إظهار الحق - ج ١ ـ ٢

رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي

إظهار الحق - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

المقصد الثالث

في إثبات التحريف بالنقصان

الشاهد الأول : الآية الثالثة عشر من الباب الخامس عشر من سفر الخليقة هكذا : «وقيل له اعلم عالما أن نسلك سيكون ساكنا في غير أرضهم ويستعبدونهم ويضيّقون عليهم أربعمائة سنة». وهذه العبارة (يستعبدونهم ويضيّقون عليهم) وكذلك الآية الرابعة عشر من هذا الباب وهي هكذا «ولكن الشعب الذي يستعبدهم أنا أدينه ومن بعد هذا يخرجون بمال» تدلّان على أن المراد بالأرض أرض مصر ، لأن الذين استعبدوا وضيّقوا على بني إسرائيل فدانهم الله ، فخرج بعد هذا بنو إسرائيل بمال جزيل ، هم أهل مصر لا غيرهم. لأن هذه الأمور لا توجد في غيرهم. والآية الأربعون من الباب الثاني عشر من كتاب الخروج هكذا «فكان جميع ما سكن بنو إسرائيل في أرض مصر أربعمائة وثلاثين سنة». فبين الآيتين اختلاف. فإما أسقط من الأولى لفظ ثلاثين ، وإما زيد في الثانية. ومع قطع النظر عن هذا الاختلاف والتحريف ، أقول : إن بيان المدة في كلتيهما غلط يقينا لا ريب فيه لأمور : الأول ، ان موسى عليه‌السلام ابن بنت لاوي ، وابن ابن ابن لاوي أيضا ، لأنه ابن يوخايذ بنت لاوي من جانب الأم ، وابن عمران بن قاهث بن لاوي من جانب الأب. فعمران كان تزوّج عمّته ، كما هو مصرّح به في الباب السادس من سفر الخروج والباب السادس والعشرين من سفر العدد. وقاهث جدّ موسى عليه‌السلام قد ولد قبل مجيء بني إسرائيل إلى مصر ، كما هو مصرّح به في الآية الحادية عشر من الباب السادس والأربعين من سفر الخليقة. فلا يمكن أن يكون مدة إقامة بني إسرائيل بمصر أكثر من مائتين وخمس عشرة سنة. الثاني : ان مؤرّخيهم ومفسّريهم متّفقون على أن مدة سكون بني إسرائيل كانت مائتين وخمس عشرة سنة. من تصنيفات علماء بروتستنت كتاب باللسان العربي مسمّى ب «مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين» وكتب على عنوانه : (طبع في مطبعة مجمع كنيسة الإنكليز الأسقفية في

١٨١

مدينة فالته سنة ١٨٤٠ مسيحية) وضبطت تواريخ حوادث العالم من بدء التكوين إلى ميلاد المسيح في الفصل السابع عشر من الجزء الثاني لهذا الكتاب ، وكتبت السنون من جانبي كل حادثة في جانب اليمين السنون التي من بدء التكوين إلى الحادثة ، وفي جانب اليسار السنون التي من هذه الحادثة إلى ميلاد المسيح. ففي الصفحة ٣٤٦ و ٢٢٩٨ (إقامة إخوة يوسف وأبيه في مصر ١٧٠٦) وفي الصفحة ٣٤٧ و ٢٥١٣ (عبور الإسرائيليين بحر القلزم وغرق فرعون ١٤٩١). انتهت عبارته فإذا أسقطنا الأقل من الأكثر يبقى مائتان وخمس عشرة سنة. وصورة العمل هكذا :

هذا هو مختار المؤرّخين. وستقف على قول المفسّرين. وفي عبارة آدم كلارك التي تنقل ترجمتها عن قريب. الثالث : انه وقع في الباب الثالث من رسالة بولس إلى أهل غلاطية هكذا : «١٦ فإن المواعيد كان قد وعد بها إبراهيم وذرّيّته ، حيث لم يقل وذراريه نظرا إلى الكثرة ، بل قيل ولذرّيّتك نظرا إلى الوحدة التي هي المسيح ١٧ فأقول : إن العهد الذي أثبت الله من قبل للمسيح لا يستطيع الناموس الذي ورد بعده بأربعمائة وثلاثين سنة أن ينكثه حتى ينقضي الميعاد». وكلامه ، وإن كان لا يخلو عن الخطأ ، كما ستعرف ، يخالف عبارة الخروج مخالفة صريحة. لأنه اعتبر المدة بالقدر المذكور من زمان العهد الذي كان من إبراهيم عليه‌السلام ، وكان مقدّما كثيرا على دخول بني إسرائيل في مصر إلى نزول التوراة الذي هو متأخر عن خروجهم عن مصر. وما اعتبر مدة سكون بني إسرائيل في مصر القدر المسطور. ولمّا كان البيان المذكور غلطا يقينا ، صحّحت الآية الأربعون من الباب الثاني عشر من سفر الخروج في النسخة السامرية واليونانية هكذا : «فكان جميع ما سكن بنو إسرائيل وآباؤهم وأجدادهم في أرض كنعان وأرض مصر أربعمائة وثلاثين سنة». فزيد في هاتين النسختين هذه الألفاظ : آباؤهم وأجدادهم وأرض كنعان. قال آدم كلارك في الصفحة ٣٦٩ من المجلد الأول من تفسيره في ذيل شرح الآية المذكورة هكذا : «اتفق الكل على أن مضمون هذه الآية في غاية الإشكال». انتهى. أقول : ليس مضمونها في غاية الإشكال ، بل غلط يقينا ، كما ستعرفه أيضا. ثم نقل ذلك المفسّر عبارة النسخة السامرية فقال : «وعبارة إسكندريانوس موافقة لعبارة السامرية ، وكثير من الأفاضل على أن السامرية في حق الكتب الخمسة لموسى عليه‌السلام أصحّ. وهذا الأمر مسلّم أن إسكندريانوس في نسخ الترجمة اليونانية أصحّها

١٨٢

وقديمة من كل نسخها الموجودة ، ولا شك لا حدّ في وثاقة بولس. فانفصل الأمر كله بشهادة هذه الثلاثة ، والتواريخ شاهدة على أن الحق في جانب هذه الثلاثة ، لأن إبراهيم عليه‌السلام لمّا دخل كنعان ، فمن دخوله إلى ولادة إسحاق خمس وعشرون سنة ، وإن إسحاق كان ابن ستّين سنة حين تولد له يعقوب عليه‌السلام ، وأن يعقوب لمّا دخل مصر كان ابن مائة وثلاثين سنة ، فالمجموع مائتان وخمس عشرة سنة ، وان مدة إقامة بني إسرائيل في مصر مائتان وخمس عشرة سنة ، فالكلّ أربعمائة وثلاثون سنة». انتهى. وجامعو تفسير هنري واسكات ، بعد ما سلّموا أن مدة إقامة بني إسرائيل في مصر مائتان وخمس عشرة سنة ، نقلوا عبارة السامرية فقالوا : «لا شبهة في أن هذه العبارة صادقة وتزيل كل مشكل وقع في المتن». انتهى. فظهر أن مفسّريهم لا توجيه عندهم لعبارة الخروج التي في النسخة العبرانية سوى الاعتراف بأنها غلط. وإنما قلت إن كلام بولس أيضا لا يخلو عن الخطأ ، لأنه اعتبر المدة من العهد ، وهذا العهد كان قبل ميلاد إسحاق عليه‌السلام بسنة. كما هو مصرّح به في الباب السابع عشر من سفر التكوين. والآية الحادية والعشرون من الباب المذكور هكذا : «فأما ميثاقي فأقيمه لإسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الحين في السنة الأخرى». ونزول التوراة في الشهر الثالث من خروج بني إسرائيل ، كما هو مصرّح به في الباب التاسع عشر من كتاب الخروج. فإذا لو اعتبرت بالحساب الذي صرّح به آدم كلارك يكون المدة بقدر أربعمائة وسبع سنين. وهو مصرّح به قي تواريخ فرقة بروتستنت أيضا لأربعمائة وثلاثين سنة كما ادّعى بولس في الصفحة ٣٤٥ من مرشد الطالبين هكذا : «سنة ٢١٠٧ ميثاق الله مع إبرام وتبديل اسمه بإبراهيم وتعيين الختان ونجاة لوط وهلاك هادوم وعامورا وأضما وصابوعيم بالنار من أجل فاحشاتهم وشرورهم». ثم في الصفحة ٣٤٧ هكذا : «٢٥١٤ منح الشريعة على جبل سينا ١٤٩٠». انتهى. فإذا طرحنا الأقل من الأكثر يبقى أربعمائة وسبع سنين (١) هكذا :

__________________

(١) ما قلت أن يوخايذ كانت عمّة عمران هو الصحيح ، وكما يشهد عليه التراجم غير العديدة من الإنكليزية والعربية والفارسية والهندية. لكن العجب أن الآية العشرين من الباب السادس من سفر الخروج في الترجمة العربية المطبوعة سنة ١٦٢٥ هكذا : «فتزوّج عمران يوخايذ ابنة عمّه» فحرّف فيها لفظ العمّة بابنة العمّ. ولمّا طبعت هذه الترجمة بغاية الاجتهاد في عهد البابا أربانوس الثامن ، وكان كثير من القسّيسين والرهبان والعلماء الواقفين على اللسان العبراني والعربي واليوناني وغيرها باذلين جهدهم في تصحيحها ، كما يظهر هذا من المقدمة التي كتبوها في أول تلك الترجمة ، فالغالب أن هذا التحريف صدر عنهم قصدا لئلا يقع العيب في نسب موسى عليه‌السلام. لأن نكاح العمّة حرام في التوراة ، كما هو مصرّح به في الآية الثانية عشر من الباب الثامن عشر من سفر الأخبار وفي الآية التاسعة عشر من الباب العشرين من السفر المذكور وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة ١٨٤٨ هذا التحريف موجود أيضا.

١٨٣

الشاهد الثاني : الآية الثامنة من الباب الرابع من سفر التكوين هكذا : «وقال قابيل لهابيل أخيه ، ولمّا صارا في الحقل قام قابيل على هابيل أخيه فقتله». وفي النسخة السامرية واليونانية والتراجم القديمة هكذا : «وقال قابيل لهابيل أخيه تعال نخرج إلى الحقل ولمّا صارا في الحقل» إلى آخرها. فهذه العبارة (تعال نخرج إلى الحقل) سقطت من العبرانية. قال هورن في الحاشية في الصفحة ١٩٣ من المجلد الثاني من تفسيره : «توجد هذه العبارة في النسخة السامرية واليونانية والآرامية وكذا في النسخة اللّاطينية التي طبعت في پالي كلات والتن وحكم كني كات بإدخالها في النسخة العبرانية ولا شبهة في أنها عبارة حسنة». انتهى. ثم قال في الصفحة ٣٣٨ من المجلد الأول المذكور : «قد تكون عبارة الترجمة اليونانية صحيحة لم توجد في نسخ العبرانية المروّجة الآن ، مثلا نسخ العبرانية ، مكتوبة كانت أو مطبوعة ، ناقصة في الآية المذكورة نقصانا بيّنا ، ومترجم الترجمة الإنكليزية التي هي مختومة لمّا لم يفهم هاهنا حقّ الفهم ترجم هكذا : «تكلم قابيل مع هابيل أخيه». وجبر هذا النقصان في الترجمة اليونانية. وتوافق هذه الترجمة النسخة السامرية والترجمة اللّاطينية والآرامية وترجمة إيكوئيلا والتفسيران اللذان باللسان الجالدي والفقرة التي نقلها فلو اليهودي». انتهى. وقال آدم كلارك في الصفحة ٦٣ من المجلد الأول من تفسيره مثل ما قال هورن ، وأدخلت هذه العبارة في الترجمة العربية المطبوعة سنة ١٨٣١ ، وسنة ١٨٤٨.

الشاهد الثالث : في الآية السابعة عشر من الباب السابع من سفر التكوين في النسخة العبرانية هكذا : «وصار الطوفان أربعين يوما على الأرض». وهذه الجملة في كثير من نسخ اللّاطينية وفي الترجمة اليونانية هكذا : «وصار الطوفان أربعين يوما وليلة على الأرض». قال هورن في المجلد الأول من تفسيره : «فليزد لفظ ليلة في المتن العبري». انتهى.

الشاهد الرابع : في الآية الثانية والعشرين من الباب الخامس والثلاثين من سفر التكوين في النسخة العبرانية هكذا : «ولمّا سكن إسرائيل تلك الأرض مضى روبيل وضاجع بلها سريّة أبيه فسمع إسرائيل». قال جامعو تفسير هنري واسكات : «اليهود يسلّمون أن شيئا سقط من الآية ، والترجمة اليونانية تتمّها هكذا : «وكان قبيحا في نظره». انتهى. فاليهود هاهنا أيضا هذه معترفون بالسقوط. فسقوط الجملة من النسخة العبرانية ليس بمستبعد عند أهل الكتاب ، فضلا عن سقوط حرف أو حرفين.

١٨٤

الشاهد الخامس : قال هارسلي المفسّر في الصفحة ٨٢ من المجلد الأول من تفسيره ذيل الآية الخامسة من الباب الرابع والأربعين من سفر التكوين : «تزاد في أول هذه الآية من الترجمة اليونانية هذه الجملة لم سرقتم صواعي». انتهى. فهذه الجملة على اعترافه ساقطة من العبرانية.

الشاهد السادس : في الآية الخامسة والعشرين من الباب الخمسين في التكوين هكذا : «فاذهبوا بعظامي من هاهنا». وفي النسخة السامرية والترجمة اليونانية واللّاطينية وبعض التراجم القديمة هكذا : «فاذهبوا بعظامي من هاهنا معكم». فلفظ معكم سقط من العبرانية. قال هورن : «ادخل مستر بت زائدا هذا اللفظ المتروك في ترجمته الجديدة لبيبل وأصاب». انتهى.

الشاهد السابع : الآية الثانية والعشرون من الباب الثاني من سفر الخروج هكذا : «فولدت له ابنا ودعا اسمه جرسون قائلا إنما أنا كنت ملتجئا في أرض غريبة». وتوجد في الترجمة اليونانية واللّاطينية وبعض التراجم القديمة في آخر الآية المذكورة هذه العبارة : «وولدت أيضا غلاما ثانيا ودعا اسمه لعازر فقال : من أجل إله أبي أعانني وخلّصني من سيف فرعون». قال آدم كلارك في الصفحة ٣١٠ من المجلد الأول من تفسيره بعد ما نقل العبارة المسطورة في التراجم : «أدخل هيوبي كينت هذه العبارة في ترجمته اللّاطينية ويدّعي أن موضعه هذا. ولا توجد هذه العبارة في نسخة من نسخ العبرانية ، مكتوبة كانت أو مطبوعة ، مع أنها وجدت في التراجم المعتبرة». انتهى. فعندهم هذه العبارة ساقطة من النسخة العبرانية.

الشاهد الثامن : في الآية العشرين من الباب السادس من سفر الخروج هكذا : «فولدت له هارون وموسى». وفي النسخة السامرية والترجمة اليونانية هكذا : «فولدت له هارون وموسى ومريم أختهما». فلفظ (مريم أختهما) سقط من العبرانية. قال آدم كلارك بعد نقل عبارة النسخة السامرية واليونانية : «ظن البعض من أجلّة المحقّقين أن هذا اللفظ كان في المتن العبري».

الشاهد التاسع : الآية السادسة من الباب العاشر من سفر العدد هكذا : «وإذا هتفوا ونفخوا مرة ثانية بالقرن يهلّلون كأول مرة يرفع الخيام الحالّة نحو الجنوب». وتوجد في آخر هذه الآية في الترجمة اليونانية هكذا : «وإذا نفخوا مرة ثالثة يرفع الخيام الغربية للارتحال ، وإذا نفخوا مرة رابعة يرفع الخيام الشمالية للارتحال». قال آدم كلارك في الصفحة ٦٦٣ (١)

__________________

(١) نسخة ـ ٣٦٣.

١٨٥

من المجلد الأولى من تفسيره : «لم يذكر الغربية والشمالية هاهنا لكنه يعلم أنه كانوا يرتحلون بالنفخ أيضا ، ولذلك يعلم أن المتن العبراني هاهنا ناقص. تتمة اليونانية هكذا : «وإذا نفخوا مرة ثالثة يرفع الخيام المغربية للارتحال ، وإذا نفخوا مرة رابعة يرفع الخيام الشمالية للارتحال».

الشاهد العاشر : قال المفسّر هارسلي : سقط من آخر الآية الثالثة عشر وأول الآية الرابعة عشر من الباب السادس عشر من كتاب القضاة شيء فيؤخذ من الترجمة اليونانية وتزاد هذه العبارة : «فقال لها : لو أخذت سبعة قنزعات من رأسي ونسجتها مع سدى وربطت بالمسمار في الجدار فأصير ضعيفا كسائر الناس. فنوّمته وأخذت سبعة قنزعات ونسجت مع السدى وربطته». انتهى.

الشاهد الحادي عشر : قال آدم كلارك في الصفحة ١٦٧٦ من المجلد الثاني من تفسيره : «سقطت من الترجمة اليونانية الآية الثالثة كلها إلّا لفظ شكيناه والآية ٤ و ٥ و ٦ و ٩ و ٣٧ و ٣٨ و ٣٩ و ٤٠ و ٤١ ، وسقطت من الترجمة العربية في الباب المذكور من الآية الأولى إلى الآية السادسة والعشرين ، والآية التاسعة والعشرين».

الشاهد الثاني عشر : الآية السابعة عشر من الباب الثاني والأربعين من كتاب أيوب هكذا : «ومات أيوب شيخا معمّرا». واختتمت النسخة العبرانية عليها ، وزيد عليها في الترجمة اليونانية هذا القدر. «ويبعث مرة أخرى مع الذين يبعثهم الربّ». وزيد أيضا تتمة فيها بيان نسب أيوب وبيان أحواله على سبيل الاختصار. ويقول كامت وهردر : إن هذه التتمّة جزء من الكتاب الإلهامي وسلّمها فلو وپولي هستر أيضا. وكان الناس يسلّمون في عهد أرجن ، وكتبها تهيودوشن في ترجمته اليونانية. فعلى هذا ، العبرانية محرّفة بالنقصان عند القدماء المسيحيين ، والعلماء المذكورين. والمحقّقون من فرقة بروتستنت على أنها جعليّة ، فيلزم التحريف بالزيادة عندهم في الترجمة اليونانية. قال جامعو تفسير هنري واسكات : «الظاهر أنها جعليّة وإن كتبت قبل المسيح». انتهى. أقول : إذا سلّم كونها قبل المسيح ، يلزم أن القدماء المسيحيين من عهد الحواريين إلى ألف وخمسمائة سنة كانوا يعتقدون هذا المحرّف كلام الله ، لأنهم كانوا متشبثين إلى هذا الزمان بهذه الترجمة ، ومعتقدين بأنها صحيحة والعبرانية محرّفة.

الشاهد الثالث عشر : وقع بعد الآية الثالثة من الزبور الرابع عشر في الترجمة اللّاطينية وترجمة أتهيوبك والترجمة العربية ونسخة واتيكانوس من الترجمة اليونانية هذه العبارة : «فحلقومهم قبر مفتوح ، هم يغدرون بألسنتهم وسمّ الثعابين تحت شفاهم ، وأفواههم مملوءة

١٨٦

من اللّعن والمرورة ، وأقدامهم مسرعة لسفك الدم والتّهلكة والشقاء في طرقهم ، ولم يعرفوا طريق السلامة وخوف الله ليس بموجود أمام أعينهم». انتهت. ولا توجد هذه العبارة في النسخة العبرانية ، بل توجد في رسالة بولس إلى أهل رومية. فلا تخلوا إما أسقطها اليهود من العبرانية فهذا هو التحريف بالنقصان ، وإما زادها المسيحيون في تراجمهم لإصلاح كلام مقدسهم بولس وهذا هو التحريف بالزيادة. فأحد التحريفين لازم قطعا. قال آدم كلارك في ذيل شرح الآية المذكورة من الزبور : «وقع بعد هذه الآية في النسخة وآيتكانوس من ترجمة أتهيوبك والترجمة العربية ستّ آيات توجد في الباب الثالث من رسالة بولس إلى أهل رومية من الآية الثالثة عشر إلى الثامنة عشر». انتهى.

الشاهد الرابع عشر : الآية الخامسة من الباب الأربعين من كتاب أشعياء في العبرانية هكذا : «ويظهر جلال الربّ ويرى كل بشر معا قال له فم الربّ». وفي الترجمة اليونانية هكذا : «يظهر جلال الربّ ويرى كل بشر معا نجاة إلهنا لأن فم الربّ قاله». قال آدم كلارك في الصفحة ٧٨٥ من المجلد الرابع من تفسيره بعد ما نقل عبارة الترجمة اليونانية : «ظنّي بأن هذه العبارة هي الأصل. ثم قال : وهذا السقوط في المتن العبراني قديم جدا ، متقدّم على الترجمة الجالدية واللّاطينية والسريانية ، وتوجد هذه العبارة في كل نسخة من الترجمة اليونانية ، وسلّمها لوقا في الآية السادسة من الباب الثالث. وعندي نسخة واحدة قديمة جدا سقطت منها هذه الآية كلها». انتهى. وقال هورن في الباب الثامن من الحصة الأولى من المجلد الثاني من تفسيره : «كتب لوقا في الآية السادسة من الباب الثالث مطابقا لما في الترجمة اليونانية ، ويعلم لوتهه أن هذه العبارة الصحيحة هي الصحيحة فأدخلها في ترجمته لكتاب أشعياء». انتهى. وقال جامعو تفسير هنري واسكات : «فلتزد هذه الألفاظ نجاة إلهنا بعد لفظ يرى ، انظروا الآية العاشرة من الباب الثاني والخمسين والترجمة اليونانية». انتهى.

فالمتن العبراني محرّف بالنقصان ، باعتراف هؤلاء المفسّرين. وهذا التحريف قديم جدا باعتراف آدم كلارك.

الشاهد الخامس عشر : قال آدم كلارك في ذيل شرح الآية الخامسة من الباب الرابع والستّين من كتاب أشعياء : «اعتقادي أنه وقع النقصان من غلط الكاتب. وهذا التحريف قديم جدا لأن المترجمين المتقدمين لم يقدروا على بيان معنى الآية بيانا حسنا ، كما لم يقدر عليه المتأخّرون منهم».

الشاهد السادس عشر : قال هورن في الصفحة ٤٧٧ من المجلد الرابع من تفسيره : «سقطت آية تامّة ما بين الآية الثالثة والثلاثين والرابعة والثلاثين من الباب الحادي والعشرين

١٨٧

من إنجيل لوقا ، فلتزد بعد أخذها من الآية السادسة والثلاثين من الباب الرابع والعشرين من إنجيل متّى ، أو من الآية الثانية والثلاثين من الباب الثالث عشر من إنجيل مرقس ليكون لوقا موافقا للإنجيليين الآخرين». انتهى. ثم قال في الحاشية : «أغمض المحقّقون والمفسّرون كلهم عن هذا النقصان العظيم الواقع في متن لوقا حتى توجّه عليه هيلر». انتهى. فعلى اعترافه سقطت آية تامّة من إنجيل لوقا ، ويجب زيادتها فيه. وهذه الآية في إنجيل متّى هكذا : «وأما ذلك اليوم والساعة فلا أحد يعلم بهما حتى ملائكة السماء إلّا أبي وحده».

الشاهد السابع عشر : في الآية السابعة من الباب السادس عشر من كتاب أعمال الحواريين هكذا : «فلم يأذن لهم روح». قال كريسباخ وشولز الصحيح هكذا : «فلم يأذن لهم روح يسوع». انتهى ، فعلى إقرارهما سقط لفظ يسوع وأدخل هذا اللفظ في الترجمة العربية المطبوعة سنة ١٦٧١ ، وسنة ١٨٢١ ، وعبارتهما هكذا : «فلم يتركهم روح يسوع».

الشاهد الثامن عشر : الإنجيل الذي ينسب إلى متّى الآن ، وهو أول الأناجيل وأقدمها عندهم ، ليس من تصنيفه يقينا ، بل ضيّعوه بعد ما حرّفوه. لأن القدماء المسيحية كافّة وغير المحصورين من المتأخرين على أن إنجيل متّى كان باللسان العبراني ، وهو ضاع وفقد بسبب تحريف بعض الفرق المسيحية. والإنجيل الموجود الآن ترجمته ولا يوجد عندهم إسناد هذه الترجمة حتى لم يعلم اسم المترجم أيضا باليقين إلى هذا الحين ، كما اعترف به جيروم من أفاضل قدمائهم ، فضلا عن علم أحوال المترجم. نعم يقولون رجما بالغيب لعلّ فلانا أو فلانا ترجمه. ولا يتمّ هذا على المخالف ، ولا يثبت استناد الكتاب إلى المصنّف بالظن والتخمين. فإذا كان مذهب القدماء كافّة وغير المحصورين من المتأخرين ما عرفت ، فلا اعتماد على قول بعض علماء بروتستنت الذين يقولون بمجرد ظنهم بلا برهان ، إن متّى نفسه ترجمه وها أنا أورد عليك شواهد هذا الباب في المجلد التاسع عشر من إنسائي كلوبيديا برتينكاه : «كتب كل كتاب من العهد الجديد في اللسان اليوناني إلّا إنجيل متّى والرسالة العبرانية ، فإن تأليفهما باللسان العبراني أمر يقيني بالدلائل». انتهى. قال لاردنر في الصفحة ١١٩ من المجلد الثاني من الكليّات : «كتب بي پيس أن متّى كتب إنجيله بالعبرانية وترجمه كل أحد على قدر لياقته». انتهى. وهذا القول (ترجمه كل أحد على قدر لياقته) يدلّ على أن أناسا كثيرين ترجموا هذا الإنجيل. فما لم يثبت بالسند الكامل أن هذا الموجود ترجمه فلان ، وأنه كان ذا إلهام ، كيف تعدّ ترجمته من الكتب الإلهامية ولم يثبت بالسند كونه ثقة أيضا فضلا عن كونه ذا إلهام؟» ثم قال لاردنر في الصفحة ١٧٠ من المجلد المسطور : «كتب أرنيوس إن متّى كتب إنجيله لليهود بلسانهم في الأيام التي كان بولس وبطرس يعظان في الروم». انتهى. ثم قال في الصفحة ٥٧٤ من المجلد المسطور : «لارجن ثلاث فقرات : الأولى نقلها يوسي پيس

١٨٨

أن متّى أعطى الإنجيل للمؤمنين من اليهود باللسان العبراني ، والثانية روعي أن متّى كتب أولا وأعطى الإنجيل للعبرانيين ، والثالثة أن متّى كتب الإنجيل للعبرانيين الذين كانوا ينتظرون شخصا موعودا من نسل إبراهيم وداود». انتهى. ثم قال لاردنر في الصفحة ٩٥ من المجلد الرابع : «كتب يوسي پيس أن متّى لمّا أراد أن يذهب إلى أقوام أخر بعد ما وعظ العبرانيين ، كتب الإنجيل في لسانهم وأعطاهم». انتهى. ثم قال في الصفحة ١٧٤ من المجلد الرابع المذكور : «قال سرل كتب متّى الإنجيل بالعبراني». انتهى. ثم قال لاردنر في الصفحة ١٨٧ من المجلد الرابع المذكور : «كتب أبي فانيس أن متّى كتب الإنجيل باللسان العبراني وهو الذي انفرد باستعمال هذا اللسان في تحرير العهد الجديد». ثم قال في الصفحة ٤٣٩ من المجلد الرابع المذكور : «كتب جيروم أن متّى كتب الإنجيل باللسان العبراني في أرض يهودية للمؤمنين من اليهود ، ولم يخلط ظلّ الشريعة بصدق الإنجيل». ثم قال في الصفحة ٤٤١ من المجلد الرابع المذكور : «كتب جيروم في فهرست المؤرّخين أن متّى كتب إنجيله في الأرض اليهودية باللسان العبراني والحروف العبرانية للمؤمنين من اليهود ، ولم يتحقّق هذا الأمر أن ترجمته باليونانية ولا هذا الأمر أن المترجم من هو ، على أن نسخة إنجيله العبراني موجودة في كتبخانة سريا التي جمعها پيم فلس الشهيد بجهد تامّ وأخذت نقلها بإجازة الناصرين الذين كانوا في بريا من أضلاع سريا ، وكانوا يستعملون هذه النسخة العبرانية». انتهى. ثم قال في الصفحة ٥٠١ من المجلد الرابع المذكور : «كتب أكستائن : قيل إن متّى وحده من الأربع كتب بالعبراني وكتب الباقون باليوناني». انتهى. ثم قال في الصفحة ٥٣٨ من المجلد الرابع المذكور : «كتب كريزاستم قيل إن متّى كتب إنجيله باللسان العبراني للمؤمنين من اليهود باستدعائهم». ثم قال لاردنر في الصفحة ١٣٧١ من المجلد الخامس : «كتب أسي دور أن متّى وحده من بين الأربع كتب باللسان العبراني والباقون كتبوا باليوناني». انتهى.

وقال هورن في المجلد الرابع من تفسيره : «اختار بلرمن ، وكروتيس ، وكسابن ، ووالتن ، وتاملائن ، وكيو ، وهمند ، ومل ، وهارود ، وأودن ، وكين بل ، وأي كلارك ، وسائمن ، وتلي منت ، وپري تس ، ودوبن ، وكامت ، وميكايلس ، وأرى نيس ، وأرجن ، وسرل ، وأبي فانيس ، وكريزاستم ، وجيروم ، وغيرهم من العلماء المتقدمين والمتأخرين قول پي پيس : إن هذا الإنجيل كتب باللسان العبراني». انتهى قوله. وغيرهم أي مثل كري كري ناز بن زن وايد جسو وتهيو فلكت ولوتهي ميس ويوسي بيس واتهاني سيش وأكستائن واسي دور وغيرهم ممّن صرّح بأسمائهم لاردنر وواتسن وغيرهما في كتبهم وفي تفسير دوالي ورجرد مينت : «وقع اختلاف عظيم في الزمان المتأخر أن هذا الإنجيل كتب بأيّ لسان ، لكن صرّح كثير من

١٨٩

القدماء أن متّى كتب إنجيله باللسان العبراني الذي كان لسان أهل فلسطين فليعد القول الذي اتفق عليه القدماء ـ يعني أن متّى كتب إنجيله باللسان العبراني ـ قولا فصلا في مثل هذا القسم». انتهى. قال جامعو تفسير هنري واسكات : «سبب فقدان النسخة العبرانية أن الفرقة الأبيونية التي كانت تنكر ألوهية المسيح حرّفت هذه النسخة وضاعت بعد فتنة يروشالم. وقال البعض : إن الناصريين أو اليهود الذين دخلوا في الملّة المسيحية حرّفوا الإنجيل العبراني ، وأخرجت الفرقة الأبيونية فقرات كثيرة منه. وكتب يوسي پيس في تاريخه : «قال أرينيوس : إن متّى كتب إنجيله بالعبراني». انتهى. قال ريو في تاريخه للإنجيل : «من قال إن متّى كتب إنجيله باليوناني غلط لأن يوسي پيس صرّح في تاريخه ، وكذا كثير من مرشدي الملّة المسيحية ، أن متّى كتب إنجيله بالعبراني لا اليوناني». انتهى.

ونورتن كتب كتابا ضخما أثبت فيه أن التوراة جعلي يقينا ، ليس من تصنيف موسى عليه‌السلام. وأقرّ بالإنجيل ، لكن مع الاعتراف بالتحريفات الكثيرة فيه. ولذلك كلامه ليس بمقبول عند أهل التثليث. لكنه لمّا كان مدّعيا لكونه مسيحيا ، ونقل في هذا الباب من كلام القدماء المعتبرين عندهم أيضا ، فلا بأس بنقل كلامه ، فأقول : كتب في كتابه المطبوع سنة ١٨٣٧ ميلادية في بلدة بوستن في الصفحة ٤٥ من المجلد الأول في حاشية ديباجة الكتاب هكذا : «يعتقدون أن متّى كتب إنجيله باللسان العبراني ، لأن القدماء الذين أشاروا إلى هذا الأمر ، قولهم واحد بالاتفاق. واترك ذكر الذين ليسوا في غاية درجة الاستناد ، وأقول إن پي پيس وأرينيوس وارجن ويوسي پيس وجيروم ، أقرّوا بأنه كتب باللسان العبراني ، ولم يقل أحد من القدماء بخلافهم ، وهذه شهادة عظيمة جدا ، لأن التعصّب كان في ذلك الوقت فيما بينهم ، كما ترى في هذا الوقت فيما بين المتأخرين. فلو كان في قولهم شكّ ما لقال مخالفوهم ، لأجل التعصّب : إن الإنجيل اليوناني أصل لا ترجمة. فلو لم نرد شهادة الزمان القديم كله التي على طريقة واحدة ، ولا يلزم منها استحالة ما ، فلا بدّ أن نعتقد أن متّى كتب إنجيله بالعبراني. وما رأيت إلى هذا الحين اعتراضا على هذه الشهادة نحتاج بسببه إلى تحقيق ، بل رأيت بدل الاعتراض شهادة القدماء على أن النسخة العبرانية لهذا الإنجيل كانت موجودة عند المسيحيين الذين كانوا من قوم اليهود ، محرّفة كانت أو غير محرّفة». انتهى.

فعلم من الأقوال المذكورة أن متّى كتب إنجيله باللسان العبراني والحروف العبرانية ، والقدماء متّفقون على هذا لم يقل أحد منهم بخلافه. فيكون قولهم في هذا الباب قولا فصلا ، كما أقرّ به دوالي وروجر مينت ، وأن النسخة العبرانية كانت موجودة مستعملة إلى عهد جيروم ، وأنه لم يعلم اسم المترجم على وجه التحقيق. فظهر أن ما قال هورن مع اعترافه بما مر : «إن الغالب أن متّى كتب إنجيله باللسانين العبراني واليوناني». انتهى. لا يلتفت إليه

١٩٠

لأنه بمجرد الظن بلا برهان. ويقوي قول القدماء أن متّى كان من الحواريين ، ورأى أكثر أحوال المسيح عليه‌السلام بعينه وسمع البعض. فلو كان مؤلّف هذا الإنجيل لظهر من كلامه في موضع من المواضع أنه يكتب الأحوال التي رآها ، ولعبّر عن نفسه بصيغة المتكلم ، كما جرت به العادة سلفا وخلفا. وهذه العادة ما كانت مهجورة في عهد الحواريين أيضا. ألا ترى إلى رسائلهم المندرجة في العهد الجديد ، لو سلّمت أنها رسائلهم ، فإنه يظهر منها هذا الحال للناظر وألا ترى إلى تحرير لوقا فإنه لمّا كتب الإنجيل كله بالسّماع وكذا كتاب أعمال الحواريين إلى الباب التاسع عشر ، لا يظهر منهما هذا الحال ، ولا يعبّر عن نفسه بصيغة المتكلم. وبعد ذلك لما صار شريك بولس في السفر ، فكتب من الباب العشرين من كتاب أعمال الحواريين بحيث يظهر منه هذا الحال ، وعبّر عن نفسه بصيغة المتكلم. فإن تمسّك أحد بتوراة موسى عليه‌السلام وإنجيل يوحنّا ، فهما عندنا في محل النزاع ، كما عرفت في الباب الأول ، وكيف يتمسك بخلاف الظاهر بلا رهان قوي؟ وإذا كان المؤلّف ثقة معتبرا فتحريره بحيث يظهر منه الحال المذكور موجب للاعتبار. وعلم من كلام جامعي تفسير هنري واسكات أن هذا الإنجيل ما كان متواترا في القرن الأول ، وأن التحريف كان شائعا في هذا القرن أيضا في المسيحيين ، وإلّا لما أمكن لأحد تحريفه. وإن وقع بالفرض لا يكون سببا لتركه ، فإذا لم يسلّم الأصل فكيف يظنّ السلامة بالترجمة التي لم يعلم صاحبها أيضا بالسند الكامل ، بل الحقّ أنها كلها محرّفة. وقال فاستس الذي كان من علماء فرقة ماني كيز في القرن الرابع : «إن الإنجيل المنسوب إلى متّى ليس من تصنيفه». وبروفسر الجرمني قال : «إن هذا الإنجيل كله كاذب». وهذا الإنجيل كان عند فرقة مارسيوني ، ولم يكن البابان الأوّلان فيه. فهما عندهم إلحاقيّان. وكذا عند فرقة أبيونية هذان البابان إلحاقيّان. وتردّهما فرقة يوني تيرين والقسّيس أوليمس وأنكرهما وأكثرهما وأكثر مواضع هذا الإنجيل نورتن.

الشاهد التاسع عشر : في الآية الثالثة والعشرين من الباب الثاني من إنجيل متّى هكذا : «ثم أتى وسكن في بلد تسمى ناصرة ليكمل قول الأنبياء أنه سيدعى ناصريا». وقوله : (ليكمل قول الأنبياء أنه سيدعى ناصريا) من أغلاط هذا الإنجيل. ولا يوجد هذا في كتاب من الكتب المشهورة المنسوبة إلى الأنبياء. لكن أقول هاهنا ، كما قال علماء كاتلك ، إن هذا كان في كتب الأنبياء. لكن اليهود ضيّعوا هذه الكتب قصدا لعناد الدين المسيحي. ثم أقول أيّ تحريف بالنقصان يكون أزيد من أن تضيع فرقة الكتب الإلهامية قصدا للأغراض النفسانية ولعناد ملّة أخرى؟ ألّف ممفرد كاتلك كتابا سمّاه بسؤالات السؤال ، وطبع هذا الكتاب في بلدة لندن سنة ١٨٤٣ من الميلاد فقال في السؤال الثاني : «الكتب التي كان فيها هذا (يعني ما نقله متّى) انمحت لأن كتب الأنبياء الموجودة الآن لا يوجد في أحد منها أن عيسى يدعى

١٩١

ناصريا. قال كريزاستم في تفسيره التاسع على متّى : انمحى كثير من كتب الأنبياء ، لأن اليهود ضيّعوا كتبا لأجل غفلتهم بل لأجل عدم ديانتهم ومزّقوا بعضها وأحرقوا بعضها». انتهى قول كريزاستم. وهذا هو الأغلب جدا أنهم مزّقوا الكتب وحرقوها ، لأنهم لمّا رأوا أن الحواريين يتمسكون بهذه الكتب في إثبات مسائل الملّة المسيحية فعلوا هذا الأمر. ويعلم هذا من إعدامهم كتبا نقل عنها متّى. انظروا إلى جستن يقول في المناظرة لطريفون : اليهود أخرجوا كتبا كثيرة من العهد العتيق ليظهر أن العهد الجديد ليس له موافقة تامّة بالعهد العتيق. ويعلم من هذا أن الكتب الكثيرة انمحت». انتهى كلام ممفرد. ويظهر منه أمران : الأول : ان اليهود مزّقوا بعض الكتب وأحرقوا البعض لأجل عدم ديانتهم. والثاني : التحريف كان سهلا في سالف الزمان. ألا ترى كيف انمحت هذه الكتب بإعدامهم من صفحة العالم؟ وإذا عرفت ديانة أهل الكتاب بالنسبة إلى الكتب الإلهية ، وعرفت سهولة وقوع التحريف في الزمان السالف ، فأيّ استبعاد عقلي أو نقلي ، لو قلنا إنهم فعلوا مثله بالكتب أو بالعبارات التي كانت نافعة للمسلمين؟

الشاهد العشرون : الآية الحادية عشر من الباب الأول من إنجيل متّى هكذا : «ويوشيا ولد يوكانيا وإخوته في زمان الجلاء إلى بابل». يظهر منها أن يوكانيا وإخوته أبناء صلبية ليوشيا ، وأن يوكانيا كانت له إخوة ، وأن ولادتهم في زمان الجلاء إلى بابل. وهذه الثلاثة كلها ليست بصحيحة : أما الأول : فلأن يوكانيا بن يهوياقيم بن يوشيا فهو ابن الابن لا الابن. وأما الثاني : فلأنه ما كان له اخوة. نعم كان لأبيه يهوياقيم ثلاثة اخوة. وأما الثالث : فلأن يوكانيا في زمان الجلاء إلى بابل كان ابن ثماني عشرة سنة ، لا أنه تولد في زمان الجلاء إلى بابل. قال آدم كلارك : «قال كامت فلتقرأ الآية الحادية عشر هكذا : «ولد يوشيا يهوياقيم وإخوته وولد يهوياقيم يوكانيا في زمان الجلاء إلى بابل». انتهى. أقول : محصل قول كامت الذي هو مختار آدم كلارك أيضا ، أنه لا بدّ أن يزاد لفظ يهوياقيم هاهنا. والظاهر أن هذا اللفظ سقط من المتن عندهما. وهذا هو التحريف بالنقصان. ومع هذا لا يرتفع الاعتراض الثالث.

ولمّا صارت شواهد الأقسام الثلاثة للتحريف مائة اكتفيت عليها خوفا من الإطناب.

وهذا القدر يكفي في إثبات دعوى التحريف بجميع أقسامه ولدفع كل اعتراض يرد من جانبهم في هذه المسألة ، ولكل مغالطة تصدر من علماء بروتستنت فيها. لكني أورد هاهنا خمس مغالطات وإن ظهر جواباتها للخبير مما حرّرت للتوضيح وزيادة الفائدة.

المغالطة الأولى : يظهر في بعض الأحيان من تقرير علماء بروتستنت تغليطا للعوامّ ولمن كان غير واقف على كتبهم ، أن دعوى التحريف مختصّة بأهل الإسلام ، ولم يسبقهم

١٩٢

أحد ويحتاطون في التحرير عن هذه المغالطة ، ولذلك لا ترى في رسائلهم. أقول : يدّعي المخالف والموافق سلفا وخلفا دعوى صحيحة أن عادة أهل الكتاب التحريف ، ووقع منهم في الكتب السماوية. لكن قبل إيراد الشواهد لهذا الأمر ، أبيّن معنى لفظتين مستعملتين في كتب إسنادهم ، هما : لفظ اراته ، ولفظ ويريوس ريدنك. قال هورن في الصفحة ٣٢٥ من المجلد الثاني من تفسيره المطبوع سنة ١٨٢٢ من الميلاد (الفرق الحسن بين اراته يعني غلط الكاتب ، وبين ويريوس ريدنك يعني اختلاف العبارة ، ما قال ميكايلس أنه إذا وجد الاختلاف بين العبارتين وأكثر فلا تكون الصادقة إلّا واحدة ، والباقية إما أن تكون تحريفا قصديا أو سهوا لكاتب. لكن تمييز الصحيحة عن غيرها عسير غالبا. فإن بقي شك فيطلق على الكلّ اختلاف العبارة. وإذا علم صراحة أن الكاتب كتب هاهنا كذبا فيقال إنه غلط الكاتب». انتهى. فعلى المذهب المختار عند المحقّقين فرق بين اللفظين المذكورين. واختلاف العبارة المصطلح فيما بينهم هو التحريف المصطلح عندنا. فمن أقرّ باختلاف العبارة بالمعنى المذكور يلزم عليه الاعتراف بالتحريف. ووجد مثل هذه الاختلافات في الإنجيل ثلاثين ألفا على ما حقّق ميل ، ومائة ألف وخمسين ألفا على ما حقّق كريسباخ ، ولم يعلم عدده على تحقيق شولز الذي هو آخر المحقّقين. وفي المجلد التاسع عشر من إنسائي كلوپيديا برتينيكا في بيان لفظ اسكر بجران وتيس تنن جمع مثل هذه الاختلافات أزيد من ألف ألف.

إذا علمت هذا ، فأورد الشواهد في ثلاث هدايات. في الهداية الأولى انقل أقوال المخالفين. وفي الثانية أقوال الفرق التي تعدّ أنفسهم من المسيحيين. لكن فرق بروتستنت وفرقة كاتلك تعدّ أنها من المبتدعين. وفي الثالثة أقوال الذين هم مقبولون عند الفرقتين المذكورتين أو عند أحدهما.

الهداية الأولى : كان سلسوس من علماء المشركين الوثنيين في المائة الثانية من الميلاد ، وكتب كتابا في إبطال الدين المسيحي. ونقل أكهارن الذي هو من العلماء المشهورين من أهل الجرمن قول ذلك الفاضل المشرك في كتابه هكذا : «بدّل المسيحيون أناجيلهم ثلاث مرّات أو أربع مرات ، بل أزيد من هذا ، تبديلا كأن مضامينها بدّلت». انتهت. فانظروا أن هذا المشرك يخبر أن المسيحيين كانوا بدّلوا أناجيلهم إلى عهده أزيد من أربع مرات. والفرقة التي تنكر النبوّة والإلهام وهذه الكتب السماوية التي عند أهل الكتاب وكثرت جدا في ديار أوروبا ويسمّيها علماء بروتستنت بالملحدين. لو نقلت أقوالهم في التحريف فقط لطال الكلام. فأكتفي على نقل قولين. فمن شاء أزيد فليرجع إلى كتبهم التي هي منتشرة في أكناف العالم. قال پاركر منهم : «قالت ملّة بروتستنت : إن المعجزات الأزلية

١٩٣

والأبدية حفظت العهد العتيق والجديد عن أن تصل إليهما صدمة خفيفة. لكن هذه المسألة لا تقدر أن تقوم في مقابلة عسكر اختلاف العبارة التي هي ثلاثون ألفا». انتهى ،. فانظروا كيف أورد الدليل الإلزامي استهزاء ، لكنه اكتفى على تحقيق ميل وإلّا لقال التي هي ثلاثون ألفا بل مائة ألف وخمسون ألفا بل ألف ألف ، كما علمت. وقال صاحب إكسيهومو منهم في الباب الخامس من التتمّة من كتابه المطبوع سنة ١٨١٣ من الميلاد في بلدة لندن هكذا : هذه فهرست الكتب التي ذكرها المشايخ من القدماء المسيحيين. إنها نسبت إلى المسيح عليه‌السلام أو الحواريين أو المريدين الآخرين للمسيح عليه‌السلام وعددها ٧٤ :

المنسوبة إلى عيسى عليه‌السلام عدد ٧ : رسالة إلى أبكرس ملك آديسة ، رسالته إلى بطرس وبولس ، كتاب التمثيلات والوعظ ، زبوره الذي كان يعلّم الحواريين والمريدين خفية ، كتاب الشعبذات والسحر ، كتاب مسقط رأس المسيح ومريم وظئرها ، رسالته التي سقطت من السماء في المائة السادسة.

المنسوبة إلى مريم عليها‌السلام عدد ٨ : رسالتها إلى أكناش ، رسالتها إلى سي سيليان ، كتاب مسقط رأس مريم ، كتاب مريم وظئرها ، تاريخ مريم وحديثها ، كتاب معجزات المسيح ، كتاب السؤالات الصغار والكبار لمريم ، كتاب نسل مريم والخاتم السليماني.

المنسوبة إلى بطرس الحواري عدد ١١ : إنجيل بطرس ، أعمال بطرس ، مشاهدات بطرس ، مشاهدات بطرس الثانية ، رسالته إلى كليمنس ، مباحثة بطرس واي پين ، تعليم بطرس ، وعظ بطرس ، آداب صلاة بطرس ، كتاب مسافرة بطرس ، كتاب قياس بطرس.

المنسوبة إلى يوحنّا عدد ٩ : أعمال يوحنّا ، الإنجيل الثاني ليوحنّا ، كتاب مسافرة يوحنّا ، حديث يوحنّا ، رسالته إلى حيدر ويك ، كتاب وفاة مريم ، تذكرة المسيح ونزوله من الصليب ، المشاهدات الثانية ليوحنّا ، آداب صلاة يوحنّا.

المنسوب إلى أندرياه الحواري ٢ : إنجيل أندرياه ، أعمال أندرياه.

المنسوب إلى متّى الحواري ٢ : إنجيل الطفوليت ، آداب صلاة متّى.

المنسوب إلى فيلب الحواري ٢ : إنجيل فيلب ، أعمال فيلب.

المنسوب إلى برتولما الحواري ١ : إنجيل برتولما.

المنسوب إلى توما الحواري ٥ : إنجيل توما ، أعمال توما ، إنجيل طفوليت المسيح ، مشاهدات توما ، كتاب مسافرة توما.

١٩٤

المنسوب إلى يعقوب الحواري ٣ : إنجيل يعقوب ، آداب صلاة يعقوب ، كتاب وفاة مريم.

المنسوب إلى ميتاه الحواري الذي دخل في الحواريين بعد خروج المسيح ٣ : إنجيل ميتاه ، حديث ميتاه ، أعمال ميتاه.

المنسوب إلى مرقس ٣ : إنجيل المصريين ، آداب صلاة مرقس ، كتاب يي شن برهاز.

المنسوب إلى برنياه ٢ : إنجيل برنياه ، رسالة برنياه.

المنسوب إلى تهيوديوشن ١ : إنجيل تهيوديوشن.

المنسوب إلى بولس ١٥ : أعمال بولس ، أعمال تهلكه ، رسالته إلى لادوقيين ، رسالته الثالثة إلى أهل تسالونيقي ، رسالته الثالثة إلى أهل قورنثيوس ، رسالة أهل قورنثيوس إليه وجوابها من جانبه ، رسالته إلى سنيكا وجوابها من سنيكا إليه ، مشاهدات بولس ، المشاهدات الثانية لبولس ، وزن بولس ، أنابي كشن بولس ، إنجيل بولس ، وعظ بولس ، كتاب رقية الحيّة ، پرى سبت بطرس وبولس.

ثم قال صاحب اكسيهومو : «لمّا ظهر طغيان الأناجيل والمشاهدات والرسائل التي أكثرها مسلّم الثبوت عند أكثر المسيحيين إلى هذا الحين أيضا ، فكيف يعرف أن الكتب الإلهامية هي كتب يسلّمها فرقة پروتستنت؟ وإذا لاحظنا أن هذه الكتب المسلّمة أيضا قبل إيجاد صنعة الطبع ، كانت قابلة للإلحاق والتبديل ، يقع الإشكال». انتهى.

الهداية الثانية : الفرقة الأبيونية كانت في القرن الأول من القرون المسيحية معاصرة لبولس ومنكرة عليه أشدّ الإنكار ، وكانت تقول إنه مرتدّ ، وكانت تسلّم إنجيل متّى. لكن كان هذا الإنجيل عندها مخالفا لهذا الإنجيل المنسوب إلى متّى الموجود عند معتقدي بولس الآن في كثير من المواضع ، ولم يكن البابان الأوّلان فيه. فهذان البابان وكذا كثير من المواضع محرّفة عند هذه الفرقة ومعتقدو بولس يرمونها بالتحريف. قال بل في تاريخه في بيان حال هذه الفرقة : «هذه الفرقة كانت تسلّم من كتب العهد العتيق التوراة فقط ، وكانت تنفر عن اسم داود وسليمان وأرمياء وحزقيال عليهم‌السلام ، وكان من العهد الجديد عندها إنجيل متّى فقط ، لكنها كانت حرّفته في كثير من المواضع وأخرجت البابين الأوّلين منه». انتهى. والفرقة المارسيونية من الفرق القديمة المبتدعة للمسيحيين كانت تردّ جميع كتب العهد العتيق ، وتقول : إنها إلهاميّة. وكانت تردّ جميع كتب العهد الجديد أيضا ، إلّا إنجيل لوقا وعشر رسائل

١٩٥

من رسالات بولس. وهذه المسلّمة أيضا عندها كانت مخالفة للموجودة الآن. فعلى هذا ، الكتب المذكورة الموجودة الآن محرّفة عند الفرقة المذكورة ومخالفوها يرمونها بالتحريف. قال بل في تاريخه في بيان حال هذه الفرقة : «كانت هذه الفرقة تنكر كون كتب العهد العتيق إلهاميّة ، وكانت تسلّم من العهد الجديد إنجيل لوقا. لكن ما كانت تسلّم البابين الأوّلين منه. وتسلّم من رسائل بولس عشر رسائل ، لكن كانت تردّ منها أيضا ما كان مخالفا لخيالها». انتهى.

أقول : ما كان إنكار هذه الفرقة في إنجيل لوقا مقصورا على البابين. صرّح لاردنر في بيان تحريف هذه الفرقة في إنجيل لوقا في المجلد الثامن من تفسيره : «بعض المواضع التي غيّروا من إنجيل لوقا بالتبديل أو بالإسقاط هذه : البابان الأوّلان ، قصة اصطباغ عيسى من يحيى عليهما‌السلام ، وحال نسب المسيح. من الباب الثالث قصة امتحان إبليس وقصة دخول عيسى في الهيكل وقراءته كتاب أشعياء. من الباب الرابع الآية ٣٠ و ٣١ و ٣٢ و ٤٩ و ٥٠ و ٥١ من الباب الحادي عشر ، وهذا اللفظ أيضا «سوى آية يونس الرسول ، الآية السادسة والثمانية وعشرون من الباب الثاني عشر ، من الآية الأولى إلى السادسة من الباب الثالث عشر ، من الآية الحادية عشر إلى الثانية والثلاثين من الباب الخامس عشر ، الآية ٣١ و ٣٢ و ٣٣ من الباب الثامن عشر ، من الآية الثامنة والعشرين إلى الآية السادسة والأربعين من الباب التاسع عشر ، من الآية التاسعة إلى الآية الثامنة عشر من الباب العشرين ، الآية ٨ و ٢١ و ٢٣ من الباب الحادي والعشرين ، الآية ١٦ و ٣٥ و ٣٧ و ٥٠ و ٥١ من الباب الثاني والعشرين ، الآية ٤٣ من الباب الثالث والعشرين ، الآية ٢٦ و ٢٨ من الباب الرابع والعشرين ، وكتب أبي فانيس هذه الأحوال كلها وقال داكتر مل : أخرجوا الآية ٣٨ و ٣٩ من الباب الرابع». انتهى. وقال لاردنر في المجلد الثالث من تفسيره في ذيل بيان فرقة ماني كيز ناقلا عن أكستائن قول فاستس الذي كان من أعظم علماء هذه الفرقة في القرن الرابع من القرون المسيحية : «قال فاستس أنا أنكر الأشياء التي ألحقها في العهد الجديد آباؤكم وأجدادكم بالمكر ، وعيّبوا صورته الحسنة وأفضليته ، لأن هذا الأمر محقّق أن هذا العهد الجديد ما صنّفه المسيح ولا الحواريون بل صنّفه رجل مجهول الاسم ، ونسب إلى الحواريين ورفقاء الحواريين ، خوفا من أن لا يعتبر الناس تحريره ، ظانّين أنه غير واقف من الحالات التي كتبها ، وأذى المريدين لعيسى إيذاء بليغا بأن ألّف الكتب التي توجد فيها الأغلاط والتناقضات». انتهى. فعقيدة هذه الفرقة بالنسبة إلى العهد الجديد هذا المذكور ، كما صرّح به فاضلهم المشهور. فهو كان ينادي بأعلى نداء ، أن أهل التثليث ألحقوا الأشياء في العهد الجديد ، وأنه تصنيف رجل مجهول الاسم لا تصنيف الحواريين ولا تابعيهم ، وأنه يوجد فيه الأغلاط والتناقضات. ولعمري أن

١٩٦

هذا الفاضل ، وإن كان من الفرقة المبتدعة ، لصادق في هذه الدعاوي الثلاثة. نورتن صنّف كتابا ضخما ، كما عرفت في الشاهد الثامن عشر من المقصد الثالث ، فأنكر التوراة وأثبت بالدلائل أنه ليس من تصنيف موسى عليه‌السلام ، وأقرّ بالإنجيل ، لكن مع الاعتراف بأن الإنجيل المنسوب إلى متّى ليس من تصنيفه بل هذه ترجمته ، والتحريف فيه واقع يقينا في مواضع كثيرة. وأطال الكلام جدا في إثبات ما ادّعاه بالدلائل. فمن شاء فليرجع إلى الكتاب المذكور. فظهر من هاتين الهدايتين أن المخالفين والفرق المسيحية التي يعدّها أهل التثليث من المبتدعين منادون بأعلى نداء من أول القرن إلى هذا القرن بوقوع التحريف.

الهداية الثالثة : أنقل فيها أقوال المسيحيين المعتبرين من المفسّرين والمؤرّخين.

القول الأول : قال آدم كلارك في الصفحة ٣٦٩ من المجلد الخامس من تفسيره : «هذا الرسم من قديم الأيام أن الكبار يكون المؤرّخون لهم كثيرين وهذا هو حال الربّ (يعني كان المؤرّخون له كثيرين) لكن كان أكثر بياناتهم غير صحيحة ، وكانوا كتبوا الأشياء التي لم تقع بأنها وقعت يقينا. وغلطوا في الحالات الأخر عمدا أو سهوا ، سيما المؤرّخين الذين كتبوا في الأرض التي كتب فيها لوقا إنجيله. فلأجل ذلك استحسن روح القدس أن يعطي لوقا علم جميع الحالات على وجه الصحّة ليعلم أهل الديانة الحال الصحيح». انتهى. فثبت بإقرار المفسّر وجود الأناجيل الكاذبة المملوءة من الأغلاط قبل إنجيل لوقا (وقوله كانوا كتبوا الأشياء) إلى آخره يدلّ على عدم ديانتهم تحقيق مؤلّفيها وقوله : (غلطوا في الحالات الأخر عمدا أو سهوا) يدلّ على عدم ديانتهم.

القول الثاني : في الباب الأول من رسالة بولس إلى أهل غلاطية : «ثم إني أعجب من أنكم أسرعتم بالانتقال عمّن استدعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر ٧ وهو ليس بإنجيل بل ان معكم نفرا من الذين يزعجونكم ويريدون أن يحرّفوا إنجيل المسيح». فثبت من كلام مقدسهم بولس ثلاثة أمور : الأول : انه كان في عهد الحواريين إنجيل يسمى بإنجيل المسيح. والثاني : انه كان إنجيل آخر مخالف لإنجيل المسيح في عهد مقدسهم. والثالث : ان المحرّفين كانوا في صدد تحريف إنجيل المسيح في زمان مقدسهم فضلا عن الزمان الآخر ، لأنه ما بقي له بعد ذلك إلّا الاسم كالعنقاء. قال آدم كلارك في المجلد السادس من تفسيره في شرح هذا المقام «هذا الأمر محقّق أن الأناجيل الكثيرة الكاذبة كانت رائجة في أول القرون المسيحية. وكثرة هذه الأحوال الكاذبة غير الصحيحة هيّجت لوقا على تحرير الإنجيل ، ويوجد ذكر أكثر من سبعين من هذه الأناجيل الكاذبة ، والأجزاء الكثيرة من هذه الأناجيل باقية. وكان فابري سيوس ، جمع هذه الأناجيل الكاذبة وطبعها في ثلاثة مجلدات

١٩٧

وبيّن في بعضها وجوب إطاعة الشريعة الموسوية ووجوب الختان مع إطاعة الإنجيل. ويعلم إشارة الحواري إلى واحد من هذه الأناجيل». انتهى. فعلم من إقرار المفسّر أن هذه الأناجيل الكاذبة كانت موجودة قبل إنجيل لوقا وقبل تحرير بولس رسالته إلى أهل غلاطية. ولذلك قال المفسّر أولا : (وكثرة هذه الأحوال) إلى آخره. وهذا موافق لما قال في المجلد الخامس من تفسيره كما عرفت. وقال ثانيا : (ويعلم إشارة الحواري إلى واحد من هذه الأناجيل) فثبت أن المراد بالإنجيل في كلام مقدسهم الإنجيل المدوّن لا معناه المرتكز في ذهن المصنّف ، كما يظهر في بعض مغالطات علماء بروتستنت (١).

القول الثالث : في الباب الحادي عشر من الرسالة الثانية لبولس إلى أهل قورنثيوس هكذا : «١٢ لكني سأفعل ما أفعله لأحجب الفرصة عن الذين يريدون أن يغتنموا الفرصة ليصيروا مثلنا فيما يفتخرون به ١٣ لأن نظائر هؤلاء هم الرّسل الكذّابون والعلمة الغدّارون قد تشبّهوا برسل المسيح». فمقدّسهم ينادي بأعلى نداء أن الرّسل الكذّابين الغدّارين ظهروا في عهده ، وقد تشبّهوا برسل المسيح. قال آدم كلارك في تفسيره في شرح هذا المقام : «هؤلاء الأشخاص كانوا يدّعون كذبا أنهم رسل المسيح ، وما كانوا رسل المسيح في نفس الأمر. وكانوا يعظون ويجتهدون لكن مقصودهم ما كان إلّا جلب المنفعة». انتهى.

القول الرابع : الآية الأولى من الباب الرابع من رسالة يوحنّا الأولى هكذا : «فلا تؤمنوا أيها الأحبّاء بكل روح من الأرواح ، بل امتحنوا الأرواح حتى تعلموا هل هي من عند الله أم لا لأن كثيرا من الأنبياء الكذبة برزوا إلى هذا العالم». فيوحنّا الحواري أيضا ينادي مثل بولس أن كثيرا من الأنبياء الكذبة ظهروا في عهده. قال آدم كلارك في شرح هذا المقام : «كان كل معلّم في الزمان الأول يدّعي أن روح القدس يلهمني ، لأن كل رسول معتبر جاء هكذا. والمراد بالروح هاهنا إنسان يدّعي بأني أثر الروح وأعلم على وفق ما يقول قوله ، بل امتحنوا الأرواح يعني امتحنوا المعلّمين بالدليل قوله لأن كثيرا من الأنبياء الكذبة يعني المسلمين الذين لم يلهمهم روح القدس سيما من اليهود». انتهى. فعلم من كلام المفسّر أن كل معلّم كان يدّعي الإلهام في الزمان الأول. وقد علم من كلامه فيما قبل ، أن تشبّههم برسل المسيح ومكرهم وغدرهم كان لكسب المال وجلب المنفعة. فمدعو الإلهام والرسالة كانوا كثيرين جدا.

__________________

(١) ما فهم من كلام بولس أنه كان في عهد الحواريين إنجيل يسمّى بإنجيل المسيح هو الحق وهو القريب من القياس ، وهو مختار الفاضل أكهارن وكثير من المتأخرين من علماء الجرمن ، وإليه مال المحقّق ليكلرك وكوب وميكايلس وليسنك ونيمير ومارش.

١٩٨

القول الخامس : كما أن الكتب الخمسة المشهورة الآن بالتوراة منسوبة إلى موسى عليه‌السلام ، كذلك ستّة كتب أخرى منسوبة إليه أيضا بهذا التفصيل (كتاب المشاهدات ـ كتاب الخليقة الصغير ـ كتاب المعراج ـ كتاب الأسرار ـ تستنمت ـ كتاب الإقرار). والكتاب الثاني من هذه الكتب الستّة كان أصله يوجد باللسان العبراني إلى المائة الرابعة. ونقل عنه جيروم ، وكذا نقل عنه سيدرينس في تاريخه كثيرا. وقال أرجن : إن بولس نقل عن هذا الكتاب الآية السادسة من الباب الخامس والآية الخامسة عشر من الباب السادس من رسالته إلى أهل غلاطية. وترجمته كانت موجودة إلى القرن السادس عشر ، وفي هذا القرن كذبه محفل ترنت فصار جعليّا كذبا بعد ذلك. وإني متعجّب من تسليمهم وتكذيبهم ، لأن حال الكتب الإلهية والانتظامات الملكية عندهم واحد ، إذا رأوا مصلحة سلّموها وإذا شاءوا منعوها. والكتاب الثالث من هذه الستّة أيضا يعلم أنه كان معتبرا بين القدماء. قال لاردنر في الصفحة ٥١٢ من المجلد الثاني من تفسيره : «إن أرجن قال : إن يهودا نقل عن هذا الكتاب الآية التاسعة من رسالته». انتهى. والآن هذا الكتاب وسائر الكتب الستّة تعدّ جعلية محرّفة ، لكن الفقرات المنقولة عنها بعد ما دخلت في الإنجيل تعدّ إلهاميّة صحيحة. قال هورن : «المظنون أن هذه الكتب الجعليّة اخترعت في ابتداء الملّة المسيحية». انتهى. فنسب محقّقهم اختراع هذه الكتب إلى أهل القرن الأول.

القول السادس : قال موشيم المؤرّخ في بيان علماء القرن الثاني من الصفحة ٦٥ من المجلد الأول من تاريخه المطبوع سنة ١٨٣٢ : «كان بين متّبعي رأي أفلاطون وفيساغورس مقولة مشهورة أن الكذب والخداع لأجل أن يزداد الصدق وعبادة الله ليسا بجائزين فقط ، بل قابلان للتحسين. وتعلم أولا منهم يهود مصر هذه المقولة قبل المسيح ، كما يظهر هذا جزما من كثير من الكتب القديمة. ثم أثّر وباء هذا الغلط السوء في المسيحيين ، كما يظهر هذا الأمر من الكتب الكثيرة التي نسبت إلى الكبار كذبا». انتهى. فإذا صار هذا الكذب والخداع من المستحبّات الدينية عند اليهود قبل المسيح عليه‌السلام وعند المسيحيين في القرن الثاني ، فما بقي للجعل والتحريف والكذب حدّ ، ففعلوا ما فعلوا.

القول السابع : قال يوسي بيس في الباب الثامن عشر من الكتاب الرابع من تاريخه :

«ذكر جستن الشهيد في مقابلة طريفون اليهودي عدة بشارات المسيح ، وادّعى أن اليهود أسقطوها من الكتب المقدسة». انتهى. وقال واتسن في الصفحة ٣٢ من المجلد الثاني هكذا : «إني لا أشك في هذا الأمر ان العبارات التي ألزم فيها جستن اليهودي في مباحثة طريفون بأنهم أسقطوها ، كانت هذه العبارات في عهد جستن وأرينيوس موجودة في النسخة

١٩٩

العبرانية واليونانية وأجزاء من الكتاب المقدس ، وإن لم توجد الآن في نسخهما ، سيما العبارة التي قال جستن إنها كانت في كتاب أرمياء. كتب سلبرجيس في حاشية جستن ، وكتب داكتر كريب في حاشية أرينيوس أنه يعلم أن بطرس ، لمّا كتب الآية السادسة من الباب الرابع من رسالته الأولى ، كانت هذه البشارة في خياله». انتهى. وقال هورن في الصفحة ٦٢ من المجلد الرابع من تفسيره هكذا : «ادّعى جستن في كتابه في مقابلة طريفون اليهودي أن عزرا قال للناس إن طعام عيد الفصح طعام ربّنا المنجّي ، فإن فهمتم الربّ أفضل من هذه العلامة يعني الطعام وآمنتم به فلا تكون هذه الأرض غير معمورة أبدا. وإن لم تؤمنوا به ولم تسمعوا وعظه فتكونوا سبب استهزاء للأقوام الأجنبية. قال وائي تيكر : الغالب ان هذه العبارة كان من بين الآية الحادية والعشرين والثانية والعشرين من الباب السادس من كتاب عزرا وداكتراي كلارك يصدق جستن». انتهى. فظهر من هذه العبارات المنقولة أن جستن الشهيد الذي كان من أجلّة القدماء المسيحيين ، ادّعى أن اليهود أسقطوا بشارات عديدة من الكتب المقدسة.

وصدّقه في هذه الدعوى سلبرجيس وكريب ووائي تيكر واي كلارك وواتسن. وادّعى واتسن أن هذه العبارات كانت في عهد جستن وأرينيوس موجودة في النسخة العبرانية واليونانية وأجزاء من الكتاب المقدس وإن لم توجد الآن في نسخهما. فأقول لا يخلو إما أن يكون ذلك أعظم قدمائهم ومؤيّدوه الخمسة صادقين في هذه الدعوى فثبت تحريف اليهود البتّة بإسقاط العبارات المذكورة ، وإما أن يكونوا غير صادقين ، فيلزم أن يكون هذا المقتدي ومؤيّدوه محرّفين يقينا ، مرتكبين لهذا الأمر الشنيع لأجل إطاعة المقولة المشهورة المذكورة في القول السابق. فتحريف أحد الفريقين لازم قطعا ، وكذا أقول يلزم على ادّعاء واتسن أيضا. لأنه على الشقّ الأول يلزم تحريف من أسقطها عن العبرانية واليونانية بعد زمانهما بلا شك. وعلى الشق الثاني يلزم تحريف من زادها في نسخهما.

القول الثامن : قال لاردنر في الصفحة ١٢٤ من المجلد الخامس من تفسيره : «حكم على الأناجيل المقدسة لأجل جهالة مصنّفيها بأنها ليست حسنة بأمر السلطان أناسطيثوس في الأيام التي كان فيها مسألة حاكما في القسطنطينية ، فصحّحت مرة أخرى». انتهى. أقول : لو كانت هذه الأناجيل إلهامية وثبت عند القدماء في عهد السلطان المذكور بالإسناد الجيد أنها تصنيفات الحواريين وتابعيهم ، فلا معنى لجهالة المصنّفين وتصحيحها مرة أخرى. فثبت أنها كانت إلى ذلك العهد غير ثابت إسنادها ، وكانوا يعتقدون أنها إلهاميّة ، فصحّحوا على قدر الإمكان أغلاطها وتناقضاتها ، فثبت التحريف على أكمل وجه يقينا ، وثبت أنها غير ثابتة الإسناد والحمد لله. وظهر أن ما يدّعيه علماء بروتستنت في بعض الأحيان أن سلطانا من السلاطين وحاكما من الحكّام ما تصرّف في الكتب المقدسة في زمان من الأزمنة قطّ ، باطل

٢٠٠