إظهار الحق - ج ١ ـ ٢

رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي

إظهار الحق - ج ١ ـ ٢

المؤلف:

رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

الصالح. الآية التاسعة والثلاثون من الباب الخامس عشر من إنجيل مرقس هكذا : «ولما رأى قائد المائة الواقف مقابله أنه صرّح هكذا وأسلم الروح قال حقا كان هذا الإنسان ابن الله». ونقل لوقا قول القائد في الآية السابعة والأربعين من الباب الثالث والعشرين من إنجيله هكذا : «بالحقيقة كان هذا الإنسان بارا». ففي إنجيل مرقس لفظ ابن الله وفي إنجيل لوقا بدله لفظ البار واستعمل مثل هذا اللفظ في حق الصالح غير المسيح أيضا ، كما استعمل مثل ابن إبليس في حق الطالح في الباب الخامس من إنجيل متّى هكذا : «طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدّعون ٤٤ وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسبونكم ٤٥ لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات» فأطلق عيسى عليه‌السلام على صانعي السلام والصلح وعلى العاملين بالأعمال المذكورة لفظ أبناء الله وعلى الله لفظ الأب بالنسبة إليهم. وفي الباب الثامن من إنجيل يوحنا في المكالمة التي وقعت بين اليهود والمسيح هكذا : «٤١ أنتم تعملون أعمال أبيكم. فقالوا له إننا لم نولد من زنا لنا أب واحد وهو الله ٤٢ فقال لهم يسوع لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني إلخ ٤٤ أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا ذاك كان قتالا للناس في البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذب». فاليهود ادّعوا أن لنا أبا واحدا وهو الله ، وقال المسيح عليه‌السلام لا بل أبوكم الشيطان. وظاهر أن الله والشيطان ليس أبا لهم بالمعنى الحقيقي. فلا بدّ من الحمل على المعنى المجازي ، فغرض اليهود نحن صالحون ومطيعون لأمر الله ، وغرض المسيح عليه‌السلام أنكم لستم كذلك بل أنتم طالحون مطيعون للشيطان. وفي الباب الثالث من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا : «٩ كل من هو مولود من الله لا يفعل خطيئة لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله ١٠ بهذا أولاد الله طاهرون وأولاد إبليس إلخ. وفي الآية السابعة من الباب الرابع من الرسالة المذكورة «وكل من يحب فقد ولد من الله». وفي الباب الخامس من الرسالة المذكورة «كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله ، وكل من يحب الوالد يحب المولود منه أيضا ٢ بهذا نعرف أننا نحب أولاد الله إذا أحببنا الله وحفظنا وصاياه». والآية الرابعة عشر من الباب الثامن من الرسالة الرومية هكذا : «لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله». وفي الباب الثاني من رسالة بولس إلى أهل فيلبس هكذا : «افعلوا كل شيء بلا دمدمة ولا مجادلة ١٥ لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولاد الله بلا عيب». ودلالة هذه الأقوال ، على ما قلت ، غير خفيّة وإذا لم يفهم من إطلاق لفظ الله ومثله الألوهية ، كما عرفت في الأمر الرابع من المقدمة ، فكيف يفهم من لفظ ابن الله ومثله؟ سيما إذا لاحظنا كثرة وقوع المجاز في كتب العهد العتيق والجديد ، كما عرفت في المقدمة ، وسيما إذا لاحظنا أن

٢٨١

استعمال الأب والابن في كتب العهدين جاء في المواضع غير المحصورة. وأنقل بعضها بطريق الأنموذج :

١ ـ قال لوقا في الباب الثالث من إنجيله في بيان نسب المسيح عليه‌السلام أنه ابن يوسف وآدم ابن الله. وظاهر أن آدم عليه‌السلام ليس ابنا لله بالمعنى الحقيقي ولا إلها. لكن لما ولد بلا أبوين نسبه إلى الله. ولله درّ لوقا ، لقد أجاد هاهنا لأنه لما كان المسيح عليه‌السلام مولودا بلا أب فقط نسبه إلى الله.

٢ ـ في الباب الرابع من سفر الخروج قول الله هكذا : «٢٢ وتقول له هذا ما يقول الرب لبني بكري إسرائيل ٣٣ فقلت له أطلق ابني ليعبدني وان أبيت أن تطلقه هوذا أنا سأقتل ابنك بكرك». فأطلق على إسرائيل لفظ ابن الله في الموضعين ، بل أطلق عليه لفظ الابن البكر.

٣ ـ في الزبور الثامن والثمانين قول داود عليه‌السلام في خطاب الله هكذا : «١٩ حينئذ كلمت نبيّك بالوحي وقلت أني وضعت عونا على القوي ورفعت منتخبا من شعبي ٢٠ وجدت داود عبدي فمسحته بدهن قدسي ٢٦ هو يدعوني أنت أبي وإلهي وناصر خلاصي ٢٧ وأنا أيضا أجعله بكرا أعلى من كل ملوك الأرض». فأطلق على الله لفظ الأب ، وعلى داود لفظ القوي والمنتخب والمسيح وابن الله البكر وأعلى من كل ملوك الأرض.

٤ ـ الآية التاسعة من الباب الحادي والثلاثين من كتاب أرمياء قول الله هكذا : «إني صرت أبا لإسرائيل وإفرام هو بكري» فأطلق على إفرام لفظ ابن الله البكر. فلو كان إطلاق مثل هذه الألفاظ موجبا للألوهية لكان إسرائيل وداود وإفرام أحقاء بالألوهية ، لأن الابن البكر أحق بالإكرام من غيره بحسب الشرائع السابقة وبحسب الرواج العام أيضا. وإن قالوا جاء في حق عيسى عليه‌السلام لفظ الابن الوحيد ، قلنا ان الوحيد لا يمكن أن يكون بمعناه لأن الله أثبت له إخوة كثيرين ، وقال في حق الثلاثة منهم لفظ الابن البكر ، بل لا بدّ أن يكون بالمعنى المجازي مثل الابن.

٥ ـ في الباب السابع من سفر صموئيل الثاني قول الله تعالى في حق سليمان هكذا : «وأنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا». فلو كان إطلاق هذا اللفظ سببا للألوهية لكان سليمان عليه‌السلام أحق من المسيح عليه‌السلام لسبقه وكونه من آباء المسيح عليه‌السلام.

٦ ـ في الآية الأولى من الباب الرابع عشر ، والآية الثانية من الباب الأول والآية الأولى من الباب الثلاثين والآية الثامنة من الباب الثالث والستين من كتاب أشعيا ، والآية العاشرة من الباب الأول من كتاب هوشع ، جاء إطلاق أبناء الله على جميع بني إسرائيل.

٢٨٢

٧ ـ في الآية السادسة عشر من الباب الثالث والستين من كتاب أشعيا ، قول أشعيا في خطاب الله هكذا : «فإنك أنت أبونا وإبراهيم لم يعرفنا وإسرائيل جهلنا. أنت يا رب أبونا فخلصنا من الدهر اسمك». الآية الثامنة من الباب الرابع والستين من الكتاب المذكور هكذا : «والآن يا رب أنت أبونا» إلخ. فصرّح أشعيا عليه‌السلام في حقه وحق غيره من بني إسرائيل بأن الله أبونا.

٨ ـ الآية السابعة من الباب الثامن والثلاثين من كتاب أيوب هكذا : «إذا كان تسبح لي نجوم الصبح جميعا ويفرحون جميع بني الله».

٩ ـ قد عرفت في صدر الجواب أنه جاء إطلاق أبناء الله على الصالحين وعلى المؤمنين بالمسيح وعلى المحبين وعلى المطيعين لأمر الله وعلى العاملين بالأعمال الحسنة.

١٠ ـ الآية الخامسة من الزبور السابع والستين هكذا : «أبو اليتامى وحاكم الأرامل الله في موضع قدسه». فأطلق على الله لفظ أبي اليتامى.

١١ ـ في الباب السادس من سفر الخليقة هكذا : «٢ فرأى بنو الله بنات الناس أنهن حسنات واتخذوا لهم نساء من كل ما اختاروا ٤ فأما الجبابرة كانوا في تلك الأيام على الأرض لأن من بعد ما دخل أبناء الله على بنات الناس وولدن فهؤلاء هم أقوياء منذ الدهر مشهورون». والمراد بأبناء الله بنو الأشراف ، وببنات الناس بنات العامة ، ولذا ترجم مترجم الترجمة العربية المطبوعة سنة ١٨١١ الآية الأولى هكذا : «رأى بنو الأشراف بنات العامة حسانا فاتخذوا لهم نساء». فجاء إطلاق أبناء الله على أبناء الأشراف مطلقا ، وفهم منه صحة إطلاق الله عل الشريف أيضا.

١٢ ـ جاء في المواضع الكثيرة من الإنجيل إطلاق لفظ أبيكم على الله في خطاب التلاميذ وغيرهم.

١٣ ـ قد يضاف لفظ الابن والأب إلى شيء له مناسبة ما بمعناهما ، الحقيقي كإطلاق أبي الكذب على الشيطان كما عرفت ، وكإطلاق أبناء جهنم وأولاد أورشليم على اليهود في كلام المسيح عليه‌السلام في الباب الثالث والعشرين من إنجيل متّى. وجاء إطلاق أبناء الدهر على أهل الدنيا. وجاء إطلاق أبناء الله وأبناء القيامة على أهل الجنة في قول المسيح عليه‌السلام في الباب العشرين من لوقا. وفي الآية الخامسة من الباب الخامس من الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي جاء إطلاق أبناء النور وأبناء النهار على أهل تسالونيقي.

٢٨٣

الثاني : (١) في الآية الثالثة والعشرين من الباب الثامن من إنجيل يوحنا هكذا : «فقال لهم أنتم من أسفل ، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم». يعني أني إله نزلت من السماء وتجسّمت. أقول : لما كان هذا القول مخالفا للظاهر لأن عيسى عليه‌السلام كان من هذا العالم ، فأوّلوا بهذا التأويل ، وهو غير صحيح بوجهين : الأول : أنه مخالف للبراهين العقلية والنصوص. والثاني : أن عيسى عليه‌السلام قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضا في الآية التاسعة عشر من الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا هكذا : «لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته ، ولكن أنكم لستم من العالم ، بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم» ، وفي الباب السابع من إنجيل يوحنا هكذا : «١٤ لأنهم ليسوا من العالم ، كما أني أنا لست من العالم ١٦ ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم». فقال في حق تلاميذه أنهم ليسوا من العالم وسوّى بينه وبينهم في عدم الكون من هذا العالم. فلو كان هذا مستلزما للألوهية ، كما زعموا ، لزم أن يكونوا كلهم آلهة ، والعياذ بالله. بل التأويل الصحيح أنتم طالبوا الدنيا الدنية وأنا لست كذلك بل طالب الآخرة ورضاء الله ، وهذا المجاز شائع في الألسنة. يقال للزهاد والصلحاء أنهم ليسوا من الدنيا.

الثالث : في الآية الثلاثين من الباب العاشر من إنجيل يوحنا هكذا : «أنا والأب واحد». فهذا يدلّ على اتحاد المسيح بالله. أقول هذا الاستدلال غير صحيح بوجهين : الأول : ان المسيح عليه‌السلام عندهم أيضا إنسان ذو نفس ناطقة ، وليس بمتحد بهذا الاعتبار ، فيحتاجون إلى التأويل. فيقولون كما أنه إنسان كامل فكذلك إله كامل. فبالاعتبار الأول مغاير ، وبالاعتبار الثاني متحد. وقد عرفت أن هذا التأويل باطل. والثاني : ان مثل هذا وقع في حق الحواريين في الباب السابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا : «٢١ ليكون الجميع واحدا كما أنك أنت أيها الأب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضا واحدا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني ٢٢ وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد ٢٣ أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكملين إلى واحد» فقوله : (ليكون الجميع واحدا) وقوله : (ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد) وقوله : (ليكونوا مكملين إلى واحد) تدل على اتحادهم. وسوّى في القول الثاني بين اتحاده بالله وبين اتحاده فيما بينهم. وظاهر أن اتحاده فيما بينهم ليس حقيقيا ، فكذا اتحاده بالله. بل الحق أن الاتحاد بالله عبارة عن إطاعة أحكامه والعمل بالأعمال الصالحة. وفي نفس هذا الاتحاد المسيح والحواريون وجميع أهل الإيمان متساوية الأقدام ،

__________________

(١) يتابع المؤلّف هنا براهين وجوب التأويل وصولا إلى إبطال ألوهيّة المسيح ، تلك البراهين التي بدأها مع بداية الفصل الثالث هذا ص ٢٨٠.

٢٨٤

وإنما الفرق باعتبار القوّة والضعف. فاتحاد المسيح بهذا المعنى أشدّ وأقوى من اتحاد غيره. والدليل على كون الاتحاد عبارة عن هذا المعنى قول يوحنا في الباب الأول من رسالته الأولى وهو هكذا : «٥ وهذا هو الخبر الذي سمعناه منه ونخبركم به أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة ٦ إن قلنا أن لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق ٧ ولكن إن سلكنا في النور ما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض». والآية السادسة والسابعة في التراجم الفارسية هكذا (اگر گوييم كه با وى متحديم ودر ظلمت رفتار نماييم دروغكوييم ودر راستى عمل ننماييم) ٧ (واكر در روشنائى رفتار نماييم چنانچه او در روشنائى مى باشد با يكديكر متحد هستيم) فوقع فيها بدل لفظ الشركة لفظ الاتحاد فعلم أن الاتحاد بالله أو الشركة بالله عبارة عما قلنا.

الرابع : في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا : «٩ الذي رآني فقد رأى الأب فكيف تقول أنت أرنا الأب ١٠ ألست تؤمن أني أنا في الأب والأب فيّ. الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي ، لكن الأب الحال فيّ هو يعمل الأعمال» فقوله (الذي رآني فقد رأى الأب) وقوله : (أنا في الأب والأب فيّ) وقوله : (الأب الحال فيّ) دالة على اتحاد المسيح بالله. وهذا الاستدلال أيضا ضعيف بوجهين : أما الأول : فلأن رؤية الله في الدنيا ممتنعة عندهم ، كما عرفت في الأمر الرابع من المقدمة ، فيؤلونها بالمعرفة. ومعرفة المسيح باعتبار الجسمية أيضا لا تفيد الاتحاد ، فيقولون إن المراد بالمعرفة باعتبار الألوهية. والحلول الذي وقع في القول الثاني والثالث واجب التأويل عند جمهور أهل التثليث ، فيقولون أن المراد به الاتحاد الباطني. فبعد هذه التأويلات يقولون أنه لما كان إنسانا كاملا وإلها كاملا صحّ أقواله الثلاثة بالاعتبار الثاني. وقد عرفت مرارا أنه باطل ، لأن التأويل يجب أن لا يخالف البراهين والنصوص. وأما الثاني : فلأن الآية العشرين من الباب المذكور هكذا : «في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي وأنتم فيّ وأني فيكم». وقد عرفت في جواب الدليل الثالث أن المسيح قال في حق الحواريين : «أنا فيهم وأنت فيّ». وبديهي أن حال الحال حالّ في محل الحال. والآية التاسعة عشر من الباب السادس من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس هكذا : «أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم». والآية السادسة عشر من الباب السادس من الرسالة الثانية إلى قورنثيوس هكذا : «وآية موافقة لهيكل الله مع الأوثان فإنكم أنتم هيكل الله الحيّ» إلخ. والآية السادسة من الباب الرابع من الرسالة إلى أهل أفسس هكذا : «إله وآب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم». فلو كان الحلول مشعرا بالاتحاد ومثبتا للألوهية لزم أن يكون الحواريون ، بل جميع أهل قورنيثوس ، وكذا جميع أهل أفسس ، آلهة. بل الحق أن الأدنى إذا كان من أتباع الأعلى

٢٨٥

كان يكون رسوله أو عبده أو تلميذه أو قريبا من أقربائه. فالأمر المنسوب إلى الأدنى من التعظيم والتحقير والمحبة وغيرها ينسب إلى الأعلى مجازا. ولذلك قال المسيح عليه‌السلام في حق الحواريين «من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني» ، كما وقع في الآية الأربعين من الباب العاشر من إنجيل متّى. وقال في حق الولد الصغير «من قبل هذا الولد باسمي يقبلني ومن قبلني يقبل الذي أرسلني» كما هو مصرّح في الآية الثامنة والأربعين من الباب التاسع من إنجيل لوقا. وقال في حق السبعين الذين أرسلهم اثنين اثنين إلى البلاد «الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني» كما هو مصرّح في الآية السادسة عشر من الباب العاشر من إنجيل لوقا. وهكذا وقع في حق أصحاب اليمين وأصحاب الشمال في الباب الخامس والعشرين من إنجيل متّى. ولذلك قال الله على لسان أرمياء «أكلني ابتلعني بختنصر ملك بابل وجعلني كإناء فارغ كتنين ملأ بطنه من رخصتي وطردني» كما هو مصرّح في الباب الحادي والخمسين من كتاب أرمياء. ومثل هذا وقع في القرآن المجيد أيضا : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ...) [الفتح : ١٠] وقال مولانا المعنوي قدس‌سره في مثنويه :

گر تو خواهى همنشينى با خدا

رو نشين تو در حضور أوليا

فمعرفة المسيح بهذا الاعتبار بمنزلة معرفة الله. وأما حلول الغير في الله ، أو حلول الله فيه ، وكذا حلول الغير في المسيح ، أو حلول المسيح فيه ، فعبارة عن إطاعة أمرهما. في الباب الثالث من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا : «من يحفظ وصاياه يثبت فيه وهو فيه وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا». وقد يتمسكون على ألوهيته ببعض حالاته فيستدلون تارة أنه ولد بلا أب. وهذا الاستدلال ضعيف جدا ، لأن العالم حادث بأسره ، وما مضى على حدوثه إلى هذا الزمان ستة آلاف سنة على زعمهم. وكل مخلوق من السماء والأرض والجماد والنبات والحيوان وآدم خلق عندهم في أسبوع واحد ، فجميع الحيوانات مخلوقة بلا أب وأم. فكل من هذه يشارك المسيح في كونه مخلوقا بلا أب ، ويفوق عليه في كونه بلا أمّ. وتتولد أصناف من الحشرات في كل سنة في موسم نزول المطر بلا أب وأم ، فكيف يكون هذا الأمر سببا للألوهية؟ ولو نظرنا إلى نوع الإنسان فآدم عليه‌السلام يفوق عليه ، وكذلك ملكي صادوق الكاهن الذي هو معاصر إبراهيم عليه‌السلام. في الآية الثالثة من الباب السابع من الرسالة العبرانية حاله هكذا : «بلا أب بلا أم بلا نسب لا بداية أيام له ولا نهاية حياة». فيفوق المسيح في كونه بلا أم ، وفي كونه لا بداية له. ويستدلون تارة بمعجزاته. وهذا أيضا ضعيف ، لأن من أعظم معجزاته إحياء الموتى. فمع قطع النظر عن ثبوته وعن أنه يفهم

٢٨٦

من هذا الإنجيل المتعارف تكذيبه ، أقول أن عيسى عليه‌السلام ، يحسب هذا الإنجيل ، ما أحيا إلى زمان الصلب إلا ثلاثة أشخاص ، كما عرفت في الباب الأول. وأحيا حزقيال عليه‌السلام ألوفا ، كما هو مصرّح في الباب السابع والثلاثين من كتابه ، فهو أولى بأن يكون إلها. وأحيا إيلياء عليه‌السلام أيضا ميتا ، كما هو مصرّح في الباب السابع عشر من سفر الملوك الأول. وأحيا اليشع عليه‌السلام أيضا ميتا ، كما هو مصرّح في الباب الرابع من سفر الملوك الثاني ، وصدرت هذه المعجزة عن اليشع بعد موته : أن ميتا ألقي في قبره فحيي بإذن الله ، كما هو مصرّح في الباب الثالث عشر من السفر المذكور ، وأبرأ الأبرص من برصه ، كما هو مصرّح في الباب الخامس من السفر المذكور. وقد يتمسكون ببعض آيات كتب العهد العتيق وببعض أقوال الحواريين.

وإني قد نقلت هذه التمسكات مع أجوبتها في كتاب إزالة الأوهام. فمن أراد الاطلاع عليها فليرجع إليه. وتركت ذكرها في هذا الكتاب لأن التمسكات الأولية ضعيفة جدا ومع قطع النظر عن الضعف لا يثبت منها الألوهية ، على زعمهم أيضا ، ما لم يعترف أن المسيح إنسان كامل وإله كامل. وهذا التأويل باطل ، كما عرفت مرارا. والتمسكات الثانوية حالها كحال التمسكات بالأحوال المسيحية غالبا فيعامل بها معاملة أقوال المسيح من الحالات الثلاثة ، كما عرفت في صدر هذا الفصل. ولو فرضنا أن بعض القول منهم نص على هذا الأمر ، فيحمل على أنه بحسب اجتهادهم. وقد عرفت في الباب الأول أن جميع تحريراتهم ليست بالإلهام ، وأنه قد وقع منهم الأغلاط والاختلافات والتناقض يقينا. وقول مقدسهم بولس غير مسلّم عندنا لأنه ليس بحواري ولا واجب التسليم عندنا ، بل لا نسلم وثاقته. واعلم ، أرشدك الله تعالى ، إنما نقلت الأقوال المسيحية وأوّلتها لأجل إتمام الإلزام وإثبات أن تمسكهم بها ضعيف. وكذا ما قلت في أقوال الحواريين إنما هو على تقدير تسليم أنها أقوالهم ، ولا ثبت عندنا أنها أقوال المسيح عليه‌السلام والحواريين لأجل فقدان إسناد هذه الكتب ، كما عرفت في الباب الأول ، ولأجل وقوع التحريف فيها عموما وفي هذه المسألة خصوصا أيضا ، كما عرفت في الباب الثاني أن عادتهم في مثل هذه الأمور كانت كذلك. وعقيدتي أن المسيح والحواريين كانوا برآء من هذه العقيدة الكفرية يقينا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وأن الحواريين رسل رسول الله.

ووقعت بين الإمام الهمام الفخر الرازي عليه الرحمة وبين بعض القسيسين مناظرة بخوارزم. ولما كان نقلها لا يخلو من فائدة ، فانقلها. قال قدس‌سره في المجلد الثاني من تفسيره في سورة آل عمران تحت تفسير قوله تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ...) [آل عمران : ٦١].

٢٨٧

«اتفق أني حين كنت بخوارزم ، أخبرت أنه جاء نصراني يدّعي التحقيق والتعمق في مذهبهم. فذهبت إليه ، وشرعنا في الحديث. فقال لي : ما الدليل على نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقلت له : كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم‌السلام ، نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن رددنا التواتر أو قبلناه لكنّا قلنا أن المعجزة لا تدل على الصدق. فحينئذ بطلت نبوّة سائر الأنبياء عليهم‌السلام. وإن اعترفنا بصحة التواتر واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق ، ثم أنهما حاصلان في حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجب الاعتراف قطعا بنبوّة محمد عليه‌السلام ضرورة. إذ عند الاستواء في الدليل لا بدّ من الاستواء في حصول المدلول. فقال النصراني : لا أقول في عيسى عليه‌السلام أنه كان نبيّا ، بل أقول أنه كان إلها. فقلت له : الكلام في النبوّة لا بدّ وأن يكون مسبوقا بمعرفة الإله ، وهذا الذي تقوله باطل ، ويدل عليه أن الإله عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته ، يجب أن لا يكون جسما ولا متحيزا ولا عرضا. وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوما ، وقتل بعد أن كان حيا على قولكم ، وكان طفلا أولا ، ثم صار مترعرعا ، ثم صار شابا ، وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ. وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديما والمحتاج لا يكون غنيا والممكن لا يكون واجبا والمتغير لا يكون دائما (١). والوجه الثاني : في إبطال هذه المقالة ، أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حيّا على الخشبة وقد مزقوا ضلعه ، وأنه كان يحتال في الهرب منهم وفي الاختفاء عنهم ، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد. فإن كان إلها أو كان الإله حالا فيه أو كان جزءا من الإله حالا فيه ، فلم لم يدفعهم عن نفسه ، ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهم؟ وبالله انني لأتعجب جدا أن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول ويعتقد صحته فتكاد أن تكون بداهة العقل شاهدة بفساده. والوجه الثالث : وهو أنه إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد ، أو يقال حلّ الإله بكليته ، أو حلّ بعض الإله وجزء منه فيه. والأقسام الثلاثة باطلة. أما الأول فلأن إله العالم ، لو كان هو الجسم ، فحين قتله اليهود ، كان ذلك قولا بأن اليهود قتلوا إله العالم. فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إله؟ ثم أن أشدّ الناس ذلا ودناءة اليهود ، فالإله الذي تقتله اليهود إله في غاية العجز. وأما الثاني ، وهو أن الإله بكليته حلّ في هذا الجسم ، فهو أيضا فاسد. لأن الإله ، إن لم يكن جسما ولا عرضا ، امتنع حلوله في الجسم ، وإن كان جسما فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم ، وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله ، وإن كان عرضا كان محتاجا إلى المحل ، وكان الإله محتاجا إلى غيره وكل ذلك

__________________

(١) يتابع المؤلف تفصيل الأمر الأول في كون القرآن معجزا في البلاغة ...

٢٨٨

سخيف. وأما الثالث وهو أنه حلّ فيه بعض من أبعاض الإله وجزء من أجزائه ، فذلك أيضا محال. لأن ذلك الجزء ، إن كان معتبرا في الإلهية فعند انفصاله عن الإله وجب أن لا يبقى الإله إلها ، وإن لم يكن معتبرا في تحقيق الإلهية لم يكن جزءا من الإله. فثبت فساد هذه الأقسام ، فكان قول النصارى باطلا. الوجه الرابع : في بطلان قول النصارى ، ما ثبت بالتواتر من أن عيسى عليه‌السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله تعالى ولو كان إلها لاستحال ذلك ، لأن الإله لا يعبد نفسه. فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور دالة على فساد قولهم.

«ثم قلت للنصراني : وما الذي دلّك على كونه إلها؟ فقال : الذي دلّ عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإله تعالى. فقلت له : هل تسلّم أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا؟ فإن لم تسلّم ، لزمك من نفى العالم في الأزل نفى الصانع. وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ، فأقول لما جوزت حلول الإله في بدن عيسى عليه‌السلام ، فكيف عرفت أن الإله ما حلّ بدني وبدنك وفي بدن كل حيوان ونبات وجماد؟ فقال : الفرق ظاهر ، وذلك لأني إنما حكمت ذلك الحلول لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه ، والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك ، فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود هاهنا. فقلت له : تبيّن الآن أنك ما عرفت معنى قولي أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ، وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإله في بدن عيسى عليه‌السلام. فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل. فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك وعدم الحلول في حقي وفي حقك بل وفي حق الكلب والسنور والفأر. ثم قلت ان مذهبا يؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات الله في بدن الكلب والذباب لفي غاية الخسة والركاكة. [ثم] ان قلب العصا حية أبعد في العقل من إعادة الميت حيا لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان. فإذا لم يوجب قلب العصا حية ، كون موسى عليه‌السلام إلها وابنا للإله ، فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلهية ، كان ذلك أولى. وعند هذا انقطع النصراني ، ولم يبق له كلام. والله أعلم». انتهى كلامه بعبارته الشريفة.

٢٨٩
٢٩٠

الباب الخامس

في إثبات كون القرآن كلام الله ومعجزا ، ورفع شبهات القسيسين.

وضممت إلى مبحث القرآن مبحث إثبات صحة الأحاديث النبويّة

المروية في كتب الصحاح من كتب أهل السنة والجماعة

وجعلت هذا الباب مشتملا على أربعة فصول.

٢٩١
٢٩٢

الفصل الأول

في إثبات أن القرآن كلام الله

الأمور التي تدلّ على أن القرآن كلام الله كثيرة أكتفي منها على اثني عشر أمرا على عدد حواري المسيح ، وأترك الباقي. مثل أن يقال أن الخائب المخالف وقت بيان أمر من الأمور الدنيوية والدينية أيضا ، يكون ملحوظا في القرآن ، وأن بيان كل شيء ، ترغيبا كان أو ترهيبا ، رأفة كان أو عتابا ، يكون على درجة الاعتدال لا بالإفراط ولا بالتفريط. وهذان الأمران لا يوجدان في كلام الإنسان لأنه يتكلم في بيان كلّ حال بما يناسب ذلك الحال ، فلا يلاحظ في العتاب حال الذين هم قابلون للرأفة وبالعكس ، ولا يلاحظ عند ذكر الدنيا حال الآخرة وبالعكس ، ويقول في الغضب زائدا على الخطأ وهكذا أمور أخر.

الأمر الأول : كونه في الدرجة العالية من البلاغة التي لم يعهد مثلها في تراكيبهم وتقاصرت عنها درجات بلاغتهم. وهي عبارة عن التعبير باللفظ المعجب عن المعنى المناسب للمقام الذي أورد فيه الكلام بلا زيادة ولا نقصان في البيان والدلالة عليه. وعلى هذا ، كلما ازداد شرف الألفاظ ورونق المعاني ومطابقة الدلالة ، كان الكلام أبلغ. وتدل على كونه في هذه الدرجة وجوه :

أولها : أن فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات ، مثل وصف بعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة. وكذا فصاحة العجم ، سواء كانوا شاعرين أو كاتبين ، أكثرها في أمثال هذه الأشياء ، ودائرة الفصاحة والبلاغة فيها متّسعة جدا ، لأن طبائع أكثر الناس تكون مائلة إليها. وظهر من الزمان القديم في كل وقت وفي كل إقليم ـ من شاعر أو كاتب ـ مضمون جديد ونكتة لطيفة في بيان شيء من هذه الأشياء المذكورة ، ويكون المتأخر المتتبع واقفا على تدقيقات المتقدم غالبا. فلو كان الرجل سليم

٢٩٣

الذهن وتوجه إلى تحصيل ملكة في وصفها يحصل له بعد الممارسة والاشتغال ملكة البيان في وصف شيء من هذه الأشياء على قدر سلامة فكره وجودة ذهنه. وليس القرآن في بيان خصوص هذه الأشياء ، فكان يجب أن لا تحصل فيه الألفاظ الفصيحة التي اتفقت عليها العرب في كلامهم.

ثانيها : انه تعالى راعى فيه طريقة الصدقة وتنزه عن الكذب في جميعه. وكل شاعر ترك الكذب والتزم الصدق نزل شعره ولم يكن جيدا. ولذلك قيل : أحسن الشعر أكذبه. وترى أن لبيد بن ربيعة وحسّان بن ثابت ، رضي الله عنهما ، لما أسلما نزل شعرهما ، ولم يكن شعرهما الإسلامي كشعرهما الجاهلي. والقرآن جاء فصيحا مع التنزّه عن الكذب والمجازفة.

ثالثها : ان الكلام الفصيح إنما يتفق في القصيدة في البيت والبيتين والباقي لا يكون كذلك ، بخلاف القرآن. فإنه ، مع طوله ، فصيح كله ، بحيث يعجز الخلق عنه. ومن تأمل في قصة يوسف عليه‌السلام ، عرف أنها مع طولها وقعت على الدرجة العالية من البلاغة.

رابعها : ان الشاعر أو الكاتب إذا كرّر مضمونا أو قصة لا يكون كلامه الثاني مثل الأول. وقد تكررت قصص الأنبياء وأحوال المبدأ والمعاد والأحكام والصفات الإلهية ، واختلفت العبارة إيجازا واطنابا وتفننا في بيانها غيبة وخطابا. ومع ذلك ، كل واحد منها في نهاية الفصاحة ، ولم يظهر التفاوت أصلا.

خامسها : انه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم القبائح والحث على مكارم الأخلاق وترك الدنيا واختيار الآخرة ، وأمثال هذه الأمور توجب تقليل الفصاحة. ولذلك إذا قيل لشاعر فصيح أو كاتب بليغ أن يكتب تسعا أو عشرة من مسائل الفقه أو العقائد في عبارة فصيحة مشتملة على التشبيهات البليغة والاستعارات الدقيقة ، فإنه ، ولا بدّ ، يعجز في ذلك.

سادسها : ان كل شاعر يحسن كلامه في فن فإنه يضعف كلامه في غير ذلك الفن. كما قالوا في شعراء العرب أن شعر امرئ القيس يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل ، وشعر النابغة عند الخوف ، وشعر الأعشى عند الطلب ووصف الخمر ، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء. وقالوا في شعراء فارس ان النظامي والفردوسي وحيدان في بيان الحرب ، والسعدي فريد في الغزل ، والأنوري في القصائد. والقرآن جاء فصيحا على غاية الفصاحة في كل فن ترغيبا كان أو ترهيبا زجرا أو وعظا أو غيرها. وأورد هاهنا بطريق الأنموذج من كل فن آية آية : ففي الترغيب قوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧]. وفي الترغيب قوله : (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ)

٢٩٤

[إبراهيم : ١٥ ـ ١٧). وفي الزجر والتوبيخ قوله : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت : ٤٠]. وفي الوعظ قوله : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء : ٢٠٥ ـ ٢٠٧]. وفي الإلهيات قوله : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) [الرعد : ٨ ـ ٩].

سابعها : الأغلب أنه إذا انتقل الكلام من مضمون إلى مضمون آخر واشتمل على بيان أشياء مختلفة لا يبقى حسن ربط الكلام ، ويسقط عن الدرجة العالية للبلاغة. والقرآن يوجد فيه الانتقال من قصة إلى قصة أخرى ، والخروج من باب إلى باب ، والاشتمال على أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد وإثبات النبوّة وتوحيد الذات وتفريد الصفات ، وترغيب وترهيب وضرب مثال وبيان حال. ومع ذلك يوجد فيه كمال الربط والدرجة العالية للبلاغة الخارجة عن العادة فتحيّر فيها عقول بلغاء العرب.

ثامنها : ان القرآن في أغلب المواضع يأتي بلفظ يسير متضمن لمعنى كثير ويكون اللفظ أعذب. ومن تأمل في سورة (ص) علم ما قلت كيف صدرها وجمع فيها من أخبار الكفار وخلافهم ، وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم ، ومن تكذيبهم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعجبهم مما آتى به ، والخبر عن إجماع ملئهم على الكفر ، وظهور الحسد في كلامهم ، وتعجيزهم وتحقيرهم ووعيدهم بخزي الدنيا والآخرة ، وتكذيب الأمم قبلهم وإهلاك الله لهم ، ووعيد قريش وأمثالهم مثل مصابهم وحمل النبيّ على الصبر على أذاهم وتسليته بكل ما تقدم بيانه عنهم ، ثم شرع بعد تسليته في قصص الأنبياء مثل داود وسليمان وأيوب وإبراهيم ويعقوب وغيرهم عليهم‌السلام. وكل هذا الذكر ذكر من أولها إلى آخرها في ألفاظ يسيرة متضمنة لمعان كثيرة. وكذلك قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩]. فإن هذا القول لفظه يسير ومعناه كثير. ومع كونه بليغا مشتملا على المطابقة بين المعنيين المتقابلين ، وهما القصاص والحياة ، وعلى الغرابة بجعل القتل الذي هو مفوّت للحياة ظرفا لها ، وأولى من جميع الأقوال المشهورة عند العرب في هذا الباب لأنهم عبّروا عن هذا المعنى بقولهم : «قتل البعض أحياء للجميع» وقولهم «أكثروا القتل ليقل القتل» وقولهم «القتل أنفى للقتل». وأجود الأقوال المنقولة عن القول الأخير. ولفظ القرآن أفصح منه بستة أوجه : / ١ / انه أخصر من الكل لأن قوله (ولكم) لا يدخل في هذا الباب ، لأنه لا بدّ من تقدير ذلك في الكل. لأن قول القائل قتل

٢٩٥

البعض أحياء للجميع لا بدّ فيه من تقدير مثله ، وكذلك في قولهم القتل أنفى للقتل. / ٢ / ان قولهم القتل أنفى للقتل ظاهره يقتضي كون الشيء سببا لانتفاء نفسه ، بخلاف لفظ القرآن فإنه يقتضي أن نوعا من القتل وهو القصاص سبب لنوع من أنواع الحياة. / ٣ / ان في قولهم الأجود تكرير لفظ القتل بخلاف لفظ القرآن ، فإنه يفيد الردع عن القتل والجرح ، فهو أفيد. / ٥ / ان قولهم الأجود دال على ما هو المطلوب بالتبع بخلاف لفظ القرآن ، فإنه دالّ على ما هو مقصود أصلي ، لأن نفي القتل مطلوب تبعا من حيث أنه يتضمن حصول الحياة الذي هو مطلوب أصالة. / ٦ / ان القتل ظلما أيضا قتل ، مع أنه ليس بناف للقتل بخلاف القصاص ، فظاهر قولهم باطل. وأما لفظ القرآن فصحيح ظاهرا وباطنا. وكذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) في فرائضه (وَرَسُولَهُ) في سننه أو في جميع ما يأمرانه وينهيانه (وَيَخْشَ اللهَ) أي يخف خلافه عقابه وحسابه (وَيَتَّقْهِ) فيما بقي من عمره في جميع أمره (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) بالمراد في المبدأ والمعاد فإن هذا القول مع وجازة لفظه جامع لجميع الضروريات. حكي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يوما نائما في المسجد ، فإذا هو بقائم على رأسه يتشهد شهادة الحق. فأعلمه أنه من بطارقة الروم من جملة من يحسن فهم الألسن من العرب وغيرها ، وأنه سمع رجلا من أسراء المسلمين يقرأ آية من كتابكم ، فتأملها فإذا هي جامعة لكل ما أنزل الله على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة. وهي قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) [النساء : ١٣]. وحكي أن طبيبا نصرانيا حاذقا سأل الحسين بن علي الواقدي : لما ذا لم ينقل شيء في كتابكم عن علم الطب والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان؟ فقال الحسين : إن الله بيّن علم الطب كله في نصف آية. فسأل الطبيب النصراني عن هذه الآية ، فقال هي قوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) [الأعراف : ٣١]. ما أحلّ الله لكم من المطعومات والمشروبات (وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : ٣١] أي لا تتعدوا إلى الحرام ولا تكثروا الإنفاق المستقبح ، ولا تتناولوا مقدارا كثيرا يضركم ولا تحتاجون إليه. ثم سأل الطبيب : أقال نبيّكم أيضا شيئا في هذا الأمر؟ فقال الحسين : إن نبيّنا أيضا جمع الطب في ألفاظ يسيرة. فسأل الطبيب عنها فقال الحسين هي هذه : «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته». فقال الطبيب : الانصاف أن كتابكم ونبيّكم ما تركا حاجة إلى جالينوس. يعني بيّنا الأمر الذي هو رأس حفظ الصحة وإزالة المرض وأصلهما ومدارهما.

تاسعها : (١) أن الجزالة والعذوبة بمنزلة الصفتين المتضادتين ، واجتماعهما على ما هو ينبغي في كل جزء من الكلام الطويل خلاف العادة المعتادة للبلغاء. فاجتماعهما في كل

__________________

(١) يتابع المؤلف تفصيل الأمر الأول في كون القرآن معجزا في البلاغة ...

٢٩٦

موضع من مواضع القرآن كله دليل على كمال بلاغته وفصاحته الخارجتين عن العادة.

عاشرها : أنه مشتمل على جميع فنون البلاغة ، من ضروب التأكيد وأنواع التشبيه والتمثيل وأصناف الاستعارة ، وحسن المطالع والمقاطع وحسن الفواصل ، والتقديم والتأخير والفصل والوصل اللائق بالمقام ، وخلوه عن اللفظ الركيك والشاذ الخارج عن القياس النافر عن الاستعمال ، وغير ذلك من أنواع البلاغات. ولا يقدر أحد من البلغاء الكملاء من العرب العرباء إلّا على نوع أو نوعين من الأنواع المذكورة. ولو رام غيره في كلامه لم يتأتّ له وكان مقصرا. والقرآن محتو عليها كلها. فتلك عشرة كاملة ، وهذه الوجوه العشرة تدلّ على أن القرآن في الدرجة العالية من البلاغة الخارجة عن العادة يعرفه فصحاء العرب بسليقتهم وعلماء الفرق بمهارتهم في فن البيان وإحاطتهم بأساليب الكلام ، ومن كان أعرف بلغة العرب وفنون بلاغتها كان أعرف بإعجاز القرآن.

الأمر الثاني : (١) تأليفه العجيب وأسلوبه الغريب في المطالع والمقاطع والفواصل ، مع اشتماله على دقائق البيان وحقائق العرفان وحسن العبارة ولطف الإشارة وسلاسة التركيب وسلامة الترتيب ، فتحيرت فيه عقول العرب العرباء وفهوم الفصحاء ، والحكمة في هذه المخالفة أن لا يبقى لمتعسف عنيد مظنة السرقة. ويمتاز هذا الكلام عن كلامهم ويظهر تفوقه ، لأن البليغ ، ناظما كان أو ناثرا ، يجتهد في هذه المواضع اجتهادا كاملا ويمدح ويعاب عليه غالبا في هذه المواضع ، كما عيب على مطلع امرئ القيس :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

بأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ وسهولة السبك وكثرة المعاني ، فإنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل ، وأن الشطر الثاني لا يوجد فيه شيء من ذلك. وعيب على مطلع أبي النجم الشاعر المشهور ، فإنه دخل على هشام بن عبد الملك فأنشده :

صفراء قد كدت ولما تفعل

كأنها في أفق عين الأحول

وكان هشام أحول. فأخرجه وأمر بحبسه. وعيب على مطلع جرير ، فإنه دخل على عبد الملك وقد مدحه بقصيدة حائية أولها :

أتصحو أم فؤادك غير صاح

__________________

(١) عودة إلى بداية «الأمر الأول» من الفصل الأول من الباب الخامس ، تدرك الأمر السابق لهذا الأمر.

٢٩٧

فقال له عبد الملك : فؤادك يا ابن الفاعلة. وعيب على مطلع البحتري ، فإنه أنشد يوسف بن محمد قصيدته التي مطلعها :

لك الويل من ليل تقاصر آخره

فقال : بل لك الويل والخزي. وعيب على مطلع إسحاق الموصلي الأديب الحاذق ، فإنه دخل على المعتصم وقد فرغ من بناء قصره بالميدان وأنشده قصيدته التي مطلعها :

يا دار غيّرك البلى ومحاك

يا ليت شعري ما الذي أبلاك

فتطير المعتصم من هذا المطلع وأمر بهدم القصر على الفور.

وهكذا قد خطئ أكثر الشعراء المشهورين في المواضع المذكورة. وأشراف العرب ، مع كمال حذاقتهم في أسرار الكلام وشدّة عداوتهم للإسلام ، لم يجدوا في بلاغة القرآن وحسن نظمه وأسلوبه مجالا ، ولم يوردوا في القدح مقالا ، بل اعترفوا أنه ليس من جنس خطب الخطباء وشعر الشعراء ، ونسبوه تارة إلى السحر تعجبا من فصاحته وحسن نظمه ، وقالوا تارة إنه إفك افتراه وأساطير الأولين ، وقالوا تارة لأصحابهم وأحبابهم لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلّكم تغلبون. وهذه كلها دأب المحجوج المبهوت. فثبت أن القرآن معجز ببلاغته وفصاحته وحسن نظمه. وكيف يتصور أن يكون الفصحاء والبلغاء من العرب العرباء كثيرين كثرة رمال الدهناء وحصى البطحاء ، ومشهورين بغاية العصبية والحمية والجاهلية وتهالكهم على المباراة والمباهاة والدفاع عن الاحساب ، فيتركون الأمر الأسهل الذي هو الاتيان بمقدار أقصر سورة ، ويختارون الأشد الأصعب مثل الجلاء وبذل المهج والأرواح ، ويبتلون بسبي الذراري ونهب الأموال ، ومخالفهم المتحدي يقرعهم إلى مدة على رءوس الملأ بأمثال هذه الأقوال : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٣٨]. (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٣ ـ ٢٤] (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)) [الإسراء : ٨٨] ولو كانوا يظنون أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعان بغيره لأمكنهم أيضا أن يستعينوا بغيرهم لأنه كأولئك المنكرين في معرفة اللغة وفي المكنة من الاستعانة. فلما لم يفعلوا ذلك ، وآثروا المقارعة على المعارضة والمقاتلة على المقاولة ، ثبت أن بلاغة القرآن كانت مسلمة عندهم ، وكانوا عاجزين عن المعارضة.

٢٩٨

غاية الأمر أنهم صاروا مفترقين بين مصدق به وبمن أنزل عليه وبين متحير في بديع بلاغته. روي أنه سمع الوليد بن المغيرة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكرون. فقال : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر ، ما يقول هذا بشر. وروي أيضا أنه لما سمع القرآن رق قلبه فجاءه أبو جهل ـ وكان ابن أخيه ـ منكرا عليه ، قال : والله ما منكم أحدا أعلم بالأشعار مني. والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا. وروي أيضا أنه جمع قريشا عند حضور الموسم وقال : إن وفود العرب ترد العرب ، فأجمعوا فيه رأيا لا يكذب بعضكم بعضا. قالوا : تقول كاهن. قال : والله ما هو بكاهن بزمزمته ولا سجعه. قالوا : مجنون. قال : ما هو بمجنون ولا بحنقه ولا وسوسته. قالوا : فنقول شاعر. قال : ما هو بشاعر ، قد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه. قالوا : فنقول ساحر. قال ما هو بساحر ولا نفثه ولا عقده. قالوا : فما تقول؟ قال : ما أنتم بقائلين شيئا من هذا إلا وأنا أعرف أنه باطل ، وأن أقرب القول أنه ساحر. ثم قال : فإنه سحر يفرق به بين المرء وابنه ، والمرء وأخيه ، والمرء وزوجه ، والمرء وعشيرته. فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس عن متابعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأنزل الله تعالى في الوليد : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدّثر : ١١]. وروي أن عتبة كلم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به من خلاف قومه ، فتلا عليه : (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ) إلى قوله : (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصّلت : ١ ـ ١٣] فأمسك عتبة بيده على فيه وناشده الرحم أن يكف. وفي رواية : فجعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ ، وعتبة مصغ ملق بيديه خلف ظهره معتمد عليهما حتى انتهى إلى السجدة ، فسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقام عتبة لا يدري بما يراجعه. ويرجع إلى أهله ولم يخرج إلى قومه حتى أتوه. فاعتذر لهم ، وقال : والله لقد كلمني بكلام ما سمعت أذناي بمثله قط ، فما دريت ما أقول له. وذكر أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤]. فسجد ، وقال سجدت لفصاحته. وسمع رجل آخر من المشركين رجلا من المسلمين يقرأ (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) [يوسف : ٨٠] فقال : أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. وحكى الأصمعي أنه سمع جارية تتكلم بعبارة فصيحة وإشارة بليغة ، وهي خماسية أو سداسية ، وهي تقول أستغفر الله من ذنوبي كلها. فقال لها : ممّ تستغفرين ولم يجر عليك قلم؟ فقالت :

أستغفر الله لذنبي كله

قتلت إنسانا بغير حله

مثل غزال ناعم في دله

انتصف الليل ولم أصله

٢٩٩

فقال لها : قاتلك الله ، ما أفصحك فقالت : أو يعدّ هذا فصاحة بعد قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٧]. فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. وفي حديث إسلام أبي ذر ، وصف أخاه أنيسا فقال : والله ، ما سمعت بأشعر من أخي أنيس. لقد ناقض اثني عشر شاعرا في الجاهلية أنا أحدهم. وإنه انطلق إلى مكة وجاءني ، قلت : فما يقول الناس؟ قال : يقولون شاعر كاهن ساحر. ثم قال لقد سمعت ما قال الكهنة ، فما هو قولهم ولقد وضعته على إقراء الشعر فلم يلتئم وما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر وأنه لصادق وأنهم لكاذبون. وروي في الصحيحين عن جبير بن مطعم رضي الله عنه ، قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في المغرب بالطور [٣٥ ـ ٣٧] ، فلما بلغ هذه الآية : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) كاد قلبي أن يطير للإسلام. وقد حكي أن ابن المقنع طلب معارضة القرآن وشرع فيه ، فمرّ بصبي يقرأ (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) [هود : ٤٤]. فرجع ، فمحا ما عمل ، وقال : أشهد أن هذا لا يعارض وما هو من كلام البشر. وكان يحيى بن حكم الغزالي بليغ الأندلس في زمنه ، فحكى أنه رام شيئا من هذا فنظر في سورة الإخلاص ليأتي على أسلوبها وينظم الكلام على منوالها ، قال : فاعترتني منه خشية ورقة حملتني على التوبة والإنابة. وقال الناظم من المعتزلة : إعجاز القرآن بالصرف على المعنى ، أن العرب كانت قادرة على كلام مثل القرآن قبل مبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكن الله صرفهم عن معارضته بسبب الدواعي بعد المبعث ، فهذا الصرف خارق للعادة فيكون معجزا. فهو أيضا يسلم أن القرآن معجز لأجل الصرف ، ومثله غير مقدور لهم بعد المبعث ، وإنما نزاعه في كونه مقدورا قبل المبعث وقوله غير صحيح بوجوه : الأول : انه لو كان كذا لعارضوا القرآن بالكلام الذي صدر عنهم قبل المبعث ويكون مثل القرآن. الثاني : ان فصحاء العرب إنما كانوا يتعجبون من حسن نظمه وبلاغته وسلاسته في جزالته لا لعدم تأتّي المعارضة مع سهولتها في نفسها. الثالث : انه لو قصد الإعجاز بالصرف لكان الأنسب ترك الاعتناء ببلاغته وعلو طبقته ، لأن القرآن ، على هذا التقدير ، كلما كان أنزل في البلاغة وأدخل في الركاكة كان عدم تيسر المعارضة أبلغ في خرق العادة. والرابع : يأباه قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨].

فإن قيل إن فصحاء العرب لما كانوا قادرين على التكلم بمثل مفردات السورة ومركباتها

٣٠٠