زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٥

وصلته به. وفي معنى «مقرّنين» ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم يقرّنون مع الشّياطين ، قاله ابن عباس. والثاني : أنّ أيديهم وأرجلهم قرنت إلى رقابهم ، قاله ابن زيد. والثالث : يقرّن بعضهم إلى بعض ، قاله ابن قتيبة. وفي الأصفاد ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الأغلال ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزّجّاج ، وابن الأنباري. والثاني : القيود والأغلال ، قاله قتادة. والثالث : القيود ، قاله أبو سليمان الدّمشقي. فأمّا السّرابيل ، فقال أبو عبيدة : هي القمص ، واحدها سربال. وقال الزّجّاج : السّربال : كلّ ما لبس. وفي القطران ثلاث لغات : فتح القاف وكسر الطاء ، وفتح القاف مع تسكين الطاء ، وكسر القاف مع تسكين الطاء ، وفي معناه قولان : أحدهما : أنه النّحاس المذاب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : أنه قطران الإبل ، قاله الحسن ، وهو شيء يتحلّب من شجر تهنأ به الإبل. قال الزّجّاج : وإنما جعل لهم القطران ، لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود ، ولو أراد الله تعالى المبالغة في إحراقهم بغير ذلك لقدر ، ولكنه حذّرهم ما يعرفون حقيقته. وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو مجلز ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن أبي عبلة ، وأبو حاتم عن يعقوب : «من قطر» بكسر القاف وسكون الطاء والتنوين «آن» بقطع الهمزة وفتحها ومدّها. والقطر : النّحاس ، وآن : قد انتهى حرّه. قوله تعالى : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) : أي تعلوها. واللام في (لِيَجْزِيَ) متعلّقة بقوله : (وَبَرَزُوا).

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

قوله تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) في المشار إليه قولان : أحدهما : أنه القرآن. والثاني : الإنذار. والبلاغ : الكفاية. قال مقاتل : والمراد بالناس : أهل مكّة.

قوله تعالى : (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) أي : أنزل لينذروا به ، وليعملوا بما فيه من الحجج (أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ) أي : وليتّعظ (أُولُوا الْأَلْبابِ).

٥٢١

سورة الحجر

وهي مكّيّة كلّها من غير خلاف نعلمه

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١))

قوله تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) قد سبق بيانه. قوله تعالى : (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) فيه قولان : أحدهما : أنّ القرآن : هو الكتاب ، جمع له بين الاسمين. والثاني : أنّ الكتاب : هو التّوراة والإنجيل ، والقرآن : كتابنا. وقد ذكرنا في أوّل يوسف معنى المبين.

(رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢))

قوله تعالى : (رُبَما) وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ «ربّما» مشدّدة. وقرأ نافع ، وعاصم ، وعبد الوارث «ربما» بالتّخفيف. قال الفرّاء : أسد وتميم يقولون : «ربّما» بالتشديد ، وأهل الحجاز وكثير من قيس يقولون : «ربما» بالتّخفيف. قال الفرّاء : أسد وتميم يقولون : «ربّما» بالتشديد ، وأهل الحجاز وكثير من قيس يقولون : «ربما» بالتخفيف. وتيم الرّباب يقولون : «ربّما» بفتح الراء. وقيل : إنما قرئت بالتّخفيف ، لما فيها من التّضعيف ، والحروف المضاعفة قد تحذف ، نحو «إنّ» و «لكنّ» فإنهم قد خفّفوها. قال الزّجّاج : يقولون : ربّ رجل جاءني ، ورب رجل جاءني ، وأنشد :

أزهير إن يشب القذال فإنّني

رب هيضل مرس لففت بهيضل (١)

هذا البيت لأبي كبير الهذلي ، وفي ديوانه :

رب هيضل لجب لففت بهيضل

والهيضل : جمع هيضلة ، وهي الجماعة يغرى بهم ، يقول لففتهم بأعدائهم في القتال.

و «ربّ» كلمة موضوعة للتّقليل ، كما أنّ «كم» للتّكثير ، وإنما زيدت «ما» مع «ربّ» ليليها الفعل ، تقول : ربّ رجل جاءني ، وربّما جاءني زيد. وقال الأخفش : أدخل مع «ربّ» ما ، ليتكلّم بالفعل بعدها ، وإن شئت جعلت «ما» بمنزلة «شيء» ، فكأنّك قلت : ربّ شيء ، أي : ربّ ودّ يودّه الذين كفروا. وقال أبو سليمان الدّمشقي : «ما» ها هنا بمعنى «حين» ، فالمعنى : ربّ حين يودّون فيه. واختلف المفسّرون متى يقع هذا من الكفّار ، على قولين :

أحدهما : أنه في الآخرة. ومتى يكون ذلك؟ فيه أربعة أقوال :

__________________

(١) «ديوان الهذليين» ٢ / ٨٩. والقذال : جماع مؤخر الرأس ، معقد العذار من الفرس خلف الناصية.

٥٢٢

(٨٤٢) أحدها : «أنه إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة ، قال الكفّار للمسلمين : ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها ؛ فسمع الله ما قالوا ، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا ، فلمّا رأى ذلك الكفار ، قالوا : يا ليتنا كنّا مسلمين فنخرج كما أخرجوا» رواه أبو موسى الأشعريّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذهب إليه ابن عباس في رواية وأنس بن مالك ، ومجاهد ، وعطاء ، وأبو العالية ، وإبراهيم. والثاني : أنه ما يزال الله يرحم ويشفّع حتى يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنّة ، فذلك حين يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين ، رواه مجاهد عن ابن عباس. والثالث : أنّ الكفار إذا عاينوا القيامة ، ودّوا لو كانوا مسلمين ، ذكره الزّجّاج. والرابع : أنه كلّما رأى أهل الكفر حالا من أحوال القيامة يعذّب فيها الكافر ويسلم من مكروهها المؤمن ، ودّوا ذلك ، ذكره ابن الأنباري.

والقول الثاني : أنه في الدنيا ، إذا عاينوا وتبيّن لهم الضّلال من الهدى وعلموا مصيرهم ، ودّوا ذلك ، قاله الضّحّاك.

فإن قيل : إذا قلتم : إنّ «ربّ» للتّقليل ، وهذه الآية خارجة مخرج الوعيد ، فإنّما يناسب الوعيد تكثير ما يتواعد به؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري : أحدها : أنّ «ربما» تقع على التّقليل والتّكثير ، كما يقع النّاهل على العطشان والرّيّان ، والجون على الأسود والأبيض. والثاني : أنّ أهوال القيامة وما يقع بهم من الأهوال تكثر عليهم ، فإذا عادت إليهم عقولهم ، ودّوا ذلك. والثالث : أنّ هذا الذي خوّفوا به ، لو كان مما يودّ في حال واحدة من أحوال العذاب ، أو كان الإنسان يخاف النّدم إذا حصل فيه ولا يتيقّنه ، لوجب عليه اجتنابه.

فإن قيل : كيف جاء بعد «ربما» مستقبل ، وسبيلها أن يأتي بعدها الماضي ، تقول : ربما لقيت عبد الله؟ فالجواب : أنّ ما وعد الله حقّ ، فمستقبله بمنزلة الماضي ، يدلّ عليه قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) (١) وقوله : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٢) (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) (٣) ، على أنّ الكسائيّ

____________________________________

(٨٤٢) حسن. أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» ٨٤٣ والطبراني كما في «تفسير ابن كثير» ٢ / ٦٧٤ والحاكم ٢ / ٢٤٢ والبيهقي في «البعث والنشور» ٨٥ من طريق خالد بن نافع الأشعري عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى مرفوعا. وأخرجه الطبري ٢١٠٠٥ من طريق خالد بن نافع بالإسناد المذكور عن أبي موسى الأشعري قال : بلغنا أنه إذا كان يوم القيامة ... فذكره ثم قال في عجزه : «ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ...)». وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي؟ ومداره على خالد بن نافع قال الحافظ في «لسان الميزان» : ضعفه أبو زرعة والنسائي ، وهو من أولاد أبي موسى وقال أبو حاتم : ليس بقوي يكتب حديثه.

وقال أبو داود : متروك. وهذا تجاوز في الحد فإن الرجل قد حدّث عنه أحمد بن حنبل ومسدد ، فلا يستحق الترك ا ه. وله شاهد من حديث جابر : أخرجه النسائي في «التفسير» ٢٩١ والطبراني في «الأوسط» ٥١٤٢.

وإسناده حسن فيه محمد بن عباد بن الزبرقان ، وهو صدوق يهم كما في «التقريب». وله شاهد آخر من حديث أنس : أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» ٨٤٤ وإسناده منقطع فيه أبو الخطاب حرب بن ميمون الراوي عن أنس لا يعرف له رواية عن أحد من الصحابة. الخلاصة : هو حديث حسن بطرقه وشواهده.

__________________

(١) سورة المائدة : ١١٦.

(٢) سورة الأعراف : ٤٤.

(٣) سورة سبأ : ٥١.

٥٢٣

والفرّاء حكيا عن العرب أنهم يقولون : ربّما يندم فلان ، قال الشاعر :

ربّما تجزع النّفوس من الأم

ر له فرجة كحلّ العقال (١)

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣))

قوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) أي : دع الكفار يأخذوا حظوظهم في الدنيا ، (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أي : ويشغلهم ما يأملون في الدنيا عن أخذ حظّهم من الإيمان والطاعة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) إذا وردوا القيامة وبال ما صنعوا ، وهذا وعيد وتهديد ، وهذه الآية عند المفسّرين منسوخة بآية السّيف.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥))

قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي : ما عذّبنا من أهل قرية (إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أي أجل موقّت لا يتقدّم ولا يتأخّر عنه. (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) «من» صلة ، والمعنى : ما تتقدّم وقتها الذي قدر لها بلوغه ، ولا تستأخر عنه. قال الفرّاء : إنما قال : «أجلها» لأنّ الأمّة لفظها مؤنّث ، وإنما قال : «يستأخرون» إخراجا له على معنى الرّجال.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨))

قوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) قال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أبي أميّة والنّضر بن الحارث ونوفل بن خويلد والوليد بن المغيرة. قال ابن عباس : والذّكر ؛ القرآن. وإنما قالوا هذا استهزاء ، لو أيقنوا أنه نزّل عليه الذّكر ، ما قالوا (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ). قال أبو عليّ الفارسيّ : وجواب هذه الآية في سورة أخرى في قوله تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (٢).

قوله تعالى : (لَوْ ما تَأْتِينا) قال الفرّاء : «لو ما» و «لو لا» لغتان معناهما : هلّا ، وكذلك قال أبو عبيدة : هما بمعنى واحد ، وأنشد لابن مقبل :

لو ما الحياء ولو ما الدّين عبتكما

ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري

قال المفسّرون : إنما سألوا الملائكة ليشهدوا له بصدقه ، وأنّ الله أرسله ، فأجابهم الله تعالى بقوله : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر «ما تنزّل» بالتاء المفتوحة «الملائكة» بالرفع. وروى أبو بكر عن عاصم «ما تنزّل» بضمّ التاء على ما لم يسمّ فاعله. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم ، وخلف «ما ننزّل» بالنون والزاي مشددة «الملائكة» نصبا. وفي المراد بالحق أربعة أقوال : أحدها : أنه العذاب إن لم يؤمنوا ، قاله الحسن. والثاني : الرّسالة ، قاله مجاهد. والثالث : قبض الأرواح عند الموت ، قاله ابن السّائب. والرابع : أنه القرآن ، حكاه الماوردي.

قوله تعالى : (وَما كانُوا) يعني المشركين (إِذاً مُنْظَرِينَ) أي عند نزول الملائكة إذا نزلت.

__________________

(١) البيت لأمية بن أبي الصلت كما في «اللسان» مادة «فرج». والفرجة : الراحة من حزن أو مرض.

(٢) سورة القلم : ٢.

٥٢٤

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩))

قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، من عادة الملوك إذا فعلوا شيئا ، قال أحدهم : نحن فعلنا ، يريد نفسه وأتباعه ، ثم صار هذا عادة للملك في خطابه ، وإن انفرد بفعل الشيء ، فخوطبت العرب بما تعقل من كلامها. والذّكر : القرآن ، في قول جميع المفسّرين. وفي هاء «له» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الذّكر ، قاله الأكثرون. قال قتادة : أنزله الله ثم حفظه ، فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ، ولا ينقص منه حقّا. والثّاني : أنها ترجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمعنى : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من الشّياطين والأعداء ، لقولهم : «إنك لمجنون» ، هذا قول ابن السّائب ، ومقاتل.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يعني : رسلا ، فحذف المفعول ، لدلالة الإرسال عليه. والشيع : الفرق ، وحكي عن الفرّاء أنه قال : الشّيعة : الأمّة المتابعة بعضها بعضا فيما يجتمعون عليه من أمر.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١))

قوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) هذا تعزية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : إنّ كلّ نبيّ قبلك كان مبتلى بقومه كما ابتليت.

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣))

قوله تعالى : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) في المشار إليه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الشّرك ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وابن زيد. والثاني : أنه الاستهزاء ، قاله قتادة. والثالث : التّكذيب ، قاله ابن جريج ، والفرّاء. ومعنى الآية : كما سلكنا الكفر في قلوب شيع الأوّلين ، ندخل في قلوب هؤلاء التّكذيب فلا يؤمنوا. ثم أخبر عن هؤلاء المشركين ، فقال تعالى : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ). وفي المشار إليه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الرسول. والثاني : القرآن. والثالث : العذاب.

قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) فيه قولان : أحدهما : مضت سنّة الله في إهلاك المكذّبين. والثاني : مضت سنّتهم بتكذيب الأنبياء.

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥))

قوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ) يعني : كفّار مكّة (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) أي : يصعدون ، يقال : ظلّ يفعل كذا : إذا فعله بالنّهار. وفي المشار إليهم بهذا الصّعود قولان : أحدهما : أنهم الملائكة ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك ، فالمعنى : لو كشف عن أبصار هؤلاء فرأوا بابا مفتوحا في السماء والملائكة تصعد فيه ، لما آمنوا به. والثاني : أنهم المشركون ، قاله الحسن ، وقتادة ، فيكون المعنى : لو وصّلناهم إلى صعود السماء لم يستشعروا إلّا الكفر ، لعنادهم.

٥٢٥

قوله تعالى : (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) قرأ الأكثرون بتشديد الكاف. وقرأ ابن كثير ، وعبد الوارث بتخفيفها. قال الفرّاء : ومعنى القراءتين متقارب ، والمعنى : حبست ، من قولهم : سكرت الريح : إذا سكنت وركدت. وقال أبو عمرو بن العلاء : معنى «سكرت» بالتخفيف ، مأخوذ من سكر الشراب ، يعني : أنّ الأبصار حارت ، ووقع بها من فساد النّظر مثل ما يقع بالرجل السّكران من تغيّر العقل. قال ابن الأنباري : إذا كان هذا معنى الوصف ، فسكّرت ، بالتشديد ، يراد به وقوع هذا الأمر مرّة بعد مرّة. وقال أبو عبيدة : «سكّرت» بالتشديد ، من السّكور التي تمنع الماء الجرية ، فكأنّ هذه الأبصار منعت من النّظر كما يمنع السّكر الماء من الجري. وقال الزّجّاج : «سكّرت» بالتشديد ، فسّروها : أغشيت ، و «سكرت» بالتخفيف : تحيّرت وسكنت عن أن تنظر ، والعرب تقول : سكرت الريح تسكر : إذا سكنت. وروى العوفيّ عن ابن عباس : (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) قال : أخذ بأبصارنا وشبّه علينا ، وإنما سحرنا. وقال مجاهد : «سكّرت» سدّت بالسّحر ، فيتماثل لأبصارنا غير ما ترى.

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) في البروج ثلاثة أقوال : أحدها : أنها بروج الشمس والقمر ، أي : منازلهما ، قاله ابن عباس ، وأبو عبيدة في آخرين. قال ابن قتيبة : وأسماؤها : الحمل ، والثّور ، والجوزاء ، والسّرطان ، والأسد ، والسّنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدّلو ، والحوت. والثاني : أنها قصور ، روي عن ابن عباس أيضا. وقال عطيّة : هي قصور في السماء فيها الحرس. وقال ابن قتيبة : أصل البروج : الحصون. والثالث : أنها الكواكب ، قاله مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل. قال أبو صالح : هي النّجوم العظام. قال قتادة : سمّيت بروجا ، لظهورها.

قوله تعالى : (وَزَيَّنَّاها) أي : حسّنّاها بالكواكب. وفي المراد بالنّاظرين قولان :

أحدهما : أنهم المبصرون. والثاني : المعتبرون.

قوله تعالى : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي : حفظناها أن يصل إليها شيطان أو يعلم من أمرها شيئا إلّا استراقا ، ثم يتبعه الشّهاب. والرّجيم مشروح في سورة آل عمران (١). واختلف العلماء : هل كانت الشّياطين ترمى بالنّجوم قبل مبعث نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أم لا؟ على قولين : أحدهما : أنها لم ترم حتى بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا المعنى : مذكور في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس.

(٨٤٣) وقد أخرج في «الصّحيحين» من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : «انطلق

____________________________________

(٨٤٣) صحيح. أخرجه البخاري ٧٧٣ و ٤٩٢١ ، ومسلم ٤٤٩ ، والترمذي ٣٣٢٠ ، وأحمد ١ / ٢٥٢ و ٢٧٠ ، وأبو يعلى ٢٣٦٩ من حديث ابن عباس قال : انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قال : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث ، فاضربوا

__________________

(١) عند الآية : ٣٦.

٥٢٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشّياطين وبين خبر السّماء ، وأرسلت عليهم الشّهب». وظاهر هذا الحديث أنها لم تكن قبل ذلك. قال الزّجّاج : ويدل على أنها إنما كانت بعد مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ شعراء العرب الذين يمثّلون بالبرق والأشياء المسرعة ، لم يوجد في أشعارها ذكر الكواكب المنقضّة ، فلما حدثت بعد مولد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استعملت الشعراء ذكرها ، فقال ذو الرّمّة :

كأنّه كوكب في إثر عفرية

مسوّم في سواد الليل منقضب (١)

والثاني : أنه قد كان ذلك قبل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٨٤٤) فروى مسلم في «صحيحه» من حديث عليّ بن الحسين عن ابن عباس قال : بينا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس في نفر من أصحابه ، إذ رمي بنجم ، فاستنار ، فقال : «ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية»؟ قالوا : كنّا نقول : يموت عظيم ، أو يولد عظيم ، قال : «فإنّها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربّنا إذا قضى أمرا ، سبّح حملة العرش ، ثم سبّح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التّسبيح أهل هذه السماء ، ثم يستخبر أهل كلّ سماء أهل سماء ، حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، وتخطف الجنّ ويرمون ، فما جاءوا به على وجهه فهو حقّ ، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون». وروي عن ابن عباس أنّ الشياطين كانت لا تحجب عن السّماوات ، فلمّا ولد عيسى ، منعت من ثلاث سماوات ، فلمّا ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منعوا من السّماوات كلّها. وقال الزّهريّ : قد كان يرمى بالنّجوم قبل مبعث رسول الله ، ولكنّها غلّظت حين بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا مذهب ابن قتيبة ، قال : وعلى هذا وجدنا الشعر القديم ، قال بشر بن أبي خازم ، وهو جاهليّ :

والعير يرهقها الغبار وجحشها

ينقضّ خلفهما انقضاض الكوكب

وقال أوس بن حجر ، وهو جاهليّ :

فانقضّ كالدّرّيء يتبعه

نقع يثور تخاله طنبا

قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) أي : اختطف ما سمعه من كلام الملائكة. قال ابن فارس : استرق السّمع : إذا تسمّع مستخفيا. (فَأَتْبَعَهُ) أي : لحقه (شِهابٌ مُبِينٌ) قال ابن قتيبة : كوكب مضيء. وقيل : «مبين» بمعنى : ظاهر يراه أهل الأرض. وإنما يسترق الشيطان ما يكون من أخبار الأرض ، فأمّا وحي الله عزوجل ، فقد صانه عنهم. واختلفوا ، هل يقتل الشّهاب ، أم لا؟ على قولين : أحدهما : أنه

____________________________________

مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء قال : فانطلق الذين توجّهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنخلة ، وهو عامد إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا تسمّعوا له فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا. وأنزل الله عزوجل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) وإنما أوحي إليه قول الجن.

(٨٤٤) صحيح. أخرجه مسلم ٢٢٢٩ والترمذي ٣٢٢٤ وأحمد ١ / ٢١٨ والطحاوي في «المشكل» ٢٣٣٢ وابن حبان ٦١٢٩ والبيهقي ٨ / ١٣٨ من حديث ابن عباس.

__________________

(١) في «اللسان» مادة «عفر» لذي الرمة. ورجل عفر وعفرية : خبيث منكر واه.

٥٢٧

يحرق ويخبل ولا يقتل ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : أنه يقتل ، قاله الحسن. فعلى هذا القول ، هل يقتل الشيطان قبل أن يخبر بما سمع ، فيه قولان : أحدهما : أنه يقتل قبل ذلك ، فعلى هذا ، لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء. قال ابن عباس : ولذلك انقطعت الكهانة. والثاني : أنه يقتل بعد إلقائه ما سمع إلى غيره من الجنّ ، ولذلك يعودون إلى الاستراق ، ولو لم يصل لقطعوا الاستراق.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠))

قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي : بسطناها على وجه الماء (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) وهي الجبال الثّوابت (وَأَنْبَتْنا فِيها) في المشار إليها قولان : أحدهما : أنها الأرض ، قاله الأكثرون. والثاني : الجبال ، قاله الفرّاء. وفي قوله : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قولان (١) :

أحدهما : أنّ الموزون : المعلوم ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، والضّحّاك. وقال مجاهد ، وعكرمة في آخرين : الموزون : المقدور. فعلى هذا يكون المعنى : معلوم القدر كأنه قد وزن ، لأنّ أهل الدنيا لمّا كانوا يعلمون قدر الشيء بوزنه ، أخبر الله تعالى عن هذا أنه معلوم القدر عنده بأنه موزون. وقال الزّجّاج : المعنى : أنه جرى على وزن من قدر الله تعالى ، لا يجاوز ما قدّره الله تعالى عليه ، ولا يستطيع خلق زيادة فيه ولا نقصانا.

والثاني : أنه عنى به الشيء الذي يوزن كالذّهب ، والفضّة ، والرّصاص ، والحديد ، والكحل ، ونحو ذلك ، وهذا المعنى مرويّ عن الحسن ، وعكرمة ، وابن زيد ، وابن السّائب ، واختاره الفرّاء.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) في المشار إليها قولان :

أحدهما : أنها الأرض. والثاني : أنها الأشياء التي أنبتت.

والمعايش جمع معيشة. والمعنى : جعلنا لكم فيها أرزاقا تعيشون بها.

وفي قوله : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) أربعة أقوال (٢) : أحدها : أنه الدّوابّ والأنعام ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثاني : الوحوش ، رواه منصور ، عن مجاهد. وقال ابن قتيبة : الوحش ، والطّير ، والسّباع ، وأشباه ذلك ممّا لا يرزقه ابن آدم. والثالث : العبيد والإماء ، قاله الفرّاء. والرابع : العبيد ، والأنعام ، والدّوابّ ، قاله الزّجّاج. قال الفرّاء : و «من» في موضع نصب ، فالمعنى : جعلنا لكم فيها المعايش ، والعبيد ، والإماء. ويقال : إنها في موضع خفض ، فالمعنى : جعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له برازقين. وقال الزّجّاج : المعنى : جعلنا لكم الدّوابّ ، والعبيد ، وكفيتم مؤونة أرزاقها.

فإن قيل : كيف قلتم : إنّ «من» هاهنا للوحوش والدّوابّ ، وإنما تكون لمن يعقل؟

فالجواب : أنه لمّا وصفت الوحوش وغيرها بالمعاش الذي الغالب عليه أن يوصف به الناس ،

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٧ / ٥٠٢ : وأولى الأقوال عندنا بالصواب القول الأول لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٧ / ٥٠٣ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأحسن أن يقال : عني بقوله (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) من العبيد والإماء والدواب والأنعام.

٥٢٨

فيقال : للآدميّ معاش ، ولا يقال : للفرس معاش ، جرت مجرى الناس ، كما قال : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) (١) ، وقال : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٢) ، وقال : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣) ، وإن قلنا : أريد به العبيد ، والوحوش ، فإنه إذا اجتمع الناس وغيرهم ، غلّب الناس على غيرهم ، لفضيلة العقل والتّمييز.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١))

قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) أي : وما من شيء (إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) وهذا الكلام عامّ في كلّ شيء. وذهب قوم من المفسّرين إلى أنّ المراد به المطر خاصّة ، فالمعنى عندهم : وما من شيء من المطر إلّا عندنا خزائنه ، أي : في حكمنا وتدبيرنا ، (وَما نُنَزِّلُهُ) كلّ عام (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) لا يزيد ولا ينقص ، فما من عام أكثر مطرا من عام ، غير أنّ الله تعالى يصرفه إلى من يشاء ، ويمنعه من يشاء.

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣))

قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) وقرأ حمزة ؛ وخلف : «الريح». وكان أبو عبيدة يذهب إلى أنّ «لواقح» بمعنى ملاقح ، فسقطت الميم منه ، قال الشاعر :

ليبك يزيد بائس لضراعة

وأشعث ممّن طوّحته الطّوائح (٤)

أراد : المطاوح ، فحذف الميم ، فمعنى الآية عنده : وأرسلنا الرّياح ملقحة ، فيكون هاهنا فاعل بمعنى مفعل ، كما أتى فاعل بمعنى مفعول ، كقوله تعالى : (ماءٍ دافِقٍ) (٥) أي : مدفوق ، و (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٦) أي : مرضيّة ، وكقولهم : ليل نائم ، أي : منوم فيه ، ويقولون : أبقل النّبت ، فهو باقل ، أي : مبقل. قال ابن قتيبة : يريد أبو عبيدة أنها تلقح الشّجر ، وتلقح السّحاب كأنها تنتجه. ولست أدري ما اضطرّه إلى هذا التّفسير بهذا الاستكراه وهو يجد العرب تسمّي الرّياح لواقح ، والرّيح لاقحا ، قال الطّرمّاح ، وذكر بردا مدّه على أصحابه في الشمس يستظلّون به :

قلق لأفنان الرّيا

ح للاقح منها وحائل (٧)

فاللاقح : الجنوب ، والحائل : الشّمال ، ويسمّون الشّمال أيضا : عقيما ، والعقيم : التي لا تحمل ، كما سمّوا الجنوب لاقحا ، قال كثيّر :

ومرّ بسفساف التّراب عقيمها (٨)

__________________

(١) سورة النمل : ١٨.

(٢) سورة يوسف : ٤٠.

(٣) سورة الأنبياء : ٣٣.

(٤) البيت لنهشل بن حري ، انظر «كتاب سيبويه» ١ / ١٤٥ ، وفي «اللسان» مادة «طيح» وطوّحته الطوائح : قذفته القواذف ، وطوّح الشيء : ضيعه ، طاح طيحا : تاه ، وطيّح نفسه وطاح الشيء طيحا : فني وذهب ، وأطاحه هو : أفناه. قال ابن جني : أول البيت مبني على اطّراح ذكر الفاعل ، فإن آخره عوود فيه الحديث على الفاعل لأن تقديره فيما بعد ليبكه مختبط مما تطيح الطوائح ، فدل قوله : ليبك على ما أراد من قوله ليبك.

(٥) سورة الطارق : ٦.

(٦) سورة القارعة : ٧.

(٧) للبيت للطّرمّاح كما في «غريب القرآن» لابن قتيبة ٢٣٦.

(٨) في «اللسان» مادة «سفّ» ونسبه لكثير ، وعنده : «هاج» بدل «مرّ». والسفساف : ما دقّ من التراب.

٥٢٩

يعني : الشّمال. وإنما جعلوا الرّيح لاقحا ، أي : حاملا ، لأنها تحمل السّحاب وتقلّبه وتصرّفه ، ثم تحلّه فينزل ، فهي على هذا حامل ، ويدلّ على هذا قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً) (١) أي : حملت ، قال ابن الأنباري : شبّه ما تحمله الرّيح من الماء وغيره ، بالولد الذي تشتمل عليه النّاقة ، وكذلك يقولون : حرب لاقح ، لما تشتمل عليه من الشّرّ ، فعلى قول أبي عبيدة ، يكون معنى «لواقح» : أنها ملقحة لغيرها ، وعلى قول ابن قتيبة : أنها لاقحة نفسها ، وأكثر الأحاديث تدلّ على القول الأول (٢). قال عبد الله بن مسعود : يبعث الله الرّياح لتلقح السّحاب ، فتحمل الماء ، فتمجّه في السّحاب ثم تمريه (٣) ، فيدرّ كما تدرّ اللقحة (٤). وقال الضّحّاك : يبعث الله الرّياح على السّحاب فتلقحه فيمتلئ ماء. قال النّخعيّ : تلقح السّحاب ولا تلقح الشّجر. وقال الحسن في آخرين : تلقح السّحاب والشّجر ، يعنون أنها تلقح السّحاب حتى يمطر والشّجر حتى يثمر.

قوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) يعني السّحاب (ماءً) يعني المطر (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي : جعلناه سقيا لكم. قال الفرّاء : العرب مجتمعون على أن يقولوا : سقيت الرّجل ، فأنا أسقيه : إذا سقيته لشفته ، فإذا أجروا للرّجل نهرا قالوا : أسقيته وسقيته ، وكذلك السّقيا من الغيث ، قالوا فيها : سقيت وأسقيت ، وقال أبو عبيدة : كلّ ما كان من السماء ، ففيه لغتان : أسقاه الله ، وسقاه الله ، قال لبيد :

سقى قومي بني مجد وأسقى

نميرا والقبائل من هلال

فجاء باللغتين. وتقول : سقيت الرجل ماء وشرابا من لبن وغيره ، وليس فيه إلّا لغة واحدة بغير ألف ، إذا كان في الشّفة ، وإذا جعلت له شربا ، فهو : أسقيته ، وأسقيت أرضه ، وإبله ، ولا يكون غير هذا ، وكذلك إذا استسقيت له ، كقول ذي الرّمّة :

وقفت على رسم (٥) لميّة ناقتي

فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتّى كاد ممّا أبثّه

تكلّمني أحجاره وملاعبة

فإذا وهبت له إهابا ليجعله سقاء ، فقد أسقيته إيّاه.

قوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ لَهُ) يعني : الماء المنزل (بِخازِنِينَ) وفيه قولان : أحدهما : بحافظين ، أي : ليست خزائنه بأيديكم ، قاله مقاتل. والثاني : بمانعين ، قاله سفيان الثّوريّ.

قوله تعالى : (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) يعني : أنه الباقي بعد فناء الخلق.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٥٧.

(٢) ورد في هذا الباب حديث مرفوع عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الريح الجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح ، وهي التي ذكر الله تعالى في كتابه ، وفيها منافع للناس». أخرجه الطبري ٢١١٠٩ ، وأبو الشيخ في «العظمة» ٨٠٥ وإسناده ضعيف جدا ، فيه أبو المهزم ، وهو متروك ، وكذا عبيس بن ميمون. والحديث ذكره ابن كثير في تفسيره ٢ / ٥٤٩ وضعفه.

(٣) في «القاموس» : مرى الناقة يمريها ، مسح ضرعها ، فأمرت هي : درّ لبنها وهي : المرية بالضم والكسر. ومرى الشيء : استخرجه كامتراه.

(٤) أخرجه الطبري ٢١٠٩٨ عن ابن مسعود موقوفا عليه.

(٥) في «القاموس» الرسم : الأثر أو بقيته أو ما لا شخص له من الآثار.

٥٣٠

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ) يقال : استقدم الرّجل ، بمعنى : تقدّم ، واستأخر ، بمعنى : تأخّر ، وفي سبب نزولها قولان :

(٨٤٥) أحدهما : أنّ امرأة حسناء كانت تصلّي خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان بعضهم يستقدم حتى

____________________________________

(٨٤٥) باطل. أخرجه الترمذي ٣١٢٢ ، والنسائي في «الكبرى» ١١٢٢٧٣ ، و «التفسير» ٢٩٣ وابن ماجة ١٠٤٦ ، والطيالسي ٢٧١٢ ، وأحمد ١ / ٣٠٥ ، وابن حبان ٤٠١ ، والحاكم ٢ / ٣٥٣ والطبراني ١٢ / ١٧١ ، والطبري ٢١١٣٦ و ٢١١٣٧ ، والبيهقي من طرق عن نوح بن قيس عن عمر بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس به. قال الترمذي : روى جعفر بن سليمان هذا الحديث عن عمر بن مالك النكري عن أبي الجوزاء نحوه ، ولم يذكر فيه عن ابن عباس ، وهو أشبه أن يكون أصح من حديث نوح. وقال الحاكم : صحيح. وقال عمرو بن علي  ـ  الفلاس  ـ  : لم يتكلم أحد في نوح بن قيس الطاحي بحجة. وقال الذهبي : هو صدوق خرّج له مسلم. وقال الشيخ أحمد شاكر في «تعليقه على المسند» : ٢ / ٢٧٨ : إسناده صحيح. وجعله الألباني في «صحيح السنن» و «الصحيحة» ٢٤٧٢. وليس كما قالوا والصواب أنه غير صحيح ، وهو معلول بالإرسال ، وبأنه ورد عن ابن عباس خلافه.

ـ  فقد أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ١٤٤٥ والطبري ٢١١٣٥ عن جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال : المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة والمستأخرين. وجعفر بن سليمان من رجال مسلم. ونوح بن قيس ، وإن روى له مسلم ، ووثقه أحمد ويحيى ، فقد ضعّفه يحيى في رواية. وقال النسائي : لا بأس به ، وقال الذهبي : بصري صالح الحال اه. فليس هو بالثبت. وقد خالفه غيره ، فرواه من قول أبي الجوزاء ، وبدون القصة. وقال ابن كثير رحمه‌الله ٢ / ٦٧٨  ـ  ٦٧٩ : غريب جدا ، وفيه نكارة شديدة. ورواه عبد الرزاق عن أبي الجوزاء ليس فيه ذكر ابن عباس ، وصوّب الترمذي الإرسال. فهذه علّة للحديث. وله علّة أخرى ، وهي : أنه ورد عن ابن عباس «يعني بالمستقدمين من مات ، وبالمستأخرين من هو حيّ ولم يمت».

وهذا أخرجه الطبري ٢١١٢١ لكن فيه عطية العوفي ، وهو ضعيف وكرره ٢١١١٨ عن قتادة عن ابن عباس ، وهو منقطع ، لكن يصلح للمتابعة. وورد مثله عن الشعبي وابن زيد وغيرهم. وورد عن مجاهد «المستقدمين» أي القرون الأول ، والمستأخرين : أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اه. وهذا أخرجه عبد الرزاق ١٤٤٧ والطبري ٢١١٢٧ و ٢١١٢٨ و ٢١١٢٩ و ٢١١٣٠ وأسند عبد الرزاق ١٤٤٦ عن عكرمة : أن المراد بالمستقدمين ما خرج من الخلق ، وبالمستأخرين ما بقي في الأصلاب لم يخرج بعد. ومجاهد وعكرمة من أجلّة أصحاب ابن عباس ، ولم يذكرا أن المراد بذلك صفوف الصلاة ، فلو صح هذا الحديث عند شيخهم ابن عباس لروياه عنه ، ولفسّرا الآية الكريمة به. وقال الطبري رحمه‌الله بعد أن ذكر هذه الأقوال جميعا : وأولى الأقوال عندي قول من قال : معنى ذلك : ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدم موته ، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حي ، ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعد لدلالة ما قبله من الكلام وهو قوله (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) وما بعده وهو قوله (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ). ومما يدل على وهن الخبر ونكارته : وهو أنهم أجمعوا على أن السورة مكية ، نقل الإجماع القرطبي ، ووافقه الشوكاني وغيره. ثم إن الآية المتقدمة ، والآية الآتية فيهما قرينة ترجيح أن المراد بالمستقدمين من مات ، وبالمستأخرين من هو على قيد الحياة ، ولم يولد بعد. وبهذا يتبين وهن الحديث ونكارته كما ذهب إليه الحافظ الناقد ابن كثير رحمه‌الله خلافا لمن صححه اعتمادا منه على ظاهر إسناده من غير تأمل لما جاء في تفسير هذه الآية ، وبأنها مكية لا مدنية والله الموفق. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٣٤١ ، وأحكام القرآن لابن العربي ١٣١٦ ، وهما بتخريجنا ، ولله الحمد والمنة.

٥٣١

يكون في أوّل الصفّ لئلّا يراها ، ويتأخّر بعضهم حتى يكون في آخر صفّ ، فإذا ركع نظر من تحت إبطه ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس.

(٨٤٦) والثاني : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّض على الصّفّ الأول ، فازدحموا عليه ، وقال قوم بيوتهم قاصية عن المدينة : لنبيعنّ دورنا ، ولنشترينّ دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصّفّ المتقدّم ، فنزلت هذه الآية ؛ ومعناها : إنّما تجزون على النّيات ، فاطمأنّوا وسكنوا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

وللمفسّرين في معنى المستقدمين والمستأخرين ثمانية أقوال (١) : أحدها : التّقدّم في الصّفّ الأول ، والتّأخّر عنه ، وهذا على القولين المذكورين في سبب نزولها ، فعلى الأول : هو التّقدّم للتّقوى ، والتّأخّر للخيانة بالنّظر ، وعلى الثاني : هو التّقدّم لطلب الفضيلة ، والتّأخّر للعذر. والثاني : أنّ المستقدمين : من مات ، والمستأخرين : من هو حيّ لم يمت ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وخصيف عن مجاهد ، وبه قال عطاء ، والضّحّاك ، والقرظيّ. والثالث : أنّ المستقدمين : من خرج من الخلق فكان. والمستأخرين : الذين في أصلاب الرجال ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة. والرابع : أنّ المستقدمين : من مضى من الأمم ، والمستأخرين : أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والخامس : أنّ المستقدمين : المتقدّمون في الخير ، والمستأخرين ، المثبّطون عنه ، قاله الحسن وقتادة. والسادس : أنّ المستقدمين في صفوف القتال ، والمستأخرين عنها ، قاله الضّحّاك. والسابع : أنّ المستقدمين : من قتل في الجهاد ، والمستأخرين : من لم يقتل ، قاله القرظيّ. والثامن : أنّ المستقدمين : أول الخلق ، والمستأخرين : آخر الخلق ، قاله الشّعبيّ.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني آدم (مِنْ صَلْصالٍ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الطّين اليابس الذي لم تصبه نار ، فإذا نقرته صلّ ، فسمعت له صلصلة ، قاله ابن عباس وقتادة وأبو عبيدة وابن قتيبة. والثاني : أنه الطين المنتن ، قاله مجاهد والكسائيّ وأبو عبيد. ويقال : صلّ اللحم : إذا تغيّرت رائحته. والثالث : أنه طين خلط برمل ، فصار له صوت عند نقره ، قاله الفرّاء.

فأمّا الحمأ ، فقال أبو عبيدة : هو جمع حمأة ، وهو الطّين المتغيّر. وقال ابن الأنباري : لا خلاف أنّ الحمأ : الطّين الأسود المتغيّر الرّيح ، وروى السّدّيّ عن أشياخه قال : بلّ التّراب حتى صار طينا. ثم ترك حتى أنتن وتغيّر.

وفي المسنون أربعة أقوال : أحدها : أنه المنتن أيضا ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال

____________________________________

(٨٤٦) لا أصل له. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، ورواية أبي صالح هو الكلبي ، وتقدم أنهما رويا عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا ، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٥٣ عن الربيع بن أنس بدون إسناد.

__________________

(١) رجّح الطبري رحمه‌الله القول الثاني كما في «تفسيره» ٧ / ٥١٠ ، وهو الصواب.

٥٣٢

مجاهد ، وقتادة في آخرين. قال ابن قتيبة : المسنون : المتغيّر الرّائحة. والثاني : أنه الطّين الرّطب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : أنه المصبوب ، قاله أبو عمرو بن العلاء ، وأبو عبيد. والرابع : أنه المحكوك ، ذكره ابن الأنباري ، قال : فمن قال : المسنون : المنتن ، قال : هو من قولهم : قد تسنّى الشيء : إذا أنتن ، ومنه قوله تعالى : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) (١) ، وإنما قيل له : مسنون لتقادم السّنين عليه ، ومن قال : الطّين الرّطب ، قال : سمّي مسنونا ، لأنه يسيل وينبسط ، فيكون كالماء المسنون المصبوب. ومن قال : المصبوب ، احتجّ بقول العرب : قد سننت عليّ الماء : إذا صببته. ويجوز أن يكون المصبوب على صورة ومثال ، من قوله : رأيت سنّة وجهه ، أي : صورة وجهه ، قال الشاعر :

تريك سنّة وجه غير مقرفة

ملساء ليس بها خال ولا ندب (٢)

ومن قال : المحكوك ، احتجّ بقول العرب : سننت الحجر على الحجر : إذا حككته عليه. وسمّي المسنّ مسنّا ، لأنّ الحديد يحكّ عليه. قال : وإنّما كرّرت «من» لأنّ الأولى متعلّقة ب «خلقنا» ، والثانية متعلّقة بالصّلصال ، تقديره : ولقد خلقنا الإنسان من الصّلصال الذي هو من حمأ مسنون.

قوله تعالى : (وَالْجَانَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه مسيخ الجنّ (٣) ، كما أنّ القردة والخنازير مسيخ الإنس (٤) ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني : أنه أبو الجنّ ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وروى عنه الضّحّاك أنه قال : الجانّ أبو الجنّ ، وليسوا بشياطين ، والشّياطين ولد إبليس (٥) لا يموتون إلّا مع إبليس ، والجنّ يموتون ، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر. والثالث : أنه إبليس ، قاله الحسن ، وعطاء ، وقتادة ، ومقاتل.

فإن قيل : أليس أبو الجنّ هو إبليس؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنه هو ، فيكون هذا القول هو الذي قبله. والثاني : أنّ الجانّ أبو الجنّ ، وإبليس أبو الشّياطين ، فبينهما إذا فرق على ما ذكرنا عن ابن عباس ، قال العلماء : وإنّما سمّي جانّا ، لتواريه عن العيون.

قوله تعالى : (مِنْ قَبْلُ) يعني : قبل خلق آدم (مِنْ نارِ السَّمُومِ) ، وقال ابن مسعود : من نار الريح الحارّة ، وهي جزء من سبعين جزءا من نار جهنّم (٦). والسّموم في اللغة : الرّيح الحارّة وفيها نار ، قال

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٥٩.

(٢) البيت لذي الرمة كما في «ديوانه» ٨. وفي «القاموس» أقرفه الرجل وغيره : دنا من الهجنة ، والقرفة : الهجنة.

ووجه مقرف : غير حسن. والخال : شامة في البدن.

(٣) هذا قول باطل ، ليس بشيء. ويعارضه ما أخرجه مسلم ٢٩٩٦ وابن حبان ٦١٥٥ والبيهقي في «الصفات» ص ٣٨٥ وأحمد ٦ / ١٥٣ من حديث عائشة مرفوعا «خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم».

(٤) هذا قول باطل. يعارضه ما أخرجه مسلم ٢٦٦٣ من حديث ابن مسعود «إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا ، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك». وفي الباب أحاديث تشهد له.

(٥) الصواب أن الشياطين هم مردة الجن.

(٦) في الباب من حديث أبي هريرة : «ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» قيل : يا رسول الله إن كانت لكافية ، قال : «فضلت عليهن بتسعة وتسعين جزءا كلهنّ مثل حرّها» أخرجه البخاري ٣٢٦٥ واللفظ له ، ومسلم ٢٨٤٣ ، ومالك ٢ / ٩٩٤ ، والترمذي ٢٥٨٩ ، وأحمد ٢ / ٣١٣ ، وابن حبان ٧٤٦٢.

٥٣٣

ابن السّائب : وهي نار لا دخان لها.

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١))

قوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي : عدّلت صورته ، وأتممت خلقته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) هذه الرّوح هي التي يحيا بها الإنسان ، ولا تعلم ماهيّتها ، وإنما أضافها إليه ، تشريفا لآدم ، وهذه إضافة ملك. وإنما سمّي إجراء الرّوح فيه نفخا ، لأنها جرت في بدنه على مثل جري الرّيح فيه.

قوله تعالى : (فَقَعُوا) أمر من الوقوع. وقوله تعالى : (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) قال فيه سيبويه والخليل : هو توكيد بعد توكيد. وقال المبرّد : «أجمعون» يدلّ على اجتماعهم في السّجود ، فالمعنى : سجدوا كلّهم في حالة واحدة. قال ابن الأنباري : وهذا ، لأنّ «كلّا» تدلّ على اجتماع القوم في الفعل ، ولا تدلّ على اجتماعهم في الزّمان. قال الزّجّاج : وقول سيبويه أجود ، لأنّ «أجمعين» معرفة ، ولا تكون حالا.

قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) قال المفسّرون : معناه : يلعنك أهل السماء والأرض إلى يوم الحساب. قال ابن الأنباري : وإنّما قال : (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) لأنه يوم له أوّل وليس له آخر ، فجرى مجرى الأبد الذي لا يفنى ، والمعنى : عليك اللعنة أبدا.

قوله تعالى : (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) يعني : المعلوم بموت الخلائق فيه ، فأراد أن يذيقه ألم الموت قبل أن يذيقه العذاب الدائم في جهنّم.

قوله تعالى : (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) مفعول التّزيين محذوف ، والمعنى : لأزيّننّ لهم الباطل حتى يقعوا فيه. (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ) أي : ولأضلّنّهم. والمخلصون : الذين أخلصوا دينهم لله عن كلّ شائبة تناقض الإخلاص. وما أخللنا به من الكلمات ها هنا ، فقد سبق تفسيرها في سورة الأعراف وغيرها.

قوله تعالى : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) اختلفوا في معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يعني بقوله هذا : الإخلاص ، فالمعنى : إنّ الإخلاص طريق إليّ مستقيم ، و «عليّ» بمعنى «إليّ». والثاني : هذا طريق عليّ جوازه ، لأنّي بالمرصاد ، فأجازيهم بأعمالهم ، وهو خارج مخرج الوعيد ، كما تقول للرجل تخاصمه : طريقك عليّ ، فهو كقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) (١). والثالث : هذا صراط عليّ استقامته ، أي : أنا ضامن لاستقامته بالبيان والبرهان.

وقرأ قتادة ، ويعقوب : «هذا صراط عليّ» بكسر اللام ورفع الياء وتنوينها ، أي : رفيع.

__________________

(١) سورة الفجر : ١٤.

٥٣٤

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))

قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي) فيهم أربعة أقوال : أحدها : أنهم المؤمنون. والثاني : المعصومون ، رويا عن قتادة. والثالث : المخلصون ، قاله مقاتل. والرابع : المطيعون ، قاله ابن جرير. فعلى هذه الأقوال ، تكون الآية من العامّ الذي أريد به الخاصّ ، وفي المراد بالسّلطان قولان : أحدهما : أنه الحجّة ، قاله ابن جرير ، فيكون المعنى : ليس لك حجّة في إغوائهم. والثاني : أنه القهر والغلبة ؛ إنما له أن يغرّ ويزيّن ، قاله أبو سليمان الدّمشقي. وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية ، فقال : ليس لك عليهم سلطان أن تلقيهم في ذنب يضيق عفوي عنه.

قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) يعني : الذين اتّبعوه.

قوله تعالى : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) وهي دركاتها بعضها فوق بعض ، قال عليّ عليه‌السلام : أبواب جهنّم ليست كأبوابكم هذه ، ولكنها هكذا وهكذا وهكذا بعضها فوق بعض ، ووصف الرّاوي عنه بيده وفتح أصابعه. قال ابن جرير : لها سبعة أبواب ، أوّلها جهنّم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السّعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية. وقال الضّحّاك : هي سبعة أدراك بعضها فوق بعض ، فأعلاها فيه أهل التّوحيد يعذّبون على قدر ذنوبهم ثم يخرجون ، والثاني فيه النّصارى ، والثالث فيه اليهود ، والرابع فيه الصّابئون ، والخامس فيه المجوس ، والسادس فيه مشركو العرب ، والسابع فيه المنافقون. قال ابن الأنباري : لمّا اتّصل العذاب بالباب ، وكان الباب من سببه ، سمّي باسمه للمجاورة ، كتسميتهم الحدث غائطا.

قوله تعالى : (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) أي من أتباع إبليس (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) والجزء بعض الشيء.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨))

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٤٥) قد شرحنا في سورة (البقرة) معنى التّقوى والجنّات. فأمّا العيون ، فهي عيون الماء ، والخمر ، والسّلسبيل ، والتّسنيم ، وغير ذلك ممّا ذكر أنه من شراب الجنّة.

قوله تعالى : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) المعنى : يقال لهم : ادخلوها بسلام ، وفيه ثلاثة أقوال :

أحدها : بسلامة من النار. والثاني : بسلامة من كلّ آفة. والثالث : بتحيّة من الله تعالى.

وفي قوله : (آمِنِينَ) أربعة أقوال : أحدها : آمنين من عذاب الله. والثاني : من الخروج. والثالث : من الموت. والرابع : من الخوف والمرض.

قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) قد ذكرنا تفسيرها في سورة الأعراف (١) ، فإنّ المفسّرين ذكروا ما هناك هاهنا من تفسير وسبب نزول.

__________________

(١) عند الآية : ٤٣.

٥٣٥

قوله تعالى : (إِخْواناً) منصوب على الحال ، والمعنى : أنّهم متوادّون.

فإن قيل : كيف نصب «إخوانا» على الحال ، فأوجب ذلك أنّ التّآخي وقع من نزع الغلّ وقد كان التّآخي بينهم في الدنيا؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : ما مضى من التّآخي قد كان تشوبه ضغائن وشحناء ، وهذا التّآخي بينهم الموجود عند نزع الغلّ هو تآخي المصافاة والإخلاص ، ويجوز أن ينتصب على المدح ، المعنى : اذكر إخوانا. فأمّا السّرر ، فجمع سرير ، قال ابن عباس : على سرر من ذهب مكلّلة بالزّبرجد والدّرّ والياقوت ، السّرير مثل ما بين عدن إلى أيلة (١) ، (مُتَقابِلِينَ) لا يرى بعضهم قفا بعض ، حيثما التفت رأى وجها يحبّه يقابله.

قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أي : لا يصيبهم في الجنّة إعياء وتعب.

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣))

قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

(٨٤٧) سبب نزولها ما روى ابن المبارك بإسناد له عن رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : طلع علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ، ونحن نضحك ، فقال : «ألا أراكم تضحكون؟» ثم أدبر ، حتى إذا كان عند الحجر ، رجع إلينا القهقرى ، فقال : «إنّي لمّا خرجت ، جاء جبريل عليه‌السلام ، فقال : يا محمّد ، يقول الله تعالى : لم تقنّط عبادي؟ نبّئ عبادي أنّي أنا الغفور الرّحيم».

وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو بتحريك ياء «عبادي» وياء «أني أنا» ، وأسكنها الباقون.

قوله تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) (٥١) قد شرحنا القصّة في (هود) (٢) وبيّنّا هنالك معنى الضّيف والسبب في خوفه منهم ، وذكرنا معنى الوجل في (الأنفال) (٣).

قوله تعالى : (بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي : إنه يبلغ ويعلم.

____________________________________

(٨٤٧) ضعيف. أخرجه الطبري ٢١٢١٤ عن عطاء عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرفوعا ، وفي إسناده مصعب بن ثابت ضعفه أحمد ويحيى ، وكذا عاصم بن عبيد الله ضعفوه. وله شاهد من حديث عبد الله بن الزبير أخرجه الطبراني كما في «المجمع» ١١١٠٧ وقال الهيثمي : وفيه موسى بن عبيدة ، وهو ضعيف متروك. وفيه أيضا مصعب بن ثابت ، وهو ضعيف كما تقدم. وفي الباب من حديث عمر أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» ١٠ / ١٨٥٧٣ مطوّلا ، وإسناده ضعيف ، فيه سلام الطويل ، وهو مجمع على ضعفه قاله الهيثمي.

فالخبر ضعيف الإسناد ، والمتن منكر بهذا اللفظ.

__________________

(١) أيلة : اسم مدينة على شاطئ البحر من بلاد الشام بين الفسطاط ومكة.

(٢) عند الآية : ٦٩.

(٣) عند الآية : ٧.

٥٣٦

(قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦))

قوله تعالى : (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي) أي : بالولد (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) أي : على حالة الكبر والهرم (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) قرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «تبشّرون» بفتح النون. وقرأ نافع بكسر النون ، ووافقه ابن كثير في كسرها ، لكنه شدّدها. وهذا استفهام تعجّب ، كأنه عجب من الولد على كبره. (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) أي : بما قضى الله أنه كائن (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) يعني : الآيسين. (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة : «ومن يقنط» بفتح النون في جميع القرآن. وقرأ أبو عمرو ، والكسائيّ : «يقنط» بكسر النون. وكلّهم قرءوا (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) بفتح النون ، وروى خارجة عن أبي عمرو «ومن يقنط» بضمّ النون. قال الزّجّاج : يقال : قنط يقنط ، وقنط يقنط ، والقنوط بمعنى اليأس ، ولم يكن إبراهيم قانطا ، ولكنه استبعد وجود الولد. (قالَ فَما خَطْبُكُمْ) أي : ما أمركم؟ (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا) أي : بالعذاب. وقوله تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) استثناء ليس من الأوّل. فأمّا آل لوط فهم أتباعه المؤمنون. قوله تعالى : (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «لمنجّوهم» مشدّدة الجيم. وقرأ حمزة والكسائيّ «لمنجوهم» خفيفة.

قوله تعالى : (إِلَّا امْرَأَتَهُ) المعنى : إنّا لمنجّوهم إلّا امرأته (قَدَّرْنا) وروى أبو بكر عن عاصم «قدرنا» بالتّخفيف ، والمعنى واحد ، يقال : قدّرت وقدرت ، والمعنى : قضينا (إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) يعني : الباقين في العذاب.

قوله تعالى : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) يعني : لا أعرفكم ، (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) يعنون : العذاب ، كانوا يشكّون في نزوله. (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) أي : بالأمر الذي لا شكّ فيه من عذاب قومك. قوله تعالى : (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) أي : سر خلفهم (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) أي : حيث يأمركم جبريل ، وفي المكان الذي أمروا بالمضيّ إليه قولان : أحدهما : أنه الشّام ، قاله ابن عباس. والثاني : قرية من قرى لوط ، قاله ابن السّائب.

قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) أي : أوحينا إليه ذلك الأمر ، أي : الأمر بهلاك قومه. قال الزّجّاج : فسّر : ما الأمر بباقي الآية ، والمعنى : وقضينا إليه أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين. فأمّا الدّابر ، فقد سبق تفسيره ، والمعنى : إنّ آخر من يبقى منكم يهلك وقت الصّبح.

٥٣٧

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١))

قوله تعالى : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) وهي قرية لوط ، واسمها سدوم (١) ، (يَسْتَبْشِرُونَ) بأضياف لوط ، طمعا في ركوب الفاحشة ، فقال لهم لوط : (إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) أي : بقصدكم إيّاهم بالسّوء ، يقال : فضحه يفضحه : إذا أبان من أمره ما يلزمه به العار. وقد أثبت يعقوب ياء «تفضحون» ، وياء «تخزون» في الوصل والوقف.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) أي : عن ضيافة العالمين.

قوله تعالى : (بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ) حرّك ياء «بناتي» نافع ، وأبو جعفر.

(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧))

قوله تعالى : (لَعَمْرُكَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ معناه : وحياتك يا محمّد ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثاني : لعيشك ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الأخفش ، وهو يرجع إلى معنى الأول. والثالث : أنّ معناه : وحقّك على أمّتك ، تقول العرب : لعمر الله لا أقوم ، يعنون : وحقّ الله ، ذكره ابن الأنباري ، قال : وفي العمر ثلاث لغات : عمر وعمر ، وعمر ، وهو عند العرب : البقاء. وحكى الزّجّاج أنّ الخليل وسيبويه وجميع أهل اللغة قالوا : العمر والعمر في معنى واحد ، فإذا استعمل في القسم ، فتح لا غير ، وإنّما آثروا الفتح في القسم ، لأنّ الفتح أخفّ عليهم ، وهم يؤثرون القسم ب «لعمري» و «لعمرك» فلمّا كثر استعمالهم إيّاه ، لزموا الأخفّ عليهم ، قال : وقال النّحويون : ارتفع «لعمرك» بالابتداء ، والخبر محذوف ، والمعنى : لعمرك قسمي ، ولعمرك ما أقسم به ، وحذف الخبر ، لأنّ في الكلام دليلا عليه. المعنى : أقسم (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) وفي المراد بهذه السّكرة قولان : أحدهما : أنها بمعنى الضّلالة ، قاله قتادة. والثاني : بمعنى الغفلة ، قاله الأعمش ، وقد شرحنا معنى العمه في سورة البقرة (٢). وفي المشار إليهم بهذا قولان : أحدهما : أنهم قوم لوط ، قاله الأكثرون. والثاني : قوم نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله عطاء.

قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) يعني : صيحة العذاب ، وهي صيحة جبريل عليه‌السلام. (مُشْرِقِينَ) قال الزّجّاج : يقال : أشرقنا ، فنحن مشرقون : إذا صادفوا شروق الشمس وهو طلوعها ، كما يقال : أصبحنا : إذا صادفوا الصّبح ، يقال : شرقت الشمس : إذا طلعت ، وأشرقت : إذا أضاءت وصفت ، هذا أكثر اللغة. وقد قيل : شرقت وأشرقت في معنى واحد ، إلّا أنّ «مشرقين» في معنى

__________________

(١) في «معجم البلدان» ٣ / ٢٠٠ : «سدوم» هي «سرمين» بلدة من أعمال حلب معروفة عامرة عندهم.

(٢) عند الآية : ١٥.

٥٣٨

مصادفين لطلوع الشّمس. قوله تعالى : (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) قد فسّرنا الآية في سورة (هود) (١) ، وفي المتوسّمين أربعة أقوال : أحدها : أنهم المتفرّسون.

(٨٤٨) روى أبو سعيد الخدريّ عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثمّ

____________________________________

(٨٤٨) ضعيف. أخرجه الترمذي ٣١٢٧ والبخاري في «تاريخه» ٤ / ١ / ٣٥٤ والطبري ٢١٤٩ والعقيلي ٤ / ١٢٩ وأبو نعيم ١٠ / ٢٨١  ـ  ٢٨٢ والخطيب ٧ / ٢٤٢ والطبراني في «الأوسط» ٧٨٣٩ وابن الجوزي في «الموضوعات» ٣ / ١٤٥  ـ  ١٤٦ كلهم من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد مرفوعا ، وإسناده واه لأجل عطية ، فقد ضعفوه ، وهو مدلس ، وقد عنعن. وضعف الترمذي إسناده بقوله غريب ، وحكم ابن الجوزي بوضعه. وله شاهد من حديث ابن عمر ، أخرجه الطبري ٢١٢٥١ وأبو نعيم ٤ / ٩٤ وابن الجوزي ٣ / ١٤٥  ـ  ١٤٦ وإسناده ساقط ، لأجل الفرات بن السائب ، ضعفه الجمهور ، وقال أبو حاتم : كان كذابا ، فلا يفرح بهذا الشاهد. وله شاهد ثان من حديث ثوبان ، أخرجه ابن حبان في «المجروحين» ٣ / ٣٣ ، والطبري ٢١٢٥٥ وأبو الشيخ في «الأمثال» ١٢٨ وفيه سليمان بن سلمة الخبائري ، ضعفه النسائي وغيره ، وقال ابن الجنيد : كان يكذب ، وفيه مؤمل بن سعيد متروك. وله شاهد ثالث من حديث أبي أمامة ، أخرجه الخطيب ٥ / ٩٩ والطبراني ٧٤٩٧ وأبو نعيم ٦ / ١١٨ وابن الجوزي ٣ / ١٤٦  ـ  ١٤٧ وأعله ابن الجوزي بعبد الله بن صالح ، ونقل أحمد قوله ليس بشيء ، وقال ابن حبان : يروي عن الثقات ما ليس من حديث الأثبات. وله شاهد رابع من حديث أبي هريرة ، أخرجه أبو الشيخ في «الأمثال» ١٢٦ وابن الجوزي ٣ / ١٤٧ وأعله بسليمان بن أرقم ، وأنه متروك ، واتهمه ابن حبان بالوضع. قال ابن الجوزي : قال الخطيب : فالمحفوظ ما رواه سفيان عن عمرو بن قيس أنه قال : كان يقال : اتقوا فراسة المؤمن. ثم أسنده الخطيب عن عمرو بن قيس. ووافقه ابن الجوزي ، وهو الراجح ، والله تعالى أعلم. الخلاصة : هو حديث ضعيف ، لا يرقى عن درجة الضعف بسبب شدة ضعف طرقه وشواهده.

ـ  وورد بلفظ آخر عن أنس ، أخرجه البزار ٣٦٣٢ والطبري ٢١٢٥٢ والطبراني في «الأوسط» ٢٩٥٦ والقضاعي ١٠٠٥ والواحدي في «الوسيط» ٢٩٥٦ من طرق عن سعيد بن محمد الجرمي ثنا عبد الواحد بن واصل ، قال : ثنا أبو بشر المزلّق عن ثابت البناني عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم».

وإسناده غير قوي ، وحسنه الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٢٦٨ ، وكذا حسنه السخاوي في «المقاصد الحسنة» ٢٣ وكذا الألباني في «الصحيحة» ١٦٩٣ ومما قاله : وهذا إسناد حسن ، رجاله ثقات غير أبي بشر واسمه بكر بن الحكم ، وثقه أبو عبيدة الحداد وأبو سلمة التبوذكي وسعيد بن محمد الحربي  ـ  كذا وقع والصواب الجرمي  ـ  وابن حبان ، ولم يضعفه أحد غير أن أبا زرعة قال : شيخ ليس بالقوي. قلت : إسناده إلى الضعف أقرب. فليس في الإسناد علة واحدة. بل فيه أيضا عبد الواحد بن واصل ، فهو وإن وثقه غير واحد ، فقد قال الإمام أحمد : لم يكن صاحب حفظ ، كان كتابه صحيحا اه. وما الذي يدرينا هل روى هذا الحديث من كتابه أو من حفظه؟ والذي يترجح عندي أنه رواه من حفظه ، والدليل على ذلك هو أنه لم يرو في شيء من الكتاب الستة والمسانيد المشهورة. ولقد ضعفه أحمد فيما نقله الأزدي عن عبد الله بن أحمد ، وقال الأزدي : ما أقرب ما قال أحمد ، لأن له أحاديث غير مرضية عن شعبة وغيره. راجع «التهذيب» ٦ / ٣٩٥. وقال الحافظ في ترجمة أبي بشر المزلّق : صدوق فيه لين. وقال الذهبي في «الميزان» ١ / ٣٤٤ : صدوق ، وقال أبو زرعة : ليس بالقوي. وقال التبوذكي : ثقة. قلت : روى خبرا منكر  ـ  قاله أبو حاتم  ـ  عن ثابت عن أنس فذكر هذا الحديث. واعترض الألباني على الذهبي بقوله : وقول الذهبي : روى خبرا منكرا ... ثم ذكره. غير مقبول منه ، إلا أن يعني أنه تفرد به. قلت : وهذا وهم من العلامة الألباني ، فإن الذي حكم بنكارة هذا الحديث إنما هو أبو حاتم كما هو واضح في السياق الذي ذكرته. والذهبي وافقه فحسب. والذي أوزع به هو ما ذهب إليه أبو حاتم وكذا الذهبي من أنه خبر منكر. ولعل الراجح وقفه على أنس ، وهو أقرب ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) عند الآية : ٨٢.

٥٣٩

قرأ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال : «المتفرّسين» وبهذا قال مجاهد ، وابن قتيبة. قال ابن قتيبة : يقال : توسّمت في فلان الخير ، أي : تبيّنته. وقال الزّجّاج : المتوسّمون ، في اللغة : النّظّار المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء ، يقال : توسّمت في فلان كذا ، أي : عرفت وسم ذلك فيه. وقال غيره : المتوسّم : النّاظر في السّمة الدّالّة على الشيء.

والثاني : المعتبرون ، قاله قتادة. والثالث : النّاظرون ، قاله الضّحّاك. والرابع : المتفكّرون ، قاله ابن زيد ، والفرّاء.

قوله تعالى : (وَإِنَّها) يعني : قرية قوم لوط (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) فيه قولان : أحدهما : لبطريق واضح ، رواه نهشل عن الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والزّجّاج. وقال ابن زيد : لبطريق مبين. والثاني : لبهلاك. رواه أبو روق عن الضّحّاك عن ابن عباس ، والمعنى : إنها بحال هلاكها لم تعمر حتى الآن! فالاعتبار بها ممكن ، وهي على طريق قريش إذا سافروا إلى الشّام.

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩))

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) قال الزّجّاج : معنى «إن» واللام : التوكيد ، والأيك : الشّجر الملتفّ ، فالفصل بين واحده وجمعه ، الهاء. فالمعنى : أصحاب الشّجرة. قال المفسّرون : هم قوم شعيب ، كان مكانهم ذا شجر ، فكذّبوا شعيبا فأهلكوا بالحرّ كما بيّنا في سورة (هود).

قوله تعالى : (وَإِنَّهُما) في المكنّى عنهما قولان : أحدهما : أنهما الأيكة ومدينة قوم لوط ، قاله الأكثرون. والثاني : لوط وشعيب ، ذكره ابن الأنباري. وفي قوله : (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) قولان : أحدهما : لبطريق ظاهر ، قاله ابن عباس ، قال ابن قتيبة : وقيل للطّريق : إمام ، لأنّ المسافر يأتمّ به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده. والثاني : لفي كتاب مستبين ، قاله السّدّيّ. قال ابن الأنباري : «وإنهما» يعني : لوطا وشعيبا لبطريق من الحقّ يؤتمّ به.

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) يعني بهم ثمود. قال ابن عباس : كانت منازلهم بالحجر بين المدينة والشّام ، وفي الحجر قولان : أحدهما : أنه اسم الوادي الذي كانوا به ، قاله قتادة ، والزّجّاج. والثاني : اسم مدينتهم ، قاله الزّهريّ ، ومقاتل.

قال المفسّرون : والمراد بالمرسلين : صالح وحده ، لأنه من كذّب نبيّا فقد كذّب الكلّ.

والمراد بالآيات : النّاقة ، قال ابن عباس : كان فيها آيات : خروجها من الصّخرة ، ودنوّ نتاجها عند خروجها ، وعظم خلقها فلم تشبهها ناقة ، وكثرة لبنها حتى كان يكفيهم جميعا ، (فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) لم يتفكّروا فيها ولم يستدلّوا بها.

(وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦))

٥٤٠