زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٥

قوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي بالمعروف. وفي قوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) قولان : أحدهما : أنّهم المشركون ، أمر بالإعراض عنهم ، ثم نسخ ذلك بآية السيف. والثاني : أنه عامّ فيمن جهل ، أمر بصيانة النّفس عن مقابلتهم على سفههم ، وإن وجب عليه الإنكار عليهم. وهذه الآية عند الأكثرين كلّها محكمة ، وعند بعضهم أنّ وسطها محكم وطرفيها منسوخان على ما بيّنا.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١))

قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ). قال ابن زيد :

(٦٠١) لمّا نزلت «خذ العفو» قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ربّ كيف بالغضب»؟ فنزلت هذه الآية.

فأمّا قوله تعالى : (وَإِمَّا) فقد سبق بيانه في (البقرة) في قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) (١) ، وقال أبو عبيدة : ومجاز الكلام : وإمّا تستخفّنّك منه خفّة وغضب وعجلة. وقال السّدّيّ : النّزغ : الوسوسة وحديث النّفس. قال الزّجّاج : النّزغ : أدنى حركة تكون ، تقول : قد نزغته : إذا حرّكته. وقد سبق معنى الاستعاذة.

قوله تعالى : (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ : «طيف» بغير ألف. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة : «طائف» بألف ممدودا مهموزا. وقرأ ابن عباس وابن جبير والجحدريّ والضّحّاك : «طيف» بتشديد الياء من غير ألف. وهل الطّائف والطّيف بمعنى واحد ، أم يختلفان؟ فيه قولان : أحدهما : أنهما بمعنى واحد ، وهما ما كان كالخيال والشيء يلمّ بك ، حكي عن الفرّاء. وقال الأخفش : الطّيف أكثر في كلام العرب من الطّائف ، قال الشاعر :

ألا يا لقوم لطيف الخيال

أرّق من نازح ذي دلال (٢)

والثاني : أنّ الطّائف : ما يطوف حول الشيء ، والطّيف : اللمّة والوسوسة والخطرة ، حكي عن أبي عمرو ، وروي عن ابن عباس أنه قال : الطّائف : اللمّة من الشّيطان ، والطّيف : الغضب. وقال ابن الأنباري : الطّائف : الفاعل من الطّيف ؛ والطّيف عند أهل اللغة : اللّمم من الشيطان ؛ وزعم مجاهد أنه الغضب.

قوله تعالى : (تَذَكَّرُوا) فيه ثلاثة أقوال : أحدهما : تذكّروا الله إذا همّوا بالمعاصي فتركوها ، قاله مجاهد. والثاني : تفكّروا فيما أوضح الله لهم من الحجّة ، قاله الزّجّاج. والثالث : تذكّروا غضب الله ؛

____________________________________

(٦٠١) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١٥٥٦٤ عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا معضل ، ومع ذلك ابن زيد ضعيف ليس بشيء ، إن وصل الحديث فكيف إذا أرسله؟!.

__________________

(١) سورة البقرة : ٣٨.

(٢) البيت لأمية بن عائذ في شرح «أشعار الهذليين» ٢ / ٤٩٤. الطيف : ما جاء في المنام. الدلال : الشكل والهيئة الحسنة. النازح : البعيد. الأرق : أن يغمض عينه مرة ويفتحها أخرى.

١٨١

والمعنى : إذا جرّأهم الشيطان على ما لا يحلّ ، تذكّروا غضب الله فأمسكوا ، فإذا هم مبصرون لمواضع الخطأ بالتّفكر.

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢))

قوله تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ) في هذه الهاء والميم قولان :

أحدهما : أنها عائدة على المشركين ؛ فتكون هذه الآية مقدّمة على التي قبلها ، والتّقدير : وأعرض عن الجاهلين ، وإخوان الجاهلين ، وهم الشياطين (يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) قرأ نافع : «يمدونهم» بضمّ الياء وكسر الميم. والباقون : بفتح الياء وضمّ الميم. قال أبو عليّ : عامّة ما جاء في التّنزيل فيما يحمد ويستحب : أمددت ، على أفعلت ، كقوله تعالى : (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) (١) (أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ) (٢) (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ) (٣) ، وما كان على خلافه يجيء على : مددت ؛ كقوله تعالى : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) (٤) ؛ فهذا يدلّ على أنّ الوجه فتح الياء ، إلّا أنّ وجه قراءة نافع منزلة (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٥). قال المفسّرون : «يمدونهم في الغي» أي : يزيّنونه لهم ، ويريدون منهم لزومه ؛ فيكون معنى الكلام : إنّ الذين اتّقوا إذا جرّهم الشيطان إلى خطيئة ، تابوا منها ، وإخوان الجاهلين ، وهم الشياطين ، وقد جرى ذكرهم لقوله تعالى : (مِنَ الشَّيْطانِ) ؛ فالمعنى : وإخوان الشياطين يمدّونهم.

والثاني : أنّ الهاء والميم ترجع إلى المتّقين ؛ فالمعنى : وإخوان المتّقين من المشركين ، وقيل : من الشياطين يمدّونهم في الغيّ ، أي : يريدون من المسلمين أن يدخلوا معهم في الكفر ، ذكر هذا القول جماعة منهم ابن الأنباري. فإن قيل : كيف قال : «وإخوانهم» وليسوا على دينهم؟ فالجواب : إنّا إن قلنا : إنّهم المشركون ، فجائز أن يكونوا إخوانهم في النّسب ، أو في كونهم من بني آدم ، أو لكونهم يظهرون النّصح كالإخوان ؛ فإن قلنا : إنهم الشياطين ، فجائز أن يكونوا لكونهم مصاحبين لهم ، والقول الأوّل أصحّ.

قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) وقرأ الزّهريّ وابن أبي عبلة : «لا يقصّرون» بالتشديد. قال الزّجّاج : يقال : أقصر يقصر ، وقصّر يقصّر. قال ابن عباس : لا الإنس يقصرون عمّا يعملون من السّيئات ولا الشياطين تقصر عنهم ؛ فعلى هذا يكون قوله تعالى : (يُقْصِرُونَ) من فعل الفريقين ، وهذا على القول المشهور ؛ ويخرّج على القول الثاني أن يكون هذا وصفا للإخوان فقط.

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣))

قوله تعالى : (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) يعني به المشركين. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : إذا لم تأتهم

__________________

(١) سورة النمل : ٣٦.

(٢) سورة المؤمنون : ٥٥.

(٣) سورة الطور : ٢٢.

(٤) سورة البقرة : ١٥.

(٥) سورة التوبة : ٣٤.

١٨٢

بآية ، سألوها تعنّتا ، قاله ابن السّائب. والثاني : إذا لم تأتهم بآية لإبطاء الوحي ، قاله مقاتل : وفي قوله : (لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) قولان : أحدهما : هلّا افتعلتها من تلقاء نفسك ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسّدّيّ ، وابن زيد ، والفرّاء ، والزّجّاج ، وابن قتيبة في آخرين ، وحكي عن الفرّاء أنه قال : العرب تقول : اجتبيت الكلام ، واختلقته ، وارتجلته : إذا افتعلته من قبل نفسك. والثاني : هلّا طلبتها لنا قبل مسألتك؟ ذكره الماوردي ؛ والأوّل أصحّ.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي : ليس الأمر لي.

قوله تعالى : (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني القرآن. قال أبو عبيدة : البصائر بمعنى الحجج والبرهان والبيان ، واحدتها : بصيرة. وقال الزّجّاج : معنى البصائر : ظهور الشيء وبيانه.

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤))

قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) اختلفوا في نزولها على خمسة أقوال.

(٦٠٢) أحدها : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ في الصّلاة المكتوبة ، فقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

(٦٠٣) والثاني : أنّ المشركين كانوا يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلّى ، فيقول بعضهم لبعض : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ، فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن المسيّب.

(٦٠٤) والثالث : أنّ فتى من الأنصار كان كلّما قرأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، قرأ هو ، فنزلت هذه الآية ، قاله الزّهريّ.

(٦٠٥) والرابع : أنهم كانوا يتكلّمون في صلاتهم أول ما فرضت ، فيجيء الرجل فيقول لصاحبه : كم صلّيتم؟ فيقول : كذا وكذا ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة.

(٦٠٦) والخامس : أنها نزلت تأمر بالإنصات للإمام في الخطبة يوم الجمعة ، روي عن عائشة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، ومجاهد ، وعمرو بن دينار في آخرين.

____________________________________

(٦٠٢) لم أره مسندا ، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد.

(٦٠٣) باطل. عزاه المصنف لابن المسيب ، ولم أقف عليه ، وهو باطل لا يصح عنه ، فإن الخطاب في الآية للمؤمنين ، وسياق الخبر يدل على أن الخطاب للمشركين!!! (٦٠٤) ضعيف. أخرجه الطبري ١٥٥٩٤ عن الزهري مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٦٥ عن الزهري مرسلا.

(٦٠٥) ضعيف. أخرجه الطبري ١٥٦١٠ عن قتادة به ، وهذا مرسل ، فهو ضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٦٤ عن قتادة.

(٦٠٦) لم أره عن عائشة ، وورد عن بعض التابعين ، ولا يصح شيء من ذلك أخرجه الطبري ١٥٦٢٠ و ١٥٦٢١ عن مجاهد قوله. و ١٥٦٢٢ عن منصور قال : سمعت إبراهيم بن أبي حمزة يحدث أنه سمع مجاهدا. وأخرجه الطبري ١٥٦٢٣ عن عطاء قال : وجب الصموت في اثنتين عند الرجل يقرأ القرآن وهو يصلي ، وعند الإمام وهو يخطب. وكرره ١٥٦٢٤ و ١٥٦٢٦ عن مجاهد نحوه. وكرره ١٥٦٢٧ عن بقية بن الوليد قال سمعت ثابت بن عجلان يقول : سمعت سعيد بن جبير يقول ... وكرره ١٥٦٢٩ عن عطاء نحوه.

١٨٣

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥))

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) في هذا الذّكر أربعة أقوال (١) : أحدها : أنه القراءة في الصّلاة ، قاله ابن عباس ؛ فعلى هذا ، أمر أن يقرأ في نفسه في صلاة الإسرار. والثاني : أنه القراءة خلف الإمام سرّا في نفسه ، قاله قتادة. والثالث : أنه ذكر الله باللسان. والرابع : أنه ذكر الله باستدامة الفكر ، لا يغفل عن الله تعالى ، ذكر القولين الماوردي.

وفي المخاطب بهذا الذّكر قولان : أحدهما : أنه المستمع للقرآن ، إمّا في الصّلاة ، وإمّا من الخطيب ، قاله ابن زيد. والثاني : أنه خطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعناه عامّ في جميع المكلّفين.

قوله تعالى : (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) التّضرّع : الخشوع في تواضع ؛ والخيفة : الحذر من عقابه.

قوله تعالى : (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) الجهر : الإعلان بالشيء ؛ ورجل جهير الصّوت : إذا كان صوته عاليا. وفي هذا نصّ على أنه الذّكر باللسان ؛ ويحتمل وجهين : أحدهما : قراءة القرآن. والثاني : الدّعاء ، وكلاهما مندوب إلى إخفائه ، إلّا أنّ صلاة الجهر قد بيّن أدبها في قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) (٢). فأمّا الغدوّ : فهو جمع غدوة ؛ والآصال : جمع أصل ، والأصل جمع أصيل ؛ فالآصال جمع الجمع ، والآصال : العشيّات. وقال أبو عبيدة : هي ما بين العصر إلى المغرب ؛ وأنشد :

لعمري لأنت البيت أكرم أهله

وأقعد في أفيائه بالأصائل (٣)

وروي عن ابن عباس أنه قال : يعني بالغدوّ : صلاة الفجر ؛ وبالآصال : صلاة العصر.

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني الملائكة. (لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي : لا يتكبّرون ويتعظّمون

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢ / ٣٥٣  ـ  ٣٥٤. الآية (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ...) : أي اذكر ربك في نفسك رهبة ورغبة وبالقول لا جهرا ولهذا قال (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) وهكذا يستحب أن يكون الذكر ، لا يكون نداء وجهرا بليغا. ولهذا لما سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ، فأنزل الله (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ). وكذا قال في هذه الآية الكريمة (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ .. وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ). وقد زعم ابن جرير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قبله : أن المراد بهذه الآية السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة. وهذا بعيد مناف للإنصات المأمور به. ثم المراد بذلك في الصلاة ، كما تقدم ، أو الصلاة والخطبة. ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان ، سواء كان سرا أو جهرا فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه. بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال ، لئلا يكون من الغافلين وبهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار ولا يفترون فقال (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) الآية. وإنما ذكرهم بهذا التشبيه بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم ، ولهذا شرع لنا السجود ها هنا لما ذكر سجودهم لله عزوجل. وهذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع.

(٢) سورة الإسراء : ١١٠.

(٣) البيت لأبي ذؤيب الهذلي كما في «ديوانه» ١ / ١٤١.

١٨٤

(عَنْ عِبادَتِهِ) ، وفي هذه العبادة قولان : أحدهما : الطّاعة. الثاني : الصّلاة والخضوع فيها. وفي قوله تعالى : (وَيُسَبِّحُونَهُ) قولان : أحدهما : ينزّهونه عن السّوء. والثاني : يقولون : سبحان الله. قوله تعالى : (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي : يصلّون. وقيل : سبب نزول هذه الآية أنّ كفّار مكّة قالوا : أنسجد لما تأمرنا؟ فنزلت هذه الآية تخبر أنّ الملائكة وهم أكبر شأنا ، لا يتكبّرون عن عبادة الله. وقد روى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

(٦٠٧) «إذا قرأ ابن آدم السّجدة فسجد ، اعتزل الشّيطان يبكي ويقول : يا ويله ، أمر هذا بالسّجود فسجد فله الجنّة ، وأمرت بالسّجود فعصيت فلي النّار».

____________________________________

(٦٠٧) حديث صحيح. أخرجه مسلم ٨١ وابن ماجة ١٠٥٢ وأحمد ٢ / ٤٤٣ وابن خزيمة ٥٤٩ وابن حبان ٢٧٥٩ والبغوي في «شرح السنة» ٦٥٤ من حديث أبي هريرة.

١٨٥

سورة الأنفال

وهي مدنيّة بإجماعهم. وحكى الماورديّ عن ابن عباس أنّ فيها سبع آيات مكّيّات ، أوّلها : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١))

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٦٠٨) أحدها : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم بدر : «من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا» ، فأمّا المشيخة ، فثبتوا تحت الرّايات ، وأما الشّبّان ، فسارعوا إلى القتل والغنائم ، فقال المشيخة للشّبان : أشركونا معكم ، فإنّا كنّا لكم ردءا ؛ فأبوا ، فاختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت سورة (الأنفال) ، رواه عكرمة عن ابن عباس.

(٦٠٩) والثاني : أنّ سعد بن أبي وقّاص أصاب سيفا يوم بدر ، فقال : يا رسول الله ، هبه لي ، فنزلت هذه الآية ، رواه مصعب بن سعد عن أبيه. وفي رواية أخرى عن سعد قال : قتلت سعيد بن العاص ، وأخذت سيفه فأتيت به رسول الله ، فقال : «اذهب فاطرحه في القبض» فرجعت ، وبي ما لا

____________________________________

(٦٠٨) حسن. ورد عن ابن عباس أخرجه أبو داود ٢٧٣٧ و ٢٧٣٨ و ٢٧٣٩ والنسائي في «التفسير» ٢١٧ وابن أبي شيبة ١٤ / ٣٥٦ والحاكم ٢ / ١٣١ و ١٣٢ و ٣٢٦ و ٣٢٧ ، وابن حبان ٥٠٩٣ والطبري ١٥٦٦٢ و ١٥٦٦٣ و ١٥٦٦٤ ، والبيهقي ٦ / ٢٩١ و ٢٩٢ و ٣١٥ و ٣١٦ ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

وأخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» ٩٤٨٣ من وجه آخر عن ابن عباس بنحوه لكن إسناده ساقط فيه محمد بن السائب الكلبي متروك متهم. انظر «تفسير القرطبي» ٣١٨١ بتخريجنا.

(٦٠٩) صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة ١٢ / ٣٧٠ وسعيد بن منصور ٢٦٨٩ وأحمد ١ / ١٨٠ والطبري ١٥٦٧١ والواحدي ٤٦٨. وورد من وجه آخر أخرجه مسلم ١٧٤٨ مختصرا ومطولا وأبو داود ٢٧٤٠ والترمذي ٣٠٧٩ و ٣١٨٩ والنسائي في «التفسير» ٢١٦ والبخاري في الأدب المفرد ٢٤. وأبو يعلى ٧٣٥ و ٧٨٢ واستدركه الحاكم ٢ / ١٣٢ والبيهقي ٦ / ٢٩١ والواحدي ص ١٧٣ من حديث سعد بن أبي وقاص ، بألفاظ متقاربة.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٣٠.

١٨٦

يعلمه إلّا الله ؛ فما جاوزت إلّا قريبا حتّى نزلت سورة (الأنفال) ، فقال : «اذهب فخذ سيفك».

(٦١٠) وقال السّدّي : اختصم سعد وناس آخرون في ذلك السّيف ، فسألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ، فنزلت هذه الآية.

(٦١١) والثالث : أنّ الأنفال كانت خالصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليس لأحد منها شيء ، فسألوه أن يعطيهم منها شيئا ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

وفي المراد بالأنفال ستة أقوال : أحدهما : أنّها الغنائم ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والضّحّاك ، وأبو عبيدة ، والزّجّاج ، وابن قتيبة في آخرين. وواحد الأنفال : نفل ، قال لبيد :

إنّ تقوى ربّنا خير نفل

وبإذن الله ريثي وعجل

والثاني : أنها ما نفّله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القاتل من سلب قتيله. والثالث : أنها ما شذ من المشركين إلى المسلمين من عبد أو دابة بغير قتال ، قاله عطاء. وهذا والذي قبله مرويان عن ابن عباس أيضا.

(٦١٢) والرابع : أنه الخمس الذي أخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغنائم ، قاله مجاهد.

والخامس : أنه أنفال السّرايا ، قاله عليّ بن صالح بن حيّ. وحكي عن الحسن قال : هي السّرايا التي تتقدّم أمام الجيوش. والسادس : أنّها زيادات يؤثر بها الإمام بعض الجيش لما يراه من المصلحة ، ذكره الماوردي.

وفي «عن» قولان : أحدهما : أنّها زائدة ، والمعنى : يسألونك الأنفال ؛ وكذلك قرأ سعد بن أبي وقّاص وابن مسعود وأبيّ بن كعب وأبو العالية : «يسألونك الأنفال» بحذف «عن». والثاني : أنّها أصل ، والمعنى : يسألونك عن الأنفال لمن هي؟ أو عن حكم الأنفال ؛ وقد ذكرنا في سبب نزولها ما يتعلّق بالقولين. وذكر أنهم إنّما سألوا عن حكمها لأنّها كانت حراما على الأمم قبلهم.

فصل : واختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية ، فقال بعضهم : إنّها ناسخة من وجه ، منسوخة من وجه ، وذلك أنّ الغنائم كانت حراما في شرائع الأنبياء المتقدّمين ، فنسخ الله ذلك بهذه الآية ، وجعل الأمر في الغنائم إلى ما يراه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) (١). وقال آخرون : المراد بالأنفال شيئان : أحدهما : ما يجعله الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لطائفة من شجعان العسكر ومتقدّميه ، يستخرج به نصحهم ، ويحرّضهم على القتال. والثاني : ما يفضل

____________________________________

(٦١٠) ضعيف. أخرجه الطبري ١٥٦٨٥ عن السدي مرسلا. وورد من مرسل سعيد بن جبير. أخرجه أبو جعفر بن النحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص ١٤٤ عن سعيد بن جبير مرسلا فهو ضعيف ، وعلته الإرسال ، لكن يشهد لما قبله.

(٦١١) ضعيف. أخرجه البيهقي ٦ / ٢٩٣ والطبري ١٥٦٧٩ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

(٦١٢) مرسل أخرجه الطبري ١٥٦٦٠ و ١٥٦٦١ عن مجاهد.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٤١.

١٨٧

من الغنائم بعد قسمتها كما روي عن ابن عمر قال :

(٦١٣) بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سريّة ، فغنمنا إبلا ، فأصاب كلّ واحد منّا عشر بعيرا ، ونفّلنا بعيرا بعيرا. فعلى هذا هي محكمة ، لأنّ هذا الحكم باق إلى وقتنا هذا.

فصل : ويجوز النّفل قبل إحراز الغنيمة ، وهو أن يقول الإمام : من أصاب شيئا فهو له ، وبه قال الجمهور. فأمّا بعد إحرازها ، ففيه عن أحمد روايتان. وهل يستحقّ القاتل سلب المقتول إذا لم يشرطه له الإمام ، فيه قولان : أحدهما : يستحقّه ، وبه قال الأوزاعيّ والليث والشّافعيّ. والثاني : لا يستحقّه ويكون غنيمة للجيش ، وبه قال أبو حنيفة ومالك ؛ وعن أحمد روايتان كالقولين.

قوله تعالى : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي : يحكمان فيها ما أرادا ، (فَاتَّقُوا اللهَ) بترك مخالفته (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) قال الزّجّاج : معنى «ذات بينكم» حقيقة وصلكم. والبين : الوصل ؛ كقوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) (١). ثم في المراد بالكلام قولان : أحدهما : أن يردّ القويّ على الضّعيف ، قاله عطاء. والثاني : ترك المنازعة تسليما لله ورسوله.

قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي : اقبلوا ما أمرتم به في الغنائم وغيرها.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢))

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ) قال الزّجّاج : إذا ذكرت عظمته وقدرته وما خوّف به من عصاه ، فزعت قلوبهم ، قال الشاعر:

لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل

على أينا تعدوا المنيّة أوّل (٢)

يقال : وجل يوجل وياجل وييجل وييجل ، هذه أربع لغات حكاها سيبويه. وأجودها : يوجل. وقال السّدّيّ : هو الرجل يهمّ بالمعصية ، فيذكر الله فينزع عنها.

قوله تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ) أي : آيات القرآن. وفي قوله : (زادَتْهُمْ إِيماناً) ثلاثة أقوال : أحدها : تصديقا ، قاله ابن عباس. والمعنى : أنهم كلّما جاءهم شيء عن الله آمنوا به ، فيزدادوا إيمانا بزيادة الآيات. والثاني : يقينا ، قاله الضّحّاك. والثالث : خشية الله ، قاله الرّبيع بن أنس. وقد ذكرنا معنى التّوكّل في سورة آل عمران (٣).

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣))

____________________________________

(٦١٣) صحيح. أخرجه البخاري ٤٣٣٨ ومسلم ١٧٤٩ وأحمد ٢ / ١٠ وأبو داود ١٧٤٤ وابن حبان ٤٨٣٢ من حديث عمر. انظر القرطبي ٣١٨٠ بتخريجنا.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٩٤.

(٢) البيت لمعن بن أوس في «مجاز القرآن» ١ / ٢٤٠.

(٣) سورة آل عمران : ١٢٢.

١٨٨

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) قال ابن عباس : يعني الصّلوات الخمس. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) يعني الزّكاة.

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))

قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) ، قال الزّجّاج : «حقا» منصوب بمعنى دلّت عليه الجملة ، والجملة (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) ، فالمعنى : أحقّ ذلك حقّا. وقال مقاتل : المعنى : أولئك هم المؤمنون لا شكّ في إيمانهم كشكّ المنافقين.

قوله تعالى : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) قال عطاء : الجنّة يرتقونها بأعمالهم ، والرّزق الكريم : ما أعدّ لهم فيها.

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦))

قوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) في متعلق هذه الكاف خمسة أقوال : أحدها : أنها متعلّقة بالأنفال. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ تأويله : امض لأمر الله في الغنائم وإن كرهوا ، كما مضيت في خروجك من بيتك وهم كارهون ، قاله الفرّاء. والثاني : أنّ الأنفال لله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحقّ الواجب ، كما أخرجك ربّك بالحقّ ، وإن كرهوا ذلك ، قاله الزّجّاج. والثالث : أنّ المعنى : يسألونك عن الأنفال مجادلة ، كما جادلوك في خروجك ، حكاه جماعة من المفسّرين. والثاني : أنها متعلّقة بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا) ، والمعنى : إنّ التّقوى والإصلاح خير لكم ، كما كان إخراج الله نبيّه محمّدا خيرا لكم وإن كرهه بعضكم ، هذا قول عكرمة. والثالث : أنها متعلّقة بقوله تعالى : (يُجادِلُونَكَ) ، فالمعنى : مجادلتهم إيّاك في الغنائم كإخراج الله إيّاك إلى بدر وهم كارهون ، قاله الكسائيّ. والرابع : أنها متعلّقة بقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) ، والمعنى : وهم المؤمنون حقّا كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ ، ذكره بعض ناقلي التّفسير. والخامس : أنّ «كما» في موضع قسم ، معناها : والذي أخرجك من بيتك ، قاله أبو عبيدة ، واحتجّ بأنّ «ما» في موضع «الذي» ومنه قوله : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (١) ، قاله ابن الأنباري. وفي هذا القول بعد ، لأنّ الكاف ليست من حروف الأقسام.

وفي هذا الخروج قولان : أحدهما : أنه خروجه إلى بدر ، وكره ذلك طائفة من أصحابه ، لأنهم علموا أنهم لا يظفرون بالغنيمة إلّا بالقتال. والثاني : أنه خروجه من مكّة إلى المدينة للهجرة. وفي معنى قوله : «بالحق» قولان : أحدهما : أنك خرجت ومعك الحقّ. والثاني : أنك خرجت بالحقّ الذي وجب عليك. وفي قوله تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) قولان : أحدهما : كارهون خروجك. والثاني : كارهون صرف الغنيمة عنهم ، وهذه كراهة الطّبع لمشقّة السّفر والقتال ، وليست كراهة لأمر الله تعالى.

قوله تعالى : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) يعني في القتال يوم بدر ، لأنّهم خرجوا بغير عدّة ، فقالوا : هلّا

__________________

(١) سورة الليل : ٣.

١٨٩

أخبرتنا بالقتال لنأخذ العدّة ، فجادلوه طلبا للرّخصة في ترك القتال. وفي قوله تعالى : (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) ثلاثة أقوال : أحدهما : تبيّن لهم فرضه. والثاني : تبيّن لهم صوابه. والثالث : تبيّن لهم أنك لا تفعل إلّا ما أمرت به. وفي «المجادلين» قولان : أحدهما : أنهم طائفة من المسلمين ، قاله ابن عباس ، والجمهور. والثاني : أنهم المشركون ، قاله ابن زيد ، فعلى هذا ، يكون جدالهم في الحقّ الذي هو التّوحيد ، لا في القتال. فعلى الأوّل ، يكون معنى قوله تعالى : (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) أي : في لقاء العدوّ (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) ، لأنّ أشدّ حال من يساق إلى الموت أن يكون ناظرا إليه ، وعالما به. وعلى قول ابن زيد : كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام لكراهتهم إيّاه.

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))

قوله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ).

(٦١٤) قال أهل التّفسير : أقبل أبو سفيان من الشام في عير لقريش ، حتى إذا دنا من بدر ، نزل جبريل فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فخرج في جماعة من أصحابه يريدهم ، فبلغهم ذلك فبعثوا عمرو بن ضمضم الغفاريّ إلى مكّة مستغيثا ، فخرجت قريش للمنع عنها ، ولحق أبو سفيان بساحل البحر ، ففات رسول الله ، ونزل جبريل بهذه الآية : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ).

والمعنى : اذكروا إذ يعدكم الله إحدى الطّائفتين. والطّائفتان : أبو سفيان وما معه من المال ، وأبو جهل ومن معه من قريش ؛ فلما سبق أبو سفيان بما معه كتب إلى قريش : إن كنتم خرجتم لتحرزوا ركائبكم فقد أحرزتها لكم. فقال أبو جهل : والله لا نرجع. وسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد القوم. فكره أصحابه ذلك وودّوا أن لو نالوا الطّائفة التي فيها الغنيمة دون القتال ؛ فذلك قوله : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) أي : ذات السّلاح. يقال : فلان شاكي السّلاح ؛ بالتّخفيف ، وشاكّ في السّلاح ؛ بالتّشديد ، وشائك. قال أبو عبيدة : ومجاز الشّوكة الحدّ ؛ يقال : ما أشدّ شوكة بني فلان ، أي : حدّهم. وقال الأخفش : إنما أنّث «ذات الشّوكة» لأنه يعني الطّائفة.

قوله تعالى : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) في المراد بالحق قولان (١) : أحدهما : أنه الإسلام ، قاله

____________________________________

(٦١٤) أخرجه الطبري ١٥٧٣٢ من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن مسلم الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا ، عن عبد الله بن عباس كل قد حدثني بعض هذا الحديث ، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر قالوا : لما سمع ... فذكره بنحوه وأتم. وانظر «تفسير ابن كثير» ٢ / ٣٦٠ بتخريجنا.

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢ / ٣٦١ قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي : هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ليظفركم بهم وينصركم عليهم ، ويظهر دينه ، ويرفع كلمة الإسلام ، ويجعله غالبا على الأديان وهو أعلم بعواقب الأمور. وهو الذي يدبركم بحسن تدبيره ، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك. فما يظهر لهم ، كما قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦].

١٩٠

ابن عباس في آخرين. والثاني : أنه القرآن ، والمعنى : يحقّ ما أنزل إليك من القرآن.

قوله تعالى : (بِكَلِماتِهِ) أي : بعداته التي سبقت من إعزاز الدّين ، كقوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (١).

قوله تعالى : (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي : يجتثّ أصلهم ؛ وقد بيّنّا ذلك في (الأنعام) (٢).

قوله تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) المعنى : ويريد أن يقطع دابر الكافرين كيما يحقّ الحقّ. وفي هذا الحقّ القولان المتقدّمان. فأما الباطل ، فهو الشّرك ؛ والمجرمون ها هنا : المشركون.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠))

قوله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ).

(٦١٥) سبب نزولها ما روى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال : لمّا كان يوم بدر ، نظر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيّف ، ونظر إلى المشركين وهم ألف وزيادة ، فاستقبل القبلة ، ثم مدّ يديه وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال : «اللهمّ أنجز ما وعدتني ، اللهم أنجز ما وعدتني ، اللهمّ إنّك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا» فما زال يستغيث ربّه ويدعوه ، حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر الصّدّيق فأخذ رداءه فرداه به ، ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبيّ الله كفاك مناشدتك ربّك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

قوله تعالى : (إِذْ) قال ابن جرير : هي من صلة «يبطل». وفي قوله تعالى : (تَسْتَغِيثُونَ) قولان : أحدهما : تستنصرون. والثاني : تستجيرون. والفرق بينهما أنّ المستنصر يطلب الظّفر ، والمستجير يطلب الخلاص. وفي المستغيثين قولان : أحدهما : أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون ، قاله الزّهري. والثاني : أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله السّدّيّ. فأمّا الإمداد فقد سبق في (آل عمران) (٣).

وقوله تعالى : (بِأَلْفٍ) قرأ الضّحّاك ، وأبو رجاء : «بآلاف» بهمزة ممدودة وبألف على الجمع. وقرأ أبو العالية ، وأبو المتوكّل : «بألوف» برفع الهمزة واللام وبواو بعدها على الجمع. وقرأ ابن حذلم ، والجحدريّ : «بألف» بضمّ الألف واللام من غير واو ولا ألف ، وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو عمران : «بيلف» بياء مفتوحة وسكون اللام من غير واو ولا ألف. فأمّا قوله : (مُرْدِفِينَ) فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «مردفين» بكسر الدال. قال ابن عباس ، وقتادة ، والضّحّاك ، وابن زيد ، والفرّاء : هم المتتابعون. وقال أبو عليّ : يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكونوا مردفين مثلهم ، تقول : أردفت زيدا دابّتي ؛ فيكون المفعول الثاني محذوفا في الآية. والثاني : أن يكونوا جاءوا

____________________________________

(٦١٥) صحيح. أخرجه مسلم ١٧٦٣ والترمذي ٣٠٨١ ، وابن حبان ٤٧٩٣ والبيهقي ٦ / ٣٢١ ، وفي «الدلائل» ٣ / ٥١  ـ  ٥٢ ، والطبري ١٥٧٤٧ من حديث عمر.

__________________

(١) سورة التوبة : ٣٣.

(٢) سورة الأنعام : ٤٥.

(٣) سورة آل عمران : ١٢٤.

١٩١

بعدهم ؛ تقول العرب : بنو فلان مردوفونا ، أي : هم يجيئون بعدنا. قال أبو عبيدة : مردفين : جاءوا بعد. وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم : «مردفين» بفتح الدال. قال الفرّاء : أراد : فعل ذلك بهم ، أي : إنّ الله أردف المسلمين بهم. وقرأ معاذ القارئ ، وأبو المتوكّل النّاجي ، وأبو مجلز : «مردّفين» بفتح الراء والدال مع التشديد. وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو عمران : «مردّفين» برفع الراء وكسر الدال. وقال الزّجّاج : يقال : ردفت الرجل : إذا ركبت خلفه ، وأردفته : إذا أركبته خلفي. ويقال : هذه دابّة لا ترادف ، ولا يقال : لا تردف. ويقال : أردفت الرجل : إذا جئت بعده. فمعنى «مردفين» يأتون فرقة بعد فرقة. ويجوز في اللغة : مردّفين ومردّفين ومردّفين ، فالدال مكسورة مشدّدة على كلّ حال ، والراء يجوز فيها الفتح والضّمّ والكسر. قال سيبويه : الأصل مرتدفين ، فأدغمت التاء في الدال فصارت مردّفين لأنك طرحت حركة التاء على الراء ؛ وإن شئت لم تطرح حركة التاء ، وكسرت الراء لالتقاء السّاكنين. والذين ضمّوا الراء ، جعلوها تابعة لضمّة الميم. وقد سبق في (آل عمران) (١) تفسير قوله تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) ، وكان مجاهد يقول : ما أمدّ الله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأكثر من هذه الألف التي ذكرت في سورة (الأنفال) (٢) وما ذكر الثلاثة والخمسة إلّا بشرى ، ولم يمدّوا بها ؛ والجمهور على خلافه ، وقد ذكرنا اختلافهم في عدد الملائكة في سورة (آل عمران) (٣).

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١))

قوله تعالى : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) قال الزّجّاج : «إذ» موضعها نصب على معنى : وما جعله الله إلّا بشرى ، في ذلك الوقت ، ويجوز أن يكون المعنى : أذكروا إذ يغشاكم النّعاس. قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «إذ يغشاكم» بفتح الياء وجزم الغين وفتح الشين وألف ، «النعاس» بالرّفع. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «يغشّيكم» بضمّ الياء وفتح الغين مشدّدة الشين مكسورة ، «النعاس» بالنّصب. وقرأ نافع : «يغشيكم» بضمّ الياء وجزم الغين وكسر الشين «النعاس» بالنّصب. وقال أبو سليمان الدّمشقي : الكلام راجع على قوله تعالى : (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) إذ يغشاكم النّعاس. قال الزّجّاج : و «أمنة» منصوب : مفعول له ، كقولك : فعلت ذلك حذر الشرّ. يقال : أمنت آمن أمنا وأمانا وأمنة. وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو المتوكّل ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، وابن محيصن : «أمنة منه» بسكون الميم.

قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً).

(٦١٦) قال ابن عباس : نزل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ، وبينه وبين الماء رملة ، وغلبهم المشركون على

____________________________________

(٦١٦) ورد من وجوه تتأيد بمجموعها. أخرجه الطبري ١٥٧٨٣ عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف. فيه علي بن أبي طلحة لم يسمع ابن عباس. وأخرجه أيضا ١٥٧٨٢ عن قتادة مرسلا بنحوه. وكرره ١٥٧٨٥ عن السدي مرسلا بنحوه. وكرره ١٥٧٩٢ عن الضحاك مرسلا بنحوه. وفي رواية الطبري وردت كلمة رملة (دعصة) والدعص : قطعة من الرمل مستديرة ، أو الكثيب منه. والدعصاء : الأرض السهلة تحمى عليها الشمس.

__________________

(١) سورة آل عمران ١٢٦.

(٢) سورة الأنفال : ١٠.

(٣) سورة آل عمران : ١٢٦.

١٩٢

الماء ، فأصاب المسلمين الظّمأ ، وجعلوا يصلّون محدثين ، وألقى الشيطان في قلوبهم الوسوسة ، يقول : تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلّون محدثين ، فأنزل الله عليهم مطرا ، فشربوا وتطهروا ، واشتدّ الرّمل حين أصابه المطر ، وأزال الله رجز الشيطان ، وهو وسواسه ، حيث قال : قد غلبكم المشركون على الماء.

وقال ابن زيد : رجز الشّيطان : كيده ، حيث أوقع في قلوبهم أنه ليس لكم بهؤلاء القوم طاقة. وقال ابن الأنباري : ساءهم عدم الماء عند فقرهم إليه ، فأرسل الله السماء ، فزالت وسوسة الشيطان التي تكسب عذاب الله وغضبه ، إذ الرّجز : العذاب.

قوله تعالى : (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) الرّبط : الشّدّ. و «على» في قول بعضهم صلة ، فالمعنى : وليربط قلوبكم. وفي الذي ربط به قلوبهم وقوّاها ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الصّبر ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنه الإيمان ، قاله مقاتل. والثالث : أنه المطر الذي أرسله يثبّت به قلوبهم بعد اضطرابها بالوسوسة التي تقدّم ذكرها.

قوله تعالى : (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) في هاء «به» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الماء ؛ فإنّ الأرض كانت رملة ، فاشتدّت بالمطر ، وثبتت عليها الأقدام ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسّدّيّ في آخرين. والثاني : أنها ترجع إلى الرّبط ، فالمعنى : ويثبّت بالرّبط الأقدام ، ذكره الزّجّاج.

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤))

قوله تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ) قال الزّجّاج : «إذ» في موضع نصب ، والمعنى : وليربط إذ يوحي. ويجوز أن يكون المعنى : واذكروا إذ يوحي. قال ابن عباس : وهذا الوحي إلهام. قوله تعالى : (إِلَى الْمَلائِكَةِ) وهم الذين أمدّ بهم المسلمين. (أَنِّي مَعَكُمْ) بالعون والنّصرة. (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) فيه أربعة أقوال : أحدها : قاتلوا معهم ، قاله الحسن. والثاني : بشّروهم بالنّصر ؛ فكان الملك يسير أمام الصّفّ في صورة الرّجل ، ويقول : أبشروا فإنّ الله ناصركم ، قاله مقاتل. والثالث : ثبّتوهم بأشياء تلقونها في قلوبهم تقوى بها ، ذكره الزّجّاج. والرابع : صحّحوا عزائمهم ونيّاتهم على الجهاد ، ذكره الثّعلبيّ. فأمّا الرّعب ، فهو الخوف. قال السّائب بن يسار : كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السّوائيّ عن الرّعب الذي ألقاه الله في قلوب المشركين كيف؟ كان يأخذ الحصى فيرمي به الطّست فيطنّ ، فيقول : كنا نجد في أجوافنا مثل هذا.

قوله تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) في المخاطب بهذا قولان (١) : أحدهما : أنهم الملائكة. قال

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ١٩٧ : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أمر المؤمنين ، فعلمهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف : أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدي والأرجل وقوله (فَوْقَ الْأَعْناقِ) محتمل أن يكون مرادا به الرؤوس ، ومحتمل أن يكون مرادا له : من فوق جلدة الأعناق : فيكون معناه : على.

١٩٣

ابن الأنباري : لم تعلم الملائكة أين تقصد بالضّرب من الناس ، فعلّمهم الله تعالى ذلك. والثاني : أنهم المؤمنون ، ذكره جماعة من المفسّرين. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : فاضربوا الأعناق ، و «فوق» صلة ، وهذا قول عطيّة ، والضّحّاك ، والأخفش ، وابن قتيبة. وقال أبو عبيدة : «فوق» بمعنى «على» ، تقول : ضربته فوق الرأس ، وضربته على الرأس. والثاني : اضربوا الرؤوس لأنها فوق الأعناق ، وبه قال عكرمة. وفي المراد بالبنان ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الأطراف ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك. وقال الفرّاء : علمهم مواضع الضّرب ، فقال : اضربوا الرؤوس والأيدي والأرجل. وقال أبو عبيدة ، وابن قتيبة : البنان : أطراف الأصابع. قال ابن الأنباري : واكتفى بهذا من جملة اليد والرّجل. والثاني : أنه كلّ مفصل ، قاله عطيّة ، والسّدّيّ. والثالث : أنه الأصابع وغيرها من جميع الأعضاء ، والمعنى : أنه أباحهم قتلهم بكلّ نوع ، هذا قول الزّجّاج. قال : واشتقاق البنان من قولهم : أبنّ بالمكان : إذا أقام به ؛ فالبنان به يعتمل كلّ ما يكون للإقامة والحياة. قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ) «ذلك» إشارة إلى الضّرب ، و «شاقوا» بمعنى : جانبوا ، فصاروا في شقّ المؤمنين. قوله تعالى : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) خطاب للمشركين ؛ والمعنى : ذوقوا هذا في عاجل الدنيا. وفي فتح «أنّ» قولان : أحدهما : بإضمار فعل ، تقديره : ذلكم فذوقوه واعلموا أنّ للكافرين. والثاني : أن يكون المعنى : ذلك بأنّ للكافرين عذاب النار. فإذا ألقيت الباء ، نصبت. وإن شئت ، جعلت «أن» في موضع رفع ؛ يريد : ذلكم فذوقوه ، وذلكم أنّ للكافرين عذاب النّار ، هذا معنى قول الفرّاء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦))

قوله تعالى : (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) ، الزّحف : جماعة يزحفون إلى عدوّهم ؛ قاله الليث. والتّزاحف : التّداني والتّقارب ، قال الأعشى :

لمن الظّعائن سيرهنّ تزحّف (١)

قال الزّجّاج : ومعنى الكلام : إذا واقفتموهم للقتال فلا تدبروا (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ) يوم حربهم (دُبُرَهُ) إلّا أن يتحرّف ليقاتل ، أو يتحيّز إلى فئة ؛ ف «متحرّفا» و «متحيّزا» منصوبان على الحال. ويجوز أن يكون نصبهما على الاستثناء ؛ فيكون المعنى : إلّا رجلا متحرّفا أو متحيّزا. وأصل متحيّز : متحيوز ؛ فأدغمت الياء في الواو.

قوله تعالى : (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) أي : مرجعه إليها ؛ ولا يدلّ ذلك على التّخليد.

__________________

الأعناق. وإذا احتمل ذلك صح قول من قال : معناه : الأعناق. وإذا كان الأمر محتملا ما ذكرنا في التأويل ، لم يكن لنا أن نوجهه إلى بعض معانيه دون بعض ، إلا بحجة يجب التسليم لها. ولا حجة تدل على خصوصه ، فالواجب أن يقال : إن الله أمر بضرب رؤوس المشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم ، أصحاب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين شهدوا معه بدرا اه.

(١) البيت منسوب إلى الأعشى.

١٩٤

فصل : اختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : هذه خاصّة في أهل بدر ، وهو مرويّ عن ابن عباس ، وأبي سعيد الخدريّ ، والحسن ، وابن جبير ، وقتادة ، والضّحّاك. وقال آخرون : هي على عمومها في كلّ منهزم ؛ وهذا مرويّ عن ابن عباس أيضا. وقال آخرون هي على عمومها ، غير أنها نسخت بقوله تعالى : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) (١) فليس للمسلمين أن يفرّوا من مثليهم ، وبه قال عطاء بن أبي رباح. وروى أبو طالب عن أحمد أنه سئل عن الفرار من الزّحف ، فقال : لا يفرّ رجل من رجلين ؛ فإن كانوا ثلاثة ، فلا بأس. وقد نقل نحو هذا عن ابن عباس ، وقال محمّد بن الحسن : إذا بلغ الجيش اثني عشر ألفا ، فليس لهم أن يفرّوا من عدوّهم ، وإن كثر عددهم. ونقل نحو هذا عن مالك. ووجهه ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

(٦١٧) «ما هزم قوم إذا بلغوا اثني عشر ألفا من قلّة إذا صبروا وصدقوا».

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨))

قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) وقرأ ابن عامر ، وأهل الكوفة إلّا عاصما «ولكن الله قتلهم» «ولكن الله رمى» بتخفيف النون ورفع اسم الله فيهما. وسبب نزول هذا الكلام أنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا رجعوا عن بدر جعلوا يقولون : قتلنا وقتلنا ، هذا معنى قول مجاهد. فأمّا قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) ففي سبب نزوله ثلاثة أقوال :

(٦١٨) أحدها : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعليّ : ناولني كفّا من حصباء ، فناوله ، فرمى به في وجوه القوم ، فما بقي منهم أحد إلّا وقعت في عينه حصاة». وقيل : أخذ قبضة من تراب ، فرمى بها ، وقال : «شاهت الوجوه» ؛ فما بقي مشرك إلا شغل بعينه يعالج التراب الذي فيها ، فنزلت (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وذلك يوم بدر ؛ هذا قول الأكثرين. وقال ابن الأنباري : وتأويل شاهت : قبحت ؛ يقال : شاه وجهه يشوه شوها وشوهة ، ويقال : رجل أشوه ، وامرأة شوهاء : إذا كانا قبيحين.

(٦١٩) والثاني : أنّ أبيّ بن خلف أقبل يوم أحد إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريده ، فاعترض له رجال من

____________________________________

(٦١٧) حسن ، أخرجه أبو داود ٢٦١١. والترمذي ١٥٥٥ وعبد الرزاق ٩٦٩٩ وأحمد ١ / ٢٩٩ والدارمي ٢ / ٢١٥ وأبو يعلى ٢٧١٤ وابن خزيمة ٢٥٣٨ ، وابن حبان ٤٧١٧ والحاكم ١ / ٤٤٣ و ٢ / ١٠١ وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه لخلاف بين الناقلين فيه عن الزهري ، ووافقه الذهبي في «مختصره» وأخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» ١ / ٢٣٨. و ١ / ٣٣٩. والبيهقي ٩ / ١٥٦.

(٦١٨) ورد من وجوه متعددة تتأيد بمجموعها. أخرجه الطبري ١٥٨٣٦ عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي مرسلا. وكرره ١٥٨٣٧ عن قتادة. وكرره ١٥٨٣٨ عن السدي. وكرره ١٥٨٣٩ عن ابن زيد. وكرره ١٥٨٤٠ عن ابن عباس. وكرره ١٥٨٤١ عن ابن إسحاق.

(٦١٩) عزاه المصنف لابن المسيب عن أبيه فهو موصول. وعزاه «ابن العربي» لابن المسيب ٩٩٨ ، وكذا ابن كثير ٢ / ٣٧٠ والسيوطي في «الدر» ٣ / ٣١٧. وهو في «المستدرك» ٢ / ٣٢٧ و ٣٢٨ و «أسباب النزول» ٤٧١ عن

__________________

(١) سورة الأنفال : ٦٦.

١٩٥

المؤمنين ، فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخلّوا سبيله ، وطعنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحربته ، فسقط أبيّ عن فرسه ، ولم يخرج من طعنته دم ، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثّور ، فقالوا : إنّما هو خدش ، فقال : والذي نفسي بيده ، لو كان الذي بي بأهل الحجاز لماتوا أجمعون ، فمات قبل أن يقدم مكّة ؛ فنزلت هذه الآية ، رواه سعيد بن المسيّب عن أبيه.

(٦٢٠) والثالث : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رمى يوم خيبر بسهم ، فأقبل السّهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق وهو على فراشه ، فنزلت هذه الآية ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي في آخرين.

قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) اختلفوا في معنى إضافة قتلهم إليه على أربعة أقوال (١) : أحدها : أنه قتلهم بالملائكة الذين أرسلهم. والثاني : أنه أضاف القتل إليه لأنّه تولّى نصرهم. والثالث : لأنه ساقهم إلى المؤمنين ، وأمكنهم منهم. والرابع : لأنه ألقى الرّعب في قلوبهم. وفي قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ المعنى : وما ظفرت أنت ولا أصبت ، ولكنّ الله أظفرك وأيّدك ، قاله أبو عبيدة. والثاني : وما بلغ رميك كفّا من تراب أو حصى أن تملأ عيون ذلك الجيش الكثير ، إنّما الله تولّى ذلك ؛ قاله الزّجّاج. والثالث : وما رميت قلوبهم بالرّعب إذ رميت وجوههم بالتّراب ؛ ذكره ابن الأنباري.

قوله تعالى : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي : لينعم عليهم نعمة عظيمة بالنّصر والأجر. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لدعائهم (عَلِيمٌ) بنيّاتهم. قوله تعالى : (ذلِكُمْ) قال الزّجّاج : موضعه رفع ؛

____________________________________

موسى بن عقبة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه. وعلى هذا هو موصول ، وإسناده صحيح على شرط البخاري ، وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي! ولعل ذكر «أبيه» وهم من بعض النساخ لأنه قول مرجوح. وقد أخرجه الطبري ١٥٨٤٢ عن الزهري وقد صوب الإمام ابن العربي كون ذلك في غزوة بدر.

وكذا قال الحافظ ابن كثير ٢ / ٣٧٠ : وهذا القول عن هذين الإمامين غريب جدا ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها ، ونقله الشوكاني عنه في «فتح القدير» ٢ / ٣٣٩ ووافقه.

(٦٢٠) لم أقف عليه. وعزاه ابن كثير في «التفسير» ٢ / ٣٧٠ لعبد الرحمن بن جبير بن نفير ، وقال : وهذا غريب ، لأن سياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة ، وهذا مما لا يخفى على أهل العلم اه.

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» الآية (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ٦ / ٢٠٢ : يقول الله تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله ، فمن شهد بدرا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقاتل أعداء دينه معه من كفار قريش : فلم تقتلوا المشركين ، أيها المؤمنون ، أنتم.

ولكن الله قتلهم.

وأضاف جل ثناؤه قتلهم إلى نفسه ، ونفاه عن المؤمنين به الذين قاتلوا المشركين إذ كان جل ثناؤه هو مسبب قتلهم ، وعن أمره كان قتال المؤمنين إياهم. ففي ذلك أول الدليل على فساد قول المنكرين أن يكون لله في أفعال خلقه صنع به وصلوا إليها. وكذلك قوله لنبيه عليه‌السلام : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) فأضاف الرمي إلى نبي الله ، ثم نفاه وأخبر عن نفسه أنه هو الرامي. إذ كان جل ثناؤه هو الموصل المرمي به إلى الذين رموا به من المشركين والمسبب الرمية لرسوله. فيقال للمنكرين ما ذكرنا : قد علمتم إضافة

الله رمي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشركين إلى نفسه بعد وصفه نبيه له ، وإضافته إليه ، وذلك فعل واحد ، كان من الله تسبيبه وتسديده ومن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القذف والإرسال فما تنكرون أن يكون كذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة : من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب ، ومن الخلق الاكتساب بالقوى؟ فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا ألزموا في الآخر مثله. ا. ه.

١٩٦

والمعنى : الأمر ذلكم. وقال غيره : «ذلكم» إشارة إلى القتل والرّمي والبلاء الحسن. (وَأَنَّ اللهَ) أي : واعلموا أنّ الله. والذي ذكرناه في فتح «أنّ» في قوله تعالى : (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) هو مذكور في فتح «أن» هذه. قوله تعالى : (مُوهِنُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو «موهّن» بفتح الواو وتشديد الهاء منوّنة «كيد» بالنّصب. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم «موهن» ساكنة الواو «كيد» بالنّصب. وروى حفص عن عاصم «موهن كيد» مضاف. والموهن : المضعف ، والكيد : المكر.

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠))

قوله تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) ، في سبب نزولها خمسة أقوال :

(٦٢١) أحدها : أنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استنصروا الله وسألوه الفتح ، فنزلت هذه الآية ؛ وهذا المعنى مرويّ عن أبيّ بن كعب ، وعطاء الخراساني.

(٦٢٢) والثاني : أنّ أبا جهل قال : اللهمّ أيّنا كان أحبّ إليك وأرضى عندك فانصره اليوم ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

(٦٢٣) والثالث : أنّ المشركين أخذوا بأستار الكعبة قبل خروجهم إلى بدر ، وقالوا اللهمّ انصر أعلى الجندين وأكرم القبيلتين ؛ فنزلت هذه الآية ؛ قاله السّدّي.

(٦٢٤) والرابع : أنّ المشركين قالوا : اللهمّ إنّا لا نعرف ما جاء به محمّد ، فافتح بيننا وبينه بالحقّ ؛ فنزلت هذه الآية ، قاله عكرمة.

والخامس : أنهم قالوا بمكّة : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١) ، فعذّبوا يوم بدر ، قاله ابن زيد.

فخرج من هذه الأقوال أنّ في المخاطبين بقوله تعالى : «إن تستفتحوا» قولان : أحدهما : أنهم المؤمنون. والثاني : المشركون ؛ وهو الأشهر.

____________________________________

(٦٢١) لم أره مسندا عنهما. وأثر أبي ذكره البغوي ٢ / ٢٨٠ بدون إسناد.

(٦٢٢) عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح ، وهي رواية ساقطة. وورد من مرسل الزهري أخرجه الطبري ١٥٧٥٠ و ١٥٨٥١. وورد عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير ، أخرجه الطبري ١٥٨٥٢ و ١٥٨٥٩ و ١٥٨٦٠. وورد عن يزيد بن رومان ، أخرجه الطبري ١٥٨٦٢. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.

(٦٢٣) ضعيف بهذا اللفظ. أخرجه الطبري ١٥٨٥٤ عن السدي مرسلا قال كان المشركون ...... وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٧٥ مرسلا وعزاه إلى السدي والكلبي. وانظر «تفسير ابن كثير» ٢ / ٣٧١.

(٦٢٤) هو مرسل ، والمرسل من قسم الضعيف. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٧٦ عن عكرمة مرسلا.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٣٢.

١٩٧

وفي الاستفتاح قولان : أحدهما : أنه الاستنصار ؛ قاله ابن عباس ، والزّجّاج في آخرين. فإن قلنا : إنّهم المسلمون ، كان المعنى : إن تستنصروا فقد جاءكم النّصر بالملائكة ؛ وإن قلنا : هم المشركون ؛ احتمل وجهين. أحدهما : إن تستنصروا فقد جاء النّصر عليكم. والثاني : إن تستنصروا لأحبّ الفريقين إلى الله ، فقد جاءكم النّصر لأحبّ الفريقين.

والثاني : أن الاستفتاح : طلب الحكم ، والمعنى : إن تسألوا الحكم بينكم وبين المسلمين ، فقد جاءكم الحكم ؛ وإلى هذا المعنى ذهب عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة.

فأمّا قوله تعالى : (وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فهو خطاب للمشركين على قول الجماعة. وفي معناه قولان : أحدهما : إن تنتهوا عن قتال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكفر ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : إن تنتهوا عن استفتاحكم فهو خير لكم لأنّه كان عليهم لا لهم ، ذكره الماوردي.

وفي قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) قولان :

أحدهما : وإن تعودا إلى القتال ، نعد إلى هزيمتكم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني : وإن تعودوا إلى الاستفتاح ، نعد إلى الفتح لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً) أي : جماعتكم وإن كثرت ، (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بالعون والنّصر. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : «وإن الله» بكسر الألف. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «وأن» بفتح الألف. فمن قرأ بكسر «أن» استأنف. قال الفرّاء : وهو أحبّ إليّ من فتحها. ومن فتحها ، أراد : ولأنّ الله مع المؤمنين.

قوله : تعالى (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) فيه قولان : أحدهما : لا تولّوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثاني : لا تولّوا عن أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) ما نزل من القرآن ، روي القولان عن ابن عباس.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢))

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنها نزلت في بني عبد الدّار بن قصيّ ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : في اليهود ، قريظة والنّضير. روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : في المنافقين ، قاله ابن إسحاق ، والواقديّ ، ومقاتل. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : أنهم قالوا : سمعنا ، ولم يتفكّروا فيما سمعوا ، فكانوا كمن لم يسمع ، قاله الزّجّاج. والثاني : أنهم قالوا : سمعنا سماع من يقبل ، وليسوا كذلك ، حكي عن مقاتل.

قوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين (٢) :

__________________

(١) قال الطبري في تفسيره ٦ / ٢٠٩ : وللذي قال ابن إسحاق وجه ، ولكن قوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) في سياق قصص المشركين ، ويتلوه الخبر عنهم بذمهم. وهو قوله (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ ...) فلأن يكون ما بينهما خبرا عنهم أولى من أن يكون خبرا عن غيرهم ا ه.

(٢) ذكر الحافظ ابن كثير رحمه‌الله في تفسيره ٢ / ٣٧٣ : ولا منافاة بين المشركين والمنافقين في هذا ، لأن كلا

١٩٨

أحدهما : أنها نزلت في بني عبد الدّار بن قصيّ ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني : في المنافقين ، قاله ابن إسحاق ، والواقديّ. والدّوابّ : اسم كلّ حيوان يدبّ ؛ وقد بيّنا في سورة (البقرة) (١) معنى الصّمّ والبكم ، ولم سماهم بذلك.

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً) فيه أربعة أقوال : أحدها : ولو علم فيهم صدقا وإسلاما. والثاني : لو علم فيهم خيرا في سابق القضاء. والثالث : لو علم أنّهم يصلحون. والرابع : لو علم أنّهم يصغون. وفي قوله : (لَأَسْمَعَهُمْ) ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : لأسمعهم جواب كلّ ما يسألون عنه ، قاله الزّجّاج. والثاني : لرزقهم الفهم ، قاله أبو سليمان الدمشقي. والثالث : لأسمعهم كلام الموتى يشهدون بنبوتك ، حكاه الماوردي. وفي قوله تعالى : (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) قولان : أحدهما : مكذّبون ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : وهم معرضون عمّا أسمعهم لمعاندتهم ، قاله الزّجّاج.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤))

قوله تعالى : (اسْتَجِيبُوا) أي : أجيبوا.

قوله تعالى : (إِذا دَعاكُمْ) يعني الرّسول (لِما يُحْيِيكُمْ) وفيه ستة أقوال (٣) : أحدها : أنّ الذي يحييكم : كلّ ما يدعو الرّسول إليه ، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس.

(٦٢٥) وفي أفراد البخاريّ من حديث أبي سعيد بن المعلّى قال : كنت أصلّي في المسجد فدعاني

____________________________________

(٦٢٥) صحيح. أخرجه البخاري ٤٤٧٤ و ٤٦٤٧ و ٤٧٠٣ و ٥٠٠٦ ، وأبو داود ١٤٥٨ والنسائي ٢ / ١٣٩ ، وابن ماجة ٣٧٨٥ ، والطيالسي ١٢٦٦. وأحمد ٣ / ٤٥٠ و ٤ / ٢١١. وابن حبان ٧٧٧ ، والطبراني ٢٢ / ٣٠٣ ، والبيهقي ٢ / ٣٦٨. كلهم من حديث أبي سعيد بن المعلى.

__________________

منهم مسلوب الفهم الصحيح والقصد إلى العمل الصالح ، ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح ، ولا قصد لهم صحيح لمن فرض أن لهم فهما فقال (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) أي لأفهمهم ...

(١) سورة البقرة : ١٨.

(٢) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ٢١١ في الآية : ولو علم الله في هؤلاء القائلين خيرا لأسمعهم واعظ القرآن وعبره حتى يعقلوا عن الله عزوجل وحججه منه ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم ، وأنهم من كتب لهم الشقاء فهم لا يؤمنون ، ولو أفهمهم ذلك حتى يعلموا ويفهموا ، لتولوا عن الله وعن رسوله ، وهم معرضون عن الإيمان بما دلهم على صحته مواعظ الله وعبره وحججه ، ومعاندون للحق بعد العلم به. ا. ه.

(٣) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ٢١٢ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : استجيبوا لله وللرسول بالطاعة ، إذا دعاكم الرسول لما يحييكم من الحق وذلك أن ذلك إذا كان معناه ، كان داخلا فيه الأمر بإجابتهم لقتال العدو والجهاد ، والإجابة إذا دعاهم إلى حكم القرآن وهي الإجابة إلى كل ذلك حياة المجيب أما في الدنيا ، فبقاء الذكر الجميل ، وذلك له فيه حياة ، وأما في الآخرة ، فحياة الأبد في الجنان والخلود فيها.

وأما قول من قال : معناه : الإسلام فقول لا معنى له. لأن الله قد وصفهم بالإيمان بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فلا وجه لأن يقال للمؤمن : استجب لله وللرسول إذا دعا إلى الإسلام والإيمان.

١٩٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم أجبه ، ثم أتيته فقلت : يا رسول الله ، إنّي كنت أصلّي ، فقال : «ألم يقل الله : استجيبوا لله وللرّسول إذا دعاكم لما يحييكم؟» قلت : بلى ، ولا أعود إن شاء الله.

والثاني : أنه الحقّ ، رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثالث : أنه الإيمان ، رواه ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال السّدّيّ. والرابع : أنه اتّباع القرآن ، قاله قتادة ، وابن زيد. والخامس : أنه الجهاد ، قاله ابن إسحاق. وقال ابن قتيبة : هو الجهاد الذي يحيي دينهم ويعليهم. والسادس : أنه إحياء أمورهم ، قاله الفرّاء. فيخرّج في إحيائهم خمسة أقوال : أحدها : أنه إصلاح أمورهم في الدّنيا والآخرة. والثاني : بقاء الذّكر الجميل لهم في الدّنيا ، وحياة الأبد في الآخرة. والثالث : أنه دوام نعيمهم في الآخرة. والرابع : أنه كونهم مؤمنين ، لأنّ الكافر كالميّت. والخامس : أنه يحييهم بعد موتهم ، وهو على قول من قال : هو الجهاد ، لأنّ الشهداء أحياء ، ولأنّ الجهاد يعزّهم بعد ذلّهم ، فكأنّهم صاروا به أحياء.

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) وفيه عشرة أقوال (١) :

أحدها : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير. والثاني : يحول بين المؤمن وبين معصيته ، وبين الكافر وبين طاعته ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك والفرّاء. والثالث : يحول بين المرء وقلبه حتى لا يتركه يعقل ، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري : المعنى يحول بين المرء وعقله ، فبادروا الأعمال ، فإنّكم لا تأمنون زوال العقول ، فتحصلون على ما قدّمتم. والرابع : أنّ المعنى : هو قريب من المرء ، لا يخفى عليه شيء من سرّه ، كقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٢) ، وهذا معنى قول قتادة. والخامس : يحول بين المرء وقلبه ، فلا يستطيع إيمانا ولا كفرا إلّا بإذنه ، قاله السّدّيّ. والسادس : يحول بين المرء وبين هواه ، ذكره ابن قتيبة. والسابع : يحول بين المرء وبين ما يتمنّى بقلبه من طول العمر والنّصر وغيره. والثامن : يحول بين المرء وقلبه بالموت ، فبادروا الأعمال قبل وقوعه. والتاسع : يحول بين المرء وقلبه بعلمه ، فلا يضمر العبد شيئا في نفسه إلّا والله عالم به ، لا يقدر على تغييبه عنه. والعاشر : يحول بين ما يوقعه في قلبه من خوف أو أمن ، فيأمن بعد خوفه ، ويخاف بعد أمنه ، ذكر معنى هذه الأقوال ابن الأنباري.

وحكى الزّجّاج أنهم لمّا فكّروا في كثرة عدوّهم وقلّة عددهم ، فدخل الخوف قلوبهم ، أعلمهم الله تعالى أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدله بالخوف الأمن ، ويبدل عدوّه بالقوّة الضّعف ، وقد أعلمت

__________________

(١) ذكر الطبري في «تفسيره» ٦ / ٢١٥ : وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك أن يقال : إن ذلك خبر من الله عزوجل أنه أملك لقلوب عباده منهم. وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك به شيئا من إيمان أو كفر ، أو أن يعي به شيئا أو أن يفهم إلا بإذنه ومشيئته ، وذلك أن الحول «بين الشيء والشيء» إنما هو الحجز بينهما ، وإذا حجز جل ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه ، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل ... غير أنه ينبغي أن يقال : إن الله عم بقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) عن أنه يحول بين العبد وقلبه ، ولم يخصص من المعاني التي ذكرنا شيئا دون شيء ، والكلام محتمل كل هذه المعاني ، فالخبر على العموم حتى يخصه ما يجب التسليم له ا. ه.

(٢) سورة ق : ١٦.

٢٠٠