إظهار الحق - ج ١ ـ ٢

رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي

إظهار الحق - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

المسيح والحواريون». انتهى. أقول : قد عرفت حال هذه الشهادة في جواب المغالطة الثانية.

الأمر الرابع : وقعت على اليهود بعد هذه الحادثة المذكورة حوادث أخرى أيضا من أيدي ملوك الفرنج انعدمت فيها نقول عزرا ونسخ لا تحصى ، ومنها حادثة طيطوس الرومي وهي حادثة عظيمة وقعت بعد عروج المسيح بسبع وثلاثين سنة. وهذه الحادثة مكتوبة بالتفصيل التامّ في تاريخ يوسيفس وتواريخ أخرى ، وهلك في هذه الحادثة من اليهود في أورشليم ونواحيه ألف ألف ومائة ألف بالجوع والنار والسيف والصلب ، وأسر سبعة وتسعون ألفا وبيعوا في الأقاليم المختلفة ، وهلك جموع كثيرة في أقطار أرض اليهودية أيضا.

الأمر الخامس : إن القدماء المسيحيين ما كانوا ملتفتين إلى النسخة العبرانية من العهد العتيق بل جمهورهم كانوا يعتقدون تحريفها ، وكانت الترجمة اليونانية معتبرة عندهم سيما إلى آخر القرن الثاني من القرون المسيحية. فإنه لم يلتفت أحد منهم إلى النسخة العبرانية ، وكانت هذه الترجمة مستعملة في جميع معابد اليهود أيضا إلى آخر القرن الأول. فكانت نسخ العبرانية لهذا الوجه أيضا قليلة ، ومع كونها قليلة كانت عند اليهود ، كما ظهر لك في الهداية الثالثة من جواب المغالطة الأولى.

الأمر السادس : إن اليهود أعدموا نسخا كتبت في المائة السابعة والثامنة لأنها كانت تخالف مخالفة كثيرة للنسخ التي كانت معتمدة عندهم ، ولذلك ما وصلت إلى مصحّحي العهد العتيق النسخة المكتوبة في هاتين المائتين. فبعد ما أعدموا ، بقيت النسخ التي كانوا يرضون بها ، فكان لهم مجال واسع للتحريف ، كما عرفت في القول العشرين من الهداية المذكورة.

الأمر السابع : كان في المسيحيين أيضا في الطبقات الأول أمر موجب لقلّة النسخ وإمكان تحريف المحرّفين ، لأن تواريخهم تشهد بأنهم إلى ثلاثمائة سنة كانوا مبتلين بأنواع المحن والبلايا ووقع عليهم عشر قتلات عظيمة : الأول : في عهد السلطان نيرو (١) في سنة ٦٤ واستشهد فيه بطرس الحواري وزوجته وقتل بولس أيضا. وكان هذا القتل في دار السلطنة وإيالاته. وبقي الحال هكذا إلى حياة هذا السلطان. وكان الإقرار بالمسيحية يعدّ جرما عظيما في حق المسيحيين. والثاني : في عهد السلطان دومشيان ، وكان هذا السلطان مثل نيرو عدوّا للملّة المسيحية ، فأمر بالقتل. فظهر القتل العامّ الذي حصل منه خوف استئصال هذه الملّة

__________________

(١) أي نيرون.

٢٢١

وأجلي يوحنّا الحواري وقتل فليويس كليمنس. والثالث : في عهد السلطان جان وكان ابتداؤه سنة ١٠١ ، وبقي الحال هكذا إلى ثماني عشرة سنة وقتل فيه أكناسش أسقف كورنتيه وكليمنت أسقف الروم وشمعون أسقف أورشليم. والرابع : في عهد السلطان مرقس أنتونيس ، وكان ابتداؤه سنة ١٦١ ، وبقي الحال هكذا إلى أزيد من عشر سنين ، وبلغ القتل شرقا وغربا. وكان هذا السلطان فلسفيا مشهورا متعصبا في الوثنية. والخامس : في عهد السلطان سويرس ، وكان ابتداؤه سنة ٢٠٢ وقتل ألوف في مصر وكذا في ديار فرانس وكارتهيج ، وكان القتل في غاية الشدّة بحيث ظن المسيحيون أن هذا الزمان زمان الدجّال. والسادس : في عهد السلطان مكسيمن ، وكان ابتداؤه سنة ٢٣٧ وصدر أمره وقتل فيه أكثر العلماء لأنه ظن أنه إذا قتل أهل العلم جعل العوامّ مطيعين في غاية السهولة ، وقتل فيه البابا پونتيانوس والبابا أنتيروس. والسابع : في عهد السلطان دي شس سنة ٢٥٣ ، وأراد هذا السلطان استئصال الملّة المسيحية فصدر أوامره إلى حكّام الإيالات ، وارتدّ في هذه الحادثة بعض المسيحيين ، وكان مصر وإفريكا وأتالي والمشرق مواضع تفرج ظلمه. والثامن : في عهد السلطان ولريان سنة ٢٥٧ وقتل فيه ألوف ، ثم صدر أمره في غاية الشدّة بأن يقتل الأساقفة وخدّام الدين ، ويذلّ الأعزّة ويؤخذ أموالهم ، فلو بقوا بعد هذا أيضا مسيحيين يقتلون ويسلب أموال النساء الشرائف ويجلين من الأوطان ، ويؤخذ المسيحيون الباقون عبيدا ويحبسون ويلقى في أرجلهم سلاسل ويستعملون في أمور الدولة. التاسع : في عهد السلطان أريلين ، وكان ابتداؤه سنة ٢٧٤ وصدر أمره ، لكن ما قتل فيه كثير لأن السلطان قد قتل. والعاشر : في سنة ٣٠٢ ، وامتلأت الأرض شرقا وغربا في هذا القتل وأحرقت بلدة فريجيا كلها دفعة واحدة ، بحيث لم يبق فيها أحد من المسيحيين. فهذه الوقائع لو كانت صادقة كما يدعون لا يتصوّر فيها كثرة النسخ ولا محافظة الكتب كما ينبغي ، ولا تصحيحها ولا تحقيقها ، ويكون للمحرّفين في أمثال هذه الأوقات مجال كثير للتحريف. وقد عرفت في جواب المغالطة الأولى أن الفرق الكثيرة المبتدعة من المسيحيين قد كانوا في القرن الأول وكانوا يحرّفون.

الأمر الثامن : أراد السلطان ديوكليشين أن يمحو وجود الكتب المقدسة لهم عن صفحة العالم ، واجتهد في هذا الباب وأمر في سنة ٣٠٣ بهدم الكنائس وإحراق الكتب وعدم اجتماع المسيحيين للعبادة. فهدمت الكنائس وأحرق كل كتاب حصل له بالجدّ التامّ. ومن أبى أو ظنّ أنه أخفى كتابا عذّب عذابا شديدا. وامتنعوا عن الاجتماع للعبادة ، كما هو مصرّح به في تواريخهم. وقال لاردنر في الصفحة ٥٢٢ من المجلد السابع من تفسيره : «صدر أمر ديوكليشين في شهر مارج من السنة التاسعة عشر من جلوسه أن يهدم الكنائس ويحرق

٢٢٢

الكتب المقدسة». انتهى. ثم قال : «يقول يوسي بيس بالجزم التامّ إنه رأى بعينيه أن الكنائس هدّمت والكتب المقدسة أحرقت من الأسواق». انتهى. ولا أقول إن النّسخ كلها بإعدامه انعدمت عن صفحة العالم ، لكن لا شك أنها قلّت جدا وضاعت من النّسخ غير المحصورة النفيسة الصحيحة. لأن كثرة المسيحيين وكثرة كتبهم كما كانت في مملكته ودياره ، ما كانت بمنزلة عشرها في غيرها. وانفتح باب التحريف ، ولا عجب ان انعدم بعض الكتب رأسا أيضا ، ويكون الموجود باسمه بعده جعليّا مختلفا. لأن هذا الأمر قبل إيجاد صنعة الطبع كان أمرا ممكنا ، كما علمت في القول العشرين من الهداية الثالثة من جواب المغالطة الأولى أن النسخ المخالفة لنسخة اليهود انعدمت رأسا بإعدامهم بعد المائة الثامنة. وقال آدم كلارك في مقدمة تفسيره : «إن أصل التفسير المنسوب إلى تي شن انعدم والمنسوب إليه الآن مشكوك عند العلماء وشكّهم حق». انتهى. وقال واتسن في المجلد الثالث من كتابه : «كان التفسير المنسوب إلى تي شن موجودا في عهد تهيودورت ، وكان يقرأ في كل كنيسة. لكن تهيودورت أعدم جميع نسخه ليقيم الإنجيل مقامه». انتهى. انظروا كيف انعدم هذا التفسير عن صفحة العالم بإعدام تهيودورت ، وكيف اخترع واختلق المسيحيون بدله. ولا شك أن اقتدار ديوكليشين الذي ملك ملوك الفرنج أزيد من اقتدار اليهود ، وكذا زمان إعدامه كان أقرب من زمان إعدامهم ، وكذا اقتداره أزيد من اقتدار تهيودورت. فلا استبعاد في أن ينعدم بعض كتب العهد الجديد بحادثة ديوكليشين والحوادث التي ظهرت في عهد السلاطين المذكورين الذين كانوا ملوك الملوك في عهدهم ، ثم يكون الموجود باسمه مفترى مختلقا ، كما سمعت في تفسير تي شن. والاهتمام إلى اختلاق بعض كتب العهد الجديد كان أهم عندهم من اختلاق التفسير المذكور ، وكانت المقولة المقبولة عندهم ، التي مرّ ذكرها في القول السادس من الهداية الثالثة من جواب المغالطة الأولى ، حاكمة باستحسان هذا الاختلاق واستحبابه. ولأجل الحوادث المذكورة في هذه الأمور الثمانية المسطورة ، فقدت الأسانيد المتصلة بكتبهم ، ولا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد العتيق والجديد لا عند اليهود ولا عند المسيحيين ، كما عرفت نبذا منه. وطلبنا مرارا من القسيسين العظام السند المتصل ، فما قدروا عليه. واعتذر بعض القسيسين في محفل المناظرة التي كانت بيني وبينهم ، فقال إن سبب فقدان الإسناد عندنا وقوع المصائب والفتن على المسيحيين إلى مدة ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة. ونحن تصفّحنا كتب الإسناد لهم ، فما رأينا فيها شيئا غير الظن والتخمين ، وبهذا القدر لا يثبت السند.

المغالطة الخامسة : إن بعض نسخ الكتب المقدسة التي كتبت قبل زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم موجودة إلى الآن عند المسيحيين وهذه النّسخ موافقة لنسخنا.

٢٢٣

أقول أولا : إن في هذه المغالطة دعوتين : الأولى : ان هذه النّسخ الموجودة كتبت قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والثانية : انها موافقة لنسخنا. وكلتاهما غير صحيحتين. أما الأولى ، فلأنك قد عرفت في القول العشرين من الهداية الثالثة من جواب المغالطة الأولى أنه لم يصل إلى مصحّحي العهد العتيق نسخة عبرانية كتبت في المائة السابعة والثامنة ، بل لم تصل إليهم نسخة عبرانية كاملة تكون مكتوبة قبل المائة العاشرة. لأن النسخة القديمة التي حصرت لكني كات هي نسخة تسمى بكودكس لاديانوس ، وقال : إنها كتبت في المائة العاشرة ؛ وقال موشيو دي روسي : إنها كتبت في المائة الحادية عشر. ولمّا طبع واندرهوت النسخة العبرانية بادّعاء التصحيح الكامل ، خالف هذه النسخة في أربعة عشر ألف موضع ، منها أزيد من ألف موضع في التوراة فقط. فانظر إلى كثرة غلطها. وأما نسخ الترجمة اليونانية فثلاث منها قديمة عندهم جدا. الأولى كودكس إسكندريانوس ، والثانية كودكس واطيكانوس ، والثالثة كودكس إفريمي. والأولى موجودة في لندن ، وكانت هذه النسخة عند المصحّحين في المرتبة الأولى من النسخ معلّمة بعلامة الأول. والثانية موجودة في بلدة روما من إقليم أطالية ، وكانت عند المصحّحين في المرتبة الثانية ومعلّمة بعلامة الثاني. والثالثة موجودة في بلدة يارس وفيها كتب العهد الجديد فقط ، وليس فيها كتاب من كتب العهد العتيق. ولا بدّ من بيان حال هذه النسخ الثلاث. فأقول : قال هورن في المجلد الثاني من تفسيره في بيان كودكس إسكندريانوس : «هذه النسخة في أربعة مجلدات. ففي المجلدات الثلاثة الأولى الكتب الصادقة والكاذبة من كتب العهد العتيق ، ويوجد في المجلد الرابع العهد الجديد والرسالة الأولى لكليمنت إلى أهل قورنثيوس والزبور الكاذب المنسوب إلى سليمان عليه‌السلام». انتهى. ثم قال : «وتوجد قبل الزبور رسالة اتهاني سيش ، وبعده فهرست ما يقرأ في صلاة كل ساعة ساعة من الليل والنهار ، وأربعة عشر زبورا إيمانيا الحادي عشر منها في نعت مريم رضي الله عنها ، وبعضها كاذبة وبعضها مأخوذة من الإنجيل. ودلائل يوسي بيس مكتوبة على الزبورات وقوانينه على الأناجيل. وبالغ البعض في مدح هذه النسخة والبعض الآخرون في ذمّها. ورئيس أعدائها وتستين ، وفي قدامتها كلام. فظن كريب وشلز هكذا لعلّ هذه النسخة كتبت في آخر المائة الرابعة. وقال ميكايلس هو حدّ قدامتها ولا يمكن أن يفرض أقدم منه ، لأن رسالة اتهاني سيش توجد فيها. وفهم أودن أنها كتبت في القرن العاشر. وقال وتستين إنها كتبت في القرن الخامس ، وظن هكذا لعلّ هذه نسخة من النسخ التي جمعت في إسكندرية سنة ٦١٥ لأجل الترجمة السريانية. وفهم داكتر سملر أنها كتبت في القرن السابع. وقال مونت فاكن لا يمكن أن يقال جزما في حق نسخة من النسخ ، إسكندريانوس كانت أو غيرها ، أنها كتبت قبل القرن السادس. وقال ميكايلس إنها كتبت في زمان صار لسان أهل مصر فيه

٢٢٤

لسانا عربيا ، يعني بعد مائة أو مائتين من تسلّط المسلمين على إسكندرية ، لأن كاتبه بدّل في كثير من المواضع الميم من الباء وبالعكس ، كما تبدّل في اللسان العربي. فاستدلّ بهذا أنها لا يمكن أن تكون مكتوبة قبل القرن الثامن. وفهم وايد أنها كتبت في وسط القرن الرابع أو في آخره ، ولا يمكن أن يكون أقدم من هذا لأنها توجد فيها الأبواب والفصول ، ويوجد فيها نقل قانون يوسي بيس ، واعتراض أسباين على دلائل وايد ، وأدلة كونها مكتوبة في القرن الرابع والخامس. هذا الأول لا يوجد التقسيم بالأبواب في رسائل بولس وقد كان هذا التقسيم في سنة ٣٨٦ ، والثاني يوجد فيها رسائل كليمنت التي منع قراءتها محفل لوديسيا وكارتهيج ، فاستدلّ شلز بهذا أن هذه النسخة كتبت قبل سنة ٣٦٤. والثالث استدلّ شلز بدليل جديد آخر وهو أنه يوجد في الزبور الرابع عشر الإيماني فقرة كانت توجد سنة ٤٤٤ وسنة ٤٤٦ ، فهذه النسخة كتبت قبل هذه السنين. وظن وتستين أنها كتبت قبل زمان جيروم ، لأنه بدّل فيها المتن اليوناني بترجمة أتالك القديم ، وكاتبه لا يعلم أنهم كانوا يقولون للعرب هكارين لأنه كتب أكوراو بدل أكاراو ، وأجابه الآخرون بأن هذا غلط كاتب فقط ، لأنه جاء لفظ أكاراوون في الآية الأخيرة. وقال ميكايلس لا يثبت بهذه الدلائل شيء لأن هذه النسخة منقولة عن نسخة أخرى بالضرورة. فعلى تقدير كونها منقولة بالاهتمام تتعلق هذه الدلائل بالنسخة التي هي منقولة عنها لا بهذه النسخة. نعم يمكن تصفية الأمر شيئا بالخط وأشكال الحروف وعدم الإعراب ودليل عدم كونها مكتوبة في القرن الرابع. هذا ظن داكتر سملر أن رسالة أتهاني سيش في حسن الزبورات يوجد فيها ، وإدخالها في حياته كان محالا. فاستدلّ أودن بهذا أنها كتبت في القرن العاشر ، لأن هذه الرسالة كاذبة ، ولا يمكن جعلها في حياته ، وكان الجعل في القرن العاشر في غاية القوة». انتهى.

ثم قال هورن في المجلد المذكور في بيان كودكس واطيكانوس : «كتب في مقدمة الترجمة اليونانية التي طبعت في سنة ١٥٩٠ ، كتبت هذه النسخة قبل سنة ٣٨٨ يعني في القرن الرابع. وقال موت فاكن ويلين جيني : كتبت في القرن الخامس أو السادس. وقال ديوين في القرن السابع. وقال هك في ابتداء القرن الرابع. وقال مارش في آخر القرن الخامس. ولا يوجد الاختلاف بين نسختين من نسخ العهد العتيق والجديد مثل الاختلاف الذي يوجد بين كودكس إسكندريانوس وهذه النسخة». انتهى. ثم قال : «استدلّ كني كات بأن هذه النسخة وكذا نسخة إسكندريانوس ليستا بمنقولتين عن نسخة أرجن ولا عن نقولها التي كانت نقلت في قرب زمانه ، بل هما منقولتان عن النسخ التي ما كانت علامات أرجن فيها ، يعني في زمان تركت علاماته في النقول». انتهى.

ثم قال في المجلد المذكور في بيان كودكس افريمي : «ظن وتستين أن هذه النسخة من

٢٢٥

النّسخ التي جمعت في إسكندرية لتصحيح الترجمة السريانية لكن لا دليل على هذا الأمر. واستدلّ بالحاشية التي على الآية السابعة من الباب الثامن من الرسالة العبرانية أن هذه النسخة كتبت في سنة ٥٤٢ ، لكن ميكايلس لا يفهم استدلاله قويّا ، ويقول : بهذا القدر فقط إنها قديمة ، وقال مارش كتبت في القرن السابع». انتهى.

فظهر لك أنه لم يوجد دليل قطعي على أن هذه النسخ كتبت في القرن الفلاني ، وليس مكتوبا في آخر كتاب من كتبها أيضا أن كاتبه فرغ في السنة الفلانية ، كما يكون هذا مكتوبا في آخر الكتب الإسلامية غالبا. وعلماؤهم يقولون رجما بالغيب بالظن الذي نشأ لهم عن بعض القرائن : لعلها كتبت في قرن كذا أو قرن كذا. ومجرد الظن والتخمين لا يتمّ دليلا على المخالف. وقد عرفت أن أدلّة القائلين بأن نسخة إسكندريانوس كتبت في القرن الرابع أو الخامس ضعيفة منقوضة ، وظنّ سملر أيضا بعيد. لأن تغيّر لسان إقليم بلسان إقليم آخر في مدة قليلة خلاف العادة. وقد تسلّط العرب على إسكندرية في القرن السابع من القرون المسيحية لأنهم تسلّطوا في السنة العشرين من الهجرة على الأصح ، إلّا أن يكون مراده آخر هذا القرن. ودليل ميكايلس سالم عن الاعتراض ، فلا بدّ أن يسلّم. فهذه النسخة لا يمكن أن تكون مكتوبة قبل القرن الثامن. والأغلب ، كما قال أودن : إنها كتبت في القرن العاشر الذي كان بحر التحريف فيه موّاجا ، ويؤيده أن هذه النسخة تشتمل على الكتب الكاذبة أيضا. فالظاهر أن كاتبها كان في زمان كان فيه تمييز الكاذب عن الصادق متعسّرا. وهذا كان على وجه الكمال في القرن العاشر. وان بقاء القرطاس والحروف على ألف وأربعمائة سنة أو أزيد مستبعد عادة ، سيما إذا لاحظنا أن طريقة المحافظة وكذا طريقة الكتابة في الطبقات الأول ما كانتا جيّدتين. وردّ ميكايلس استدلال وتستين في حق كودكس إفريمي ، وعرفت قول مونت فاكن وكني كات أيضا ، وعرفت قول ديوين في حق كودكس واطيكانوس ، وقول مارش في حق كودكس إفريمي أنهما كتبتا في القرن السابع ، فظهر أن الدعوى الأولى ليست بثابتة ، لأن ظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على آخر القرن السادس من القرون المسيحية. وإذا ثبت أن كودكس إسكندريانوس تشتمل على كتب كاذبة أيضا ، وأن البعض ذمّها ذمّا بليغا ، وتستين رئيس أعدائه الذامّين. ولا يوجد الاختلاف بين نسختين من نسخ العهد العتيق والجديد مثل الاختلاف الذي يوجد بين كودكس إسكندريانوس وكودكس واطيكانوس. ظهر أن الدعوى الثانية أيضا ليست بصحيحة.

وأقول ثانيا لو قطعنا النظر عمّا قلنا ، وفرضنا أن هذه النّسخ الثلاث كتبت قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يضرّنا ، لأنّا لا ندّعي أن الكتب المقدسة لهم كانت غير محرّفة إلى زمان ظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعد ذلك حرّفت ، بل ندّعي أن هذه الكتب كانت قبل ظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٢٢٦

لكنها بلا إسناد متّصل ، وإن التحريف كان فيها قبله يقينا ، ووقع في بعض المواضع بعده أيضا. فلا ينافي هذه الدعوى وجود النّسخ الكثيرة فضلا عن ثلاث نسخ ، بل لو وجدت ألف نسخة مثل إسكندريانوس لا يضرّنا ، بل كان نافعا لنا باعتبار أن اشتمال هذه النّسخ على الكتب الجعليّة يقينا واختلافها بينها اختلافا شديدا ، كما في كودكس إسكندريانوس وكودكس واطيكانوس ، من أعظم الأدلة الدالّة على تحريف أسلافهم. ولا يلزم من القدامة الصحّة. ألا ترى إلى بعض الكتب الكاذبة المندرجة في إسكندريانوس.

٢٢٧
٢٢٨

الباب الثالث

في إثبات النّسخ

٢٢٩
٢٣٠

في إثبات النّسخ

النسخ في اللغة ، الإزالة. وفي اصطلاح أهل الإسلام ، بيان مدة انتهاء الحكم العملي الجامع للشروط. لأن النسخ لا يطرأ عندنا على القصص ولا على الأمور القطعية العقلية ، مثل أن صانع العالم موجود ، ولا على الأمور الحسيّة ، مثل ضوء النهار وظلمة الليل ، ولا على الأدعية ولا على الأحكام التي تكون واجبة نظرا إلى ذاتها ، مثل آمنوا ولا تشركوا ، ولا على الأحكام المؤبّدة مثل : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) [النور : ٤] ، ولا على الأحكام المؤقتة وقتها المعيّن مثل : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة : ١٠٩] ، بل يطرأ على الأحكام التي تكون عملية محتملة للوجود والعدم غير مؤبّدة وغير مؤقتة ، وتسمّى الأحكام المطلقة. ويشترط فيها أن لا يكون الوقت والمكلّف والوجه متّحدة ، بل لا بدّ من الاختلاف في الكل أو البعض من هذه الثلاثة. وليس معنى النسخ المصطلح أن الله أمر أو نهى أو لا ، وما كان يعلم عاقبته ، ثم بدا له رأي فنسخ الحكم الأول ليلزم الجهل ، أو أمر أو نهى ، ثم نسخ مع الاتحاد في الأمور المسطورة ليلزم الشناعة عقلا. وإن قلنا إنه كان عالما بالعاقبة ، فإن هذا النسخ لا يجوز عندنا ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، بل معناه أن الله كان يعلم أن هذا الحكم يكون باقيا على المكلّفين إلى الوقت الفلاني ، ثم ينسخ. فلم جاء الوقت أرسل حكما آخر ظهر منه الزيادة والنقصان أو الرفع مطلقا. ففي الحقيقة هذا بيان انتهاء الحكم الأول. لكن لمّا لم يكن الوقت مذكورا في الحكم الأول ، فعند ورود الثاني يتخيّل ، لقصور علمنا في الظاهر ، أنه تغيير ونظيره بلا تشبيه. أن تأمر خادمك الذي تعلم حاله لخدمة من الخدمات ، ويكون في نيّتك أنه يكون على هذه الخدمة إلى سنة مثلا فقط ، وبعد السنة يكون على خدمة أخرى. لكن ما أظهرت عزمك ونيّتك عليه. فإذا مضت المدة وعيّنته

٢٣١

على خدمة أخرى فهذا ، بحسب الظاهر عند الخادم ، وكذا عند غيره الذي ما أخبرته عن نيّتك ، تغيير. وأما في الحقيقة وعندك فليس بتغيير ولا استحالة في هذا المعنى لا بالنسبة إلى ذات الله ولا إلى صفاته. فكما أن في تبديل المواسم ، مثل الربيع والصيف والخريف والشتاء ، وكذا في تبديل الليل والنهار ، وتبديل حالات الناس مثل الفقر والغنى والصحة والمرض وغيرها ، حكما ومصالح الله تعالى ، سواء ظهرت لنا أو لم تظهر ، فكذلك في نسخ الأحكام ، حكم ومصالح له ، نظرا إلى حال المكلّفين والزمان والمكان. ألا ترى أن الطبيب الحاذق يبدّل الأدوية والأغذية بملاحظة حالات المريض وغيرها على حسب المصلحة التي يراها ، ولا يحمل أحد فعله على العبث والسفاهة والجهل؟ فكيف يظن عاقل هذه الأمور في الحكيم المطلق العالم بالأشياء بالعلم القديم الأزلي الأبدي؟

وإذا علمت هذا ، فأقول : ليست قصة من القصص المندرجة في العهد العتيق والجديد منسوخة عندنا. نعم بعضها كاذب مثل : أن لوطا عليه‌السلام زنى بابنتيه وحملتا بالزنا من الأب ، كما هو مصرّح في الباب التاسع عشر من سفر التكوين ، أو أن يهودا بن يعقوب عليه‌السلام زنى بثامار زوجة ابنه وحملت بالزنا منه وولدت توأمين فارص وزارح ، كما هو مصرّح به في الباب الثامن والثلاثين من السفر المذكور ، وداود وسليمان وعيسى عليهم‌السلام كلهم من أولاد فارض المذكور ، كما هو مصرّح به في الباب الأول من إنجيل متّى ، أو أن داود عليه‌السلام زنى بامرأة أوريا وحملت بالزنا منه فأهلك زوجها بالمكر وأخذها زوجة له ، كما هو مصرّح به في الباب الحادي عشر من سفر صموئيل الثاني ، أو أن سليمان عليه‌السلام ارتدّ في آخر عمره وكان يعبد الأصنام بعد الارتداد وبنى المعابد لها ، كما هو مصرّح به في الباب الحادي عشر من سفر الملوك الأول ، أو أن هارون عليه‌السلام بنى معبدا للعجل وعبده وأمر بني إسرائيل بعبادته ، كما هو مصرّح به في الباب الثاني والثلاثين من سفر الخروج. فنقول : إن هذه القصص وأمثالها كاذبة باطلة عندنا ، ولا نقول إنها منسوخة. والأمور القطعية العقلية والحسّيّة ، والأحكام الواجبة ، والأحكام المؤبدة ، والأحكام الوقتية قبل أوقاتها ، والأحكام المطلقة التي يفرض فيها الوقت والمكلّف والوجه متّحدة ، لا تكون هذه الأشياء كلها منسوخة ليلزم الشناعة. وكذا لا تكون الأدعية منسوخة. فلا يكون الزبور الذي هو أدعية منسوخا بالمعنى المصطلح عندنا ، ولا نقول قطعا إنه ناسخ للتوراة ومنسوخ من الإنجيل ، كما افترى هذا الأمر على أهل الإسلام صاحب ميزان الحق ، وقال : إن هذا مصرّح به في القرآن والتفاسير. وإنما منعنا عن استعمال الزبور والكتب الأخرى من العهد العتيق والجديد ، لأنها مشكوكة يقينا ، بسبب عدم أسانيدها المتصلة وثبوت وقوع التحريف اللفظي فيها بجميع أقسامه ، كما عرفت في الباب الثاني.

٢٣٢

ويجوز النّسخ في غير المذكورات من الأحكام المطلقة الصالحة للنسخ. فنعترف بأن بعض أحكام التوراة والإنجيل من الأحكام التي هي من جنس الصالحة للنسخ ، منسوخة في الشريعة المحمدية. ولا نقول : إن كل حكم من أحكامها منسوخة. كيف وأن بعض أحكام التوراة لم تنسخ يقينا ، مثل : حرمة اليمين الكاذبة ، والقتل بالزنا واللّواطة ، والسرقة وشهادة الزّور ، والخيانة في مال الجار وعرضه ، ووجوب إكرام الأبوين ، وحرمة نكاح الآباء والأبناء والأمهات والبنات والأعمام والعمّات والأخوال والخالات وجمع الأختين ، وغيرها من الأحكام الكثيرة. وكذا بعض أحكام الإنجيل لم تنسخ يقينا. مثلا : وقع في الباب الثاني عشر من إنجيل مرقس هكذا : «٢٩ فقال له عيسى وهو يحاوره إن أول الأحكام قوله اسمع يا إسرائيل فإن الربّ إلهنا ربّ واحد ٣٠ وأن تحبّ الربّ إلهك بقلبك كله وروحك كله وإدراكك كله وقواك كلها. هذا هو الحكم الأول ٣١ والثاني مثله وهو أن تحبّ جارك كنفسك وليس حكم آخر أكبر من هذين». فهذان الحكمان باقيان في شريعتنا على أوكد وجه ، وليسا بمنسوخين. والنسخ ليس بمختصّ بشريعتنا ، بل وجد في الشرائع السابقة أيضا بالكثرة بكلا قسميه ، أعني النسخ الذي يكون في شريعة نبيّ لاحق لحكم كان في شريعة نبيّ سابق ، والنسخ الذي يكون في شريعة نبيّ لحكم آخر من شريعة هذا النبيّ. وأمثلة القسمين في العهد العتيق والجديد غير محصورة. لكن أكتفي هاهنا ببعضها ، فأقول :

أمثلة القسم الأول هذه : الأول : تزوجت الإخوة بالأخوات في عهد آدم عليه‌السلام ، وسارة زوجة إبراهيم عليه‌السلام أيضا كانت أختا علانية له ، كما يفهم من قوله في حقها المندرج في الآية الثانية عشر من الباب العشرين من سفر التكوين ترجمة عربية سنة ١٦٢٥ وسنة ١٦٤٨ «إنها أختي بالحقيقة ابنة أبي وليست ابنة أمي وقد تزوّجت بها». والنكاح بالأخت حرام مطلقا في الشريعة الموسوية ، عينيّة كانت الأخت أو علانية أو خفيّة ، أو مساو للزنا ، والناكح ملعون ، وقتل الزوجين واجب. الآية التاسعة من الباب الثامن عشر من سفر الأحبار هكذا : «لا تكشف عورة أختك من أبيك كانت أو من أمك التي ولدت في البيت أو خارجا من البيت». وفي تفسير دوالي ورجرد مينت في ذيل شرح هذه الآية : «مثل هذا النكاح مساو للزنا». انتهى. والآية السابعة عشر من الباب العشرين من السفر المذكور هكذا : «أي رجل تزوج أخته ابنة أبيه أو أخته ابنة أمه ورأى عورتها ورأت عورته ، فهذا عار شديد ، فيقتلان أمام شعبهما. وذلك لأنه كشف عورة أخته فيكون إثمهما في رأسهما». والآية الثانية والعشرون من الباب السابع والعشرين من كتاب الاستثناء هكذا : «يكون ملعونا من يضاجع أخته من أبيه وأمه». فلو لم يكن هذا النكاح جائزا في شريعة آدم وإبراهيم عليهما‌السلام ، يلزم أن يكون الناس كلهم أولاد الزنا ، والناكحون زانين وواجبي القتل وملعونين ، فكيف يظن

٢٣٣

هذا في حق الأنبياء عليهم‌السلام؟ فلا بدّ من الاعتراف بأنه كان جائزا في شريعتهما ثم نسخ (١).

الثاني : قول الله في خطاب نوح وأولاده في الآية الثالثة من الباب التاسع من سفر التكوين هكذا ترجمة عربية سنة ١٦٢٥ وسنة ١٦٤٧ : «وكلما يتحرك على الأرض وهو حيّ يكون لكم مأكولا كالبقل الأخضر». فكان جميع الحيوانات حلالا في شريعة نوح كالبقولات ، وحرّمت في الشريعة الموسوية الحيوانات الكثيرة منها الخنزير أيضا ، كما هو مصرّح في الباب الحادي عشر من سفر الأخبار والباب الرابع عشر من سفر الاستثناء (٢).

الثالث : جمع يعقوب بين الأختين ليا وراحيل ابنتي خاله ، كما هو مصرّح به في الباب التاسع والعشرين من سفر التكوين. وهذا الجمع حرام في الشريعة الموسوية. الآية الثامنة عشر من الباب الثامن عشر من سفر الأخبار هكذا : «ولا تتزوّج أخت امرأتك في حياتها فتحزنها ، ولا تكشف عورتهما جميعا فتحزنهما». فلو لم يكن الجمع بين الأختين جائزا في شريعة يعقوب ، يلزم أن يكون أولادهما أولاد الزنا ، والعياذ بالله ، وأكثر الأنبياء الإسرائيلية في أولادهما.

الرابع : قد عرفت في الشاهد الأول من المقصد الثالث أن يوخايذ زوجة عمران كانت عمّته. وقد حرّف المترجمون للترجمة العربية المطبوعة سنة ١٦٢٥ وسنة ١٦٤٨ تحريفا قصديا لإخفاء العيب فكأن أبو موسى تزوّج عمّته. وهذا النكاح حرام في الشريعة الموسوية. الآية الثانية عشر من الباب الثامن عشر من سفر الأخبار هكذا : «لا تكشف عورة عمّتك لأنها قرابة أبيك». وكذا في الآية التاسعة عشر من الباب العشرين من السفر المذكور. فلو لم يكن هذا النكاح جائزا قبل شريعة موسى لزم أن يكون موسى وهارون ومريم أختهما من أولاد الزنا ، والعياذ بالله ، ولزم أن لا يدخلوا جماعة الربّ إلى عشرة أحقاب ، كما هو مصرّح في الآية الثالثة من الباب الثالث والعشرين من سفر الاستثناء. ولو كانوا هم قابلين للإخراج عن جماعة الربّ فمن يكون صالحا لدخولها؟

__________________

(١) ترجم صاحب الترجمة العربية المطبوعة سنة ١٨١١ الآية الثانية عشر من الباب العشرين من سفر التكوين هكذا : «هي قريبتي من أبي لا من أمي». فالظاهر أنه حرّف قصدا لئلا يلزم النسخ بالنسبة إلى نكاح سارة ، لأن قريبة الأب تشمل بنت العمّ والعمّة وغيرهما.

(٢) حرّف هنا أيضا صاحب الترجمة العربية المطبوعة سنة ١٨١١ ، وترجم الآية الثالثة المذكورة هكذا : «كل دبيب ظاهر حيّ يكون لكم مأكلا كخضر العشب». فزاد لفظ الطاهر من جانبه لئلا تشمل الحيوانات المحرّمة في شريعة موسى ، لأنه قيل في حقها في التوراة إنها بخسة.

٢٣٤

الخامس : في الباب الحادي والثلاثين من كتاب أرمياء هكذا : «٣١ ها ستأتي أيام يقول الرب وأعاهد بيت إسرائيل وبيت يهودا عهدا جديدا ٣٢ ليس مثل العهد الذي عاهدت آباءهم في اليوم الذي أخذت بأيديهم لأخرجهم من أرض مصر عهدا نقضوه وأنا تسلّطت عليهم بقول الربّ». والمراد من العهد الجديد الشريعة الجديدة. فيفهم أن هذه الشريعة الجديدة تكون ناسخة للشريعة الموسوية. وادّعى مقدّسهم بولس ، في الباب الثامن من رسالته إلى العبرانيين ، أن هذه الشريعة شريعة عيسى. فعلى اعترافه شريعة عيسى عليه‌السلام ناسخة لشريعة موسى عليه‌السلام. وهذه الأمثلة الخمسة لإلزام اليهود والمسيحيين جميعا. ولإلزام المسيحيين أمثلة أخرى.

السادس : يجوز في الشريعة الموسوية أن يطلّق الرجل امرأته بكل علّة ، وأن يتزوّج رجل آخر بتلك المطلّقة بعد ما خرجت من بيت الأول ، كما هو مصرّح به في الباب الرابع والعشرين من كتاب الاستثناء. ولا يجوز في الطلاق في الشريعة العيسوية إلّا بعلّة الزنا. هكذا لا يجوز لرجل آخر نكاح المطلّقة ، بل هو بمنزلة الزنا ، كما صرّح به في الباب الخامس والتاسع عشر من إنجيل متّى. ولمّا اعترض الفريسيون على عيسى عليه‌السلام في هذه المسألة ، قال في جوابهم : «إن موسى ما جوّز لكم طلاق نسائكم إلّا لقساوة قلوبكم ، وأما من قبل فإنه لم يكن كذلك. وأنا أقول لكم إن كل من طلّق زوجته لغير علّة الزنا وتزوّج بأخرى فقد زنى ، ومن يتزوّج بتلك المطلّقة يزني». فعلم من جوابه أنه ثبت النّسخ في هذا الحكم مرتين : مرة في الشريعة الموسوية ، ومرة في شريعته. وأنه قد ينزل الحكم تارة موافقا لحال المكلّفين وإن لم يكن حسنا في نفس الأمر.

السابع : كانت الحيوانات الكثيرة محرّمة في الشريعة الموسوية ، ونسخت حرمتها في الشريعة العيسوية. وثبتت الإباحة العامّة بفتوى بولس. الآية الرابعة عشر من الباب الرابع عشر من رسالة بولس إلى أهل رومية هكذا : «فإني أعلم وأعتقد بالربّ عيسى أن لا شيء نجس العين بل ان كل شيء نجس لمن يحسبه نجسا». والآية الخامسة عشر من الباب الأول من رسالته إلى طيطوس هكذا : «فإن جميع الأشياء طاهرة للطاهرين ، وليس شيء بطاهر للنجسين والمنافقين ، لأنهم كلهم نجسون حتى عقلهم وضميرهم». وهاتان الكليتان (إن كل شيء نجس لمن يحبه نجسا) و (جميع الأشياء طاهرة للطاهرين) عجيبتان في الظاهر. لعلّ بني إسرائيل لم يكونوا طاهرين ، فلم تحصل لهم هذه الإباحة العامّة. ولمّا كان المسيحيون طاهرين ، حصل لهم الإباحة العامّة ، وصار كل شيء طاهرا لهم. وكان مقدّسهم جاهدا في إشاعة حكم الإباحة العامّة. ولذلك كتب إلى تيموثاوس في الباب الرابع من رسالته الأول : «٤ لأن كل ما خلق الله حسن ، ولا يجوز أن يرفض منه شيء إذا أكلناه ونحن شاكروه ٥ لأنه

٢٣٥

يتقدّس بكلمة الله وبالتضرّع ٦ فإن ذكّرت الإخوة بهذا فقد صرت للمسيح خادما جيدا متربّيا في كلام الإيمان والتعليم الصحيح الذي اتّبعت أثره».

الثامن : أحكام الأعياد التي فصّلت في الباب الثالث والعشرين من كتاب الأخبار كانت واجبة أبدية في الشريعة الموسوية ، ووقعت في حقّها في الآية ١٤ و ٢١ و ٣١ و ٤١ من الباب المذكور ألفاظ تدلّ على كونها أبدية.

التاسع : كان تعظيم السبت حكما أبديا في الشريعة الموسوية ، وما كان لأحد أن يعمل فيه أدنى عمل. وكان من عمل فيه عملا ، ومن لم يحافظه واجبي القتل. وقد تكرّر بيان هذا الحكم والتأكيد في كتب العهد العتيق في مواضع كثيرة ، مثلا في الآية الثالثة من الباب الثاني من سفر التكوين ، وفي الباب العشرين من سفر الخروج من الآية الثامنة إلى الحادية عشر ، وفي الآية الثانية عشر من الباب الثالث والعشرين من سفر الخروج ، وفي الآية الحادية والعشرين من الباب الرابع والثلاثين من سفر الخروج ، وفي الآية الثالثة من الباب التاسع عشر ، وكذا من الباب الثالث والعشرين من سفر الأخبار ، وفي الباب الخامس من كتاب الاستثناء من الآية الثانية عشر إلى الخامسة عشر ، وفي الباب السابع عشر من كتاب أرمياء ، وفي الباب السادس والخمسين والثامن والخمسين من كتاب أشعياء ، وفي الباب التاسع من كتاب نحميا ، وفي الباب العشرين من كتاب حزقيال. ووقع في الباب الحادي والثلاثين من سفر الخروج هكذا : «١٣ كلّم بني إسرائيل وقل لهم أن يحفظوا يومي يوم السبت من أجل أنه علامة بيني وبينكم في أجيالكم لتعلموا أني أنا الربّ الذي أطهركم ١٤ فاحفظوا يومي يوم السبت فإنه طهر لكم ، ومن لا يحفظه فليقتل قتلا ، من عمل فيه فتهلك تلك النفس من شعبها ١٥ اعملوا عملكم ستّة أيام واليوم السابع هو يوم سبت راحة طهر للربّ ، وكلّ من عمل عملا في هذا اليوم فليقتل ١٦ وليحفظ بنو إسرائيل السبت وليتّخذوه عيدا بأجيالهم ميثاقا إلى الدهر ١٧ بيني وبين بني إسرائيل علامة إلى الأبد لأن الربّ خلق السماء والأرض في ستّة أيام وفي اليوم السابع استراح من عمله». ووقع في الباب الخامس والثلاثين من سفر الخروج هكذا : «٢ ستّة أيام تعملون عملكم واليوم السابع يكون لكم مقدّسا. سبت وراحة الربّ. من عمل فيه عملا فليقتل ٣ لا تشعلوا النار في جميع مساكنكم يوم السبت». ووقع في الباب الخامس عشر من سفر العدد هكذا : «٣٢ ولمّا كان بنو إسرائيل في البريّة وجدوا رجلا يلقط حطبا يوم السبت ٣٣ فأقبلوا على موسى وهارون والجماعة كلها ٣٤ فألقوه في السجن لأنهم لم يكونوا يعرفون ما يجب أن يفعلوا به ٣٥ فقال الربّ لموسى فليقتل هذا الإنسان ويرجمه كل الشعب بالحجارة خارجا من المحلة ٣٦ فأخرجوه ورجموه بالحجارة ومات كما أمر الربّ». وكان

٢٣٦

اليهود المعاصرون للمسيح عليه‌السلام يؤذونه ويريدون قتله لأجل عدم تعظيم السبت وكان هذا أيضا من أدلة إنكارهم. الآية السادسة عشر من الباب الخامس من إنجيل يوحنّا هكذا : «ومن أجل ذلك طرد اليهود عيسى وطلبوا قتله لأنه كان قد فعل تلك الأشياء يوم السبت». الآية السادسة عشر من الباب التاسع من إنجيل يوحنّا هكذا : «فقال بعض الفريسيين : إن هذا الرجل ليس من عند الله لأنه لا يحافظ على السبت» إلخ ...

وإذا علمت هذا ، فأقول : إن مقدّسهم بولس نسخ هذه الأحكام التي مرّ ذكرها في المثال السابع والثامن والتاسع ، وبيّن أن هذه الأشياء كلها كانت إضلالا ، في الباب الثامن من رسالته إلى أهل قولاسايس : «فلا يدينكم أحد بالمأكول أو المشروب أو بالنظر إلى الأعياد أو الأهلّة أو السبوت ١٧ فإن هذه الأشياء ظلال للأمور المزمعة بالإتيان ، وأما الجسد فإنه للمسيح». في تفسير دوالي ورجرد مينت ذيل شرح الآية السادسة عشر هكذا : «قال بركت وداكتر وتبي : «كانت (أي الأعياد) في اليهود على ثلاثة أقسام في كل سنة سنة وفي كل شهر شهر وفي كل أسبوع أسبوع فنسخت هذه كلها في يوم السبت أيضا ، وأقيم سبت المسيحيين مقامه». وقال يشب هارسلي ذيل شرح الآية المذكورة : «زال سبت كنيسة اليهود وما مشى المسيحيون في عمل سبتهم على رسوم طفولية الفريسيين». انتهى. وفي تفسير هنري واسكات : «إذ نسخ عيسى شريعة الرسومات ليس لأحد أن يلزم الأقوام الأجنبية بسبب عدم لحاظها. قال ياسوبر وليا : فإنه لو كانت محافظة يوم السبت واجبة على جميع الناس وعلى جميع أقوام الدنيا لما أمكن نسخها قطّ ، كما نسخت الآن حقيقة ، ولكان يلزم على المسيحيين أن يحافظوه طبقة بعد طبقة ، كما فعلوا في الابتداء لأجل تعظيم اليهود ورضاهم». انتهى. وما ادّعى مقدّسهم بولس من كون الأشياء المذكورة إضلالا لا يناسب عبارة التوراة لأن الله بيّن علّة حرمة الحيوانات بأنها «نجسة فلا بدّ أن تكونوا مقدّسين لأني قدّوس» ، كما هو مصرّح به في الباب الحادي عشر من سفر الأحبار ، وبيّن علّة عيد الفطير «بأني أخرج جيوشكم من أرض مصر فاحفظوا هذا اليوم إلى أجيالكم سنّة إلى الدهر» ، كما هو مصرّح به في الباب الثاني عشر من سفر الخروج ، وبيّن علّة عيد الخيام هكذا : «لتعلم أجيالكم أني أجلست بني إسرائيل في الخيام إذ أخرجتهم من أرض مصر» ، كما هو مصرّح به في الباب الثالث والعشرين من سفر الأحبار ، وبيّن في مواضع متعدّدة علّة تعظيم السبت «بأن الربّ خلق السماء والأرض في ستّة أيام واستراح في اليوم السابع من عمله».

العاشر : حكم الختان كان أبديا في شريعة إبراهيم عليه‌السلام ، كما هو مصرّح به في الباب السابع عشر من سفر التكوين. ولذلك بقي هذا الحكم ، في أولاد إسماعيل وإسحاق

٢٣٧

عليهما‌السلام ، وبقي في شريعة موسى عليه‌السلام أيضا. الآية الثالثة من الباب الثاني عشر من سفر الأحبار هكذا : «وفي اليوم الثامن يختن الصبي» وختن عيسى عليه‌السلام أيضا ، كما هو مصرّح به في الآية الحادية والعشرين من الباب الثاني من إنجيل لوقا. وفي المسيحيين إلى هذا الحين صلاة معيّنة يؤدّونها في يوم ختان عيسى عليه‌السلام تذكرة لهذا اليوم. وكان هذا الحكم باقيا إلى عروج عيسى عليه‌السلام. وما نسخ ، بل نسخه الحواريون في عهدهم ، كما هو مشروح في الباب الخامس عشر من أعمال الحواريين. وستعرف في المثال الثالث عشر أيضا. ويشدّد مقدسهم بولس في نسخ هذا الحكم تشديدا بليغا في الباب الخامس من رسالته إلى أهل غلاطية هكذا : «وها أنا بولس أقول لكم إنكم إن اختتنتم لن ينفعكم المسيح بشيء ٣ لأني أشهد أن كل مختون ملزم بإقامة جميع أعمال الناموس ٤ إنكم إن تزكّيتم بالناموس فلا فائدة لكم من المسيح وسقطتم عن نيل النعمة ٦ فإن الختانة لا منفعة لها في المسيح ولا للقلفة بل الإيمان الذي يعمل بالمحبة». انتهى. والآية الخامسة عشر من الباب السادس من الرسالة المذكورة هكذا : «لا منفعة للختان في المسيح عيسى ولا للقلفة بل الخلق الجديد».

الحادي عشر : أحكام الذبائح كانت كثيرة وأبدية في شريعة موسى. وقد نسخت كلها في الشريعة العيسوية.

الثاني عشر : الأحكام الكثيرة المختصّة بآل هارون من الكهانة واللباس وقت الحضور للخدمة وغيرها كانت أبدية. وقد نسخت كلها في الشريعة العيسوية.

الثالث عشر : نسخ الحواريون بعد المشاورة التامّة جميع الأحكام العملية للتوراة ، إلّا أربعة : ذبيحة الصنم ، والدم ، والمخنوق ، والزنا. فأبقوا حرمتها وأرسلوا كتابا إلى الكنائس ، وهو منقول في الباب الخامس عشر من أعمال الحواريين وبعض آياته هكذا : «٢٤ ثم إنّا قد سمعنا أن نفرا من الذين خرجوا من عندنا يضطربونكم بكلامهم ويزعجون أنفسكم ويقولون أن يجب عليكم أن تختتنوا وتحافظوا على الناموس ، ونحن لم نأمركم بذلك ٢٨ لأنه قد حسن للروح القدس ولنا أن نحملكم غير هذه الأشياء الضرورية ٢٩ وهي أن تجتنبوا من قرابين الأوثان والدم والمخنوق والزنا التي إن تجنّبتم عنها فقد أحسنتم والسلام». وإنما أبقوا حرمة هذه الأربعة لئلا يتنفّر اليهود الذين دخلوا في الملّة المسيحية عن قريب. وكانوا يحبّون أحكام التوراة ورسومها تنفّرا تامّا. ثم لمّا رأى مقدّسهم بولس بعد هذا الزمان أن هذه الرعاية ليست بضرورية نسخ حرمة الثلاثة الأولى بفتوى الإباحة العامّة التي مرّ نقلها في المثال السابع. وعليه اتفاق جمهور بروتستنت. فما بقي من أحكام التوراة العملية إلّا الزنا. ولمّا لم

٢٣٨

يكن فيه حدّ في الشريعة العيسوية فهو منسوخ من هذا الوجه أيضا. فقد حصل الفراغ في هذه الشريعة من نسخ جميع الأحكام العملية التي كانت في الشريعة الموسوية أبدية كانت أو غير أبدية.

الرابع عشر : في الباب الثاني من رسالة بولس إلى أهل غلاطية : «٣٠ وصلبت مع المسيح وأنا الآن حيّ لكني أنا لست بحيّ ، بل ان المسيح هو الحيّ فيّ وما نلت الآن من الحياة الجسمانية فهو متعلّق بالإيمان بابن الله الذي أحبّني وجعل نفسه فدية لأجلي ٢١ وأنا لا أبطل نعمة الله ، لأنه إن كانت العدالة بالناموس فقد مات المسيح عبثا». قال داكتر همند في ذيل شرح الآية العشرين : «خلّصني ببذل روحه لأجلي عن شريعة موسى». وقال في شرح الآية الحادية والعشرين : «استعمل هذا العتق لأجل ذلك ، ولا أعتمد في النجاة على شريعة موسى ، ولا أفهم أن أحكام موسى ضرورية لأنه يجعل إنجيل المسيح كأنه بلا فائدة». انتهى وقال داكتر وتبي في ذيل شرح الآية الحادية والعشرين : «ولو كان كذا فاشترى النجاة بموته ما كان ضروريا ، وما كان في موته حسن ما». وقال يايل : «لو كان شريعة اليهود تعصمنا وتنجينا فأية ضرورة كانت لموت المسيح ، ولو كانت الشريعة جزءا لنجاتنا فلا يكون موت المسيح لها كافيا». انتهى. فهذه الأقوال كلها ناطقة بحصول الفراغ من شريعة موسى ونسخها.

الخامس عشر : في الباب الثالث من الرسالة المذكورة هكذا : «جميع ذوي أعمال الشريعة ملعونون لا يتزكّى أحد عند الله بالناس. فإن الناموس لا يتعلّق بالإيمان. وإن المسيح قد افتدانا من لعنة الناموس لمّا صار لأجلنا لعنة». انتهى ملخّصا. قال لاردنر في الصفحة ٤٨٧ من المجلد التاسع من تفسيره بعد نقل هذه الآيات : «الظن أن مراد الحواري هاهنا المعنى الذي يعلمه كثير يعني : نسخت الشريعة أو صارت بلا فائدة بموت المسيح وصلبه». ثم قال في الصفحة ٤٨٧ من المجلد المذكور : «بيّن الحواري صراحة في هذه المواضع أن منسوخيّة أحكام الشريعة الرسومية نتيجة موت عيسى».

السادس عشر : في الباب الثالث المذكور هكذا : «وقد حصرنا قبل إتيان الإيمان بالناموس وقيّدنا في انتظار الإيمان المزمع بالظهور ٢٤ فكان الناموس مؤدّبنا الذي يهدينا إلى المسيح لنتزكّى بالإيمان ٢٥ ولمّا جاء الإيمان لم نبق تحت المؤدّب». فصرّح مقدّسهم «أنه لا طاعة لأحكام التوراة بعد الإيمان بعيسى عليه‌السلام». في تفسير دوالي ورجرد مينت قول دين أستان هوب هكذا : «نسخ رسومات الشريعة بموت عيسى وشيوع إنجيله».

السابع عشر : في الآية الخامسة عشر من الباب الثاني من رسالة بولس إلى أهل أفسس هكذا : «وأبطل بجسده العداوة أعني ناموس أحكام السنين».

٢٣٩

الثامن عشر : الآية الثانية عشر من الباب السابع من الرسالة العبرانية هكذا : «لأن الكهانة لمّا بدّلت ، بدّل الناموس أيضا بالضرورة». ففي هذه الآية إثبات التلازم بين تبدّل الإمامة وتبدّل الشريعة. فإن قال المسلمون أيضا ، نظرا إلى هذا التلازم ، بنسخ الشريعة العيسوية ، فهم مصيبون في قولهم لا مخطئون. في تفسير دوالي ورجرد مينت ذيل شرح هذه الآية قول داكتر ميكائت هكذا : «بدّلت الشريعة قطعا بالنسبة إلى أحكام الذبائح والطهارة وغيرها». يعني رفعت.

التاسع عشر : الآية الثامنة عشر من الباب السابع المذكور هكذا : «لأن نسخ ما تقدّم من الحكم قد عرض لما فيه من الضعف وعدم الفائدة». ففي هذه الآية تصريح بأن نسخ أحكام التوراة لأجل أنها كانت ضعيفة بلا فائدة. في تفسير هنري واسكات : «رفعت الشريعة والكهانة اللّتان لا يحصل منهما التكميل ، وقام كاهن وعفو جديد يكمل منهما المصدّقون الصادقون».

العشرون : في الباب الثامن من العبرانية : «٧ فلو كان العهد الأول غير معترض عليه لم يوجد الثاني موضع ١٣ فبقوله عهدا جديدا صيّر الأول عتيقا أو الشيء العتيق والبالي قريب من الفناء». ففي هذا القول تصريح بأن أحكام التوراة كانت معيبة وقابلة للنسخ لكونها عتيقة بالية. في تفسير دوالي ورجرد مينت في ذيل شرح الآية الثالثة عشر قول يايل هكذا : «هذا ظاهر جدا أن الله تعالى يريد أن ينسخ العتيق الأنقص بالرسالة الجديدة الحسنى ، فلذلك يرفع المذهب الرسومي اليهودي ويقوم المذهب المسيحي مقامه».

الحادي والعشرون : في الآية التاسعة من الباب العاشر من العبرانية «فينسخ الأول حق يثبت الثاني». في تفسير دوالي ورجرد مينت في شرح الآية الثامنة والتاسعة قول يايل هكذا : «استدلّ الحواري في هاتين الآيتين وفيهما إشعار بكون ذبائح اليهود غير كافية ، ولذا تحمل المسيح على نفسه الموت ليجبر نقصانها ، ونسخ بفعل أحدهما استعمال الآخر». انتهى.

فظهر على اللبيب من الأمثلة المذكورة أمور : الأول : نسخ بعض الأحكام في الشريعة اللاحقة ليس بمختص بشريعتنا ، بل وجد في الشرائع السابقة أيضا. والثاني : ان الأحكام العملية للتوراة كلها ، أبدية كانت أو غير أبدية ، نسخت في الشريعة العيسوية. والثالث : ان لفظ النسخ أيضا موجود في كلام مقدّسهم بالنسبة إلى التوراة وأحكامها. والرابع : ان مقدّسهم أثبت الملازمة بين تبدّل الإمامة وتبدّل الشريعة. والخامس : ان مقدّسهم يدّعي أن الشيء العتيق البالي قريب من الفناء. فأقول : لمّا كانت الشريعة العيسوية بالنسبة إلى الشريعة المحمّديّة عتيقة ، فلا استبعاد في نسخها ، بل هو ضروري على وفق الأمر الرابع.

٢٤٠