زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٥

تحذفهما وتجتزئ بالكسرة من الياء وبالضّمة من الواو ، وأنشدني بعضهم (١) :

كفّاك كفّ ما تليق درهما

جودا وأخرى تعط بالسّيف الدّما

قال المفسّرون : وقوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ) يعني : يأتي ذلك اليوم ، لا تكلّم نفس إلّا بإذن الله ، فكلّ الخلائق ساكتون ، إلّا من أذن الله له في الكلام. وقيل : المراد بهذا الكلام الشّفاعة.

قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌ) قال ابن عباس : منهم من كتبت عليه الشّقاوة ، ومنهم من كتبت له السّعادة.

قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّ الزّفير كزفير الحمار في الصّدر ، وهو أول ما ينهق ، والشّهيق كشهيق الحمار في الحلق ، وهو آخر ما يفرغ من نهيقه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك ، ومقاتل ، والفرّاء. وقال الزّجّاج : الزّفير : شديد الأنين وقبيحه ، والشّهيق : الأنين الشّديد المرتفع جدا ، وهما من أصوات المكروبين. وزعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أنّ الزّفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار في النّهيق ، والشّهيق بمنزلة آخر صوته في النّهيق.

والثاني : أنّ الزّفير في الحلق ، والشّهيق في الصّدور ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال أبو العالية ، والرّبيع بن أنس ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس : الزّفير : الصوت الشّديد ، والشّهيق : الصوت الضعيف. وقال ابن فارس : الشّهيق ضدّ الزّفير ، لأنّ الشّهيق ردّ النّفس ، والزّفير إخراج النّفس. وقال غيره : الزّفير : الشديد ، مأخوذ من الزّفر ، وهو الحمل على الظّهر لشدّته ؛ والشّهيق : النّفس الطّويل الممتدّ ، مأخوذ من قولهم : جبل شاهق ، أي طويل.

والثالث : أنّ الزّفير زفير الحمار ، والشّهيق شهيق البغال ، قاله ابن السّائب.

قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) المعروف فيه قولان : أحدهما : أنها السّماوات المعروفة عندنا ، والأرض المعروفة. قال ابن قتيبة ، وابن الأنباري : للعرب في معنى الأبد ألفاظ ؛ تقول : لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار ، وما دامت السّماوات والأرض ، وما اختلفت الجرّة والدّرّة ، وما أطّت الإبل (٢) ، في أشباه لهذا كثيرة ، ظنا منهم أنّ هذه الأشياء لا تتغير ، فخاطبهم الله بما يستعملون في كلامهم. والثاني : أنّها سماوات الجنّة والنار وأرضهما.

قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) في الاستثناء المذكور في حقّ أهل النار سبعة أقوال (٣) :

__________________

(١) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ليق» ولم ينسبه لأحد.

(٢) في «اللسان» الجرّة : ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه. والدّرّة بالكسر : كثرة اللبن وسيلانه. وأطّت الإبل تئطّ أطيطا : أنّت تعبا أو حنينا.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله ٧ / ١١٦ : وأولى هذه الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن قتادة والضحاك : «من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر ، أنه يدخلهم النار خالدين فيها أبدا إلا ما شاء من تركهم فيها أقل من ذلك ، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك ، لأن الله جل ثناؤه أوعد أهل الشرك به الخلود في النار ، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أن الله يدخل قوما من أهل الإيمان به بذنوب أصابوها النار ، ثم يخرجهم منها فيدخلهم الجنة ،

٤٠١

أحدها : أنّ الاستثناء في حقّ الموحّدين الذين يخرجون بالشّفاعة ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك. والثاني : أنه استثناء لا يفعله ، تقول : والله لأضربنّك إلّا أن أرى غير ذلك ، وعزيمتك على ضربه ، ذكره الفرّاء ، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس : «إلّا ما شاء ربّك» قال : فقد شاء أن يخلّدوا فيها. قال الزّجّاج : وفائدة هذا ، أنه لو شاء أن يرحمهم لرحمهم ، ولكنه أعلمنا أنهم خالدون أبدا. والثالث : أنّ المعنى : خالدين فيها أبدا ، غير أنّ الله تعالى يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم ، ثم يجدّد خلقهم ، فيرجع الاستثناء إلى تلك الحال ، قاله ابن مسعود. والرابع : أنّ «إلّا» بمعنى «سوى» تقول : لو كان معنا رجل إلّا زيد ، أي : سوى زيد ؛ فالمعنى : خالدين فيها مقدار دوام السّماوات والأرض سوى ما شاء ربّك من الخلود والزّيادة ، وهذا اختيار الفرّاء. قال ابن قتيبة : ومثله في الكلام أن تقول : لأسكنّنّك في هذه الدّار حولا إلّا ما شئت ؛ تريد : سوى ما شئت أن أزيدك. والخامس : أنهم إذا حشروا وبعثوا ، فهم في شروط القيامة ؛ فالاستثناء واقع في الخلود بمقدار موقفهم في الحساب ، فالمعنى : خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إلّا مقدار موقفهم للمحاسبة ، ذكره الزّجّاج. وقال ابن كيسان : الاستثناء يعود إلى مكثهم في الدنيا والبرزخ والوقوف للحساب ؛ قال ابن قتيبة : فالمعنى : خالدين في النار وخالدين في الجنّة دوام السّماء والأرض إلّا ما شاء ربّك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك ، فكأنه جعل دوام السّماء والأرض بمعنى الأبد على ما كانت العرب تستعمل ، وإن كانتا قد تتغيّران. واستثنى المشيئة من دوامهما ، لأنّ أهل الجنة والنار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا ، لا في الجنة ، ولا في النار. والسادس : أنّ الاستثناء وقع على أنّ لهم فيها زفيرا وشهيقا ، إلّا ما شاء ربّك من أنواع العذاب التي لم تذكر ؛ وكذلك لأهل الجنة نعيم ممّا ذكر ، ولهم ممّا لم يذكر ما شاء ربّك ، ذكره الزّجّاج أيضا. والسابع : أنّ «إلّا» بمعنى «كما» ، ومنه قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) (١) ، ذكره الثّعلبيّ.

فأمّا الاستثناء في حقّ أهل الجنّة ، ففيه ستة أقوال : أحدها : أنه استثناء لا يفعله. والثاني : أنّ «إلّا» بمعنى «سوى». والثالث : أنه يرجع إلى وقوفهم للحساب ولبثهم في القبور. والرابع : أنه بمعنى : إلّا ما شاء أن يزيدهم من النّعيم الذي لم يذكر. والخامس : أنّ «إلّا» بمعنى «كما» وهذه الأقوال قد سبق شرحها. والسادس : أنّ الاستثناء يرجع إلى لبث من لبث في النار من الموحّدين ، ثم أدخل الجنّة ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك ، ومقاتل. قال ابن قتيبة : فيكون الاستثناء من الخلود مكث أهل الذّنوب من المسلمين في النّار ، فكأنّه قال : إلّا ما شاء ربّك من إخراج المذنبين إلى الجنّة ، وخالدين في الجنّة إلّا ما شاء ربّك من إدخال المذنبين النار مدّة (٢).

__________________

فغير جائز أن يكون ذلك استثناء في أهل التوحيد قبل دخولها ، مع صحة الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما ذكرنا ، وأنّا إن جعلناه استثناء في ذلك ، كنا قد دخلنا في قول من يقول : «لا يدخل الجنة فاسق ، ولا النار مؤمن» ، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم ، وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإذا فسد هذان الوجهان ، فلا قول قال به القدوة من أهل العلم إلا الثالث. وانظر و «تفسير الشوكاني» ٢ / ٥٩٨.

(١) سورة النساء : ٢٢.

(٢) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٧ / ١١٨ : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب : القول الذي ذكرته عن الضحاك وهو : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) ، من قدر

٤٠٢

واختلف القرّاء في «سعدوا» فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم : «سعدوا» بفتح السين. وقرأ حمزة والكسائيّ وحفص عن عاصم بضمّها ، وهما لغتان.

قوله تعالى : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) نصب عطاء بما دلّ عليه الكلام ، كأنّه قال : أعطاهم النّعيم عطاء. والمجذوذ : المقطوع ؛ قال ابن قتيبة : يقال : جذذت ، وجددت ، وجذفت ، وجدفت : إذا قطعت.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩))

قوله تعالى : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) أي : فلا تك يا محمّد في شكّ (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) المشركون من الأصنام ، أنه باطل وضلال ، إنّما يقلّدون آباءهم ، (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : ما قدر لهم من خير وشرّ ، قاله ابن عباس. والثاني : نصيبهم من الرّزق ، قاله أبو العالية. والثالث : نصيبهم من العذاب ، قاله ابن زيد. وقال بعضهم : لا ينقصهم من عذاب آبائهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني التّوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) فمن مصدّق به ومكذّب كما فعل قومك بالقرآن. قال المفسّرون : وهذه تعزية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) قال ابن عباس : يريد : إنّي أخّرت أمّتك إلى يوم القيامة ، ولو لا ذلك لعجّلت عقاب من كذّبك. وقال ابن قتيبة : لو لا نظرة لهم إلى يوم الدّين لقضي بينهم في الدّنيا. وقال ابن جرير : سبقت من ربّك أنه لا يعجّل على خلقه بالعذاب ، لقضي بين المصدّق منهم والمكذّب بإهلاك المكذّب وإنجاء المصدّق.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي : من القرآن (مُرِيبٍ) أي : موقع للرّيب.

(وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١))

قوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا) يشير إلى جميع من قصّ قصّته في هذه السّورة. وقال مقاتل : يعني به كفّار هذه الأمّة. وقيل : المعنى : وإنّ كلّا لخلق أو بشر (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ). قرأ أبو عمرو ، والكسائيّ «وإنّ» مشدّدة النون ، «لما» خفيفة. واللام في «لمّا» لام التّوكيد ، دخلت على «ما» وهي خبر «إنّ». واللام في «ليوفينّهم» اللام التي يتلقّى بها القسم ، والتّقدير : والله ليوفّينّهم ، ودخلت «ما» للفصل بين اللامين. قال

__________________

مكثهم في النار ، من لدن دخولها إلى أن دخلوا الجنة ، وتكون الآية معناها الخصوص ، لأن الأشهر من كلام العرب في «إلا» توجيهها إلى معنى الاستثناء وإخراج معنى ما بعدها مما قبلها ، إلا أن يكون معها دلالة تدل على خلاف ذلك ، ولا دلالة في الكلام ، أعني في قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) تدل على أن معناها غير معنى الاستثناء المفهوم في الكلام ، فيوجه إليه.

٤٠٣

مكّيّ بن أبي طالب : وقيل : إنّ «ما» زائدة ، لكن دخلت لتفصل بين اللامين اللّذين يتلقّيان القسم وكلاهما مفتوح ، ففصل ب «ما» بينهما. وقرأ ابن كثير «وإن» بالتّخفيف ، وكذلك «لما». قال سيبويه : حدّثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول : إن عمرا لمنطلق ، فيخفّفون «إنّ» ويعملونها ، وأنشد :

ووجه حسن النّحر

كأن ثدييه حقّان

وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم : «وإن» خفيفة ، «لمّا» مشدّدة ، والمعنى : وما كلّا إلّا ؛ وهذا كما تقول : سألتك لمّا فعلت ، وإلّا فعلت ، ومثله قوله : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (١) وقرأ حمزة ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «وإنّ» بالتّشديد ، «لمّا» بالتّشديد أيضا. قال أبو عليّ : هذه قراءة مشكلة ، لأنه كما لا يحسن : إنّ زيدا إلّا منطلق ، كذلك لا يحسن تثقيل «إنّ» وتثقيل «لمّا». وحكي عن الكسائيّ أنه قال : لا أعرف وجه التّثقيل في «لمّا» ، ولم يبعد فيما قال. وقال مكّيّ بن أبي طالب : الأصل فيها «لمن ما» ثم أدغمت النون في الميم ، فاجتمعت ثلاث ميمات في اللفظ ، فحذفت الميم المكسورة ؛ والتقدير : وإنّ كلّا لمن خلق ليوفّينّهم. قال : وقيل : التقدير : «لمن ما» بفتح الميم في «من» فتكون «ما» زائدة ، وتحذف إحدى الميمات لتكرير الميم في اللفظ ؛ والتقدير : لخلق ليوفّينّهم ، ومعنى الكلام : ليوفّينّهم جزاء أعمالهم (٢).

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢))

قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) قال ابن عيينة : استقم على القرآن. وقال ابن قتيبة : امض على ما أمرت به. قوله تعالى : (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) قال ابن عباس : من تاب معك من الشّرك. قوله تعالى : (وَلا تَطْغَوْا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا تطغوا في القرآن ، فتحلّوا وتحرّموا ما لم آمركم به ، قاله ابن عباس. والثاني : لا تعصوا ربّكم ولا تخالفوه ، قاله ابن زيد. والثالث : لا تخلطوا التّوحيد بشكّ ، قاله مقاتل.

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣))

قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) روى عبد الوارث عن أبي عمرو : «تركنوا» بفتح التاء وضمّ الكاف ، وهي قراءة قتادة. وروى هارون عن أبي عمرو «تركنوا» بفتح التاء وكسر الكاف. وروى محبوب عن أبي عمرو : «تركنوا» بكسر التاء وفتح الكاف. وقرأ ابن أبي عبلة «تركنوا» بضمّ التاء وفتح الكاف على ما لم يسمّ فاعله. وفي المراد بهذا الرّكون أربعة أقوال (٣) : أحدها : لا تميلوا إلى

__________________

(١) سورة الطارق : ٤.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله ٧ / ١٢٢  ـ  ١٢٣ : وأصح هذه القراءات مخرجا على كلام العرب المستفيض فيهم قراءة من قرأ : (وَإِنَ) بتشديد نونها ، (كُلًّا لَمَّا) بتخفيف  ـ  ما  ـ  ، (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ) بمعنى وإن كل هؤلاء الذين قصصنا عليك يا محمد قصصهم في هذه السور ، ليوفينهم ربك أعمالهم بالصالح منها بالجزيل من الثواب ، وبالطالح منها بالشديد من العقاب ، فتكون «ما» بمعنى «من» واللام التي فيها جوابا ل «إنّ» واللام في قوله : (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) لام قسم.

(٣) اختار ابن كثير في تفسيره ٢ / ٥٦٨ القول الأول.

٤٠٤

المشركين ، قاله ابن عباس. والثاني : لا ترضوا أعمالهم ، قاله أبو العالية. والثالث : لا تلحقوا بالمشركين ، قاله قتادة. والرابع : لا تداهنوا الظّلمة ، قاله السّدّيّ ، وابن زيد.

وفي قوله تعالى : (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) وجهان. أحدهما : فتصيبكم النار ، قاله ابن عباس.

والثاني : فيتعدّى إليكم ظلمهم كما تتعدّى النار إلى إحراق ما جاورها ، ذكره الماوردي.

قوله تعالى : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) أي ليس لكم أعوان يمنعونكم من العذاب.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤))

قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ).

(٧٩٧) أمّا سبب نزولها ، فروى علقمة والأسود عن ابن مسعود أنّ رجلا قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني أخذت امرأة في البستان فقبّلتها ، وضممتها إليّ ، وباشرتها ، وفعلت بها كلّ شيء ، غير أنّي لم أجامعها ؛ فسكت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) الآية ، فدعا الرّجل فقرأها عليه ، فقال عمر : أهي له خاصّة أم للناس كافّة؟ قال : «لا ، بل للناس كافّة».

(٧٩٨) وفي رواية أخرى عن ابن مسعود : أنّ رجلا أصاب من امرأة قبلة ، فأتى رسول الله ، فذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية ، فقال الرجل :  ألي هذه الآية؟ فقال : «لمن عمل بها من أمّتي».

(٧٩٩) وقال معاذ بن جبل : كنت قاعدا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء رجل ، فقال : يا رسول الله ، ما تقول في رجل أصاب من امرأة ما لا يحلّ له ، فلم يدع شيئا يصيبه الرجل من امرأته إلّا أصابه منها ، غير أنه لم يجامعها؟ فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «توضّأ وضوءا حسنا ، ثم قم فصلّ» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال معاذ : أهي له خاصّة ، أم للمسلمين عامّة؟ فقال : «بل هي للمسلمين عامّة». واختلفوا في اسم هذا الرجل.

(٨٠٠) فقال أبو صالح عن ابن عباس : هو عمرو بن غزيّة الأنصاري ، وفيه نزلت هذه الآية ، كان

____________________________________

(٧٩٧) صحيح. أخرجه مسلم ٢٧٦٣  ـ  ٤٢ ، وأبو داود ٤٤٦٨ ، والترمذي ٣١١٢ ، والطبري ١٨٦٦٨ ، والبيهقي في «السنن» ٨ / ٢٤١ من طريق علقمة والأسود عن ابن مسعود به.

ولفظه عند مسلم : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة ، وإني أصبت منها ما دون أن أمسّها ، فأنا هذا ، فاقض فيّ ما شئت. فقال له عمر : لقد سترك الله ، لو سترت نفسك. قال فلم يردّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا. فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي عليه‌السلام رجلا دعاه ، وتلا عليه هذه الآية : (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) ، فقال رجل من القوم : يا نبي الله! هذا له خاصة؟ قال : «بل للناس كافة».

(٧٩٨) صحيح ، أخرجه البخاري ٥٢٦ و ٤٦٨٧ ، ومسلم ٢٧٦٣  ـ  ٤٠  ـ  ٤١ والترمذي ٣١١٤ ، والنسائي في «الكبرى» ٧٣٢٦ / ٦ ، وابن ماجة ٤٢٥٤  ـ  ١٣٩٨ ، وابن خزيمة ٣١٢ ، والطبري ١٨٦٧٦ ، والطبراني ١٠٥٦٠ ، والبيهقي في «السنن» ٨ / ٢٤١.

(٧٩٩) صحيح. أخرجه الترمذي ٣١١٣ والطبري ١٨٦٩٥ من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل ، ورجاله ثقات ، إلا أنه منقطع بين ابن أبي ليلى ، ومعاذ بن جبل ، لكن المتن محفوظ بشواهده وطرقه.

(٨٠٠) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس ، ثم هو من رواية

٤٠٥

يبيع التّمر ، فأتته امرأة تبتاع منه تمرا ، فأعجبته ، فقال : إنّ في البيت تمرا أجود من هذا ، فانطلقي معي حتى أعطيك منه ؛ فذكر نحو حديث معاذ.

وقال مقاتل : هو أبو مقبل عامر بن قيس الأنصاري. وذكر أحمد بن عليّ بن ثابت الخطيب الحافظ أنه أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري. وذكر في الذي قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أله خاصّة؟ ثلاثة أقوال : أحدها : أنه أبو اليسر صاحب القصّة. والثاني : معاذ بن جبل. والثالث : عمر بن الخطّاب (١).

فأما التّفسير ، فقوله عزوجل : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي : أتمّ ركوعها وسجودها. فأمّا طرفا النّهار ، ففي الطّرف الأول قولان : أحدهما : أنه صلاة الفجر ، قاله الجمهور. والثاني : أنه الظّهر ، حكاه ابن جرير. وفي الطّرف الثاني ثلاثة أقوال : أحدها : أنه صلاة المغرب ، قاله ابن عباس ، وابن زيد. والثاني : العصر ، قاله قتادة. وعن الحسن كالقولين. والثالث : الظّهر ، والعصر ، قاله مجاهد ، والقرظيّ. وعن الضّحّاك كالأقوال الثلاثة.

قوله تعالى : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) وقرأ أبو جعفر ، وشيبة «وزلفا» بضمّ اللام. قال أبو عبيدة : الزّلف : السّاعات ، واحدها : زلفة ، أي : ساعة ومنزلة وقربة ، ومنه سمّيت المزدلفة ، قال العجّاج :

ناج طواه الأين ممّا أوجفا

طيّ اللّيالي زلفا فزلفا

سماوة الهلال حتّى احقوقفا (٢) قال ابن قتيبة : ومنه يقال : أزلفني كذا عندك ، أي : أدناني ؛ والمزالف : المنازل والدّرج ، وكذلك الزّلف. وفيها للمفسّرين قولان : أحدهما : أنها صلاة العتمة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وعوف عن الحسن ، وابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال ابن زيد.

والثاني : أنها صلاة المغرب والعشاء ، روي عن ابن عباس أيضا ، ورواه يونس عن الحسن ، ومنصور عن مجاهد ، وبه قال قتادة ، ومقاتل ، والزّجّاج.

قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) في المراد بالحسنات قولان : أحدهما : أنها الصّلوات الخمس ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن المسيّب ، ومسروق ، ومجاهد ، والقرظيّ ، والضّحّاك ، والمقاتلان : ابن سليمان ، وابن حيّان. والثاني : أنها سبحان الله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر ، رواه منصور عن مجاهد. والأول أصحّ ، لأنّ الجمهور عليه. وفيه حديث مسند عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

____________________________________

الكلبي عنه ، كما في «فتح الباري» ٣٥٦١٨ ، وعزاه الحافظ لابن مردويه ، والكلبي يضع الحديث وأصل الخبر محفوظ ، لكن تفرّد بذكر الصحابي بأنه عمرو بن غزية ، فهذا واه.

وأخرجه الترمذي ٣١١٥ والطبري ١٨٦٩٧ و ١٨٦٩٨ والطبراني ٣٧١ من حديث أبي اليسر ، وإسناده ضعيف لضعف قيس بن الربيع ، وفي هذا الحديث هو أبو اليسر راوي الحديث. وانظر التعليق الآتي.

__________________

(١) انظر تعليق الحافظ في الفتح ٨ / ٣٥٦  ـ  ٣٥٧ على هذه الأحاديث واسم الرجل ، والقائل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أله خاصة.

(٢) في «اللسان» احقوقف الهلال : اعوجّ.

٤٠٦

(٨٠١) رواه عثمان بن عفّان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه توضّأ ، وقال : «من توضّأ وضوئي هذا ، ثم صلّى الظّهر ، غفر له ما كان بينها وبين صلاة الصّبح ، ومن صلّى العصر ، غفر له ما بينها وبين صلاة الظّهر ، ومن صلّى المغرب ، غفر له ما بينها وبين صلاة العصر ، ثمّ صلّى العشاء ، غفر له ما بينها وبين صلاة المغرب ، ثم لعلّه أن يبيت ليلته يتمرّغ ، ثمّ إن قام فتوضّأ وصلّى الصّبح ، غفر له ما بينه وبين صلاة العشاء ، وهنّ الحسنات يذهبن السّيئات».

فأمّا السّيئات المذكورة ها هنا ، فقال المفسّرون : هي الصّغائر من الذّنوب.

(٨٠٢) وقد روى معاذ بن جبل ، قال : قلت : يا رسول الله ، أوصني ؛ قال : «اتّق الله حيثما كنت» ، قال : قلت : زدني ؛ قال : أتبع السّيئة الحسنة تمحها» ، قلت : زدني ؛ قال : «خالق الناس بخلق حسن».

قوله تعالى : (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) في المشار إليه ب (ذلِكَ) ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه القرآن. والثاني : إقام الصّلاة. والثالث : جميع ما تقدّم من الوصيّة بالاستقامة ، والنّهي عن الطّغيان ، وترك الميل إلى الظّالمين ، والقيام بالصّلاة.

وفي المراد بالذّكرى قولان : أحدهما : أنه بمعنى التّوبة. والثاني : بمعنى العظة.

(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥))

قوله تعالى : (وَاصْبِرْ) فيما أمر بالصّبر عليه قولان :

أحدهما : لما يلقاه من أذى قومه. والثاني : الصّلاة.

وفي المراد بالمحسنين ثلاثة أقوال : أحدها : المصلّون ، قاله ابن عباس. والثاني : المخلصون ،

____________________________________

(٨٠١) ضعيف الإسناد والمتن : أخرجه أحمد ١ / ٧١ والطبري ١٨٦٧٥ و ١٨٦٧٦ و ١٨٦٧٧ من طريق زهرة بن معبد عن الحارث مولى عثمان بن عفان عن عثمان به. وإسناده ضعيف لجهالة الحارث هذا ، حيث لم يرو عنه سوى زهرة ولم يوثقه سوى ابن حبان وهو على قاعدته في توثيق المجاهيل. والهيثمي يعتمد توثيق ابن حبان فقال في «المجمع» ١ / ٢٩٧ : رجاله رجال الصحيح سوى الحارث ، وهو ثقة؟!

ـ  قلت : والحديث في الصحيحين ، ولفظه عند البخاري : عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه رأى عثمان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ، ثم أدخل يمينه في الوضوء ، ثم تمضمض واستنشق واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ويديه إلى المرفقين ثلاثا ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل كل رجل ثلاثا ، ثم قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال : «من توضأ نحو وضوئي هذا وصلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه». وأخرجه البخاري ١٥٩ ومسلم ٢٢٦ وأحمد ١ / ٧١.

(٨٠٢) حسن. أخرجه الترمذي بإثر حديث ١٩٨٧ وأحمد ٥ / ٢٢٨ والطبراني ٢٠ / ٢٩٧  ـ  ٢٩٨ وفي «الصغير» ٥٣٠ من طريق ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به. وإسناده ضعيف ، رجاله ثقات ، لكن فيه إرسال بين ميمون ومعاذ.

وورد من حديث أبي ذر : أخرجه الترمذي ١٩٨٧ والدارمي ٢٧٩٤ وأحمد ٥ / ١٥٣  ـ  ١٥٨ والحاكم ١ / ٥٤ والقضاعي ٦٥٢ من طريق ميمون عن أبي ذر به ، وإسناده لا بأس به ، وهو حسن إن كان سمعه ميمون من أبي ذر ، ففي سماعه من أبي ذر وأمثاله اختلاف. وصححه الحاكم على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! مع أن البخاري ما روى لميمون ، وقد روى له مسلم في «المقدمة». وقال الترمذي : حسن صحيح. وانظر «صحيح الجامع» ٩٧.

٤٠٧

قاله مقاتل. والثالث : أنّهم المحسنون في أعمالهم ، قاله أبو سليمان.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦))

قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ) قال ابن عباس ، والفرّاء : المعنى : فلم يكن. وقال ابن قتيبة : المعنى : فهلّا كان من القرون من قبلكم أولو بقيّة. وروى ابن جمّاز عن أبي جعفر «أولو بقية» بكسر الباء وسكون القاف وتخفيف الياء. وفي معنى «أولو بقيّة» ثلاثة أقوال : أحدها : أولو دين ، قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة : يقال : قوم لهم بقيّة ، وفيهم بقيّة : إذا كانت بهم مسكة وفيهم خير. والثاني : أولو تمييز. والثالث : أولو طاعة ، ذكرهما الزّجّاج ، وقال : إذا قلت : فلان فيه بقيّة ، فمعناه : فيه فضل. قوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء منقطع ، أي : لكنّ قليلا ممّن أنجينا منهم ممّن نهى عن الفساد. قال مقاتل : لم يكن من القرون من ينهى عن المعاصي والشّرك إلّا قليلا ممّن أنجينا من العذاب مع الرّسل.

قوله تعالى : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أي : اتّبعوا مع ظلمهم ما أترفوا فيه مع استدامة نعيمهم ، فلم يقبلوا ما ينقص من ترفهم. قال الفرّاء : آثروا اللذّات على أمر الآخرة. قال : ويقال : اتّبعوا ذنوبهم السّيئة إلى النار.

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧))

قوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) فيه قولان : أحدهما : بغير جرم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : بشرك ، ذكره ابن جرير ، وأبو سليمان. وفي قوله : (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) ثلاثة أقوال : أحدها : ينتصف بعضهم من بعض ، رواه قيس بن أبي حازم عن جرير. قال أبو جعفر الطّبريّ : فيكون المعنى : لا يهلكهم إذا تناصفوا وإن كانوا مشركين ، وإنما يهلكهم إذا تظالموا. والثاني : مصلحون لأعمالهم ، متمسّكون بالطّاعة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : مؤمنون ، قاله مقاتل.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩))

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) قال ابن عباس : لو شاء أن يجعلهم كلّهم مسلمين لفعل. قوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) في المشار إليهم قولان (١) : أحدهما : أنهم أهل

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله ٧ / ١٣٩ : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك «ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل وأهواء شتى إلا من رحم ربك ، فآمن بالله وصدّق رسله فإنهم لا يختلفون في توحيد الله ، وتصديق رسله وما جاءهم من عند الله» وإنما قلت ذلك أولى بالصواب ، لأن الله جل ثناؤه أتبع ذلك قوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ففي ذلك دليل واضح أن الذي قبله من ذكر خبره عن اختلاف الناس ، إنما هو عن اختلاف مذموم يوجب لهم النار ، ولو كان خبرا عن اختلافهم في الرزق ، لم يعقب ذلك بالخبر عن عقابهم.

٤٠٨

الحقّ وأهل الباطل ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ؛ فيكون المعنى : إنّ هؤلاء يخالفون هؤلاء. والثاني : أنهم أهل الأهواء لا يزالون مختلفين ، رواه عكرمة عن ابن عباس.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) قال ابن عباس : هم أهل الحقّ. وقال الحسن : أهل رحمة الله لا يختلفون. قوله تعالى : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) في المشار إليه بذلك أربعة أقوال : أحدها : أنه يرجع إلى ما هم عليه. قال ابن عباس : خلقهم فريقين ، فريقا يرحم فلا يختلف ، وفريقا لا يرحم يختلف. والثاني : أنه يرجع إلى الشّقاء والسّعادة ، قاله ابن عباس أيضا ، واختاره الزّجّاج ، قال : لأنّ اختلافهم مؤدّيهم إلى سعادة وشقاوة. قال ابن جرير : واللام في قوله : «ولذلك» بمعنى «على». والثالث : أنه يرجع إلى الاختلاف ، رواه مبارك عن الحسن. والرابع : أنه يرجع إلى الرّحمة ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، ومجاهد ، والضّحّاك ، وقتادة ؛ فعلى هذا يكون المعنى : ولرحمته خلق الذين لا يختلفون في دينهم (١).

قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) قال ابن عباس : وجب قول ربّك : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) من كفّار الجنّة ، وكفّار الناس.

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠))

قوله تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُ) قال الزّجّاج : «كلّا» منصوب ب «نقصّ» ، المعنى : كلّ الذي تحتاج إليه من أنباء الرّسل نقصّ عليك. و «ما» منصوبة بدلا من كلّ ، المعنى : نقصّ عليك ما نثبّت به فؤادك ؛ ومعنى تثبيت الفؤاد : تسكين القلب ها هنا ، ليس للشّكّ ، ولكن كلّما كان البرهان والدّلالة أكثر ، كان القلب أثبت.

قوله تعالى : (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) في المشار إليه ب «هذه» أربعة أقوال : أحدها : أنها السّورة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير وأبو العالية ، ورواه شيبان عن قتادة. والثاني : أنها الدّنيا ، فالمعنى : وجاءك في هذه الدّنيا ، رواه سعيد عن قتادة ؛ وعن الحسن كالقولين. والثالث : أنها الأقاصيص المذكورة. والرابع : أنها هذه الآية بعينها ، ذكر القولين ابن الأنباري (٢). وفي المراد بالحقّ ها هنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنها البيان. والثاني : صدق القصص والأنباء. والثالث : النّبوّة.

فإن قيل : أليس قد جاءه الحقّ في كلّ القرآن ، فلم خصّ هذه السّورة؟

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله ٧ / ١٤١ : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : «وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم» ، لأن الله جلّ ذكره ذكر صنفين من خلقه : أحدهما أهل اختلاف وباطل والآخر أهل حق ، ثم عقّب ذلك بقوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) ، فعمّ بقوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) ، صفة الصنفين ، فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميسر لما خلق له.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله ٢ / ٥٧٤ : والصحيح في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء وكيف نجاهم الله والمؤمنين بهم ، وأهلك الكافرين ، جاءك فيها قصص حق ، ونبأ صدق وموعظة يرتدع بها الكافرون ، وذكرى يتوقّر بها المؤمنون. وقال الطبري رحمه‌الله ٧ / ١٤٤ : وأولى التأويلين بالصواب في تأويل ذلك قول من قال : «وجاءك في هذه السورة الحق» لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله.

٤٠٩

فالجواب : أنّا إن قلنا : إنّ الحقّ النّبوّة ، فالإشارة ب «هذه» إلى الدّنيا ، فيكون المعنى : وجاءك في هذه الدنيا النّبوّة ، فيرتفع الإشكال. وإن قلنا : إنّها السّورة ، فعنه أربعة أجوبة :

أحدها : أنّ المراد بالحقّ البيان ، وهذه السّورة جمعت من تبيين إهلاك الأمم ، وشرح مآلهم ، ما لم يجمع غيرها ، فبان أثر التّخصيص ، وهذا مذهب بعض المفسّرين. والثاني : أنّ بعض الحقّ أوكد من بعض في ظهوره عندنا وخفائه علينا ، ولهذا يقول الناس : فلان في الحقّ ؛ إذا كان في الموت ، وإن لم يكن قبله في باطل ، ولكن لتعظيم ما هو فيه ، فكأنّ الحقّ المبين في هذه السّورة أجلى من غيره ، وهذا مذهب الزّجّاج. والثالث : أنه خصّ هذه السّورة بذلك لبيان فضلها ، وإن كان في غيرها حقّ أيضا ، فهو كقوله عزوجل : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (١) ، وقوله عزوجل : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (٢) ، وهذا مذهب ابن الأنباري. والرابع : أنّ المعنى : وجاءك في هذه السّورة الحقّ مع ما جاءك من سائر السّور ، قاله ابن جرير الطّبري.

قوله تعالى : (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : يتّعظون إذا سمعوا هذه السّورة وما نزل بالأمم فتلين قلوبهم.

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢))

قوله تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) هذا تهديد ووعيد ، والمعنى : اعملوا ما أنتم عاملون فستعلمون عاقبة أمركم (وَانْتَظِرُوا) ما يعدكم الشّيطان (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ما يعدنا ربّنا.

فصل : قال المفسّرون : وهذه الآية اقتضت تركهم على أعمالهم ، والاقتناع بإنذارهم ، وهي منسوخة بآية السّيف. واعلم أنه إذا قلنا : إنّ المراد بالآية التّهديد ، لم يتوجّه نسخ.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : علم ما غاب عن العباد فيهما. (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) قرأ نافع ، وحفص عن عاصم «يرجع الأمر كله» بضمّ الياء. وقرأ الباقون ، وأبو بكر عن عاصم «يرجع» بفتح الياء ، والمعنى : إنّ كلّ الأمور ترجع إليه في المعاد. (فَاعْبُدْهُ) أي : وحّده. (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) أي : ثق به. (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) قرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم «تعلمون» بالتاء. وقرأ الباقون بالياء. قال أبو عليّ : فمن قرأ بالتاء ، فالمعنى : قل لهم : وما ربّك بغافل عمّا تعملون. ومن قرأ بالياء ، فالخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم ، فهو أعمّ من التاء ، وهذا وعيد ، والمعنى : إنّه يجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته. قال كعب : خاتمة التّوراة خاتمة «هود».

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٣٨.

(٢) سورة البقرة : ٩٨.

٤١٠

سورة يوسف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١))

(فصل في نزولها :) هي مكّيّة بالإجماع. وفي سبب نزولها قولان :

(٨٠٣) أمّا القول الأول : فروي عن سعد بن أبي وقّاص قال : أنزل القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ، فأنزل الله تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) إلى قوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو حدّثتنا ، فأنزل الله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) (١) كلّ ذلك يؤمرون بالقرآن.

(٨٠٤) وقال عون بن عبد الله : ملّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملّة ، فقالوا : يا رسول الله حدّثنا ، فأنزل الله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) ، ثم إنّهم ملّوا ملّة أخرى ، فقالوا : يا رسول الله ، فوق الحديث ، ودون القرآن ، يعنون القصص ، فأنزل الله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، فأراد الحديث ، فدلّهم على أحسن الحديث ، وأرادوا القصص ، فدلّهم على أحسن القصص.

(٨٠٥) والثاني : رواه الضّحّاك عن ابن عباس قال : سألت اليهود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : حدّثنا عن

____________________________________

(٨٠٣) صحيح. أخرجه البزار ٣٢١٨ وأبو يعلى ٧٤٠ وابن حبان ٦٢٠٩ والحاكم ٢ / ٣٤٥ والطبري ١٨٧٨٩ والواحدي في «أسباب النزول» ٥٤٤ من طرق عن عمرو بن قيس عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه به. وإسناده صحيح على شرط مسلم. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي. وانظر ما بعده.

(٨٠٤) مرسل. أخرجه الطبري ١٨٧٨٨ عن عون بن عبد الله بن مسعود مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف ، لكن للحديث شاهد من حديث سعد ، وهو المتقدم. وشاهد آخر من حديث ابن عباس : أخرجه الطبري ١٨٧٨٦ عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن عباس ، وإسناده منقطع ، عمرو لم يسمع من ابن عباس. وكرره الطبري ١٨٧٨٧ من مرسل عمرو بن قيس ، وهو شاهد لما قبله ، وإن كان ضعيفا ، والله أعلم.

(٨٠٥) باطل لا أصل له. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس ، والضحاك لم يلق ابن عباس ، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك ، فقد روى عن الضحاك عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا ليس له أصل ، وهذا

__________________

(١) سورة الزمر : ٢٣.

٤١١

أمر يعقوب وولده وشأن يوسف ، فأنزل الله عزوجل : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) وذلك أنّ التّوراة بالعبرانيّة ، والإنجيل بالسّريانيّة ، وأنتم قوم عرب ، ولو أنزلته بغير العربية ما فهمتموه. وقد بيّنّا تفسير أول هذه السورة في أول سورة يونس ، إلّا أنه قد ذكر ابن الأنباري زيادة وجه في هذه السّورة ، فقال : لمّا لحق أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملل وسآمة ، فقالوا له : حدّثنا بما يزيل عنّا هذا الملل ، فقال : تلك الأحاديث التي تقدّرون الانتفاع بها وانصراف الملل ، هي آيات الكتاب المبين.

وفي معنى «المبين» خمسة أقوال : أحدها : البيّن حلاله وحرامه ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. والثاني : المبيّن للحروف التي تسقط عن ألسن الأعاجم ، رواه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. والثالث : البيّن هداه ورشده ، قاله قتادة. والرابع : المبيّن للحقّ من الباطل. والخامس : البيّن إعجازه فلا يعارض ، ذكرهما الماوردي (١).

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢))

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الكتاب ، قاله الجمهور. والثاني : إلى خبر يوسف ، ذكره الزّجّاج ، وابن القاسم.

قوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) قد ذكرنا معنى القرآن واشتقاقه في سورة النساء (٢). وقد اختلف الناس ، هل في القرآن شيء بغير العربية ، أم لا ، فمذهب أصحابنا أنه ليس فيه شيء بغير العربية. وقال أبو عبيدة. من زعم أنّ في القرآن لسانا سوى العربية فقد أعظم على الله القول ، واحتجّ بقوله : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (٣). وروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة أنّ فيه من غير لسان العرب ، مثل : «سجّيل» و «المشكاة» و «اليمّ» و «الطّور» و «أباريق» و «إستبرق» وغير ذلك. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : قال أبو عبيد : وهؤلاء أعلم من أبي عبيدة ، ولكنهم ذهبوا إلى مذهب ، وذهب هو إلى غيره ، وكلاهما مصيب إن شاء الله ، وذلك أنّ هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل ، فقال : أولئك على الأصل ، ثم لفظت به العرب بألسنتها فعرّبته فصار عربيا بتعريبها إيّاه ، فهي عربية في هذه الحالة ، أعجميّة الأصل ، فهذا القول يصدّق الفريقين جميعا. قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) قال ابن عباس : لكي تفهموا.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣))

قوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) قد ذكرنا سبب نزولها في أوّل الكلام. وقد خصّت بسبب آخر (٤) : فروي عن سعيد بن جبير قال : اجتمع أصحاب محمّد عليه‌السلام إلى سلمان ، فقالوا :

__________________

الحديث منه ، فإن السورة مكية بإجماع كما ذكر المصنف ، وسؤالات اليهود إنما كانت في المدينة ، فتنبّه ، والله الموفّق.

__________________

(١) انظر «تفسير الماوردي» ٣ / ٥.

(٢) عند الآية : ٨٢.

(٣) سورة الزخرف : ٣.

(٤) لا يصح ذلك ، بل هو باطل ، فإن السورة مكية كما تقدم بإجماع ، وإسلام سلمان مدني.

٤١٢

حدّثنا عن التّوراة فإنّها حسن ما فيها ، فأنزل الله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) يعني : قصص القرآن أحسن ممّا في التّوراة.

قال الزّجّاج : والمعنى نحن نبيّن لك أحسن البيان ، والقاصّ : الذي يأتي بالقصّة على حقيقتها قال : وقوله تعالى : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي : بوحينا إليك هذا القرآن. قال العلماء : وإنّما سمّيت قصّة يوسف أحسن القصص ، لأنّها جمعت ذكر الأنبياء ، والصّالحين ، والملائكة ، والشّياطين ، والأنعام ، وسير الملوك ، والمماليك ، والتّجّار ، والعلماء ، والرّجال ، والنّساء ، وحيلهنّ ، وذكر التّوحيد ، والفقه ، والسّرّ ، وتعبير الرّؤيا ، والسّياسة ، والمعاشرة ، وتدبير المعاش ، والصّبر على الأذى ، والحلم ؛ والعزّ ، والحكم ، إلى غير ذلك من العجائب.

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتَ) في «إن» قولان : أحدهما : أنها بمعنى «قد». والثاني : بمعنى «ما». قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِهِ) قال ابن عباس : من قبل نزول القرآن. (لَمِنَ الْغافِلِينَ) عن علم خبر يوسف وما صنع به إخوته.

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥))

قوله تعالى : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) في «إذ» قولان : أحدهما : أنها صلة للفعل المتقدّم ، والمعنى : نحن نقصّ عليك إذ قال يوسف. والثاني : أنها صلة لفعل مضمر ، تقديره : اذكر إذ قال يوسف ، ذكرهما الزّجّاج ، وابن الأنباري.

قوله تعالى : (يا أَبَتِ) قرأ أبو جعفر ، وابن عامر بفتح التاء ، ووقفا بالهاء ، وافقهما ابن كثير في الوقف بالهاء ، وقرأ الباقون بكسر التاء. فمن فتح التاء ، أراد : يا أبتا ، فحذف الألف كما تحذف الياء ، فبقيت الفتحة دالّة على الألف ، كما أنّ الكسرة تبقى دالّة على الياء. ومن وقف على الهاء ، فلأن تاء التّأنيث تبدل منها الهاء في الوقف. وقرأ أبو جعفر : «أحد عشر» ، و «تسعة عشر» ، بسكون العين فيهما. وفيما رآه يوسف قولان : أحدهما : أنه رأى الشمس والقمر والكواكب ، وهو قول الأكثرين. قال الفرّاء : وإنّما قال : «رأيتهم» على جمع ما يعقل ، لأنّ السجود فعل ما يعقل ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) (١). قال المفسّرون : كانت الكواكب في التأويل إخوته ، والشّمس أمّه ، والقمر أباه ، فلمّا قصّها على يعقوب أشفق من حسد إخوته. وقال السّدّيّ : الشمس أبوه ، والقمر خالته ، لأنّ أمّه كانت قد ماتت. والثاني : أنه رأى أبويه وإخوته ساجدين له ، فكنّى عن ذكرهم ، وهذا مرويّ عن ابن عباس ، وقتادة. فأمّا تكرار قوله تعالى : (رَأَيْتُهُمْ) فقال الزّجّاج : إنما كرّره لمّا طال الكلام توكيدا. وفي سنّ يوسف لمّا رأى هذا المنام ثلاثة أقوال : أحدها : سبع سنين. والثاني : اثنتا عشرة سنة. والثالث : سبع عشرة سنة.

قال المفسّرون : علم يعقوب أنّ إخوة يوسف يعلمون تأويل رؤياه ، فقال : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى

__________________

(١) سورة النحل : ١٨.

٤١٣

إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) ، قال ابن قتيبة : يحتالوا لك حيلة ويغتالوك. وقال غيره : اللام صلة ، والمعنى : فيكيدوك. والعدوّ المبين : الظّاهر العداوة.

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) قال الزّجّاج ، وابن الأنباري : ومثل ما رأيت من الرّفعة والحال الجليلة ، يختارك ربّك ويصطفيك من بين إخوتك. وقد شرحنا في الأنعام معنى الاجتباء. وقال ابن عباس : يصطفيك بالنّبوّة. قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه تعبير الرّؤيا ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقتادة ، فعلى هذا سمّي تأويلا لأنه بيان ما يؤول أمر المنام إليه. والثاني : أنه العلم والحكمة ، قاله ابن زيد. والثالث : تأويل أحاديث الأنبياء والأمم والكتاب ، ذكره الزّجّاج. قال مقاتل : و «من» ها هنا صلة. قوله تعالى : (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : بالنّبوة ، قاله ابن عباس. والثاني : بإعلاء الكلمة. والثالث : بأن أحوج إخوته إليه حتى أنعم عليهم ، ذكرهما الماوردي (١). وفي (آلِ يَعْقُوبَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم ولده ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : يعقوب وامرأته وأولاده الأحد عشر ، أتمّ عليهم نعمته بالسّجود ليوسف ، قاله مقاتل. والثالث : أهله ، قاله أبو عبيدة ، واحتجّ بأنك إذا صغّرت الآل ، قلت : أهيل. قوله تعالى : (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) قال عكرمة : فنعمته على إبراهيم أن نجّاه من النار ، ونعمته على إسحاق أن نجّاه من الذّبح. قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) أي : عليم حيث يضع النّبوة (حَكِيمٌ) في تدبير خلقه.

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧))

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أي : في خبر يوسف وقصّة إخوته آيات أي : عبر لمن سأل عنهم ، فكلّ حال من أحواله آية. وقرأ ابن كثير «آية» (٢).

(٨٠٦) قال المفسّرون : وكان اليهود قد سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصّة يوسف ، فأخبرهم بها كما في التّوراة ، فعجبوا من ذلك.

____________________________________

(٨٠٦) باطل لا أصل له. هو بعض حديث مطوّل ، أخرجه البزار ، ٢٢٢ ، والطبري ١٨٧٩٢ ، وابن حبان في «المجروحين» ١ / ٢٥٠ ، والعقيلي ١ / ٢٥٩ / ٣١٦ ، والبيهقي في «الدلائل» ٦ / ٢٧٧ وابن الجوزي في «الموضوعات» ١ / ١٤٦ من حديث ابن جابر ، ومداره على الحكم بن ظهير ، وهو متروك. وقال ابن حبان : لا أصل له من حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ، والحكم يروي الموضوعات ووافقه ابن الجوزي ، وقال : واضعه يريد شين الإسلام بمثل هذا. اه. وضعفه ابن كثير ٢ / ٥٧٧. والصواب أنه باطل لا أصل له ، وهو من الإسرائيليات.

__________________

(١) انظر «تفسير الماوردي» ٣ / ٨.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله ٧ / ١٥١ : والذي هو أولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك على الجماع لإجماع الحجة من القراء عليه.

٤١٤

وفي وجه هذه الآيات خمسة أقوال : أحدها : الدّلالة على صدق محمّد عليه‌السلام حين أخبر أخبار قوم لم يشاهدهم ، ولا نظر في الكتاب. والثاني : ما أظهر الله في قصّة يوسف من عواقب البغي عليه. والثالث : صدق رؤياه وصحّة تأويله. والرابع : ضبط نفسه وقهر شهوته حتى قام بحقّ الأمانة. والخامس : حدوث السّرور بعد اليأس.

فإن قيل : لم خصّ السّائلين ، ولغيرهم فيها آيات أيضا؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنّ المعنى : للسّائلين وغيرهم ، فاكتفى بذكر السّائلين من غيرهم ، كما اكتفى بذكر الحرّ من البرد في قوله تعالى : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ). والثاني : أنه إذا كان للسّائلين عن خبر يوسف آية ، كان لغيرهم آية أيضا ؛ وإنّما خصّ السّائلين ، لأنّ سؤالهم نتج الأعجوبة وكشف الخبر.

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨))

قوله تعالى : (إِذْ قالُوا) يعني إخوة يوسف. (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) يعنون بن يامين. وإنما قيل له : ابن يامين ، لأنّ أمّه ماتت نفساء. ويامين بمعنى الوجع ، وكان أخاه لأمّه وأبيه. والباقون إخوته لأبيه دون أمّه. فأمّا العصبة ، فقال الزّجّاج : هي في اللغة الجماعة الذين أمرهم واحد يتابع بعضهم بعضا في الفعل ، ويتعصّب بعضهم لبعض. وللمفسّرين في العصبة ستة أقوال : أحدها : أنها ما كان أكثر من عشرة ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أنها ما بين العشرة إلى الأربعين ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال قتادة. والثالث : أنها ستة أو سبعة ، قاله سعيد بن جبير. والرابع : أنها من عشرة إلى خمسة عشر ، قاله مجاهد. والخامس : الجماعة ، قاله ابن زيد ، وابن قتيبة ، والزّجّاج. والسادس : عشرة ، قاله مقاتل. وقال الفرّاء : العصبة عشرة فما زاد. قوله تعالى : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لفي خطأ من رأيه ، قاله ابن زيد. والثاني : في شقاء ، قاله مقاتل ؛ والمراد به عناء الدنيا. والثالث : لفي ضلال عن طريق الصّواب الذي يقتضي تعديل المحبّة بيننا ، لأنّ نفعنا له أعمّ. قال الزّجّاج : ولو نسبوه إلى الضّلال في الدّين كانوا كفّارا ، إنّما أرادوا : إنه قدّم ابنين صغيرين علينا في المحبّة ونحن جماعة نفعنا أكثر.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩))

قوله تعالى : (اقْتُلُوا يُوسُفَ) قال أبو عليّ : قرأ ابن كثير ، ونافع ، والكسائيّ : «مبين اقتلوا» بضمّ التنوين ، لأنّ تحريكه يلزم لالتقاء السّاكنين ، فحرّكوه بالضّمّ ليتبعوا الضمّة الضمّة ، كما قالوا : «مد» «وظلمات». وقرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، بكسر التنوين ، فلم يتبعوا الضمّة كما قالوا : «مدّ» «ظلمات». قال المفسّرون : وهذا قولهم بينهم : (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) قال الزّجّاج : نصب «أرضا» على إسقاط «في» ، وإفضاء الفعل إليها ؛ والمعنى : أو اطرحوه أرضا يبعد بها عن أبيه. وقال غيره : أرضا تأكله فيها السّباع. قوله تعالى : (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أي : يفرغ لكم من الشّغل بيوسف. (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد يوسف. (قَوْماً صالِحِينَ) فيه قولان : أحدهما : صالحين بالتّوبة من بعد قتله ، قاله ابن عباس. والثاني : يصلح حالكم عند أبيكم ، قاله مقاتل. وفي قصّتهم نكتة عجيبة ، وهو أنّهم عزموا على التّوبة قبل الذّنب ، وكذلك المؤمن لا ينسى التّوبة وإن كان مرتكبا للخطايا.

٤١٥

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤))

قوله تعالى : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يهوذا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال وهب بن منبّه ، والسّدّيّ ، ومقاتل. والثاني : أنه شمعون ، قاله مجاهد. والثالث : روبيل ، قاله قتادة ، وابن إسحاق.

فأمّا غيابة الجبّ ، فقال أبو عبيدة : كلّ شيء غيّب عنك شيئا فهو غيابة. والجبّ : الرّكية التي لم تطو. وقال الزّجّاج : الغيابة : كلّ ما غاب عنك ، أو غيّب شيئا عنك ، قال المنخَّل :

فإن أنا يوما غيبتني غيابتي

فسيروا بسيري في العشيرة والأهل

والجبّ : البئر التي لم تطو ؛ سمّيت جبّا من أجل أنّها قطعت قطعا ، ولم يحدث فيها غير القطع من طيّ وما أشبهه. وقال ابن عباس : «في غيابة الجبّ» أي : في ظلماته. وقال الحسن : في قعره. وقرأ نافع : «غيابات الجب» فجعل كلّ جزء منه غيابة. وروى خارجة عن نافع : «غيّابات» بتشديد الياء. وقرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد : «غيبة الجبّ» بغير ألف مع إسكان الياء (١). وأين كان هذا الجبّ ، فيه قولان : أحدهما : بأرض الأردن ، قاله وهب. وقال مقاتل : هو بأرض الأردن على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب. والثاني : ببيت المقدس ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) قال ابن عباس : يأخذه بعض من يسير. (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي : إن أضمرتم له ما تريدون. وأكثر القرّاء قرءوا «يلتقطه» بالياء. وقرأ الحسن ، وقتادة ، وابن أبي عبلة بالتاء. قال الزّجّاج : وجميع النّحويين يجيزون ذلك ، لأنّ بعض السّيارة سيّارة ، فكأنّه قال : تلتقطه سيّارة بعض السّيّارة. وقال ابن الأنباري : من قرأ بالتاء ، فقد أنّث فعل بعض ، وبعض مذكّر ، وإنّما فعل ذلك حملا على المعنى ، إذ التّأويل : تلتقطه السّيّارة ، قال الشاعر :

رأت مرّ السّنين أخذن منّي

كما أخذ السّرار من الهلال (٢)

أراد : رأت السّنين ، وقال الآخر :

طول الليالي أسرعت في نقضي

طوين طولي وطوين عرضي

أراد : الليالي أسرعت ، وقال جرير :

لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشّع

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٧ / ١٥٣ : وقراءة ذلك بالتوحيد أحبّ إليّ.

(٢) البيت لجرير كما في ديوانه ٤٢٦ ، و «مجاز القرآن» ١ / ٩٨.

وفي «اللسان» السرار : آخر الشهر ليلة يستسر الهلال ، واستسر القمر أي خفي ليلة السرار.

٤١٦

أراد : تواضعت المدينة ، وقال الآخر :

وتشرق بالقول الّذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدّم (١)

أراد : كما شرقت القناة.

قال المفسّرون : فلمّا عزم القوم على كيد يوسف ، قالوا لأبيه : (ما لَكَ لا تَأْمَنَّا) قرأ الجماعة «تأمنا» بفتح الميم وإدغام النون الأولى في الثانية والإشارة إلى إعراب النون المدغمة بالضّمّ ؛ قال مكّيّ : لأنّ الأصل «تأمننا» ثم أدغمت النون الأولى ، وبقي الإشمام يدلّ على ضمّة النون الأولى. والإشمام : هو ضمّك شفتيك من غير صوت يسمع ، فهو بعد الإدغام وقبل فتحه النون الثانية. وابن كيسان يسمّي الإشمام الإشارة ، ويسمّي الرّوم إشماما ؛ والّروم : صوت ضعيف يسمع خفيّا. وقرأ أبو جعفر «تأمنّا» بفتح النون من غير إشمام إلى إعراب المدغم. وقرأ الحسن «ما لك لا تأمنّا» بضم الميم. وقرأ ابن مقسم «تأمننا» بنونين على الأصل والمعنى : ما لك لا تأمنا على يوسف فترسله معنا ، فإنه قد كبر ولا يعلم شيئا من أمر المعاش ، (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) فيما أشرنا به عليك ؛ (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) إلى الصحراء. وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير ، وذلك أنّهم قالوا له : أرسله معنا ، فقال : إنّي ليحزنني أن تذهبوا به ، فقالوا : ما لك لا تأمنّا.

قوله تعالى : (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو «نرتع ونلعب» بالنون فيهما ، والعين ساكنة ؛ وافقهم زيد عن يعقوب في «نرتع» فحسب. وفي معنى «نرتع» ثلاثة أقوال : أحدها : نله ، قاله الضّحّاك. والثاني : نسع ، قاله قتادة. والثالث : نأكل ؛ يقال : رتعت الإبل : إذا رعت ، وأرتعتها : إذا تركتها ترعى. قال الشاعر :

وحبيب لي إذا لاقيته

وإذا يخلو له لحمي رتع (٢)

أي أكله ، هذا قول ابن الأنباري ، وابن قتيبة. وقرأ عاصم ، وحمزة والكسائيّ : «يرتع ويلعب» بالياء فيهما وجزم العين والباء ، يعنون «يوسف». وقرأ نافع : «نرتع» بكسر العين من «نرتع» من غير بلوغ إلى الياء. قال ابن قتيبة : ومعناها : نتحارس ، ويرعى بعضنا بعضا ، أي : يحفظ ؛ ومنه يقال : رعاك الله ، أي : حفظك. ورويت عن ابن كثير أيضا «نرتعي» بإثبات ياء بعد العين في الوصل والوقف. وقرأ أنس ، وأبو رجاء «نرتعي» بإثبات ياء بعد العين في الوصل والوقف. وقرأ أنس ، وأبو رجاء «نرتع» بنون مرفوعة وكسر التاء وسكون العين ، و «نلعب» بالنون. قال أبو عبيدة : أي : نرتع إبلنا (٣).

فأمّا قوله تعالى : «ونلعب» فقال ابن عباس : نلهو.

__________________

(١) ذكره ابن منظور في «اللسان» ، مادة «شرق» ونسبه للأعشى. وشرق الشيء شرقا فهو شرق : اشتدت حمرته بدم أو بحسن لون أحمر.

(٢) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري من قصيدة في «المفضليات» ١٩٠  ـ  ٢٠٢ ، و «الشعر والشعراء» ٣٨٤.

(٣) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٧ / ١٥٥ : وأولى ذلك عندي بالصواب ، قراءة من قرأه في الحرفين كليهما بالياء ، وبجزم العين في «يرتع» ، لأن القوم إنما سألوا أباهم إرسال يوسف معهم ، وخدعوه بالخبر عن مسألتهم إياه ذلك ، كما ليوسف في إرساله معهم من الفرح والسرور. والنشاط بخروجه إلى الصحراء وفسحتها ولعبه هنالك ، لا بالخبر عن أنفسهم.

٤١٧

فإن قيل : كيف لم ينكر عليهم يعقوب ذكر اللعب؟

فالجواب من وجهين : أحدهما : أنهم لم يكونوا حينئذ أنبياء ، قاله أبو عمرو بن العلاء. والثاني : أنهم عنوا مباح اللعب ، قاله الماوردي (١).

قوله تعالى : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) أي : يحزنني ذهابكم به ، لأنه يفارقني فلا أراه. (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة : «الذئب» بالهمز في الثلاثة المواضع. وقرأ الكسائيّ ، وأبو جعفر ، وشيبة بغير همز. قال أبو عليّ : «الذئب» مهموز في الأصل. يقال : تذاءبت الرّيح : إذا جاءت من كلّ جهة كما يأتي الذّئب.

وفي علّة تخصيص الذّئب بالذّكر ثلاثة أقوال : أحدها : أنه رأى في منامه أنّ الذّئب شدّ على يوسف ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنّ أرضهم كانت كثيرة الذّئاب ، قاله مقاتل. والثالث : أنه خافهم عليه فكنّى بذكر الذّئب ، قاله الماوردي (٢).

قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) فيه قولان :

أحدهما : غافلون في اللعب. والثاني : مشتغلون برعيّتكم. قوله تعالى : (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي : جماعة نرى الذّئب قد قصده ولا نردّ عنه (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) أي : عاجزون. قال ابن الأنباري : ومن قرأ «عصبة» بالنّصب ، فتقديره : ونحن نجتمع عصبة.

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥))

قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) في الكلام اختصار وإضمار ، تقديره : فأرسله معهم فلمّا ذهبوا. (وَأَجْمَعُوا) أي : عزموا على أن يجعلوه في غيابة الجبّ.

الإشارة إلى قصّة ذهابهم به

قال المفسّرون (٣) : قالوا ليوسف : أما تشتاق أن تخرج معنا فتلعب وتتصيّد؟ قال : بلى ، قالوا : فسل أباك أن يرسلك معنا ، قال : أفعل ، فدخلوا بجماعتهم على يعقوب ، فقالوا : يا أبانا إنّ يوسف قد أحبّ أن يخرج معنا ، فقال : ما تقول يا بنيّ؟ قال : نعم يا أبت ، قد أرى من إخوتي اللين واللطف ، فأنا أحبّ أن تأذن لي ، فأرسله معهم ، فلمّا أصحروا ، أظهروا له ما في أنفسهم من العداوة ، وأغلظوا له القول ، وجعل يلجأ إلى هذا ، فيضربه ، وإلى هذا ، فيؤذيه ، فلمّا فطن لما قد عزموا عليه ، جعل ينادي : يا أبتاه ، يا يعقوب ، لو رأيت يوسف وما ينزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك ، يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك ، وضيّعوا وصيّتك ؛ وجعل يبكي بكاء شديدا. قال الضّحّاك عن ابن عباس : فأخذه روبيل فجلد به الأرض ، ثم جثم على صدره وأراد قتله ، فقال له يوسف : مهلا يا أخي لا تقتلني ، قال : يا

__________________

(١) انظر «تفسير الماوردي» : ٣ / ١٣.

(٢) انظر «تفسير الماوردي» : ٣ / ١٣.

(٣) هذه الآثار مصدرها كتب الأقدمين يستأنس بها من غير احتجاج ، وفي بعضها غرابة.

٤١٨

ابن راحيل صاحب الأحلام ، قل لرؤياك تخلّصك من أيدينا ، ولوى عنقه ليكسرها ، فنادى يوسف : يا يهوذا اتّق الله فيّ ، وخلّ بيني وبين من يريد قتلي ، فأدركته له رحمة ، فقال يهوذا : يا إخوتاه ، ألا أدلّكم على أمر هو خير لكم وأرفق به؟ قالوا : وما ذاك؟ قال : تلقونه في هذا الجبّ فيلتقطه بعض السّيّارة ، قالوا : نفعل ؛ فانطلقوا به إلى الجبّ ، فخلعوا قميصه ، فقال : يا إخوتاه ، لم نزعتم قميصي؟ ردّوه عليّ أستر به عورتي ويكون كفنا لي في مماتي ؛ فأخرج الله له حجرا في البئر مرتفعا من الماء ، فاستقرّت عليه قدماه.

وقال السّدّيّ : جعلوا يدلّونه في البئر ، فيتعلّق بشفير البئر ؛ فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال : يا إخوتاه ، ردّوا عليّ قميصي أتوارى به ، فقالوا : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا ، فدلّوه في البئر ، حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت ، فكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثم أوى إلى صخرة فيها فقام عليها ؛ فلمّا ألقوه في الجبّ جعل يبكي ، فنادوه ، فظنّ أنها رحمة أدركتهم فأجابهم ، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ، فمنعهم يهوذا ، وكان يهوذا يأتيه بالطّعام. وقال كعب : جمعوا يديه إلى عنقه ونزعوا قميصه ، فبعث الله إليه ملكا ، فحلّ عنه وأخرج له حجرا من الماء ، فقعد عليه ؛ وكان يعقوب قد أدرج قميص إبراهيم الذي كساه الله إيّاه يوم ألقي في النار في قصبة ، وجعلها في عنق يوسف ، فألبسه إيّاه الملك حينئذ ، وأضاء له الجبّ. وقال الحسن : ألقي في الجبّ ، فعذب ماؤه ، فكان يغنيه عن الطعام والشّراب ؛ ودخل عليه جبريل ، فأنس به ، فلمّا أمسى نهض جبريل ليذهب ، فقال له يوسف : إنك إذا خرجت عني استوحشت ، فقال : إذا رهبت شيئا فقل : يا صريخ المستصرخين ، ويا غوث المستغيثين ، ويا مفرّج كرب المكروبين ، قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري. فلمّا قالها حفّته الملائكة ، فاستأنس في الجبّ ومكث فيه ثلاثة أيام ، وكان إخوته يرعون حول الجبّ. وقال محمّد بن مسلم الطّائفيّ : لمّا ألقي يوسف في الجبّ ، قال : يا شاهدا غير غائب ، ويا قريبا غير بعيد ، ويا غالبا غير مغلوب ، اجعل لي فرجا مما أنا فيه ؛ قال : فما بات فيه. وفي مقدار سنّه حين ألقي في الجبّ أربعة أقوال : أحدها : اثنتا عشرة سنة ، قاله الحسن. والثاني : ستّ سنين ، قاله الضّحّاك. والثالث : سبع عشرة ، قاله ابن السّائب ، وروي عن الحسن أيضا. والرابع : ثمان عشرة.

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) فيه قولان : أحدهما : أنه إلهام ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنه وحي حقيقة. قال المفسّرون : أوحي إليه لتخبرنّ إخوتك بأمرهم ، أي : بما صنعوا بك وأنت عال عليهم. وفي قوله تعالى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) قولان : أحدهما : لا يشعرون أنك يوسف وقت إخبارك لهم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل. والثاني : لا يشعرون بالوحي ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد. فعلى الأول يكون الكلام من صلة «لتنبّئنّهم» ؛ وعلى الثاني من صلة «وأوحينا إليه». قال حميد : قلت للحسن : أيحسد المؤمن المؤمن؟ قال : لا أبا لك ، ما نسّاك بني يعقوب؟

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧))

قوله تعالى : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) وقرأ أبو هريرة ، والحسن ، وابن السّميفع ، والأعمش :

٤١٩

«عشاء» بضمّ العين. قال المفسّرون : جاءوا وقت العتمة ليكونوا أجرأ في الظّلمة على الاعتذار بالكذب ، فلما سمع صوتهم فزع ، وقال : ما لكم يا بنيّ ، هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا : لا ، قال : فما أصابكم؟ وأين يوسف؟ (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : ننتضل ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة ، قال : والمعنى ، يسابق بعضنا بعضا في الرّمي. والثاني : نشتدّ ، قاله السّدّيّ. والثالث : نتصيّد ، قاله مقاتل. فيكون المعنى على الأول : نستبق في الرّمي لننظر أيّنا أسبق سهما ؛ وعلى الثاني : نستبق على الأقدام ؛ وعلى الثالث : للصّيد.

قوله تعالى : (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) أي : ثيابنا. (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) أي : بمصدّق. وفي قوله تعالى : (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) قولان : أحدهما : أنّ المعنى : وإن كنّا قد صدقنا ، قاله ابن إسحاق. والثاني : لو كنّا عندك من أهل الصّدق لاتّهمتنا في يوسف لمحبّتك إيّاه ، وظننت أنّا قد كذبناك ، قاله الزّجّاج.

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

قوله تعالى : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) قال اللغويون : معناه : بدم مكذوب فيه ، والعرب تجعل المصدر في كثير من الكلام مفعولا ، فيقولون للكذب مكذوب ، وللعقل معقول ، وللجلد مجلود ، قال الشاعر :

حتّى إذا لم يتركوا لعظامه

لحما ولا لفؤاده معقولا (١)

أراد : عقلا. وقال الآخر :

قد والذي سمك السّماء بقدرة

بلغ العزاء وأدرك المجلود (٢)

يريد : أدرك الجلد. ويقولون : ليس لفلان عقد رأي ، ولا معقود رأي ، ويقولون : هذا ماء سكب ، يريدون : مسكوبا ، وهذا شراب صبّ ، يريدون : مصبوبا ، وماء غور ، يعنون : غائرا ، ورجل صوم ، يريدون : صائما ، وامرأة نوح ، يريدون : نائحة ؛ وهذا الكلام مجموع قول الفرّاء ، والأخفش ، والزّجّاج ، وابن قتيبة في آخرين. قال ابن عباس : أخذوا جديا فذبحوه ، ثم غمسوا قميص يوسف في دمه ، وأتوه به وليس فيه خرق ، فقال : كذبتم ، لو كان أكله الذّئب لخرّق القميص. وقال قتادة : كان دم ظبية. وقرأ ابن أبي عبلة : «بدم كذبا» بالنّصب. وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وأبو العالية : «بدم كدب» بالدال غير معجمة ، أي : بدم طريّ.

قوله تعالى : (بَلْ سَوَّلَتْ) أي : زيّنت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) غير ما تصفون (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) قال الخليل : المعنى : فشأني صبر جميل ، والذي أعتقده صبر جميل. وقال الفرّاء : الصّبر مرفوع ، لأنه عزّى نفسه وقال : ما هو إلّا الصّبر ، ولو أمرهم بالصّبر ، لكان نصبا. وقال قطرب : المعنى : فصبري

__________________

(١) البيت للراعي النميري كما في «ديوانه» ١٣٧.

(٢) في «اللسان» سمك الشيء : رفعه فارتفع.

٤٢٠