زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٥

قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) في المراد بالقوة أربعة أقوال (١) :

(٦٥٥) أحدها : أنها الرّمي ، رواه عقبة بن عامر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الحكم بن أبان : هي النّبل. والثاني : ذكور الخيل ، قاله عكرمة. والثالث : السّلاح ، قاله السّدّيّ ، وابن قتيبة. والرابع : أنه كلّ ما يتقوّى به على حرب العدوّ من آلة الجهاد.

قوله تعالى : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) يعني ربطها واقتناءها للغزو ؛ وهو عامّ في الذّكور والإناث في قول الجمهور. وكان عكرمة يقول : المراد بقوله تعالى : «ومن رباط الخيل» إناثها.

قوله تعالى : (تُرْهِبُونَ بِهِ) روى رويس ، وعبد الوارث «ترهّبون» بفتح الرّاء وتشديد الهاء ، أي : تخيفون وترعبون به عدوّ الله وعدوّكم ، وهم مشركو مكّة وكفّار العرب.

قوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي : من دون كفّار العرب. واختلفوا فيهم على خمسة أقوال (٢) : أحدها : أنهم الجنّ. روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

(٦٥٦) «هم الجنّ ، فإنّ الشيطان لا يخبّل أحدا في داره فرس عتيق».

____________________________________

(٦٥٥) صحيح. أخرجه مسلم ١٩١٧. والترمذي ٣٠٨٣ والدارمي ٢ / ٢٠٤ والحاكم ٢ / ٣٢٨. والطبري ١٦٢٤١ و ١٦٢٤٢ و ١٦٢٤٣ و ١٦٢٤٤. كلهم من حديث عقبة بن عامر.

(٦٥٦) ضعيف جدا. أخرجه الطبراني ١٧ / ١٨٩ وابن عدي في الكامل ٣ / ٣٦٠ كلاهما عن عبد الله بن عريب المليكي عن أبيه مرفوعا بلفظ «هم الجن» ، ولن يختل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق». وإسناده ضعيف جدا ، لأجل سعيد بن سنان ، وبه أعله ابن عدي ، وقال الهيثمي في «المجمع» ٢ / ٢٧ ح ١١٠٣٠ : رواه الطبراني ، وفيه مجاهيل اه. وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢ / ٤٠١ : حديث منكر ، لا يصح إسناده ولا متنه. اه.

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ٢٧٦ : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب وما يتقوون به على جهاد عدوه وعدوهم من المشركين من السلاح والرمي وغير ذلك ورباط الخيل ، ولا وجه أن يقال : عني بالقوة معنى دون معنى من معاني القوة وقد عمّ الله الأمر بها. فإن قال قائل : فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بين أن ذلك مراد به الخصوص بقوله «ألا إن القوة الرمي» قيل له : إن الخبر وإن كان قد جاء بذلك فليس من الخبر ما يدل على أن مراده بها الرمي خاصة دون سائر معاني القوة عليهم ، فإن الرمي أحد معاني القوة ، لأنه إنما قيل في الخبر «ألا إن القوة الرمي» ولم يقل «دون» غيرها. ومن القوة أيضا السيف والرمح والحربة. وكل ما كان معونة على قتال المشركين. كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم. هذا مع وهاء سند الخبر بذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ٢٧٧ : فإن قول من قال : عني به الجن ، أقرب وأشبه بالصواب ، لأنه جل ثناؤه قد أدخل بقوله (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) الأمر بارتباط الخيل لإرهاب كل عدو لله وللمؤمنين يعلمونهم. ولا شك أن المؤمنين كانوا عالمين بعدواة قريظة وفارس لهم ، لعلمهم بأنهم مشركون ، وأنهم لهم حرب. ولا معنى لأن يقال وهم يعلمونهم لهم أعداء (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ) ولكن معنى ذلك إن شاء الله ترهبون بارتباطكم. أيها المؤمنون ، الخيل عدو الله وأعداءكم من بني آدم والذين قد علمتم عداوتهم لكم ، لكفرهم بالله ورسوله ، وترهبون بذلك جنسا آخر من غير بني آدم لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم ، والله يعلمهم دونكم ، لأن بني آدم لا يرونهم. وقيل إن صهيل الخيل يرهب الجن ، وأن الجن لا تقرب دارا فيها فرس.

٢٢١

والثاني : أنهم بنو قريظة ، قاله مجاهد. والثالث : أهل فارس ، قاله السّدّيّ. والرابع : المنافقون ، قاله ابن زيد. والخامس : اليهود ، قاله مقاتل.

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١))

قوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) قرأ أبو بكر عن عاصم «للسّلم» بكسر السين. قال الزّجّاج : السّلم : الصّلح والمسالمة. يقال : سَلم وسِلم وسَلَم في معنى واحد ، أي : إن مالوا إلى الصّلح فمل إليه. قال الفرّاء : إن شئت جعلت «لها» كناية عن السّلم لأنها تؤنّث ، وإن شئت جعلتها للفعلة ، كقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

فإن قيل : لم قال «لها» ولم يقل : «إليها»؟ فالجواب : أنّ «اللام» و «إلى» تنوب كلّ واحدة منهما عن الأخرى. وفيمن أريد بهذه الآية قولان : أحدهما : المشركون ، وأنّها نسخت بآية السيف (٢). والثاني : أهل الكتاب. فإن قيل : إنّها نزلت في ترك حربهم إذا بذلوا الجزية وقاموا بشرط الذّمّة ، فهي محكمة. وإن قيل : نزلت في موادعتهم على غير جزية ، توجّه النّسخ لها بآية الجزية.

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣))

قوله تعالى : (وَإِنْ يُرِيدُوا) قال مقاتل : يعني يهود قريظة (أَنْ يَخْدَعُوكَ) بالصّلح لتكفّ عنهم ، حتى إذا جاء مشركو العرب ، أعانوهم عليك (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ). قال الزّجّاج : فإنّ الذي يتولّى كفايتك الله (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ) أي : قوّاك. وقال مقاتل : قواك بنصره وبالمؤمنين من الأنصار يوم بدر. قوله تعالى : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) يعني الأوس والخزرج ، وهم الأنصار ، كانت بينهم عداوة في الجاهلية ، فألف الله بينهم بالإسلام. وهذا من أعجب الآيات ، لأنّهم كانوا ذوي أنفة شديدة ؛ فلو أنّ رجلا لطم رجلا ، لقاتلت عنه قبيلته حتى تدرك ثأره ، فآل بهم الإسلام إلى أن يقتل الرجل ابنه وأباه.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤))

قوله تعالى : (حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ) فيه قولان : أحدهما : حسبك الله ، وحسب من اتّبعك ، هذا قول أبي صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن زيد ، ومقاتل ، والأكثرون. والثاني : حسبك الله ومتّبعوك ، قاله مجاهد. وعن الشّعبيّ كالقولين. وأجاز الفرّاء والزّجّاج الوجهين.

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٥٣.

(٢) وقال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ٨ / ٤١ : وقد اختلف في هذه الآية ، هل هي منسوخة أم لا. فقال قتادة وعكرمة نسخها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥]. و (قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ، وقالا : نسخت براءة كل موادعة ، حتى يقولوا لا إله إلا الله. وقال ابن عباس : الناسخ لها (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) [محمد : ٣٥]. وقيل ليست بمنسوخة ، بل أراد قبول الجزية من أهل الجزية.

٢٢٢

(٦٥٧) وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أسلم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسعة وثلاثون ، ثم أسلم عمر فصاروا أربعين ، فنزلت هذه الآية. قال أبو سليمان الدّمشقي : وهذا لا يحفظ ، والسّورة مدنيّة بإجماع ، والقول الأوّل أصحّ.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦))

قوله تعالى : (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) قال الزّجّاج : تأويله : حثّهم. وتأويل التّحريض في اللغة : أن يحثّ الإنسان على الشيء حثّا يعلم معه أنه حارض إن تخلّف عنه. والحارض : الذي قد قارب الهلاك. قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) لفظ هذا الكلام لفظ الخبر ، ومعناه الأمر ، والمراد : يقاتلوا مائتين ، وكان هذا فرضا في أوّل الأمر ، ثم نسخ بقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) ففرض على الرجل أن يثبت لرجلين ، فإن زادوا جاز له الفرار. قال مجاهد : وهذا التّشديد كان في يوم بدر. واتّفق القرّاء على قوله (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ) فقرؤوا «يكن» بالياء واختلفوا في قوله تعالى : (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً) ، وفي قوله تعالى : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ) فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : بالتاء فيهما. وقرأهما عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : بالياء. وقرأ أبو عمرو «يكن منكم مائة يغلبوا» بالياء ، «فإن تكن منكم مائة صابرة» بالتاء. قال الزّجّاج : من أنّث ، فللفظ المائة ؛ ومن ذكّر ، فلأنّ المائة وقعت على عدد مذكّر. وقال أبو عليّ : من قرأ بالياء ، فلأنّه أريد منه المذكّر ، بدليل قوله تعالى : «يغلبوا» ، وكذلك المائة الصّابرة هم رجال ، فقرؤوها بالياء ، لموضع التّذكير. فأما أبو عمرو ، فإنه لمّا رأى صفة المائة مؤنّثة بقوله تعالى : «صابرة» أنّث الفعل ، ولمّا رأى «يغلبوا» مذكّرا ، ذكّر. ومعنى الكلام : إن يكن منكم عشرون صابرون يثبتون عند اللقاء ، يغلبوا مائتين ، لأنّ المؤمنين يحتسبون أفعالهم ، وأهل الشّرك يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب ، فإذا صدقهم المؤمنون القتال لم يثبتوا ؛ وذلك معنى قوله تعالى : (لا يَفْقَهُونَ).

قوله تعالى : (وَعَلِمَ) وروى المفضّل «وعلم» بضمّ العين «أن فيكم ضعفا» وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائيّ بضمّ الضاد. وقرأ عاصم ، وحمزة : بفتح الضاد. وكذلك خلافهم في (الرّوم) (١). قال الفرّاء : الضمّ لغة قريش ، والفتح لغة تميم. قال الزّجّاج : والمعنى في القراءتين واحد ،

____________________________________

(٦٥٧) باطل لا أصل له. أخرجه الطبراني في «الكبير» ١٢٤٧٠ ، والواحدي في «أسباب النزول» ٤٨٤. وفيه إسحاق بن بشر الكاهلي ، وهو كذاب. وكذا قال الهيثمي في «المجمع» ١١٠٣٢ ثم إن السورة مدنية والخبر مكي؟!! وذكره ابن كثير ٢ / ٤٠٣ وقال : وفي هذا نظر لأن هذه الآية مدنية ، وإسلام عمر كان بمكة بعد الهجرة إلى أرض الحبشة وقبل الهجرة إلى المدينة والله أعلم ا. ه.

__________________

(١) سورة الروم : ٥٥.

٢٢٣

يقال : هو الضّعف والضّعف ، والمكث والمكث ، والفقر والفقر ، وفي اللغة كثير من باب فعل وفعل ، والمعنى واحد. وقرأ أبو جعفر «وعلم أن فيكم ضعفاء» على فعلاء. فأمّا قوله تعالى : (بِإِذْنِ اللهِ) فهو إعلام بأنّ الغلبة لا تقع إلّا بإرادته.

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧))

قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ).

(٦٥٨) روى مسلم في أفراده من حديث عمر بن الخطّاب قال : لمّا هزم الله المشركين يوم بدر ، وقتل منهم سبعون وأسر سبعون ، استشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر وعمر وعليّا ، فقال أبو بكر : يا نبيّ الله هؤلاء بنو العمّ والعشيرة والإخوان ، وإنّي أرى أن تأخذ منهم الفدية ، فيكون ما أخذنا منهم قوّة لنا على الكفّار ، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا. فقال رسول الله : «ما ترى يا ابن الخطّاب»؟ قلت :

والله ما أرى ما رأى أبو بكر ، ولكن أرى أن تمكّنني من فلان ، قريب لعمر ، فأضرب عنقه ، وتمكّن عليّا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكّن حمزة من أخيه فلان فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله عزوجل أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين ، هؤلاء صناديدهم وأئمّتهم وقادتهم. فهوي رسول الله ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت ، فأخذ منهم الفداء. فلمّا كان من الغد ، غدوت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا هو قاعد وأبو بكر الصّديق وهما يبكيان. فقلت : يا رسول الله ، أخبرني ما ذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من الفداء. لقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشّجرة» لشجرة قريبة ، فأنزل الله «ما كان لنبي أن يكون له أسرى» إلى قوله «عظيم».

____________________________________

(٦٥٨) غريب. أخرجه مسلم ١٧٦٣ وأبو داود ٢٦٩٠ والترمذي ٣٠٨١ وأحمد ١ / ٣٠ وابن أبي شيبة ١٤ / ٣٦٥  ـ  ٣٦٨ وابن حبان ٤٧٩٣ والطبري ١٦٣٠٨ والبيهقي في «السنن» ٦ / ٣٢١ و «الدلائل» ٣ / ٥١ وأبو نعيم في «الدلائل» ٤٥٠ من طرق عن عكرمة عن عمار عن سماك بن الوليد الحنفي عن ابن عباس عن عمر به وإسناده لا بأس به. عكرمة بن عمار قال عنه الحافظ في «التقريب» : صدوق يغلط. وقال في سماك بن الوليد : ليس به بأس. وقال الذهبي رحمه‌الله في «الميزان» ٣ / ٩٠  ـ  ٩٣ ما ملخصه : روى أبو حاتم عن ابن معين في عكرمة بن عمار : كان أميا حافظا. وقال أبو حاتم : صدوق ، ربما يهم. وقال ابن معين : ثقة ثبت. وقال يحيى القطان : أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير ضعيفه ، وقال أحمد بن حنبل : ضعيف. وقال الحاكم : أكثر مسلم الاستشهاد به ، وقال البخاري : لم يكن له كتاب فاضطرب حديثه عن يحيى ، وقال أحمد : أحاديثه عن يحيى ضعاف ، ووثقه علي المديني. وختم الذهبي كلامه بقوله : وفي صحيح مسلم قد ساق له أصلا منكرا عن سماك الحنفي عن ابن عباس في الثلاثة التي طلبها أبو سفيان ، وثلاثة أحاديث أخر بالإسناد اه. قلت : وهذا رواه عن سماك بن الوليد عن ابن عباس ، وقد تفرد بذكر بكاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر ، ودنو العذاب بسبب أخذ الفداء ، وهذا غريب ، ولم يتابع عليه ، وهو وإن وثقه الأكثر ، لكن روى مناكير ، ولا يبعد أن يكون عجز هذا الحديث منها ، والله تعالى أعلم.

ـ  الخلاصة : هو حديث لا يمكن الحكم بوهنه ، وليس هو من درجة الصحيح. وهو أحد الأحاديث التي رواها مسلم ، وليست في غاية الصحة. وللحديث شواهد دون عجزه ، وهو ذكر البكاء ... فهو غريب. إذ لم يتصرف الصحابة من تلقاء أنفسهم ، وإنما فعلوا ذلك بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فتنبه والله الموفق.

٢٢٤

(٦٥٩) وروي عن ابن عمر قال : لمّا أشار عمر بقتلهم وفاداهم رسول الله أنزل الله تعالى «ما كان لنبي» إلى قوله «حلالا طيبا» ، فلقي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر فقال «كاد يصيبنا في خلافك بلاء».

فأمّا الأسرى ، فهو جمع أسير ، وقد ذكرناه في سورة البقرة (١). والجمهور قرءوا «أن يكون له» بالياء ، لأنّ الأسرى مذكّر. وقرأ أبو عمرو «أن تكون» ، قال أبو عليّ : أنّث على لفظ الأسرى ، لأنّ الأسرى وإن كان المراد به التّذكير والرّجال فهو مؤنّث اللفظ. والأكثرون قرءوا «أسرى» وكذلك «لمن في أيديكم من الأسرى». وقرأ أبو جعفر ، والمفضّل «أسارى» في الموضعين ، ووافقهما أبو عمرو ، وأبان في الثاني. قال الزّجّاج : والإثخان في كلّ شيء : قوّة الشيء وشدّته. يقال : قد أثخنه المرض : إذا اشتدّت قوّته عليه. والمعنى : حتى يبالغ في قتل أعدائه. ويجوز أن يكون المعنى : حتى يتمكّن في الأرض. قال المفسّرون : معنى الآية : ما كان لنبيّ أن يحبس كافرا قدر عليه للفداء أو المنّ قبل الإثخان في الأرض. وكانت غزاة بدر أول قتال قاتله رسول الله ، ولم يكن قد أثخن في الأرض بعد. (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) وهو المال. وكان أصحاب رسول الله قد فادوا يومئذ بأربعة آلاف أربعة آلاف. وفي قوله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) قولان : أحدهما : يريد لكم الجنّة ، قاله ابن عباس. والثاني : يريد العمل بما يوجب ثواب الآخرة ، ذكره الماوردي.

فصل : وقد روي عن ابن عباس ، ومجاهد في آخرين : أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) (٢) ، وليس للنّسخ وجه ، لأنّ غزاة بدر كانت وفي المسلمين قلّة ؛ فلمّا كثروا واشتدّ سلطانهم ، نزلت الآية الأخرى ، ويبيّن هذا قوله تعالى : (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ).

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨))

قوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) في معناه خمسة أقوال (٣) : أحدها : لو لا أنّ الله كتب في أمّ

____________________________________

(٦٥٩) حسن. أخرجه الحاكم في «المستدرك» ٢ / ٣٢٩ وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وتعقبه الذهبي بقوله : صحيح على شرط مسلم ، وهو كما قال : لكن إبراهيم بن مهاجر أحد رجال الإسناد ، وإن روى له مسلم ، فقد لينه غير واحد بسبب سوء حفظه. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٨٦ عن ابن عمر : استشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأسارى أبا بكر فقال : قومك وعشيرتك خل سبيلهم. واستشار عمر فقال : اقتلهم : ففاداهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله (ما كانَ ...) إلى قوله تعالى (فَكُلُوا ...) قال فلقي النبي لي الله عليه وسلم عمر فقال «كاد أن يصيبنا في خلافك بلاء». وله شاهد من حديث ابن مسعود. أخرجه أحمد ١ / ٣٨٣ والحاكم ٣ / ٢١ وأبو يعلى ٥١٨٨. والواحدي ٤٨٧ ، ورجاله ثقات لكن فيه إرسال بين أبي عبيدة وأبيه ابن مسعود. وانظر «تفسير القرطبي» ٣٢٧١ بتخريجنا.

__________________

(١) سورة البقرة : ٨٥.

(٢) سورة محمد : ٤.

(٣) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ٢٩١. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، ما قد بيناه قبل وذلك أن قوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) خبر عام غير محصور على معنى دون معنى ، وكل هذه المعاني التي ذكرتها عمن ذكرت ، مما قد سبق في كتاب الله أنه لا يؤاخذ بشيء منها هذه الآية وذلك. ما عملوا من عمل بجهالة ، أو إحلال الغنيمة والمغفرة لأهل بدر ، وكل ذلك مما كتب لهم وإذ كان ذلك كذلك ، فلا وجه لأن يخص من ذلك معنى دون معنى وقد عم الله الخبر بطل ذلك بغير دلالة توجب صحة القول بخصوصه.

٢٢٥

الكتاب أنّه سيحلّ لكم الغنائم لمسّكم فيما تعجّلتم من المغانم والفداء يوم بدر قبل أن تؤمروا بذلك عذاب عظيم ، روى هذا المعنى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل. وقال أبو هريرة : تعجّل ناس من المسلمين فأصابوا الغنائم ، فنزلت الآية. والثاني : لو لا كتاب من الله سبق أنّه لا يعذّب من أتى ذنبا على جهالة لعوقبتم ، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس ، وابن جريج عن مجاهد. وقال ابن إسحاق : سبق أن لا أعذّب إلّا بعد النّهي ، ولم يكن نهاهم. والثالث : لو لا ما سبق لأهل بدر أنّ الله لا يعذّبهم ، لعذّبتم ، قاله الحسن ، وابن جبير ، وابن أبي نجيح عن مجاهد. والرابع : لو لا كتاب من الله سبق من أنّه يغفر لمن عمل الخطايا ثمّ علم ما عليه فتاب ، ذكره الزّجّاج. والخامس : لو لا القرآن الذي اقتضى غفران الصّغائر ، لعذّبتم ، ذكره الماوردي. فيخرج في الكتاب قولان : أحدهما : أنه كتاب مكتوب حقيقة. ثمّ فيه قولان : أحدهما : أنه ما كتبه الله في اللوح المحفوظ. والثاني : أنه القرآن. والثاني : أنه بمعنى القضاء.

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠))

قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) قال الزّجّاج : الفاء للجزاء. والمعنى : قد أحللت لكم الفداء فكلوا. والحلال منصوب على الحال.

(٦٦٠) قال مقاتل : إنّ الله غفور لما أخذتم من الغنيمة قبل حلّها ، رحيم بكم إذ أحلّها لكم ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر بن الخطّاب ، وخبّاب بن الأرتّ يوم بدر على القبض ، وقسمها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، وانطلق بالأسارى ، فيهم العبّاس ، وعقيل ، ونوفل بن الحارث بن عبد المطّلب. وكان مع العبّاس يومئذ عشرون أوقيّة من ذهب ، فلم تحسب له من فدائه ، وكلّف أن يفدي ابني أخيه ، فأدّى عنهما ثمانين أوقيّة من ذهب. وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أضعفوا على العبّاس الفداء» فأخذوا منه ثمانين أوقيّة ، وكان فداء كلّ أسير أربعين أوقيّة. فقال العبّاس لرسول الله : لقد تركتني ما حييت أسأل قريشا بكفّيّ. فقال له : «أين الذّهب الذي تركته عند أمّ الفضل»؟ فقال : أي الذّهب؟ فقال : «إنّك قلت لها : إنّي لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا ، فإن حدث بي حدث ، فهو لك ولولدك» فقال : ابن أخي ، من أخبرك؟ فقال : «الله أخبرني» ، فقال العباس : أشهد أنّك صادق ، وما علمت أنّك رسول الله قبل اليوم ؛ وأمر ابني أخيه فأسلما. وفيهم نزلت : (قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) الآية. وروى العوفيّ عن ابن عباس أنها نزلت في جميع من أسر يوم بدر.

(٦٦١) وقال ابن زيد : لما بعث رسول الله أتاه رجال ، فقالوا : لو لا أنّا نخاف هؤلاء القوم

____________________________________

(٦٦٠) عزاه المصنف لمقاتل وهو ساقط ليس بشيء. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٨٩ عن الكلبي تعليقا والكلبي متروك متهم ، وأكثر هذا المتن أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٣ / ١٤٢ عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان والزهري وعروة ، وهذه مراسيل وبعضه أخرجه ٣ / ١٤٣ عن ابن عباس بسند فيه إرسال وله شواهد.

الخلاصة : عامة هذا الخبر له شواهد. انظر الطبري ١٦٣٣٥  ـ  ١٦٣٤١.

(٦٦١) عزاه المصنف لابن زيد ، واسمه عبد الرحمن ، وهذا مرسل ، وابن زيد ضعيف ، فالخبر واه.

٢٢٦

لأسلمنا ، ولكنّا نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله. فلمّا كان يوم بدر ، قال المشركون : لا يتخلّف عنا أحد إلا هدمنا داره واستحللنا ماله ، فخرج أولئك القوم ، فقتلت طائفة منهم وأسرت طائفة. فأمّا الذين قتلوا ، فهم الذين قال الله فيهم : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) (١). وأمّا الذين أسروا فقالوا : يا رسول الله أنت تعلم أنّا كنّا نشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله ، وإنّما خرجنا مع هؤلاء خوفا منهم. فذلك قوله تعالى : (قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) إلى قوله تعالى : (عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

فأمّا قوله تعالى : (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) فمعناه إسلاما وصدقا (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء. وفيه قولان : أحدهما : أكثر ممّا أخذ منكم. والثاني : أحلّ وأطيب. وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن أبي عبلة : «مما أخذ منكم» بفتح الخاء ؛ يشيرون إلى الله تعالى. وفي قوله تعالى : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) قولان : أحدهما : يغفر لكم كفركم وقتالكم رسول الله ، قاله الزّجّاج. والثاني : يغفر لكم خروجكم مع المشركين ، قاله ابن زيد في تمام كلامه الأوّل.

(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢))

قوله تعالى : (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) يعني : إن أراد الأسراء خيانتك بالكفر بعد الإسلام (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) إذ كفروا به قبل أسرهم. وقال ابن زيد : فقد خانوا بخروجهم مع المشركين ؛ وقد ذكرنا عنه أنّها نزلت في قوم تكلّموا بالإسلام. وقال مقاتل : المعنى : إن خانوك أمكنتك منهم فقتلتهم وأسرتهم كما أمكنتك ببدر. قال الزّجّاج : (وَاللهُ عَلِيمٌ) بخيانة إن خانوها ، (حَكِيمٌ) في تدبيره عليهم ومجازاته إيّاهم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني : المهاجرين الذين هجروا ديارهم وأموالهم وقومهم في نصرة الدّين. (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) يعني : الأنصار ، آووا رسول الله ، وأسكنوا المهاجرين ديارهم ، ونصروهم على أعدائهم (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فيه قولان : أحدهما : في النّصرة. والثاني : في الميراث.

قال المفسّرون : كانوا يتوارثون بالهجرة ، وكان المؤمن الذي لم يهاجر لا يرث قريبه المهاجر ، وهو معنى قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ؛ قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر ، وعاصم ، والكسائيّ : «ولايتهم» بفتح الواو. وقرأ حمزة : بكسر الواو. قال الزّجّاج : المعنى : ليس بينكم وبينهم ميراث حتى يهاجروا. ومن كسر واو الولاية ، فهي بمنزلة الإمارة ؛ وإذا فتحت ، فهي من النّصرة. وقال يونس النّحوي : الولاية ، بالفتح ، لله عزوجل ، والولاية ، بالكسر ، من ولّيت الأمر. وقال أبو عبيدة : الولاية ، بالفتح ، للخالق ؛ والولاية ، للمخلوق. قال ابن الأنباري : الولاية ، بالفتح ،

__________________

(١) سورة النحل : ٢٨.

٢٢٧

مصدر الوليّ ، والولاية : مصدر الوالي ، يقال : وليّ بيّن الولاية ، ووال بيّن الولاية ، فهذا هو الاختيار ؛ ثم يصلح في ذا ما يصلح في ذا. وقال ابن فارس : الولاية ، بالفتح : النّصرة ، وقد تكسر. والولاية ، بالكسر : السّلطان.

فصل : وذهب قوم إلى أنّ المراد بهذه الولاية موالاة النّصر والمودّة. قالوا : ونسخ هذا الحكم بقوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (١) ؛ فأمّا القائلون بأنّها ولاية الميراث ، فقالوا : نسخت بقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) (٢).

قوله تعالى : (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) أي : إنّ استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا فانصروهم ، إلّا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد ، فلا تغدروا بأرباب العهد. وقال بعضهم : لم يكن على المهاجر أن ينصر من يهاجر إلّا أن يستنصره.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فيه قولان (٣) : أحدهما : في الميراث ، قاله ابن عباس. والثاني : في النّصرة ، قاله قتادة. وفي قوله تعالى : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) قولان : أحدهما : أنه يرجع إلى الميراث ، فالمعنى : ألّا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه يرجع إلى التّناصر. فالمعنى : إلّا تتعاونوا وتتناصروا في الدّين ، قاله ابن جريج. وبيانه : أنه إذا لم يتولّ المؤمن المؤمن تولّيا حقّا ، ويتبرّأ من الكافر جدّا ، أدّى ذلك إلى الضّلال والفساد في الدّين. فإذا هجر المسلم أقاربه الكفّار ، ونصر المسلمين ، كان ذلك أدعى لأقاربه الكفّار إلى الإسلام وترك الشّرك.

قوله تعالى : (وَفَسادٌ كَبِيرٌ) قرأ أبو هريرة ، وابن سيرين ، وابن السّميفع : «كثير» بالثاء.

قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي : هم الذين حقّقوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة والنّصرة ، بخلاف من أقام بدار الشّرك. والرّزق الكريم : هو الحسن ، وذلك في الجنّة.

__________________

(١) سورة التوبة : ٧١.

(٢) سورة الأنفال : ٧٥.

(٣) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ٢٩٨ : وأولى التأويلين قول من قال : معناه : أن بعضهم أنصار بعض دون المؤمنين ، وأنه دلالة على تحريم الله على المؤمن المقام في دار الحرب وترك الهجرة ، لأن المعروف في كلام العرب من معنى «الولي» أنه النصير والمعين ، أو : ابن العم والنسيب فأما الوارث فغير معروف ذلك من معانيه إلا بمعنى أنه يليه في القيام بإرثه من بعده وذلك معنى بعيد ، وإن كان قد يحتمله الكلام. وتوجيه معنى كلام الله إلى الأظهر الأشهر أولى من توجيهه إلى خلاف ذلك. وإذا كان ذلك كذلك ، فبين أن أولى التأويلين بقوله : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) تأويل من قال : إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين ، تكن فتنة في الأرض ، إذ كان مبتدأ الآية من قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بالحث على الموالاة على الدين والتناحر جاء ، فكذلك الواجب أن تكون خاتمتها به. ا. ه.

٢٢٨

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) أي : من بعد المهاجرين الأوّلين. قال ابن عباس : هم الذين هاجروا بعد الحديبية.

قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) أي : في المواريث بالهجرة. قال ابن عباس : آخى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصحابه ، وكانوا يتوارثون بذلك الإخاء حتى نزلت هذه الآية ، فتوارثوا بالنّسب.

قوله تعالى : (فِي كِتابِ اللهِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه اللوح المحفوظ. والثاني : أنه القرآن  ـ  وقد بيّن لهم قسمة الميراث في سورة (النّساء) (١). والثالث : أنه حكم الله ، ذكره الزّجّاج.

__________________

(١) سورة النساء ١١  ـ  ١٢.

٢٢٩

سورة التّوبة

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١))

فصل في نزولها : هي مدنيّة بإجماعهم ، سوى الآيتين اللتين في آخرها (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (١) فإنها نزلت بمكّة.

(٦٦٢) روى البخاريّ في «صحيحه» من حديث البراء قال : آخر سورة نزلت براءة. وقد نقل عن بعض العرب أنه سمع قارئا يقرأ هذه السّورة ، فقال الأعرابيّ : إنّي لأحسب هذه من آخر ما نزل من القرآن. قيل له : ومن أين علمت؟ فقال : إنّي لأسمع عهودا تنبذ ، ووصايا تنفّذ.

فصل : واختلفوا في أوّل ما نزل من (براءة) على ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ أول ما نزل منها قوله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) (٢) ، قاله مجاهد. والثاني : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) (٣) ، قاله أبو الضّحى وأبو مالك. والثالث : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) (٤) ، قاله مقاتل. وهذا الخلاف إنما هو في أوّل ما نزل منها بالمدينة ، فإنّهم قد قالوا : نزلت الآيتان اللتان في آخرها بمكّة.

فصل : ولها تسعة أسماء : أحدها : سورة التّوبة. والثاني : براءة ؛ وهذان مشهوران بين الناس. والثالث : سورة العذاب ، قاله حذيفة. والرابع : المقشقشة ، قاله ابن عمر. والخامس : سورة البحوث ، لأنها بحثت عن سرائر المنافقين ، قاله المقداد بن الأسود. والسادس : الفاضحة ، لأنها فضحت المنافقين ، قاله ابن عباس. والسابع : المبعثرة ، لأنها بعثرت أخبار الناس وكشفت عن سرائرهم ، قاله الحارث بن يزيد وابن إسحاق. والثامن : المثيرة ، لأنها أثارت مخازي المنافقين ومثالبهم ، قاله قتادة. والتاسع : الحافرة ، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين ، قاله الزّجّاج.

____________________________________

(٦٦٢) صحيح. أخرجه البخاري ٤٣٦٤ و ٤٦٠٥ و ٤٦٥٤ و ٦٧٤٤ ومسلم ١٦١٨ ح ١١ و ١٦١٨ ح ١٣. وأبو داود ٢٨٨٨ والترمذي ٣٠٤٤ و ٣٠٤٥ من حديث البراء.

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٨.

(٢) سورة التوبة : ٢٥.

(٣) سورة التوبة : ٤١.

(٤) سورة التوبة : ٤٠.

٢٣٠

فصل : وفي سبب امتناعهم من كتابة التّسمية في أوّلها ثلاثة أقوال :

(٦٦٣) أحدها : رواه ابن عباس ، قال : قلت لعثمان بن عفّان : ما حملكم على أن عمدتم إلى (الأنفال) وهي من المثاني ، وإلى (براءة) وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما «بسم الله الرّحمن الرّحيم»؟ فقال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب ، فيقول : «ضعوا هذا في السّورة التي يذكر فيها كذا وكذا» ، وكانت (الأنفال) من أوائل ما نزل بالمدينة ، و (براءة) من آخر القرآن ، وكانت قصّتها شبيهة بقصّتها ؛ وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبيّن لنا أنّها منها ، فظننّا أنّها منها ؛ فمن ثمّ قرنت بينهما ولم أكتب بينهما : «بسم الله الرّحمن الرّحيم». وذكر نحو هذا المعنى عن أبيّ بن كعب. قال الزّجّاج : والشّبه الذي بينهما ، أنّ في (الأنفال) ذكر العهود ، وفي (براءة) نقضها. وكان قتادة يقول : هما سورة واحدة.

والثاني : رواه محمّد ابن الحنفيّة ، قال : قلت لأبي : لم لم تكتبوا في (براءة) «بسم الله الرّحمن الرّحيم»؟ فقال : يا بنيّ ، إنّ (براءة) نزلت بالسّيف ، وإنّ «بسم الله الرّحمن الرّحيم» أمان. وسئل سفيان بن عيينة عن هذا ، فقال : لأنّ التّسمية رحمة ، والرّحمة أمان ، وهذه السّورة نزلت في المنافقين.  والثالث : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لمّا كتب في صلح الحديبية «بسم الله الرّحمن الرّحيم» ، لم يقبلوها وردّوها ، فما ردّها الله عليهم (١) ، قاله عبد العزيز بن يحيى المكّيّ.

فصل : فأمّا سبب نزولها.

(٦٦٤) فقال المفسّرون : أخذت العرب تنقض عهودا بنتها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره الله تعالى بإلقاء عهودهم إليهم ، فأنزل براءة في سنة تسع ، فبعث رسول الله أبا بكر أميرا على الموسم ليقيم للناس

____________________________________

(٦٦٣) ضعيف ، أخرجه أبو داود ٧٨٦ و ٧٨٧ والترمذي ٣٠٨٦ والنسائي في «الكبرى» ٨٠٠٧ وابن حبان ٤٣ والحاكم ٢ / ٢٢١ وابن أبي داود في «المصاحف» ص ٣٩ والبغوي ١٠٢٨  ـ  بترقيمي  ـ  والبيهقي في «السنن» ٢ / ٤٢ و «الدلائل» ٧ / ١٥٢  ـ  ١٥٣ من طرق عن عوف بن أبي جميلة عن يزيد الفارسي عن ابن عباس به.

وإسناده ضعيف. مداره على يزيد الفارسي. قال عنه الحافظ في «التقريب» : مقبول. أي حيث يتابع ، ولم يتابع على هذا الحديث. وقال العلامة أحمد شاكر في «تخريج المسند» ٣٩٩ ما ملخصه : إنه لا أصل له لأمور : أولها جهالة يزيد الفارسي حيث تفرد به. ثانيها : فيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي.

ثالثها : فيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور ، كأن عثمان  ـ  كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه ، وحاشاه من ذلك. فلا علينا إذا قلنا : إنه حديث لا أصل له. ونقل كلامه الشيخ شعيب في «الإحسان» ١ / ٢٣٢ ووافقه.

وذكره الألباني في «ضعيف أبي داود» ٧٨٦ و ٧٨٧. وأما الحاكم فقال : صحيح على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي : حديث حسن وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي ١٠٧٥ و ١٠٢٨ و «تفسير الشوكاني» ١٠٧٥ بتخريجنا.

(٦٦٤) ذكره ابن هشام في «السيرة» ٤ / ١٤٥  ـ  ١٤٦ بأتم منه عن ابن إسحاق وهذا معضل. وورد من مرسل السدي ، أخرجه الطبري ١٦٣٩٢. وورد من مرسل أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ، أخرجه الطبري ١٦٣٩١ بنحوه. فهذه الروايات مرسلة لا تقوم بها حجة ، فإن الصحيح أن أبا بكر أتبع بعلي من دون أن يرجع أبو بكر.

وانظر «أحكام القرآن» ١٠٨٤ بتخريجنا.

__________________

(١) لا يصح هذا السبب : وهو رأي لعبد العزيز ، وليس بشيء وحديث صلح الحديبية متفق عليه. وتقدم.

٢٣١

الحجّ في تلك السّنة ، وبعث معه صدرا من (براءة) ليقرأها على أهل الموسم ، فلمّا سار دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا ، فقال : «أخرج بهذه القصّة من صدر براءة وأذّن في النّاس بذلك» ، فخرج عليّ على ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر ، فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله ، أنزل في شأني شيء؟ قال : «لا ، ولكن لا يبلّغ عنّي إلّا رجل منّي ، أما ترضى أنك كنت صاحبي في الغار ، وأنك صاحبي على الحوض»؟ قال : بلى يا رسول الله. فسار أبو بكر أميرا على الحجّ ، وسار عليّ ليؤذّن ب «براءة».

فصل : وفي عدد الآيات التي بعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أول براءة خمسة أقوال : أحدها : أربعون آية ، قاله عليّ عليه‌السلام. والثاني : ثلاثون آية ، قاله أبو هريرة. والثالث : عشر آيات ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والرابع : سبع آيات ، رواه ابن جريج عن عطاء. والخامس : تسع آيات ، قاله مقاتل.

فصل : فإن توهّم متوهّم أنّ في أخذ (براءة) من أبي بكر ، وتسليمها إلى عليّ ، تفضيلا لعليّ على أبي بكر ، فقد جهل ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجرى العرب في ذلك على عادتهم. قال الزّجّاج : وقد جرت عادة العرب في عقد عهدها ونقضها ، أن يتولّى ذلك على القبيلة رجل منها فكان. وجائز أن تقول العرب إذا تلا عليها نقض العهد من ليس من رهط النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا خلاف ما نعرف فينا في نقض العهود ، فأزاح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم العلّة بما فعل. وقال عمرو بن بحر : ليس هذا بتفضيل لعليّ على أبي بكر ، وإنما عاملهم بعادتهم المتعارفة في حلّ العقد ، وكان لا يتولّى ذلك إلّا السّيّد منهم ، أو رجل من رهطه دنيّا ، كأخ ، أو عمّ ؛ وقد كان أبو بكر في تلك الحجّة الإمام ، وعليّ يأتمّ به ، وأبو بكر الخطيب ، وعليّ يستمع.

(٦٦٥) وقال أبو هريرة : بعثني أبو بكر في تلك الحجّة مع المؤذّنين الذين بعثهم يؤذّنون بمنى : أن لا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ؛ فأذّن معنا عليّ ب (براءة) وبذلك الكلام.

(٦٦٦) وقال الشّعبيّ : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا يؤذّن بأربع كلمات : «ألا لا يحجّ بعد العام مشرك ، ألا ولا يطوف بالبيت عريان ، ألا ولا يدخل الجنّة إلّا مسلم ، ألا ومن كانت بينه وبين محمّد

____________________________________

(٦٦٥) صحيح. أخرجه البخاري ٣١٧٧ و ٤٦٥٥ و ٤٦٥٦ ومسلم ١٣٤٧ وأبو داود ١٩٤٦ والنسائي ٧٦ والبيهقي ٥ / ٨٧ والبغوي في «التفسير» ١٠٣١  ـ  بترقيمي  ـ  من طرق عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة به ، واللفظ للبخاري في روايته : الثانية والثالثة.

(٦٦٦) جيد. أخرجه الطبري ١٦٣٩ ، وفي الباب روايات. وللحديث شواهد : أخرجه الترمذي ٣٠٩٢ والحاكم ٣ / ٥٢ والطبري ١٦٣٨٧ و ١٦٣٩٣ من طرق عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن علي به ، وإسناده حسن ، زيد بن يثيع ، قال عنه الحافظ في «التقريب» : ثقة. وأما الذهبي فقال في «الميزان» ٣٠٣٢ : ما روى عنه سوى أبي إسحاق. وهذا منه إشارة إلى جهالته. قلت : ذكره الحافظ في «تهذيب التهذيب ٣ / ١٣٦٩ ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال العجلي : تابعي ثقة. وقال ابن سعد : كان قليل الحديث اه ملخصا. فينبغي أن يكون حسن الحديث ، لا سيما ، وقد توبع على هذا المتن ، فقد ورد من طريق الحارث الأعور عن علي. أخرجه الطبري ١٦٣٨٥ ، وإسناده ضعيف لضعف الحارث ، وكرره ١٦٣٨٨ من هذا الوجه. وله شاهد من حديث أبي هريرة ، أخرجه أحمد ٢ / ٢٩٩ والحاكم ٢ / ٣٣١ وإسناده لا بأس به ، وصححه الحاكم والذهبي. الخلاصة : هو حديث حسن أو صحيح بمجموع طرقه وشواهده ، والله أعلم. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٠٨١ بتخريجي ، وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي!. وقال الترمذي : هذا حديث حسن. وانظر أحكام القرآن ١٠٨٣ بتخريجنا.

٢٣٢

مدّة فأجله إلى مدّته ، والله بريء من المشركين ورسوله».

فصل : فأمّا التّفسير ، فقوله تعالى : (بَراءَةٌ) قال الفرّاء : هي مرفوعة بإضمار «هذه» ، ومثله (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) (١). وقال الزّجّاج : يقال : برئت من الرّجل والدّين براءة ، وبرئت من المرض ؛ وبرأت أيضا أبرأ برءا ، وقد رووا : برأت أبرأ بروءا. ولم نجد في ما لامه همزة : فعلت أفعل ، إلّا هذا الحرف. ويقال : بريت القلم ، وكلّ شيء نحتّه : أبريه بريا ، غير مهموز. وقرأ أبو رجاء ، ومورّق ، وابن يعمر : «براءة» بالنّصب. قال المفسّرون : والبراءة هاهنا : قطع الموالاة ، وارتفاع العصمة ، وزوال الأمان. والخطاب في قوله تعالى : (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه هو الذي يتولّى المعاهدة ، وأصحابه راضون ؛ فكأنهم بالرّضا عاهدوا أيضا ؛ وهذا عامّ في كلّ من عاهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال مقاتل : هم ثلاثة أحياء من العرب : خزاعة ، وبنو مدلج ، وبنو جذيمة.

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢))

قوله تعالى : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) أي : انطلقوا فيها آمنين لا يقع بكم منّا مكروه.

إن قال قائل : هذه مخاطبة شاهد ، والآية الأولى إخبار عن غائب ، فعنه جوابان :

أحدهما : أنه جائز عند العرب الرجوع من الغيبة إلى الخطاب. قال عنترة :

شطّت مزار العاشقين فأصبحت

عسرا عليّ طلابك ابنة مخرم (٢)

هذا قول أبي عبيدة. والثاني : أنّ في الكلام إضمارا ، تقديره : فقل لهم : سيحوا في الأرض ، أي : اذهبوا فيها ، وأقبلوا ، وأدبروا ، وهذا قول الزّجّاج.

واختلفوا فيمن جعلت له هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال (٣) : أحدها : أنّها أمان لأصحاب

__________________

(١) سورة النور : ٢.

(٢) البيت منسوب إلى عنترة ، في شرح القصائد السبع الطوال ٢٩٩ وقوله : شطت : أي بعدت.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله في تفسيره ٦ / ٣٠٥ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين ، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته ، فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه ، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً ...) [التوبة : ٤]. فإن ظن ظان أن قول الله تعالى ذكره (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). [التوبة : ٥]. يدل على خلاف ما قلنا في ذلك إذ كان ذلك ينبئ على أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم ، قتل كل مشرك فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن ، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تبين عن صحة ما قلنا ، وفساد ما ظنه من ظن أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك كان له عهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لم يكن كان له منه عهد وذلك قوله (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة : ٧]. فهؤلاء مشركون ، وقد أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم ، ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم ، وترك مظاهرة عدوهم عليهم. وبعد نفي الأخبار المتظاهرة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه حين بعث عليا رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم ، أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم.

٢٣٣

العهد ، فمن كان عهده أكثر منها ، حطّ إليها ، ومن كان عهده أقلّ منها ، رفع إليها ، ومن لم يكن له عهد ، فأجله انسلاخ المحرّم خمسون ليلة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضّحّاك. والثاني : أنها للمشركين كافّة ، من له عهد ، ومن ليس له عهد ، قاله مجاهد ، والزّهريّ ، والقرظي. والثالث : أنها أجل لمن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد آمنه أقلّ من أربعة أشهر ، أو كان أمانه غير محدود ؛ فأما من لا أمان له ، فهو حرب ، قاله ابن إسحاق. والرابع : أنها أمان لمن لم يكن له أمان ولا عهد ؛ فأما أرباب العهود ، فهم على عهودهم إلى حين انقضاء مددهم ، قاله ابن السّائب. ويؤكّده ما روي أنّ عليّا نادى يومئذ ؛ ومن كان بينه وبين رسول الله عهد ، فعهده إلى مدّته. وفي بعض الألفاظ : فأجله أربعة أشهر.

واختلفوا في مدّة هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال (١) : أحدها : أنها الأشهر الحرم : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، قاله ابن عباس. والثاني : أنّ أوّلها يوم الحجّ الأكبر ، وهو يوم النّحر ، وآخرها العاشر من ربيع الاخر ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ ، والقرظي. والثالث : أنها شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، لأنّ هذه الآية نزلت في شوّال ، قاله الزّهريّ. قال أبو سليمان الدّمشقي : وهذا أضعف الأقوال ، لأنه لو كان كذلك ، لم يجز تأخير إعلامهم به إلى ذي الحجّة ، إذ كان لا يلزمهم الأمر إلّا بعد الإعلام. والرابع : أنّ أوّلها العاشر من ذي القعدة ، وآخرها العاشر من ربيع الأوّل ، لأنّ الحجّ في تلك السّنة كان في ذلك اليوم ، ثم صار في السّنة الثانية في العشر من ذي الحجّة.

(٦٦٧) وفيها حجّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «إنّ الزمان قد استدار» ، ذكره الماوردي.

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي : وإن أجّلتم هذه الأربعة الأشهر فلن تفوتوا الله. قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) قال الزّجّاج : الأجود فتح «أن» على معنى : اعلموا أنّ ، ويجوز كسرها على الاستئناف. وهذا ضمان من الله نصرة المؤمنين على الكافرين.

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣))

____________________________________

(٦٦٧) حديث صحيح. أخرجه البخاري ٣١٩٧ و ٤٦٦٢ و ٥٥٥٠. ومسلم ٢٩١٦٧٩. وأبو داود ١٩٤٧. وأحمد ٥ / ٣٧ والبيهقي ٥ / ١٦٦ من حديث أبي بكرة. وتقدم مطولا.

__________________

«ومن كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فعهده إلى مدته». أوضح دليل على صحة ما قلنا. وذلك أن الله لم يأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنقص عهد قوم كان عهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه. وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود. فأما من كان أجل عهده محدودا ، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورا. وبذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب. ا. ه.

(١) قال الطبري رحمه‌الله في تفسيره ٦ / ٣٠٨ : وأما الأشهر الأربعة ، فإنها كانت أجل وكان ابتداؤها يوم الحج الأكبر ، وانقضاؤها انقضاء عشر من ربيع الآخر ، فذلك أربعة أشهر متتابعة ، جعل لأهل العهد الذين وصفنا أمرهم فيها السياحة في الأرض ينجون حيث شاؤوا ، لا يعرض لهم فيها من المسلمين أحد بحرب ولا قتل ولا سلب ا. ه.

٢٣٤

قوله تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي : إعلام ؛ ومنه أذان الصّلاة. وقرأ الضّحّاك ، وأبو المتوكّل ، وعكرمة ، والجحدريّ ، وابن يعمر : «وإذن» بكسر الهمزة وقصرها ساكنة الذال من غير ألف. قوله تعالى : (إِلَى النَّاسِ) أي : للناس. يقال : هذا إعلام لك ، وإليك. والناس ها هنا عامّ في المؤمنين والمشركين. وفي يوم الحجّ الأكبر ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنه يوم عرفة ، قاله عمر بن الخطّاب ، وابن الزّبير ، وأبو جحيفة ، وطاوس ، وعطاء. والثاني : يوم النّحر ، قاله أبو موسى الأشعري ، والمغيرة بن شعبة ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وابن المسيّب ، وابن جبير ، وعكرمة ، والشّعبيّ ، والنّخعيّ ، والزّهريّ ، وابن زيد ، والسّدّيّ في آخرين. وعن عليّ ، وابن عباس ، كالقولين. والثالث : أنه أيام الحجّ كلّها ، فعبّر عن الأيام باليوم ، قاله سفيان الثّوري. قال سفيان. كما يقال : يوم بعاث ، ويوم الجمل ، ويوم صفّين يراد به : أيام ذلك ، لأنّ كلّ حرب من هذه الحروب دامت أياما. وعن مجاهد ، كالأقوال الثلاثة. وفي تسميته بيوم الحجّ الأكبر ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : أنه سمّاه بذلك لأنه اتّفق في سنة حجّ فيها المسلمون والمشركون ، ووافق ذلك عيد اليهود والنّصارى ، قاله الحسن. والثاني : أنّ الحجّ الأكبر : هو الحجّ ، والأصغر : هو العمرة ، قاله عطاء ، والشّعبيّ. والثالث : أنّ الحجّ الأكبر : القران ، والأصغر : الإفراد ، قاله مجاهد.

قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ) وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وابن يعمر : «إن الله» بكسر الهمزة. (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : من عهد المشركين ، فحذف المضاف. (وَرَسُولِهِ) رفع على الابتداء ، وخبره مضمر على معنى : ورسوله أيضا بريء. وقرأ أبو رزين ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وزيد عن يعقوب : «ورسوله» بالنّصب. ثم رجع إلى خطاب المشركين بقوله تعالى : (فَإِنْ تُبْتُمْ) أي : رجعتم عن الشّرك ، (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن الإيمان.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله تعالى في «تفسيره» ٦ / ٣١٦ : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة قول من قال : «يوم الحج الأكبر ، يوم النحر» تظاهرت الأخبار عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عليا نادى بما أرسله به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرسالة إلى المشركين ، وتلا عليهم (براءة) يوم النحر ، هذا ، مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال يوم النحر : أتدرون أي يوم هذا؟ هذا يوم الحج الأكبر. وبعد فإن «اليوم» إنما يضاف إلى المعنى بالذي يكون فيه ، كقول الناس «يوم عرفة» وذلك يوم وقوف الناس بعرفة ، «يوم الأضحى» وذلك يوم يضحون فيه ، و «يوم الفطر» وذلك يوم يفطرون فيه. وكذلك «يوم الحج» يوم يحجون فيه ، وإنما يحج الناس ويقضون مناسكهم يوم النحر ، لأن في ليلة نهار يوم النحر ، الوقوف بعرفة غير فائت إلى طلوع الفجر ، وفي صبيحتها يعمل أعمال الحج. فأما يوم عرفة ، فإنه وإن كان فيه الوقوف بعرفة ، فغير فائت الوقوف به إلى طلوع الفجر من ليلة النحر ، والحج كله يوم النحر. وأما ما قال مجاهد : من أن «يوم الحج» إنما هو أيامه كلها ، فإن ذلك وإن كان جائزا في كلام العرب ، فليس بالأشهر الأعرف في كلام العرب من معانيه ، بل الأغلب على معنى «اليوم» عندهم أنه من غروب الشمس إلى مثله من الغد وإنما محمل تأويل كتاب الله على الأشهر الأعرف من كلام من نزل الكتاب بلسانه.

(٢) وقال الطبري رحمه‌الله تعالى في «تفسيره» ٦ / ٣١٨ : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي ، قول من قال «الحج الأكبر» «الحج» لأنه أكبر من العمرة بزيادة عمله على عملها ، فقيل له : «الأكبر» لذلك ، وأما «الأصغر» فالعمرة لأن عملها أقل من عمل الحج ، فلذلك قيل لها «الأصغر» لنقصان عملها من عمله.

٢٣٥

(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤))

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قال أبو صالح عن ابن عباس : فلمّا قرأ عليّ (براءة) ، قالت بنو ضمرة : ونحن مثلهم أيضا؟ قال : لا ، لأنّ الله تعالى قد استثناكم ؛ ثم قرأ هذه الآية. وقال مجاهد : هم قوم كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد ومدّة ، فأمر أن يفي لهم. قال الزّجّاج : معنى الكلام : وقعت البراءة من المعاهدين النّاقضين للعهود ، إلّا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوكم ، فليسوا داخلين في البراءة ما لم ينقضوا العهد. قال القاضي أبو يعلى : وفضل الخطاب في هذا الباب : أنه قد كان بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين جميع المشركين عهد عامّ ، وهو أن لا يصدّ أحد عن البيت ، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام ، فجعل الله عهدهم أربعة أشهر ؛ وكان بينه وبين أقوام منهم عهود إلى آجال مسمّاة ، فأمر بالوفاء لهم وإتمام مدّتهم إذا لم يخش غدرهم.

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) فيها قولان : أحدهما : أنها رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، قاله الأكثرون. والثاني : أنها الأربعة الأشهر التي جعلت لهم فيها السّياحة ، قاله الحسن في آخرين ، فعلى هذا ، سمّيت حرما لأنّ دماء المشركين حرّمت فيها.

قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) أي : من لم يكن له عهد (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) قال ابن عباس : في الحلّ والأشهر الحرم. قوله تعالى : (وَخُذُوهُمْ) أي : ائسروهم ؛ والأخيذ : الأسير. (وَاحْصُرُوهُمْ) أي : احبسوهم ؛ والحصر : الحبس. قال ابن عباس : إن تحصّنوا فاحصروهم. قوله تعالى : (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) قال الأخفش : أي : على كل مرصد ؛ فألقى «على» وأعمل الفعل ، قال الشاعر :

نغالي اللحم للأضياف نيئا

ونرخصه إذ نضج القدور (١)

المعنى : نغالي باللحم ، فحذف الباء كما حذف «على». وقال الزّجّاج : «كل مرصد» ظرف ، كقولك : ذهبت مذهبا ، فلست تحتاج أن تقول في هذه إلّا ما تقوله في الظّروف ، مثل : خلف ، وقدّام.

قوله تعالى : (فَإِنْ تابُوا) أي : من شركهم. وفي قوله تعالى : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) قولان : أحدهما : اعترفوا بذلك. والثاني : فعلوه.

فصل : واختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ حكم الأسارى كان وجوب قتلهم ، ثم نسخ بقوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) (٢) ، قاله الحسن ، وعطاء في آخرين. والثاني : بالعكس ، وأنه كان الحكم في الأسارى : أنه لا يجوز قتلهم صبرا ، وإنما يجوز المنّ

__________________

(١) البيت غير منسوب في «اللسان» غلى. نغالي للحم : نشتريه غاليا ثم نبذله ونطعمه إذا نضج في قدورنا.

(٢) سورة محمد : ٤.

٢٣٦

أو الفداء بقوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) ثم نسخ بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، قاله مجاهد ، وقتادة. والثالث : أنّ الآيتين محكمتان ، والأسير إذا حصل في يد الإمام ، فهو مخيّر ، إن شاء منّ عليه ، وإن شاء فاداه ، وإن شاء قتله صبرا ، أيّ ذلك رأى فيه المصلحة للمسلمين فعل ، هذا قول جابر بن زيد ، وعليه عامّة الفقهاء ، وهو قول الإمام أحمد.

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦))

قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) قال المفسّرون : وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتلهم استأمنك يبتغي أن يسمع القرآن وينظر فيما أمر به ونهي عنه ، فأجره ، ثم أبلغه الموضع الذي يأمن فيه. وفي قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) قولان : أحدهما : أنّ المعنى : ذلك الذي أمرناك به من أن يعرّفوا ويجاروا لجهلهم بالعلم. والثاني : ذلك الذي أمرناك به من ردّه إلى مأمنه إذا امتنع من الإيمان ، لأنهم قوم جهلة بخطاب الله.

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧))

قوله تعالى : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) أي : لا يكون لهم ذلك ، (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وفيهم ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنهم بنو ضمرة ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم قريش ، قاله ابن عباس أيضا. وقال قتادة : هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زمن الحديبية ، فنكثوا وظاهروا المشركين. والثالث : أنهم خزاعة ، قاله مجاهد.

(٦٦٨) وذكر أهل العلم بالسّير أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا صالح سهيل بن عمرو في غزوة الحديبية ، كتب بينه وبينه : «هذا ما اصطلح عليه محمّد بن عبد الله وسهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، ويكفّ بعضهم عن بعض ، على أنه لا إسلال ولا إغلال ، وأنّ بيننا عيبة مكفوفة ، وأنّه من أحبّ أن يدخل في عهد محمّد وعقده فعل ، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش

____________________________________

(٦٦٨) انظر السيرة النبوية ٤ / ٢٦  ـ  ٣١.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٦ / ٣٢٤ : وأولى الأقوال عندي ، قول من قال : هم بعض بني بكر من كنانة ، ممن كان أقام على عهده ، ولم يكن دخل في نقض ما كان بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد مع قريش ، حين نقضوه بمعونتهم حلفاء من بني الدّئل ، على حلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خزاعة. وإنما قلت : هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لأن الله أمر نبيه والمؤمنين بإتمام العهد لمن كانوا عاهدوه عند المسجد الحرام ، ما استقاموا على عهدهم ، وقد بينا أن هذه الآيات إنما نادى بها علي في سنة تسع من الهجرة ، وذلك بعد فتح مكة بسنة ، فلم يكن بمكة من قريش ولا خزاعة كافر يومئذ بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد ، فيؤمر بالوفاء له بعهده ما استقام على عهده ، لأن من كان منهم من ساكني مكة ، كان قد نقض العهد وحورب قبل نزول الآيات.

٢٣٧

وعقدها فعل ، وأنّه من أتى محمّدا منهم بغير إذن وليّه ردّه إليه ، وأنه من أتى قريشا من أصحاب محمّد لم يردّوه ، وأنّ محمّدا يرجع عنّا عامه هذا بأصحابه ، ويدخل علينا في قابل في أصحابه ، فيقيم بها ثلاثا لا يدخل علينا بسلاح ، إلّا سلاح المسافر ، السّيوف في القرب» ، فوثبت خزاعة فقالوا : نحن ندخل في عهد محمّد وعقده ، ووثبت بنو بكر فقالوا : نحن ندخل في عهد قريش وعقدها. ثم إنّ قريشا أعانت بني بكر على خزاعة بالرجال والسلاح فبيّتوا خزاعة ليلا ، فقتلوا منهم عشرين رجلا. ثم إنّ قريشا ندمت على ما صنعت ، وعلموا أنّ هذا نقض للعهد والمدّة التي بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخرج قوم من خزاعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروه بما أصابهم ، فخرج إليهم وكانت غزاة الفتح. قال أبو عبيدة : الإسلال : السّرقة ، والإغلال : الخيانة. قال ابن الأعرابي : وقوله : «وأنّ بيننا عيبة مكفوفة» مثل ، أراد : إنّ صلحنا محكم مستوثق منه ، كأنه عيبة مشرجة. وزعم بعض المفسّرين أنّ قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) نسخ بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨))

قوله تعالى : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) قال الزّجّاج : المعنى : كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم ، فحذف ذلك ، لأنه قد سبق ، قال الشاعر :

وخبّرتماني أنّما الموت بالقرى

فكيف وهذي هضبة وقليب (١)

أي فكيف مات وليس بقرية؟ ومثله قول الحطيئة :

فكيف ولم أعلمهم خذلوكم

على معظم ولا أديمكم قدّوا (٢)

أي : فكيف تلومونني على مدح قوم؟ واستغنى عن ذكر ذلك ، لأنه قد جرى في القصيدة ما يدلّ على ما أضمر. وقوله تعالى : (يَظْهَرُوا) يعني : يقدروا ويظفروا.

وفي قوله تعالى : (لا يَرْقُبُوا) ثلاثة أقوال : أحدها : لا يحفظوا ، قاله ابن عباس. والثاني : لا يخافوا ، قاله السّدّيّ. والثالث : لا يراعوا ، قاله قطرب.

وفي الإلّ خمسة أقوال (٣) : أحدها : أنه القرابة ، رواه جماعة عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك ، والسّدّيّ ، ومقاتل ، والفرّاء ، وأنشدوا :

إنّ الوشاة كثير إن أطعتهم

لا يرقبون بنا إلّا ولا ذمما

وقال الآخر :

__________________

(١) البيت لكعب بن سعد الغنوي من مرثيته الشهيرة في «الأصمعيات» ٩٩.

(٢) البيت للحطيئة ، ديوانه : ١٤٠ وقوله خذلوكم على معظم أي : لم يخذلوكم في أمر حدث ، وقوله : ولا أديمكم قدّوا ، أي : لم يقعوا في حبكم.

(٣) قال ابن كثير في «تفسيره» ٢ / ٤٢٠ : الصواب قول من قال إلّا : الله عزوجل. هذا القول هو الأشهر والأظهر وعليه الأكثر اه.

٢٣٨

لعمرك إنّ إلّك من قريش

كإلّ السّقب من رأل النّعام (١)

والثاني : أنه الجوار ، قاله الحسن. والثالث : أنه الله عزوجل ، رواه ابن أبي نجيج عن مجاهد ، وبه قال عكرمة. والرابع : أنه العهد ، رواه خصيف عن مجاهد ، وبه قال ابن زيد ، وأبو عبيدة. والخامس : أنه الحلف ، قاله قتادة. وقرأ عبد الله بن عمرو وعكرمة وأبو رجاء وطلحة بن مصرّف : «إيلا» بياء بعد الهمزة. وقرأ ابن السّميفع والجحدريّ : «ألّا» بفتح الهمزة وتشديد اللام.

وفي المراد بالذّمّة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها العهد ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والضّحّاك في آخرين. والثاني : التّذمّم ممّن لا عهد له ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد :

لا يرقبون بنا إلّا ولا ذمما

والثالث : الأمان ، قاله اليزيديّ ، واستشهد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(٦٦٩) «ويسعى بذمّتهم أدناهم».

قوله تعالى : (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : يرضونكم بأفواههم في الوفاء ، وتأبى قلوبهم إلّا الغدر. والثاني : يرضونكم بأفواههم في العدة بالإيمان ، وتأبى قلوبهم إلّا الشّرك. والثالث : يرضونكم بأفواههم في الطّاعة ، وتأبى قلوبهم إلّا المعصية ، ذكرهنّ الماوردي.

قوله تعالى : (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) قال ابن عباس : خارجون عن الصّدق ، ناكثون للعهد.

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١))

قوله تعالى : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) في المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه ، قاله مجاهد. والثاني : أنهم قوم من اليهود ، قاله أبو صالح. فعلى الأوّل ، آيات الله : حججه. وعلى الثاني : هي آيات التّوراة. والثّمن القليل : ما حصّلوه بدلا من الآيات. وفي وصفه بالقليل وجهان : أحدهما : لأنه حرام ، والحرام قليل. والثاني : لأنه من عرض الدنيا الذي بقاؤه قليل. وفي قوله تعالى : (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) ثلاثة أقوال : أحدها : عن بيته ، وذلك حين منعوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية دخول مكّة. والثاني : عن دينه بمنع الناس منه. والثالث : عن طاعته في الوفاء بالعهد.

____________________________________

(٦٦٩) صحيح. أخرجه أبو داود ٤٥٣٠ والنسائي ٨ / ٢٣ وأحمد ١ / ١١٩ و ١٢٢ وأبو يعلى ٣٣٨ من حديث علي وهو حديث صحيح ، وتقدم.

__________________

(١) البيت منسوب إلى حسان بن ثابت ، ديوانه ٤٠٧ ، و «اللسان». ألل.

السقب : ولد الناقة ساعة يولد. الرأل : ولد النعام.

٢٣٩

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢))

قوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ). قال ابن عباس :

(٦٧٠) نزلت في أبي سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا العهد حين أعانوا بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسير إليهم فينصر خزاعة ، وهم الذين همّوا بإخراج الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأما النّكث ، فمعناه : النّقض. والأيمان ها هنا : العهود. والطّعن في الدّين : أن يعاب ، وهذا يوجب قتل الذّمّيّ إذا طعن في الإسلام ، لأنّ المأخوذ عليه أن لا يطعن فيه (١).

قوله تعالى : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) قرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ «أئمة» بتحقيق الهمزتين. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : بتحقيق الأولى وتليين الثانية. والمراد بأئمة الكفر : رؤوس المشركين وقادتهم. (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي : لا عهود لهم صادقة ؛ هذا على قراءة من فتح الألف ، وهم الأكثرون. وقرأ ابن عامر «لا إيمان لهم» بالكسر ؛ وفيها وجهان ذكرهما الزّجّاج : أحدهما : أنه وصف لهم بالكفر ونفي الإيمان. والثاني : لا أمان لهم ، تقول : آمنته إيمانا ، والمعنى : فقد بطل أمانكم لهم بنقضهم.

وفي قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) قولان : أحدهما : عن الشّكر. والثاني : عن نقض العهود.

____________________________________

(٦٧٠) عزاه المصنف لابن عباس ، ولم أقف على إسناده وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٩٠ بدون إسناد عن ابن عباس. وأخرجه الطبري ١٦٥٤٠ من حديث قتادة مرسلا بنحوه. وقال ابن كثير في «تفسيره» ٢ / ٤٢٠ : والصحيح أن الآية عامة ، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم والله أعلم اه.

__________________

(١) قال القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» ٨ / ٧٧  ـ  ٧٩ : استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدين ، إذ هو كافر ، والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به ، أو يتعرض بالاستخفاف على ما هو من الدين لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه. فذهب مالك والشافعي وابن المنذر إلى قتل من سب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحكي عن النعمان أنه قال : لا يقتل من سب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما الذمي إذا طعن في الدين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك لقوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) الآية فأمر بقتلهم وقتالهم ، وهو مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة : إنه يستتاب ، وإن مجرد الطعن لا ينقض به العهد إلا مع وجود النكث ، لأن الله عزوجل إنما أمر بقتلهم بشرطين أحدهما نقضهم العهد. والثاني طعنهم في الدين.

وأكثر العلماء على أن من سب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الذمة ، أو عرّض أو استخف بقدره أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به فإنه يقتل. فإنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا. إلا أبا حنيفة والثوري وأتباعهما من أهل الكوفة فإنهم قالوا لا يقتل ما هو عليه من الشرك أعظم. ولكن يؤدب ويعزر والحجة عليه قوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا) الآية.

وقوله تعالى : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ). المراد صناديد قريش  ـ  في قول بعض العلماء  ـ  كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف ، وهذا بعيد ، فإن الآية في سورة (براءة) وحين نزلت وقرئت على الناس كان قد استأصل شأفة قريش فلم يبق إلا مسلم أو مسالم. فيحتمل أن يكون المراد (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين يكون أصلا ورأسا في الكفر فهو من أئمة الكفر على هذا. ويحتمل أن يعني به المتقدمون والرؤساء منهم ، وأن قتالهم قتال لأتباعهم وأنهم لا حرمة لهم. ا. ه.

٢٤٠