر سريرا ويحكم كلّ منهم على فرقة من فرقة بني إسرائيل. وكانوا حملوا هذه السلطنة على السلطنة الدنياوية ، كما هو الظاهر ، وكان هذا الخبر مخالفا لما ظنوه ولما يرجونه ، فلذا لم يفهموا. وستعرف عن قريب أنهم كانوا يرجون هكذا. وأيضا قد شبّه على تلاميذ عيسى عليه‌السلام من بعض الأقوال المسيحية أمران ولم يزل هذا الاشتباه من أكثرهم أو كلّهم إلى الموت : الأول : انهم كانوا يعتقدون أن يوحنّا لا يموت إلى القيامة. والثاني : انهم كانوا يعتقدون أن القيامة تقوم في عهدهم كما عرفت مفصّلا في الباب الأول ، وهذا الأمر يقيني أن ألفاظ عيسى عليه‌السلام بعينها ليست بمحفوظة في إنجيل من الأناجيل ، بل في كل إنجيل توجد ترجمتها باليوناني على ما فهم الرّواة. وقد عرفت مفصّلا في الشاهد الثامن عشر من

٢٦٢

المقصد الثالث من الباب الثاني أن إنجيل متّى لم يبق ، بل الباقي ترجمته. ولم يعلم أيضا اسم مترجمه بالجزم إلى الآن. ولا يثبت بالسند المتصل أن الكتب الباقية من تصنيف الأشخاص المنسوبة إليهم. وقد ثبت أن التحريف وقع في هذه الكتب يقينا. وثبت أن أهل الدين والديانة كانوا يحرّفون قصدا لتأييد مسألة مقبولة أو لدفع اعتراض. وقد عرفت في الشاهد الحادي والثلاثين من المقصد الثاني بالأدلة القوية أنه ثبت تحريفهم في هذه المسألة ، فزادوا في الباب الخامس من الرسالة الأولى ليوحنّا هذه العبارة «في السماء وهم ثلاثة الأب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد والذين يشهدون في الأرض». وزادوا بعض الألفاظ في الباب الأول من إنجيل لوقا ، وأسقطوا بعض الألفاظ من الباب الأول من إنجيل متّى ، وأسقطوا الآية الثامنة من الباب الثاني والعشرين من إنجيل لوقا. ففي هذه الصورة لو وجد بعض الأقوال المسيحية المتشابهة الدّالّة على التثليث لا اعتماد عليها ، مع أنها ليست صريحة ، كما ستعرف في الأمر الثاني عشر من المقدمة.

الأمر السابع : قد لا يدرك العقل ماهيّة بعض الأشياء وكنهها كما هي ، لكن مع ذلك يحكم بإمكانها. ولا يلزم من وجودها عنده استحالة ما ، ولذا تعدّ هذه الأشياء من الممكنات. وقد يحكم بداهة أو بدليل قطعي بامتناع بعض الأشياء ، ويلزم من وجودها عنده محال ما ، ولذا تعدّ هذه الأشياء من الممتنعات. وبين الصورتين فرق جليّ. ومن القسم الثاني اجتماع النقيضين الحقيقيين وارتفاعهما. وكذا اجتماع الوحدة والكثرة الحقيقيتين في مادة شخصية في زمان واحد من جهة واحدة. وكذا اجتماع الزوجية والفردية ، وكذا اجتماع الأفراد المختلفة. وكذا اجتماع الأضداد مثل النور والظلمة والسواد والبياض ، والحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والعمى والبصر والسكون والحركة في المادة الشخصية ، مع اتحاد الزمان والجهة. واستحالة هذه الأشياء بديهية يحكم بها عقل كل عاقل. وكذا من القسم الثاني لزوم الدور والتسلسل ، وأمثالهما يحكم العقل ببطلانها بأدلّة قطعية.

الأمر الثامن : إذا تعارض القولان فلا بدّ من إسقاطهما ، إن لم يمكن التأويل أو من تأويلهما إن أمكن. ولا بدّ أن يكون التأويل بحيث لا يستلزم المحال أو الكذب. مثلا الآيات الدالّة على الجسمية والشكل تعارضت ببعض الآيات الدالّة على التنزيه ، فيجب تأويلها ، كما عرفت في الأمر الثالث. لكن لا بدّ أن يكون التأويل بأن الله متصل بصفتين أعني الجسمية والتنزيه ، وإن لم تدرك عقولنا هذا الأمر ، فإن هذا التأويل باطل محض واجب الردّ لا يرفع التناقض.

الأمر التاسع : العدد لمّا كان قسما من الكمّ لا يكون قائما بنفسه بل بالغير. وكل

٢٦٣

موجود لا بدّ أن يكون معروضا للوحدة أو الكثرة ، والذوات الموجودة الممتازة بالامتياز الحقيقي المتشخّصة بالتشخيص تكون معروضة للكثرة الحقيقية ، فإذا صارت معروضة لها لا تكون معروضة للوحدة الحقيقية ، وإلا يلزم اجتماع الضدّين الحقيقيين ، كما عرفت في الأمر السابع. نعم يجوز أن تكون معروضة للوحدة الاعتبارية بأن يكون المجموع كثيرا حقيقيا وواحدا اعتباريا.

الأمر العاشر : المنازعة بيننا وبين أهل التثليث لا تتحقّق ما لم يقولوا إن التثليث والتوحيد كليهما حقيقيان. وإن قالوا التثليث حقيقي والتوحيد اعتباري فلا نزاع بيننا وبينهم ، لكنهم يقولون إن كلّا منهما حقيقي ، كما هو مصرّح به في كتب علماء بروتستنت. قال صاحب ميزان الحق في الباب الأول من كتابه المسمّى بحلّ الإشكال هكذا : «إن المسيحيين يحملون التوحيد والتثليث كليهما على المعنى الحقيقي».

الأمر الحادي عشر : قال العلّامة المقريزي في كتابه المسمى بالخطط في بيان الفرق المسيحية التي كانت في عصره : «النصارى فرق كثيرة : الملكانية والنسطورية واليعقوبية والبوذعانية والمرقولية وهم الرهاويون الذين كانوا بنوا حيّ حرّان وغير هؤلاء» ثم قال : «والملكانية واليعقوبية والنسطورية كلهم متّفقون على أن معبودهم ثلاثة أقانيم. وهذه الأقانيم الثلاثة هي واحدة ، وهو جوهر قديم ، ومعناه أب وابن وروح القدس إله واحد». ثم قال : «قالوا الابن اتّحد بإنسان مخلوق فصار هو وما اتّحد به مسيحا واحدا ، وإن المسيح هو إله العباد وربّهم. ثم اختلفوا في صفة الاتحاد. فزعم بعضهم أنه وقع بين جوهر لاهوتي وجوهر ناسوتي اتحاد ، ولم يخرج الاتحاد كل واحد منهما عن جوهريته وعنصره. وان المسيح إله معبود وانه ابن مريم الذي حملته وولدته ، وانه قتل وصلب. وزعم قوم أن المسيح بعد الاتّحاد جوهران أحدهما لاهوتي والآخر ناسوتي ، وأن القتل والصلب وقعا به من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته ، وان مريم حملت بالمسيح وولدته من جهة ناسوته. وهذا قول النسطورية. ثم يقولون إن المسيح بكماله إله معبود وإنه ابن الله ، تعالى الله عن قولهم. وزعم قوم أن الاتحاد وقع بين جوهرين لاهوتي وناسوتي فالجوهر اللّاهوتي بسيط غير منقسم ولا متجزّئ ، وزعم قوم أن الاتحاد على جهة حلول الابن في الجسد ومخالطته إياه. ومنهم من زعم أن الاتحاد على جهة الظهور كظهور كتابة الخاتم والنقش إذا وقع على طين أو شمع وكظهور صورة الإنسان في المرآة ، إلى غير ذلك من الاختلاف الذي لا يوجد مثله في غيرهم. والملكانية تنسب إلى ملك الروم وهم يقولون : إن الله اسم لثلاثة معان فهو واحد ثلاثة وثلاثة واحد. واليعقوبية يقولون : إنه واحد قديم ، وإنه كان لا جسم ولا إنسان ، ثم تجسّم

٢٦٤

وتأنّس. والمرقولية قالوا الله واحد ، علمه غيره قديم معه ، والمسيح ابنه على جهة الرحمة ، كما يقال إبراهيم خليل الله». انتهى كلامه بلفظه. فظهر لك أن آراءهم في بيان علاقة الاتحاد بين أقنوم الابن وجسم المسيح كانت مختلفة في غاية الاختلاف. ولذا ترى البراهين الموردة في الكتب القديمة الإسلامية مختلفة. ولا نزاع لنا في هذه العقيدة مع المرقولية إلّا باعتبار إطلاق اللفظ الموهم. وفرقة بروتستنت لمّا رأوا أن بيان علاقة الاتحاد لا يخلو من الفساد البيّن تركوا آراء الأسلاف وعجزوا أنفسهم واختاروا السكون عن بيانها وعن بيان العلاقة بين الأقانيم الثلاثة.

الأمر الثاني عشر : عقيدة التثليث ما كانت في أمة من الأمم السابقة من عهد آدم إلى عهد موسى عليه‌السلام. وهوسات أهل التثليث ، بتمسّكهم ببعض آيات سفر التكوين ، لا تتمّ علينا لأنها في الحقيقة تحريف لمعانيها. ويكون المعنى على تمسكهم من قبيل كون المعنى في بطن الشاعر. ولا أدّعي أنهم لا يتمسكون بزعمهم بآية من آيات السفر المذكور ، بل أدّعي أنه لم يثبت بالنصّ كون هذه العقيدة لأمة من الأمم السالفة. وأما أنها ليست بثابتة في الشريعة الموسوية وأمته ، فغير محتاج إلى البيان لأن من طالع هذه التوراة المستعملة لا يخفى عليه هذا الأمر. ويحيى عليه‌السلام كان إلى آخر عمره شاكّا في المسيح عليه‌السلام بأنه المسيح الموعود به أم لا ، كما صرّح به في الباب الحادي عشر من إنجيل متّى أنه أرسل اثنين من تلاميذه وقال له : أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ فلو كان عيسى عليه‌السلام إلها يلزم كفره إذ الشك في الإله كفر. وكيف يتصوّر أنه لا يعرف إلهه وهو نبيّه؟ بل هو أفضل الأنبياء بشهادة المسيح كما هي مصرّحة في هذا الباب. وإذا لم يعرف الأفضل مع كونه معاصرا ، فعدم معرفة الأنبياء الآخرين السابقين على عيسى أحقّ بالاعتبار. وعلماء اليهود من لدن موسى عليه‌السلام إلى هذا الزمان لا يعترفون بها. وظاهر أن ذات الله وصفاته الكمالية قديمة غير متغيرة موجودة أزلا وأبدا. فلو كان التثليث حقا لكان الواجب على موسى عليه‌السلام وأنبياء بني إسرائيل أن يبيّنوه حقّ التبيين. فالعجيب كل العجب أن تكون الشريعة الموسوية التي كانت واجبة الإطاعة لجميع الأنبياء إلى عهد عيسى عليه‌السلام ، خالية عن بيان هذه العقيدة التي هي مدار النجاة ، على زعم أهل التثليث ، ولا يمكن نجاة أحد بدونها ، نبيّا كان أو غير نبيّ. ولا يبيّن موسى ولا نبيّ من الأنبياء الإسرائيلية هذه العقيدة ببيان واضح بحيث تفهم منه هذه العقيدة صراحة ، ولا يبقى شك ما ، ويبيّن موسى عليه‌السلام الأحكام التي هي عند مقدس أهل التثليث ضعيفة ناقصة جدا بالتشريح التامّ ، ويكرّرها مرة بعد أولى وكرّة بعد أخرى ، ويؤكد على محافظتها تأكيدا بليغا ، ويوجب القتل على تارك بعضها. وأعجب منه أن عيسى عليه‌السلام أيضا ما بيّن هذه العقيدة إلى عروجه ببيان واضح ، مثلا بأن يقول إن الله

٢٦٥

ثلاثة أقانيم الأب والابن وروح القدس ، وأقنوم الابن تعلّق بجسمي بعلاقة فلانية ، أو بعلاقة فهمها خارج عن إدراك عقولكم ، فاعلموا أني أنا الله لا غير لأجل العلاقة المذكورة. أو يقول كلاما آخر مثله في إفادة هذا المعنى صراحة. وليس في أيدي أهل التثليث من أقواله إلّا بعض الأقوال المتشابهة. قال صاحب ميزان الحق في كتابه المسمّى بمفتاح الأسرار : «إن قلت لم لم يبيّن المسيح ألوهيّته ببيان أوضح مما ذكره ولم لم يقل واضحا ومختصرا إني أنا الله لا غير فأجاب أولا بجواب غير مقبول لا يتعلق غرضنا بنقله في هذا المحل. ثم أجاب ثانيا «بأنه ما كان أحد يقدر على فهم هذه العلاقة والوحدانية قبل قيامه ـ يعني من الأموات ـ وعروجه. فلو قال صراحة ، لفهموا أنه إله بحسب الجسم الإنساني. وهذا الأمر كان باطلا جزما. فدرك هذا المطلب أيضا من المطالب التي قال في حقّها لتلاميذه إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم ويخبركم بأمور آتية» ثم قال : «إن كبار ملّة اليهود أرادوا مرارا أن يأخذوه ويرجموه ، والحال أنه ما كان بيّن ألوهيّته بين أيديهم إلّا على طريق الألغاز». فعلم من كلامه عذران : الأول : عدم قدرة فهم أحد قبل العروج. والثاني : خوف اليهود. وكلاهما ضعيفان في غاية الضعف. أما الأول فإنه كان هذا القدر يكفي لدفع الشّبهة أن علاقة الاتحاد التي بين جسمي وبين أقنوم الابن فهمها خارج عن وسعكم فاتركوا تفتيشها ، واعتقدوا بأني لست إلها باعتبار الجسم بل بعلاقة الاتحاد المذكور ، وأما نفس عدم القدرة على فهمها فباقية بعد العروج أيضا حتى لم يعلم عالم من علمائهم إلى هذا الحين كيفية هذه العلاقة الوحدانية. ومن قال ما قال ، فقوله رجم بالغيب لا يخلو عن مفسدة عظيمة. ولذا ترك علماء فرقة بروتستنت بيانها رأسا. وهذا القسّيس يعترف في مواضع من تصانيفه بأن هذا الأمر من الأسرار خارج عن درك العقل. أما الثاني فلأن المسيح عليه‌السلام ما جاء عندهم إلّا لأجل أن يكون كفّارة لذنوب الخلق ويصلبه اليهود. وكان يعلم يقينا أنهم يصلبونه ، ومتى يصلبونه. فأيّ محل للخوف من اليهود في بيان العقيدة؟ والعجب أن خالق الأرض والسماء والقادر على ما يشاء يخاف من عبادة الذين هم من أذلّ أقوام الدنيا. ولا يبيّن لأجل خوفهم العقيدة التي هي مدار النجاة. وعبادة من الأنبياء مثل أرمياء وأشعياء ويحيى عليهم‌السلام لا يخافون منهم في بيان الحق ، ويؤذون إيذاء شديدا ، ويقتل بعضهم. وأعجب منه أن المسيح عليه‌السلام يخاف منهم في بيان هذه المسألة العظيمة ، ويشدّد عليهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غاية التشديد حتى تصل النوبة إلى السبّ ، ويخاطب الكتبة والفريسيين مشافهة بهذه الألفاظ : ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون ، وويل لكم أيها القادة العميان ، وأيها الجهّال العميان ، وأيها الفريسي الأعمى وأيها

٢٦٦

الحيّات والأفاعي ، كيف تهربون من دينونة جهنم؟ ويظهر قبائحهم على رءوس الأشهاد حتى شكا بعضهم بأنك تشتمنا ، كما هو مصرّح به في الباب الثالث والعشرين من إنجيل متّى ، والحادي عشر من إنجيل لوقا. وأمثال هذا مذكورة في المواضع الأخر من الإنجيل أيضا. فكيف يظنّ بالمسيح عليه‌السلام أن يترك بيان العقيدة التي هي مدار النجاة لأجل خوفهم؟ حاشا ثم حاشا أن يكون جنابه هكذا. وعلم من كلامه أن المسيح عليه‌السلام ما بيّن هذه المسألة عند اليهود قطّ إلّا بطريق الألغاز ، وأنهم كانوا ينكرون هذه العقيدة أشدّ الإنكار حتى أرادوا رجمه مرارا على البيان الإلغازي.

٢٦٧

الفصل الأول

في إبطال التثليث بالبراهين العقلية

البرهان الأول : لمّا كان التثليث والتوحيد حقيقيين عند المسيحيين بحكم الأمر العاشر من المقدمة ، فإذا وجد التثليث الحقيقي لا بدّ من أن تؤكّد الكثرة الحقيقة أيضا ، بحكم الأمر التاسع من المقدمة. ولا يمكن بعد ثبوتها ثبوت التوحيد الحقيقي ، وإلّا يلزم اجتماع الضدّين الحقيقيين بحكم الأمر السابع من المقدمة وهو محال. فلزم تعدّد الوجباء وفاة التوحيد يقينا. فقائل التثليث لا يمكن أن يكون موحّد الله تعالى بالتوحيد الحقيقي. والقول بأن التثليث الحقيقي والتوحيد الحقيقي ، وإن كانا ضدّين حقيقيين في غير الواجب ، لكنهما ليسا كذلك ، فيه سفسطة محضة. لأنه إذا ثبت أن الشيئين بالنظر إلى ذاتيهما ضدّان حقيقيان أو نقيضان في نفس الأمر ، فلا يمكن اجتماعهما في أمر واحد شخصي في زمان واحد من جهة واحدة ، واجبا كان ذلك الأمر أو غير واجب ، كيف وان الواحد الحقيقي ليس له ثلث صحيح ، والثلاثة لها ثلث صحيح وهو واحد. وان الثلاثة مجموع آحاد ثلاثة ، والواحد الحقيقي ليس مجموع آحاد رأسا. وان الواحد الحقيقي جزء الثلاثة. فلو اجتمعا في محل واحد يلزم كون الجزء كلّا والكلّ جزءا. وان هذا الاجتماع يستلزم كون الله مركّبا من أجزاء غير متناهية بالفعل لاتّحاد حقيقة الكل والجزء على هذا التقدير ، والكلّ مركّب ، فكل جزء من أجزائه أيضا مركّب من الأجزاء التي تكون عين هذا الجزء ، وهلمّ جرّا. وكون الشيء مركّبا من أجزاء غير متناهية بالفعل ، باطل قطعا. وان هذا الاجتماع يستلزم كون الواحد ثلث نفسه ، والثلاثة ثلث الواحد ، وكون الثلاثة ثلاثة أمثال نفسها ، والواحد ثلاثة أمثال الثلاثة.

البرهان الثاني : لو وجد في ذات الله ثلاثة أقانيم ممتازة بامتياز حقيقي ، كما قالوا ، فمع قطع النظر عن تعدّد الوجباء ، يلزم أن لا يكون الله حقيقة محصلة ، بل مركّبا اعتباريا. فإن

٢٦٨

التركيب الحقيقي لا بدّ فيه من الافتقار بين الأجزاء ، فإن الحجر الموضوع بجنب الإنسان لا يحصل منهما أحديّة ولا افتقار بين الواجبات ، لأنه من خواصّ الممكنات. فالواجب لا يفتقر إلى الغير ، وكل جزء منفصل عن الآخر وغيره ، وإن كان داخلا في المجموع. فإذا لم يفتقر بعض الأجزاء إلى بعض آخر لم تتألّف منها الذات الأحديّة على أنه يكون الله في الصورة المذكورة مركّبا وكلّ مركّب يفتقر في تحقّقه إلى تحقّق كلّ واحد من أجزائه ، والجزء غير الكل بالبداهة. فكل مركّب مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته ، فيلزم أن يكون الله ممكنا لذاته. وهذا باطل.

البرهان الثالث : إذا ثبت الامتياز الحقيقي بين الأقانيم ، فالأمر الذي حصل به هذا الامتياز إما أن يكون من صفات الكمال أو لا يكون. فعلى الشقّ الأول لم يكن جميع صفات الكمال مشتركا فيه بينهم. وهو خلاف ما تقرّر عندهم أنّ كل أقنوم من هذه الأقانيم متّصف بجميع صفات الكمال. وعلى الشقّ الثاني ، فالموصوف به يكون موصوفا بصفة ليست من صفات الكمال ، وهذا نقصان يجب تنزيه الله عنه.

البرهان الرابع : الاتحاد بين الجوهر اللاهوتي والناسوتي إذا كان حقيقيا ، لكان أقنوم الابن محدودا متناهيا. وكل ما كان كذلك كان قبوله للزيادة والنقصان ممكنا. وكلّ ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعيّن لتخصيص مخصّص وتقدير مقدّر. وكل ما كان كذلك فهو محدث. فيلزم أن يكون أقنوم الابن محدّثا ، ويستلزم حدوثه حدوث الله.

البرهان الخامس : لو كانت الأقانيم الثلاثة ممتازة بامتياز حقيقي وجب أن يكون المميز عن الوجوب الذاتي ، لأنه مشترك بينهم. وما به الاشتراك غير ما به الامتياز. فيكون كل واحد منهم مركّبا من جزءين ، وكلّ مركّب ممكن لذاته. فيلزم أن يكون كلّ واحد منهم ممكنا لذاته.

البرهان السادس : مذهب اليعقوبية باطل صريح ، لأنه يستلزم انقلاب القديم بالحادث ، والمجرد بالمادّي. وأما مذهب غيرهم فيقال في إبطاله أن هذا الاتحاد إما بالحلول أو بغيره. فإن كان الأول فهو باطل من وجوه ثلاثة على وفق عدد التثليث : أما أولا : فلأن ذلك الحلول لا يخلو إما أن يكون كحلول ماء الورد في الورد ، والدهن في السمسم ، والنار في الفحم ، وهذا باطل. لأنه إنما يصحّ لو كان أقنوم الابن جسما ، وهم وافقونا على أنه ليس بجسم. وإما أن يكون كحصول اللون في الجسم ، وهذا أيضا باطل ، لأن المعقول من هذه التبعيّة حصول اللون في الحيّز لحصول محله في هذا الحيّز. وهذا أيضا إنما يتصوّر في الأجسام. وإما أن يكون كحصول الصفات الإضافية للذوات ، وهذا أيضا باطل ، لأن المعقول من هذه التبعيّة الاحتياج. فلو ثبت حلول أقنوم الابن بهذا المعنى في شيء كان

٢٦٩

محتاجا ، فكان ممكنا ، فكان مفتقرا إلى المؤثّر ، وذلك محال. وإذا ثبت بطلان جميع التقادير امتنع إثباته. وأما ثانيا : فلأنّا لو قطعنا النظر عن معنى الحلول نقول : إن أقنوم الابن ، لو حلّ في الجسم ، فلذلك الحلول إما أن يكون على سبيل الوجوب ، أو على سبيل الجواز. ولا سبيل إلى الأول ، لأن ذاته إما أن تكون كافية في اقتضاء هذا الحلول ، أو لا تكون كافية في ذلك. فإن كان الأول استحال توقّف ذلك الاقتضاء على حصول شرط ، فيلزم إما حدوث الله ، أو قدم المحل ، وكلاهما باطلان. وإن كان الثاني ، كان كونه مقتضيا لذلك الحلول أمرا زائدا على ذاته ، حادثا فيه ، فيلزم من حدوث الحلول حدوث شيء فيه ، فيكون قابلا للحوادث. وذلك محال ، لأنه لو كان كذلك لكانت تلك القابلية من لوازم ذاته ، وكانت حاصلة أزلا. وذلك محال لأن وجود الحوادث في الأزل محال. ولا سبيل إلى الثاني لأنه على هذا التقدير يكون ذلك الحلول زائدا على ذات الأقنوم ، فإذا حلّ في الجسم وجب أن يحلّ فيه صفة محدثة ، وحلولها يستلزم كونه قابلا للحوادث ، وهو باطل كما عرفت. وأما ثالثا : فلأن أقنوم الابن إذا حلّ في اسم عيسى عليه‌السلام فلا يخلو إما أن يكون باقيا في ذات الله أيضا أو لا. فإن كان الأول لزم أن يوجد الحال الشخصي في محلين. وإن كان الثاني لزم أن يكون ذات الله خالية عنه فينتفي ، لأن انتفاء الجزء يستلزم انتفاء الكل. وإن كان ذلك الاتحاد بدون الحلول ، فنقول إن أقنوم الابن إذا اتّحد بالمسيح عليه‌السلام فهما في حال الاتحاد : إن كانا موجودين فهما اثنان لا واحد ، فلا اتحاد ، وإن عدما وحصل ثالث ، فهو أيضا لا يكون اتحادا بل عدم الشيئين وحصول شيء ثالث ، وإن بقي أحدهما وعدم الآخر فالمعدوم يستحيل أن يتّحد بالموجود ، لأنه يستحيل أن يقال المعدوم بعينه هو الموجود. فظهر أن الاتحاد محال. ومن قال إن الاتحاد على وجهة الظهور ، كظهور كتابة الخاتم إذا وقع على طين أو شمع أو كظهور صورة الإنسان في المرآة ، فقوله لا يثبت الاتحاد الحقيقي ، بل يثبت التغاير ، لأنه كما أن كتابة الخاتم الظاهرة على طين أو شمع غير الخاتم وصورة الإنسان في المرآة غير الإنسان ، فكذلك يكون أقنوم الابن غير المسيح عليه‌السلام ، بل غاية ما يلزم أن يكون ظهور أثر صفة الأقنوم فيه أكثر من ظهوره في غيره ، كما أن ظهور تأثير شعاع الشمس في بدخشان في بعض الأحجار التي تتولّد منها الجواهر المعروفة أزيد من تأثيره في الأحجار التي هي غير تلك الأحجار ولنعم ما قيل :

محال لا يساويه محال

وقول في الحقيقة لا يقال

وفكر كاذب وحديث زور

بدا منهم ومنشؤه الخيال

تعالى الله ما قالوه كفر

وذنب في العواقب لا يقال

البرهان السابع : فرقة بروتستنت تردّ على فرقة كاتلك في استحالة الخبز إلى المسيح

٢٧٠

في العشاء الربّاني بشهادة الحسّ ، وتستهزئ بها. فهذا الردّ والهزء يرجعان إليهما أيضا. لأن الذي رأى المسيح ما رأى منه إلّا شخصا واحدا إنسانيا ، وتكذيب أصدق الحواسّ الذي هو البصر يفتح باب السفسطة في الضروريات. فيكون القول به باطلا كالقول بالاستحالة. والجهلاء من المسيحيين من أيّة فرقة من فرق أهل التثليث كانوا قد ضلّوا في هذه العقيدة ضلالا بيّنا ، ولا يميّزون بين الجوهر اللّاهوتي والناسوتي ، كما يميز بحسب الظاهر علماؤهم ، بل يعتقدون ألوهية المسيح عليه‌السلام باعتبار الجوهر الناسوتي ، ويخبطون خبطا عظيما. نقل أنه تنصّر ثلاثة أشخاص وعلّمهم بعض القسّيسين العقائد الضرورية سيما عقيدة التثليث أيضا ، وكانوا في خدمته فجاء محبّ من أحبّاء هذا القسّيس وسأله عمّن تنصّر ، فقال ثلاثة أشخاص تنصّروا ، فسأل هذا المحبّ هل تعلّموا شيئا من العقائد الضرورية؟ فقال : نعم. وطلب واحدا منهم ليرى محبّه. فسأله عن عقيدة التثليث. فقال : إنك علّمتني أن الآلهة ثلاثة أحدهم الذي هو في السماء ، والثاني تولّد من بطن مريم العذراء ، والثالث الذي نزل في صورة الحمام على الإله الثاني بعد ما صار ابن ثلاثين سنة. فغضب القسّيس وطرده. وقال : هذا مجهول. ثم طلب الآخر منهم وسأله. فقال : إنك علّمتني أن الآلهة كانوا ثلاثة وصلب واحد منهم ، فالباقي إلهان. فغضب عليه القسّيس أيضا وطرده. ثم طلب الثالث وكان ذكيّا بالنسبة إلى الأوّلين وحريصا في حفظ العقائد ، فسأله فقال : يا مولاي حفظت ما علّمتني حفظا جيدا وفهمت فهما كاملا بفضل الربّ المسيح أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد ، وصلب واحد منهم ومات ، فمات الكلّ لأجل الاتّحاد ، ولا إله الآن وإلّا يلزم نفي الاتّحاد. وأقول : لا تقصير للمسئولين فإن هذه العقيدة يخبط فيها الجهلاء هكذا ، ويتحيّر علماؤهم ويعترفون بأنّا نعتقد ولا نفهم ويعجزون عن تصويرها وبيانها. ولذا قال الفخر الرازي في تفسيره سورة النساء : «واعلم أن مذهب النصارى مجهول جدا». ثم قال : «لا نرى مذهبا في الدنيا أشدّ ركاكة وبعدا من العقل من مذهب النصارى». وقال في تفسير سورة المائدة : «ولا نرى في الدنيا مقالة أشدّ فسادا وأظهر بطلانا من مقالة النصارى». فإذا علمت بالبراهين العقلية القطعية أن التثليث الحقيقي ممتنع في ذات الله ، فلو وجد قول من الأقوال المسيحية دالّا بحسب الظاهر على التثليث يجب تأويله ، لأنه يخلو إما أن نعمل بكل واحد من دلالة البراهين ودلالة القول ، وإما أن نتركهما ، وإما أن نرجّح النقل على العقل ، وإما أن نرجّح العقل على النقل. والأول باطل قطعا ولا يلزم كون الشيء الواحد ممتنعا وغير ممتنع في نفس الأمر. والثاني أيضا محال وإلّا يلزم ارتفاع النقيضين. والثالث أيضا لا يجوز لأن العقل أصل النقل ، فإن ثبوت النقل موقوف على ثبوت وجود الصانع وعلمه وقدرته وكونه مرسلا للرّسل وثبوتها بالدلائل العقلية ، فالقدح في العقد قدح في العقل والنقل معا. فلم يبق إلّا أن نقطع

٢٧١

بصحة العقل ونشتغل بتأويل النقل. والتأويل عند أهل الكتاب ليس بنادر ولا قليل ، ما عرفت في الأمر الثالث من المقدمة أنهم يؤوّلون الآيات الغير المحصورة الدّالّة على جسمية الله وشكله لأجل الآيتين اللتين مضمونهما مطابق للبرهان العقلي ، وكذلك يؤوّلون الآيات الكثيرة الغير المحصورة الدّالّة على المكان لله تعالى لأجل الآيات القليلة الموافقة للبرهان. وعرفت في الأمر الرابع والخامس أيضا مثله مشروحا. لكن العجب من عقلاء كاتلك ومن تبعهم أنهم تارة يبطلون حكم الحسّ والعقل معا ويحكمون أن الخبز والخمر اللذين حدثا بين أعيننا بعد مدة أزيد من ألف وثمانمائة سنة من عروج المسيح عليه‌السلام يتحوّلان في العشاء الربّاني إلى لحمه ودمه حقيقة فيعبدونهما ويسجدون لهما ، وتارة يبطلون حكم العقل والبداهة وينبذون البراهين العقلية وراء ظهورهم ويقولون : التثليث الحقيقي والتوحيد الحقيقي يمكن اجتماعهما في أمر واحد شخصي في زمان واحد من جهة واحدة. والعجب من فرقة بروتستنت أنهم خالفوهم في الأولى دون الثانية. فلو كان العمل على ظاهر النقل ضروريا ، وإن كان مخالفا للحسّ والعقل ، فالإنصاف أن فرقة كاتلك خير من فرقتهم ، لأنها بالغت في إطاعة ظاهر قول المسيح عليه‌السلام ، حتى اعترفت بمعبودية ما يصادمه الحسّ والبداهة. وكما ان أهل التثليث يغالون في شأن المسيح عليه‌السلام ويوصلونه إلى رتبة الألوهية ، فكذلك يفرطون في شأنه وشأن آبائه فيعتقدون أنه لعن ، وبعد ما مات نزل جهنم ، وأقام فيها ثلاثة أيام ، كما ستعرف ، وأن داود وسليمان عليهما‌السلام وكذا الآباء الآخرون للمسيح عليه‌السلام في أولاد فارض الذي ولدته تامار بالزنا من يهوذا ، وأن داود عليه‌السلام زنى بامرأة أوريا ، وأن سليمان عليه‌السلام ارتدّ في آخر عمره ، كما عرفت. وكان سيل من العلماء المسيحية ، وكان قد حصل بعض العلوم الإسلامية أيضا ، وكان ترجم القرآن المجيد بلسانه وترجمته مقولة عند المسيحيين ، وصّى قومه في بعض الأمور. وأنقل وصيّته عن ترجمته المطبوعة سنة ١٨٣٦ من الميلاد : «الأول لا يقع الجبر منكم على المسلمين. والثاني لا تعلّموهم المسائل التي هي مخالفة للعقل لأنهم ليسوا حمقاء نغلب عليهم في هذه المسائل كعبادة الصّنم والعشاء الربّاني لأنهم يعثرون كثيرا من هذا المسائل ، وكل كنيسة فيها هذه المسائل لا تقدر أن تجذبهم إلى نفسها». انتهى. فانظر كيف وصّى وأظهر أن مثل عبادة الصنم ومسألة العشاء الربّاني مخالفة للعقل والإنصاف. إن أهل هذه المسائل مشركون يقينا هداهم الله إلى الصراط المستقيم.

تمّ الجزء الأول ويليه الجزء الثاني

وأوله الفصل الثاني في إبطال التثليث

٢٧٢

الجزء الثاني

الفصل الثاني

في إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه‌السلام

القول الأول : في الآية الثالثة من الباب السابع عشر من إنجيل يوحنا ، قول عيسى عليه‌السلام في خطاب الله هكذا : «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته». فبيّن عيسى عليه‌السلام أن الحياة الأبدية عبارة عن أن يعرف الناس أن الله واحد حقيقي ، وأن عيسى عليه‌السلام رسوله. وما قال (١) ان الحياة الأبدية أن يعرفوا أن ذاتك ثلاثة أقانيم ممتازة بامتياز حقيقي ، وأن عيسى إنسان وإله ، أو أن عيسى إله مجسّم. ولما كان هذا القول في خطاب الله في الدعاء ، فلا احتمال هاهنا للخوف من اليهود. فلو كان اعتقاد التثليث مدار النجاة لبيّنه. وإذ ثبت أن الحياة الأبدية اعتقاد التوحيد الحقيقي لله واعتقاد الرسالة للمسيح ، فضدهما يكون موتا أبديا وضلالا بيّنا البتة. والتوحيد الحقيقي ضدّ للتثليث الحقيقي ، كما عرفت مفصلا في الفصل الأول. وكون المسيح رسولا ضدّ لكونه إلها ، لأن التغاير بين المرسل والمرسل ضروري. وهذه الحياة الأبدية توجد في أهل الإسلام بفضل الله ، وأمّا غيرهم فالمجوس ومشركو الهند والصين محرومون منها لانتفاء الاعتقادين فيهم. وأهل التثليث من المسيحيين محرومون منها لانتفاء الاعتقاد الأول. واليهود كافة محرومون منها لانتفاء الاعتقاد الثاني.

القول الثاني : في الباب الثاني عشر من إنجيل مرقس هكذا : «٢٨ فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون ، فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله أية وصية هي أول الكل؟ ٢٩ فأجابه يسوع أن أول كل الوصايا اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد ٣٠ وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك هذه هي الوصية الأولى ٣١ وثانية

__________________

(١) ما : النافية. ينفي عن خطاب الله أن الحياة.

٢٧٣

مثلها هي أن تحب قريبك كنفسك ليس وصية أخرى أعظم من هاتين ٣٢ فقال له الكاتب جيدا يا معلم بالحق قلت لأنه ـ أي الله ـ واحد وليس آخر سواه ٣٣ ومحبته من كل القلب ومن كل الفهم ومن كل النفس ومن كل القدرة ومحبة القريب كالنفس هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح ٣٤ فلما رآه يسوع أنه أجاب بعقل قال له لست بعيدا عن ملكوت الله». وفي الباب الثاني والعشرين من إنجيل متى ، في قوله عليه‌السلام بعد بيان الحكمين المذكورين هكذا : «بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس والأنبياء وهو الحق وهو سبب قرب الملكوت ، أن يعتقد أن الله واحد ولا إله غيره. ولو كان اعتقاد التثليث مدار النجاة لكان مبيّنا في التوراة وجميع كتب الأنبياء ، لأنه أول الوصايا ، ولقال عيسى عليه‌السلام : أوّل الوصايا الرب واحد ذو أقانيم ثلاثة ممتازة بامتياز حقيقي. لكنه لم يبيّن في كتاب من كتب الأنبياء صراحة ، ولم يقل عيسى عليه‌السلام هكذا ، فلم يكن مدار النجاة. فثبت أن مدارها هو اعتقاد التوحيد الحقيقي ، لا اعتقاد التثليث. وهوسات التثليثيين باستنباطه من بعض كتب الأنبياء لا يتمّ على المخالف ، لأن هذا الاستنباط خفي جدا مردود بمقابلة النص. وغرض المخالف هذا أن اعتقاد التثليث لو كان له دخل ما في النجاة لبيّنه الأنبياء الإسرائيلية بيانا واضحا ، كما بينوا التوحيد في الباب الرابع من كتاب الاستثناء : «٣٥ لتعلم أن الرب هو الله وليس غيره ٣٦ فاعلم اليوم واقبل بقلبك أن الرب هو الإله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت وليس غيره». وفي الباب السادس من السفر المذكور : «٤ اسمع يا إسرائيل أن الرب إلهنا فإنه رب واحد ٥ حب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك». وفي الباب الخامس والأربعين من كتاب اشعياء : «٥ أنا هو الرب وليس غيري وليس دوني إله شددتك ولم تعرفني ٦ ليعلم الذين هم من مشرق الشمس والذين هم من المغرب أنه ليس غيري أنا الرب وليس آخر». فالواجب على أهل المشرق والمغرب أن يعلموا أن لا إله إلا الله وحده ، لا أن يعلموا أن الله ثالث ثلاثة. وفي الآية التاسعة من الباب السادس والأربعين من كتاب أشعياء : «إني أنا الله وليس غيري إلها وليس لي شبه» (١).

القول الثالث : في الآية الثانية والثلاثين من الباب الثالث عشر من إنجيل مرقس قول المسيح عليه‌السلام هكذا : «وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الأب». وهذا القول ينادي على بطلان التثليث ، لأن المسيح

__________________

(١) حرّف صاحب الترجمة العربية المطبوعة سنة ١٨١١ قول المسيح عليه‌السلام بتبديل ضمير المتكلم بضمير الخطاب وترجم هكذا (الرب إلهك إله واحد). وضيع بهذا التحريف المقصود الأعظم ، لأن ضمير المتكلم هاهنا دالّ على أن عيسى ليس برب بل عبد مربوب بخلاف ضمير الخطاب. والظاهر أن هذا التحريف قصدي.

٢٧٤

عليه‌السلام خصص علم القيامة بالله ونفى عن نفسه ، كما نفى عن عباد الله الآخرين ، وسوّى بينه وبينهم في هذا ولا يمكن هذا في صورة كونه إلها. سيما إذا لاحظنا أن الكلمة وأقنوم الابن عبارتان عن علم الله وفرضنا اتحادهما بالمسيح وأخذنا هذا الاتحاد على مذهب القائلين بالحلول أو على مذهب اليعقوبية القائلين بالانقلاب ، فإنه يقتضي أن يكون الأمر بالعكس ، ولا أقل من أن يعلم الابن كما يعلم الأب. ولما لم يكن العلم من صفات الجسد ، فلا يجري فيه عذرهم المشهور أنه نفى عن نفسه باعتبار جسميته ، فظهر أنه ليس إلها باعتبار الجسمية ولا باعتبار غيرها.

القول الرابع : في الباب العشرين من إنجيل متّى هكذا : «تقدمت إليه أم ابني زبدى مع ابنيها وسجدت وطلبت منه شيئا ٢١ فقال لها : ما ذا تريدين؟ قالت له : أن يجلس ابناي هذان واحد عن يمينك والآخر عن اليسار في ملكوتك ٢٢ فأجاب يسوع إلخ ٢٣ الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعد لهم من أبي». انتهى ملخصا. فنفى عيسى عليه‌السلام هاهنا عن نفسه القدرة وخصصها بالله ، كما نفى عن نفسه علم الساعة وخصصه بالله ، ولو كان إلها لما صحح هذا.

القول الخامس : في الباب التاسع عشر من إنجيل متّى هكذا : «١٦ وإذا واحد تقدم وقال له أيها المعلم الصالح ، أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟ ١٧ فقال له : لما ذا تدعوني صالحا ، ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله». فهذا القول يقلع أصل التثليث ، وما رضي تواضعا أن يطلق عليه لفظ الصالح. أيضا ولو كان إلها لما كان لقوله معنى ، ولكان عليه أن يبيّن لا صالح إلا الأب وأنا وروح القدس ، ولم يؤخر البيان عن وقت الحاجة. وإذا لم يرض بقوله الصالح ، فكيف يرضى بأقوال أهل التثليث التي يتفوهون بها في أوقات صلاتهم يا ربنا وإلهنا يسوع المسيح لا تضيع من خلقت بيدك؟ حاشا جنابه أن يرضى بها.

القول السادس : في الباب السابع والعشرين من إنجيل متّى هكذا : «٤٦ ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا : إيلي إيلي لما شبقتني؟ أي إلهي إلهي لما ذا تركتني؟ ٥٠ فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح». وفي الآية السادسة والأربعين من الباب الثالث والعشرين من إنجيل لوقا هكذا : «ونادى يسوع بصوت عظيم وقال : يا أبتاه في يديك أستودع روحي». وهذا القول ينفي ألوهية المسيح رأسا ، سيما على مذهب القائلين بالحلول أو الانقلاب ، لأنه لو كان إلها لما استغاث بإله آخر بأن قال إلهي إلهي لما ذا تركتني ، ولما قال يا أبتاه في يديك أستودع روحي ، ولامتنع العجز والموت عليه. الآية الثامنة والعشرون من الباب الأربعين من كتاب أشعيا هكذا : «أما عرفت أو ما سمعت إله سرمديّ الربّ الذي خلق أطراف الأرض ، لن يضعف ولن يتعب وليس فحصا عن حكمته». والآية السادسة من الباب

٢٧٥

الرابع والأربعين من الكتاب المذكور هكذا : «هكذا يقول الرب ملك إسرائيل وفاديه رب الجنود : أنا الأول وأنا الآخر وليس إله غيري». والآية العاشرة من الباب العاشر من كتاب أرمياء هكذا : «أما الرب هو إله حق هو إله حي وملك سرمدي» إلخ. وفي الآية الثانية عشر من الباب الأول من كتاب حبقوق هكذا : «يا رب إله قدوسي ولا تموت». وفي الآية السابعة عشر من الباب الأول من الرسالة الأولى إلى تيموثاوس هكذا : «وملك الدهور الذي لا يفنى لا يرى الإله الحكيم وحده». فكيف يعجز ويموت الذي هو إله سرمدي بريء من الضعف والتعب ، حي قدوس لا يموت ولا إله غيره؟ أيكون الفاني العاجز إلها؟ حاشا وكلا. بل الإله الحقيقي هو الذي كان عيسى عليه‌السلام يستغيث به في هذا الوقت على زعمهم والعجب أنهم لا يكتفون بموت الإله ، بل يعتقدون أنه بعد ما مات دخل جهنم أيضا. نقل جواد بن ساباط هذه العقيدة من كتاب الصلاة المطبوع سنة ١٥٠٦ هكذا : «كما أن المسيح مات لأجلنا ودفن ، فكذا لا بدّ أن نعتقد أنه دخل جهنم». انتهى. وفيلبس كوادنولس الراهب كتب في ردّ رسالة أحمد الشريف بن زين العابدين الأصفهاني كتابا بلسان العرب سماه بخيالات فيلبس ، وطبع هذا الكتاب سنة ١٦٦٩ في الرومية الكبرى في بسلوقيت ـ وحصلت لي بطريق العارية نسخة قديمة من هذا الكتاب من كتبخانة انكليز في بلدة دهلي ـ فكتب الراهب المسطور في كتابه المذكور هكذا : «الذي تألم لخلاصنا وهبط إلى الجحيم ثمّ في اليوم الثالث قام من بين الأموات». انتهى. وفي بريئر بوك في بيان عقيدة اتهانييش التي يؤمن بها المسيحيون لفظ (هل) (١) موجود ومعناه الجحيم. وقال جواد بن ساباط أن القسيس مارطيروس قال لي في توجيه هذه العقيدة أن المسيح لما قبل الجسم الإنساني ، فلا بدّ عليه أن يتحمّل جميع العوارض الإنسانية ، فدخل جهنم وعذب أيضا ، ولما خرج من جهنم أخرج منها كل من كان معذبا فيها قبل دخوله. فسألته هل لهذه العقيدة دليل نقلي؟ قال إنها غير محتاجة إلى الدليل. فقال رجل مسيحي من أهل ذلك المحفل على وجه الظرافة : إن الأب كان قاسي القلب ، وإلّا لما ترك الابن في الجحيم ، فغضب القسيس وطرده من المحفل ، فجاء هذا الرجل عندي وأسلم ، لكن أخذ العهد مني أن لا أظهر حال إسلامه ما دام حيا. ودخل يوسف ولف في بلدة لكهنو سنة ١٢٤٨ من الهجرة وسنة ١٨٣٣ من الميلاد وكان من القسيسين المشهورين ، وكان يدّعي الإلهام لنفسه ، وكان يدّعي أن نزول المسيح يكون في سنة ١٨٤٧ من الميلاد. وقعت المناظرة فيما بينه وبين مجتهد الشيعة تحريرا وتقريرا في هذا الباب. فسأله مجتهد الشيعة عن هذه العقيدة أيضا ، فقال : نعم دخل المسيح الجحيم وعذّب لكن لا بأس فيه ، لأن هذا الدخول كان لنجاة أمته. وبعض فرقهم يعتقدونها بأشنع حالة. قال بل في تاريخه في بيان فرقة

__________________

(١) أي : الجحيم. وهي لفظة إنكليزيةHell.

٢٧٦

مارسيوني : «هذه الفرقة كانت تعتقد أن عيسى عليه‌السلام بعد ما مات دخل جهنم ونجى أرواح قابيل وأهل سدوم لأنهم حضروا عنده وكانوا غير مطيعين لإله خالق الشر ، وأبقى أرواح هابيل ونوح وإبراهيم والصلحاء الآخرين من القدماء في جهنم لأنهم خالفوا الفرقة الأولى ـ وهذه الفرقة كانت تعتقد أن خالق العالم ليس منحصرا في الإله الذي أرسل عيسى ، ولذلك ما كانت تسلم كون كتب العهد العتيق الهامية ـ» انتهى. فكانت عقيدة هذه الفرقة مشتملة على أمور : / ١ / جميع الأرواح سواء كانت أرواح الأنبياء والصلحاء أو الأشقياء كانت معذبة في جهنم قبل دخول عيسى عليه‌السلام. / ٢ / أن عيسى عليه‌السلام دخل جهنّم. / ٣ / أن عيسى عليه‌السلام نجى أرواح الأشقياء من العذاب وأبقى أرواح الأنبياء والصلحاء فيه / ٤ / أن هؤلاء الصلحاء مخالفون لعيسى والأشقياء موافقون له / ٥ / أن خالق العالم إلهان : خالق الخير وخالق الشرّ. وعيسى عليه‌السلام رسول الأول ، والأنبياء الآخرون المشهورون رسل الثاني / ٦ / كتب العهد العتيق ليست إلهامية. وقال صاحب ميزان الحق في كتابه المسمى بحل الإشكال في جواب كشف الأستار هكذا : «الحق أنه توجد في العقيدة المسيحية أن المسيح دخل جهنم وقام في اليوم الثالث وعرّج إلى السماء ولكن المراد هاهنا من جهنم هاوس (١) وهو موضع ما بين جهنم والفلك الأصلي ، والمعنى أنه دخل هاوس ليرى أهله جلاله وينبههم على أني مالك الحياة وأني أعطيت كفارة الذنوب بالموت الصليبي وجعلت الشيطان وجهنم مغلوبين والمؤمنين كالمعدومين». انتهى ملخصا.

أقول أولا : ثبت من ظاهر كتاب الصلاة وكلام فيلبس كوادنولس ، وثبت صراحة من إقرار مارطيروس ويوسف ولف ، ومن عقيدة اتهاني سيش أن جهنم على معناه واعترف هو أيضا أنه يوجد هذا في العقيدة. ثم أوّل فتأويله بدون الدليل لا يقبل ، ولا بدّ عليه أن يثبت من كتبه أن ما بين جهنم والفلك الأصلي مكان يسمى بهاوس ، ثم يثبت من هذه الكتب أن دخول المسيح في جهنم كان لأجل الإراءة والتنبيه المذكورين. على أنه لا وجود للأفلاك عند حكماء أوروبا علماء بروتستنت من المتأخرين يتابعونهم في هذا الرأي ، فكيف يصحح هذا التوجيه على زعمهم؟ ثم أقول ثانيا : إن هذا الهاوس محل السرور والثواب أو محل المحن والعقاب. فإن كان الأول ، فلا حاجة إلى تنبيه أهله لأنهم كانوا قبل هذا في سرور وعيشة راضية. وإن كان الثاني ، فلا فائدة في التأويل لأن جهنم الأرواح لا يكون إلا محلّ عذابها. ثم أقول ثالثا : إن كون الموت الصليبي كفارة الذنب غير معقول يقينا ، لأن المراد بهذا الذنب ، على زعمهم ، الذنب الأصلي الذي صدر عن آدم عليه‌السلام ، لا الذنب الذي يصدر عن أولاده. ولا يجوز أن يعاقب أولاده على هذا الذنب الأصلي ، لأن الأبناء لا يؤاخذون بذنوب الآباء ولا بالعكس ،

__________________

(١) House. ربما نقل المؤلف اللفظة من الانكليزية كما هي.

٢٧٧

بل هو خلاف العدل. الآية العشرون من الباب الثامن عشر من كتاب حزقيال هكذا : «النفس التي تخطىء فهي تموت والابن لا يحمل إثم الأب ، والأب لا يحمل إثم الابن ، وعدل العادل يكون عليه ، ونفاق المنافق يكون عليه. ثم أقول رابعا : ما معنى جعل الشيطان مغلوبا بالموت لأنه على حكم إنجيلهم مقيد بقيود أبدية قبل ميلاد عيسى عليه‌السلام؟ الآية السادسة من رسالة يهودا هكذا : «والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم ، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام». ثم العجب أنهم لا يكتفون بموت إلههم المزعوم ودخوله جهنم ، بل يزيدون عليهما أنه صار ملعونا أيضا ، والعياذ بالله ، وملعونيته مسلمة عند المسيحيين ، ويسلمها صاحب ميزان الحق أيضا بكمال رضا الخاطر ويصرّح بها في كتبه ، وصرّح بها مقدسهم بولس أيضا. الآية الثالثة عشر من الباب الثالث من رسالته إلى أهل غلاطية هكذا : «المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علّق على خشبة». وعندنا إطلاق مثل هذا اللفظ شنيع جدا ، بل لاعن الله واجب الرجم بحكم التوراة ، ورجم واحد على هذا الخطأ في عهد موسى عليه‌السلام ، كما هو مصرّح به في الباب الرابع والعشرين من سفر الأخبار ، بل لاعن الأبوين أيضا واجب القتل ، فصلا عن لاعن الله ، كما هو مصرّح في الباب العشرين من السفر المذكور.

القول السابع : في الآية السابعة عشر من الباب العشرين من إنجيل يوحنا قول المسيح عليه‌السلام في خطاب مريم المجدلية هكذا : «لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم». فسوّى بينه وبين الناس في هذا القول (أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم». فسوّى بينه وبين الناس في هذا القول (أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم) لكيلا يتقوّلوا عليه الباطل ، فيقولون أنه إله أو ابن إله. فكما أن تلاميذه عباد الله وليسوا بأبناء الله حقيقة بل المعنى المجازي ، فكذلك هو عبد الله وليس بابن الله حقيقة. ولما كان هذا القول بعد ما قام عيسى عليه‌السلام من الأموات على زعمهم قبل العروج بقليل ، ثبت أنه كان يصرّح بأني عبد الله إلى زمان العروج. وهذا القول يطابق ما حكى الله عنه في القرآن المجيد (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة : ١١٧].

القول الثامن : في الآية الثامنة والعشرين من الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا قول المسيح عليه‌السلام هكذا : «إن أبي أعظم مني». ففيه أيضا نفي لألوهيته ، لأن الله ليس كمثله شيء فضلا عن أن يكون أعظم منه.

القول التاسع : في الآية الرابعة والعشرين من الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا قول المسيح عليه‌السلام هكذا : «الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للأب الذي أرسلني». ففيه

٢٧٨

أيضا تصريح بالرسالة ، وبأن الكلام الذي تسمعونه وحي من جانب الله.

القول العاشر : من الباب الثالث والعشرين من إنجيل متّى قول المسيح عليه‌السلام في خطاب تلاميذه هكذا : «ولا تدعوا لكم أبا على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السموات ١٠ ولا تدعوا معلمين لأن معلمكم واحد المسيح». فهنا أيضا صرّح بأن الله واحد وأني معلم لكم.

القول الحادي عشر : في الباب السادس والعشرين من إنجيل متّى هكذا : «٣٦ حينئذ جاء معهم يسوع إلى ضيعة يقال لها جشيماني فقال للتلاميذ اجلسوا هاهنا حتى أمضي وأصلي هناك ٣٧ ثم أخذ معه بطرس وابني زبدى وابتدأ يحزن ويكتئب ٣٨ فقال لهم نفسي حزينة جدا حتى الموت امكثوا هاهنا واسهروا معي ٣٩ ثم تقدم قليلا وخرّ على وجهه وكان يصلي قائلا يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس الا أشربها فلتكن مشيئتك ٤٣ ثم جاء إلخ ٤٤ فتركهم ومضى أيضا وصلّى ثالثة قائلا ذلك الكلام بعينه». فأقواله وأحواله المندرجة في هذه العبارات ، تدلّ على عبوديته ونفي ألوهيته. أيحزن ويكتئب الإله ، ويموت ويصلي لإله آخر ، ويدعو بغاية التضرع؟ لا والله. ولما جاء جنابه الشريف إلى العالم وتجسد ليخلص العالم بدمه الكريم من عذاب الجحيم ، فما معنى الحزن والاكتئاب وما معنى الدعاء بأن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس؟

القول الثاني عشر : كان من عادته الشريفة أنه إذا عبّر عن نفسه كان يعبّر بابن الإنسان غالبا ، كما لا يخفى على ناظر هذا الإنجيل المروج أيضا مثلا في الآية ٢٠ باب ٨ ، و ٦ باب ٩ ، و ١٣ و ٢٧ باب ١٦ ، و ٩ و ١٢ و ٢٢ باب ١٧ ، و ١١ باب ١٨ ، و ٢٨ باب ٢٠ ، و ٢٧ باب ٢٤ و ٢٤ و ٤٥ و ٦٤ باب ٢٦ من إنجيل متّى ، وهكذا في غيره وظاهر أن ابن الإنسان لا يكون إلا إنسانا.

٢٧٩

الفصل الثالث

في إبطال ألوهيّة المسيح

قد عرفت في الأمر الخامس من المقدمة أن كلام يوحنا مملوء من المجاز قلّما تجد فقرة لا تحتاج إلى التأويل. وقد عرفت في الأمر السادس ، أن الإجمال يوجد كثيرا في أقوال المسيح عليه‌السلام ، بحيث لم يفهمها معاصروه ولا تلاميذه في كثير من الأحيان ما لم يفسرها بنفسه. وقد عرفت في الأمر الثاني عشر أن عيسى عليه‌السلام ما بيّن ألوهيته إلى العروج ببيان لا يبقى فيه شبهة ويفهم منه صراحة هذا المعنى. فالأقوال التي يتمسك بها المسيحيون غالبا مجملة منقولة عن إنجيل يوحنا وعلى ثلاثة أقسام ، بعضها لا يدلّ بحسب معانيها الحقيقية على مقصودهم ، فاستنباط الألوهية منها مجرّد زعمهم. وهذا الاستنباط والزعم ليسا بمعتمدين ولا جائزين في مقابلة البراهين العقلية القطعية والنصوص العيسوية ، كما عرفت في الفصلين المذكورين. وبعضها أقوال يفهم تفسيرها من الأقوال المسيحية الأخرى ومن بعض مواضع الإنجيل ، ففيها أيضا لا اعتبار لرأيهم. وبعضها أقوال يجب تأويلها عندهم أيضا ، فإذا وجب التأويل فنقول لا بدّ أن يكون هذا التأويل بحيث لا يخالف البراهين والنصوص وأنّى لهم ذلك ، فلا حاجة إلى نقل الكل ، بل أنقل الأكثر ليتضح منه للناظر حال استدلالهم ويقيس الباقي عليه.

الأول : من إطلاق لفظ ابن الله على المسيح عليه‌السلام ، أقول هذا الدليل في غاية الضعف بوجهين : أما أولا ، فلأن هذا الإطلاق معارض بإطلاق ابن الإنسان ، كما عرفت ، وبإطلاق ابن داود. فلا بدّ من التطبيق بحيث لا يثبت المخالفة للبراهين العقلية ولا يلزم منه محال. وأما ثانيا ، فلأنه لا يصح أن يكون لفظ الابن بمعناه الحقيقي ، لأن معناه الحقيقي باتفاق لغة أهل العالم من تولد من نطفة الأبوين ، وهذا محال هاهنا. فلا بدّ من الحمل على المعنى المجازي المناسب لشأن المسيح. وقد علم من الإنجيل أن هذا اللفظ في حقه بمعنى

٢٨٠