زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٥

قوله تعالى : (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) قد شرحناه في (الأعراف) (١). وفي قوله : (آمِنِينَ) ثلاثة أقوال : أحدها : آمنين أن تقع عليهم. والثاني : آمنين من خرابها. والثالث : من عذاب الله عزوجل. وفي قوله : (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) قولان : أحدهما : ما كانوا يعملون من نحت الجبال. والثاني : ما كانوا يكسبون من الأموال والأنعام.

قوله تعالى : (إِلَّا بِالْحَقِ) أي : للحقّ ولإظهار الحقّ ، وهو ثواب المصدّق وعقاب المكذّب. (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) أي : وإنّ القيامة لتأتي ، فيجازى المشركون بأعمالهم ، (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) عنهم ، وهو الإعراض الخالي من جزع وفحش ، قال المفسّرون : وهذا منسوخ بآية السّيف.

فأما (الْخَلَّاقُ) فهو خالق كلّ شيء. و (الْعَلِيمُ) قد سبق شرحه في سورة البقرة (٢).

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي). سبب نزولها :

(٨٤٩) «أنّ سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات (٣) ليهود قريظة والنّضير في يوم واحد ، فيها أنواع من البزّ والطّيب والجواهر ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها وأنفقناها في سبيل الله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقال : أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السّبع القوافل» ، ويدلّ على صحّة هذا قوله : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) الآية ، قاله الحسين بن الفضل. وفي المراد بالسّبع المثاني أربعة أقوال :

(٨٥٠) أحدها : أنها فاتحة الكتاب ، قاله عمر بن الخطّاب ، وعليّ بن أبي طالب ، وابن مسعود في رواية ، وابن عباس في رواية الأكثرين عنه ، وأبو هريرة ، والحسن ، وسعيد بن جبير في رواية ، ومجاهد في رواية ، وعطاء ، وقتادة في آخرين. فعلى هذا ، إنما سمّيت بالسّبع ، لأنها سبع آيات. وفي تسميتها بالمثاني سبعة أقوال (٤) : أحدها : لأنّ الله تعالى استثناها لأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يعطها أمّة قبلهم ،

____________________________________

(٨٤٩) عزاه المصنف للحسين بن الفضل تبعا للواحدي في «أسباب النزول» ٥٥٦ ، والحسين هذا لم أجد له ترجمة ، فهو مجهول ، وخبره معضل ، وتفرده به دون سائر أهل الحديث والأثر دليل وهنه بل بطلانه ، والخبر أمارة الوضع لائحة عليه.

(٨٥٠) هو أصح الأقوال حيث ورد مرفوعا. أخرجه البخاري ٤٧٠٤ والترمذي ٣١٢٤ وأحمد ٢ / ٤٤٨ من حديث أبي هريرة. وورد من حديث أبي سعيد بن المعلى ، أخرجه البخاري ٤٧٠٣ وغيره ، وتقدم. وفي الباب أحاديث أخرجها الطبري ٢١٣٥٣  ـ  ٢١٣٦١.

__________________

(١) عند الآية : ٧٤.

(٢) عند الآية : ٢٩.

(٣) أذرعات : بلد في أطراف الشام يجاور البلقاء وعمان ، كما في «معجم البلدان» لياقوت الحموي ١ / ١٣٠.

(٤) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٧ / ٥٣٩ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عني بالسبع المثاني : السبع اللواتي هنّ آيات أم الكتاب لصحة الخبر بذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي حدثنيه يزيد بن مخلد بإسناده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أم القرآن السبع المثاني التي أعطيتها».

٥٤١

رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : لأنها تثنّى في كلّ ركعة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال ابن الأنباري : والمعنى : آتيناك السّبع الآيات التي تثنّى في كلّ ركعة ، وإنما دخلت «من» للتّوكيد ، كقوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) (١). وقال ابن قتيبة : سمّي «الحمد» مثاني ، لأنها تثنّى في كلّ صلاة. والثالث : لأنها ما أثني به على الله تعالى ، لأنّ فيها حمد الله وتوحيده وذكر مملكته ، ذكره الزّجّاج. والرابع : لأنّ فيها «الرّحمن الرّحيم» مرّتين ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي عن بعض اللغويين ، وهذا على قول من يرى التّسمية منها. والخامس : لأنها مقسومة بين الله تعالى وبين عبده.

(٨٥١) ويدلّ عليه حديث أبي هريرة «قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي».

والسادس : لأنها نزلت مرّتين ، ذكره الحسين بن الفضل. والسابع : لأنّ كلماتها مثنّاة ، مثل : الرّحمن الرّحيم ، إيّاك إيّاك ، الصّراط صراط ، عليهم عليهم ، غير غير (٢) ، ذكره بعض المفسّرين. ومن أعظم فضائلها أنّ الله تعالى جعلها في حيّز ، والقرآن كلّه في حيز ، وامتنّ عليه بها كما امتنّ عليه بالقرآن كلّه.

والقول الثاني : أنها السّبع الطّول ، قاله ابن مسعود في رواية ، وابن عباس في رواية ، وسعيد بن جبير في رواية ، ومجاهد في رواية ، والضّحّاك. فالسّبع الطّول هي : (البقرة) ، و (آل عمران) ، و (النساء) ، و (المائدة) ، و (الأنعام) ، و (الأعراف) ، وفي السّابعة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها (يونس) ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : (براءة) ، قاله أبو مالك. والثالث : (الأنفال) و (براءة) جميعا ، رواه سفيان عن مسعر عن بعض أهل العلم. قال ابن قتيبة : وكانوا يرون (الأنفال) و (براءة) سورة واحدة ، ولذلك لم يفصلوا بينهما. قال شيخنا أبو منصور اللغويّ : هي الطّول بضمّ الطاء ، ولا تقلها بالكسر ، فعلى هذا ، في تسميتها بالمثاني قولان : أحدهما : لأنّ الحدود والفرائض والأمثال ثنّيت فيها ، قاله ابن عباس. والثاني : لأنها تجاوز المائة الأولى إلى المائة الثانية ، ذكره الماوردي.

والقول الثالث : أنّ السّبع المثاني سبع معان أنزلت في القرآن : أمر ؛ ونهي ، وبشارة ، وإنذار ، وضرب الأمثال وتعداد النّعم ، وأخبار الأمم ، قاله زياد بن أبي مريم.

والقول الرابع : أنّ المثاني : القرآن كلّه ، قاله طاوس ، والضّحّاك ، وأبو مالك ، فعلى هذا ، في تسمية القرآن بالمثاني أربعة أقوال : أحدها : لأنّ بعض الآيات يتلو بعضا ، فتثنّى الآخرة على الأولى ، ولها مقاطع تفصل الآية بعد الآية حتى تنقضي السّورة ، قاله أبو عبيدة. والثاني : أنه سمّي بالمثاني لما يتردّد فيه من الثّناء على الله عزوجل. والثالث : لما يتردّد فيه من ذكر الجنّة ، والنّار ، والثّواب ، والعقاب. والرابع : لأنّ الأقاصيص ، والأخبار ، والمواعظ ، والآداب ، ثنّيت فيه ، ذكرهنّ ابن الأنباري. وقال ابن قتيبة : قد يكون المثاني سور القرآن كلّه ، قصارها وطوالها ، وإنما سمّي مثاني ، لأنّ الأنبياء

____________________________________

(٨٥١) تقدم في سورة الفاتحة ، رواه الشيخان.

__________________

(١) سورة محمد : ١٥.

(٢) كلمة «غير» هي غير مكررة في سورة الفاتحة ، وإنما في العطف ما يدل عليها ، فهي مقدرة لا ظاهرة أي : «غير المغضوب عليهم وغير الضالين».

٥٤٢

والقصص تثنّى فيه ، فعلى هذا القول ، المراد بالسّبع : سبعة أسباع القرآن ، ويكون في الكلام إضمار ، تقديره : وهي القرآن العظيم.

فأمّا قوله تعالى : (مِنَ الْمَثانِي) ففي «من» قولان : أحدهما : أنها للتّبعيض ، فيكون المعنى : آتيناك سبعا من جملة الآيات التي يثنى بها على الله تعالى ، وآتيناك القرآن. والثاني : أنها للصّفة ، فيكون السّبع هي المثاني ، ومنه قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (١) لا أنّ بعضها رجس ، ذكر الوجهين الزّجّاج ، وقد ذكرنا عن ابن الأنباري قريبا من هذا المعنى.

قوله تعالى : (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) يعني : العظيم القدر ، لأنه كلام الله تعالى ، ووحيه ، وفي المراد به ها هنا قولان : أحدهما : أنه جميع القرآن. قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والضّحّاك. والثاني : أنه الفاتحة أيضا ، قاله أبو هريرة ، وقد روينا فيه حديثا في أوّل تفسير (الفاتحة). قال ابن الأنباري : فعلى القول الأوّل ، يكون قد نسق الكلّ على البعض ، كما يقول العربيّ : رأيت جدار الدّار والدّار ، وإنما يصلح هذا ، لأنّ الزّيادة التي في الثاني من كثرة العدد أشبه بها ما يغاير الأوّل ، فجوّز ذلك عطفه عليه. وعلى القول الثاني ، نسق الشيء على نفسه لمّا زيد عليه معنى المدح والثّناء ، كما قالوا : روي ذلك عن عمر ، وابن الخطّاب ، يعنون بابن الخطّاب : الفاضل العالم الرّفيع المنزلة ، فلما دخلته زيادة ، أشبه ما يغاير الأوّل ؛ فعطف عليه.

ولمّا ذكر الله تعالى منّته عليه بالقرآن ، نهاه عن النّظر إلى الدنيا ليستغني بما آتاه من القرآن عن الدنيا ، فقال : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي : أصنافا من اليهود والمشركين ، والمعنى : أنه نهاه عن الرّغبة في الدنيا ، وفي قوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) قولان :

أحدهما : لا تحزن عليهم إن لم يؤمنوا. والثاني : لا تحزن بما أنعمت عليهم في الدنيا.

قوله تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : ألن جانبك لهم ، وخفض الجناح ، عبارة عن السّكون وترك التّعصّب والإباء ، قال ابن عباس : ارفق بهم ولا تغلظ عليهم.

قوله تعالى : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) حرّك ياء «إني» ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع. وذكر بعض المفسّرين أنّ معناها منسوخ بآية السّيف.

(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣))

قوله تعالى : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) (٩٠) في هذه الكاف قولان :

أحدهما : أنها متعلّقة بقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) ثمّ في معنى الكلام قولان : أحدهما : أنّ المعنى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني ، كما أنزلنا الكتاب على المقتسمين ، قاله مقاتل. والثاني : أنّ المعنى : ولقد شرّفناك وكرّمناك بالسّبع المثاني ، كما شرّفناك وأكرمناك بالذي أنزلناه على المقتسمين من العذاب ، والكاف بمعنى «مثل» و «ما» بمعنى «الذي» ذكره ابن الأنباري. والثاني : أنّها

__________________

(١) سورة الحج : ٣٠.

٥٤٣

متعلّقة بقوله : (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ) ، والمعنى : إنّي أنا النّذير ، أنذرتكم مثل الذي أنزل على المقتسمين من العذاب ، وهذا معنى قول الفرّاء. فخرج في معنى «أنزلنا» قولان : أحدهما : أنزلنا الكتاب ، على قول مقاتل. والثاني : العذاب ، على قول الفرّاء.

وفي «المقتسمين» ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم اليهود والنّصارى ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ومجاهد. فعلى هذا في تسميتهم بالمقتسمين ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعضه ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : أنهم اقتسموا القرآن ، فقال بعضهم : هذه السّورة لي ، وقال آخر : هذه السّورة لي ، استهزاء به ، قاله عكرمة. والثالث : أنهم اقتسموا كتبهم فآمن بعضهم ببعضها وكفر ببعضها ، وآمن آخرون بما كفر به غيرهم ، قاله مجاهد.

والثاني : أنهم مشركو قريش. قاله قتادة ، وابن السّائب ، فعلى هذا في تسميتهم بالمقتسمين قولان : أحدهما : أنّ أقوالهم تقسّمت في القرآن ، فقال بعضهم : إنه سحر ، وزعم بعضهم أنه كهانة ، وزعم بعضهم أنه أساطير الأوّلين ، منهم الأسود بن عبد يغوث ، والوليد بن المغيرة ، وعديّ بن قيس السّهميّ ، والعاص بن وائل ، قاله قتادة. والثاني : أنهم اقتسموا على عقاب مكّة ، قال ابن السّائب : هم رهط من أهل مكّة اقتسموا على عقاب مكّة حين حضر الموسم ، قال لهم الوليد بن المغيرة : انطلقوا فتفرّقوا على عقاب مكّة حيث يمرّ بكم أهل الموسم ، فإذا سألوكم عنه ، يعني : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليقل بعضكم : كاهن ، وبعضكم : ساحر ، وبعضكم : شاعر ، وبعضكم : غاو ، فإذا انتهوا إليّ صدّقتكم ، ومنهم حنظلة بن أبي سفيان ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل ، والعاص بن هشام ، وأبو قيس بن الوليد ، وقيس بن الفاكه ، وزهير بن أبي أميّة ، وهلال بن عبد الأسود ، والسّائب بن صيفيّ ، والنّضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الحجّاج ، وأميّة بن خلف ، وأوس بن المغيرة.

والثالث : أنهم قوم صالح الذي تقاسموا بالله : (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) فكفاه الله شرّهم ، قاله عبد الرّحمن بن زيد. فعلى هذا هو من القسم ، لا من القسمة.

قوله تعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) في المراد بالقرآن قولان : أحدهما : أنه كتابنا ، وهو الأظهر ، وعليه الجمهور. والثاني : أنّ المراد به : كتب المتقدّمين قبلنا. وفي «عضين» قولان : أحدهما : أنه مأخوذ من الأعضاء. قال الكسائيّ ، وأبو عبيدة : اقتسموا بالقرآن وجعلوه أعضاء. ثم فيما فعلوا فيه قولان : أحدهما : أنهم عضّوه أعضاء ، فآمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه ، والمعضيّ : المفرّق ، والتّعضية : تجزئة الذّبيحة أعضاء ، قال عليّ عليه‌السلام : لا تعضية في ميراث ، أراد : تفريق ما يوجب تفريقه ضررا على الورثة كالسّيف ، ونحوه. وقال رؤبة :

وليس دين الله بالمعضّى (١)

وهذا المعنى في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : أنهم عضّوا القول فيه ، أي : فرّقوا ، فقالوا : شعر ، وقالوا : سحر ، وقالوا : كهانة ، وقالوا : أساطير الأوّلين ، وهذا المعنى في رواية

__________________

(١) في «اللسان» مادة «عضا».

٥٤٤

ابن جريج عن مجاهد ، وبه قال قتادة ، وابن زيد. والثاني : أنه مأخوذ من العضه ، والعضه ، بلسان قريش : السّحر ، ويقولون للسّاحرة : عاضهة. وفي الحديث :

(٨٥٢) أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن العاضهة والمستعضهة. فيكون المعنى : جعلوه سحرا ، وهذا المعنى في رواية عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، والفرّاء.

قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) هذا سؤال توبيخ ، يسألون عمّا عملوا في ما أمروا به من التّوحيد والإيمان ، فيقال لهم : لم عصيتم وتركتم الإيمان؟ فتظهر فضيحتهم عند تعذّر الجواب. قال أبو العالية : يسأل العباد كلّهم يوم القيامة عن خلّتين : عمّا كانوا يعبدون ، وعمّا أجابوا المرسلين. فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (١)؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنه لا يسألهم : هل عملتم كذا؟ لأنّه أعلم ، وإنما يقول : لم عملتم كذا؟ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : أنهم يسألون في بعض مواطن القيامة ، ولا يسألون في بعضها ، رواه عكرمة عن ابن عباس.

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤))

قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : فامض لما تؤمر ، قاله ابن عباس. والثاني : أظهر أمرك ، رواه ليث عن مجاهد ، قال ابن قتيبة : «فاصدع بما تؤمر» أي : أظهر ذلك. وأصله : الفرق والفتح ، يريد : اصدع الباطل بحقّك. وقال الزّجّاج : اظهر بما تؤمر به ، أخذ ذلك من الصّديع ، وهو الصّبح ، قال الشاعر :

كأنّ بياض غرّته صديع (٢)

وقال الفرّاء : إنما لم يقل : بما تؤمر به ، لأنه أراد : فاصدع بالأمر. وذكر ابن الأنباري أنّ «به» مضمرة ، كما تقول : مررت بالذي مررت. والثالث : أنّ المراد به : الجهر بالقرآن في الصّلاة ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. قال موسى بن عبيدة :

(٨٥٣) ما زال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية ، فخرج هو وأصحابه.

وفي قوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ثلاثة أقوال : أحدها : اكفف عن حربهم. والثاني : لا تبال بهم ، ولا تلتفت إلى لومهم على إظهار أمرك. والثالث : أعرض عن الاهتمام باستهزائهم. وأكثر المفسّرين على أنّ هذا القدر من الآية منسوخ بآية السّيف.

____________________________________

(٨٥٢) ضعيف. أخرجه ابن عدي في «الكامل» ٣ / ٣٣٩ من حديث ابن عباس وفي إسناده زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام ، وكلاهما ضعيف. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢ / ٥٩٠ : وله شاهد عند عبد الرزاق من رواية ابن جريح عن عطاء اه. وهذا مرسل ، فهو ضعيف.

(٨٥٣) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٢١٤١٣ عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة وإسناده ضعيف جدا ، فهو مرسل ، ومع إرساله موسى بن عبيدة ضعيف.

__________________

(١) سورة الرحمن : ٣٩.

(٢) في «اللسان» مادة «صدع» ونسبه لعمرو بن معديكرب ، وصدره : ترى السّرحان مفترشا يديه

٥٤٥

(إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

قوله تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (٩٥) المعنى : فاصدع بأمري كما كفيتك المستهزئين ، وهم قوم كانوا يستهزئون به وبالقرآن ، وفي عددهم قولان :

أحدهما : أنهم كانوا خمسة : الوليد بن المغيرة ، وأبو زمعة ، والأسود بن عبد يغوث ، والعاص بن وائل ، والحارث بن قيس ، قاله ابن عباس ، واسم أبي زمعة : الأسود بن المطّلب. وكذلك ذكرهم سعيد بن جبير ، إلّا أنه قال مكان الحارث بن قيس ، الحارث ابن غيطلة ، قال الزّهريّ : غيطلة أمّه ، وقيس أبوه ، فهو واحد ، وإنما ذكرت ذلك ، لئلّا يظنّ أنه غيره ، وقد ذكرت في كتاب «التّلقيح» (١) من ينسب إلى أمّه من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وسمّيت آباءهم ليعرفوا إلى أيّ الأبوين نسبوا. وفي رواية عن ابن عباس مكان الحارث بن قيس : عديّ بن قيس.

والثاني : أنهم كانوا سبعة ، قاله الشّعبيّ ، وابن أبي بزّة ، وعدّهم ابن أبي بزّة ، فقال : العاص بن وائل ، والوليد بن المغيرة ، والحارث بن عديّ ، والأسود بن المطّلب ، والأسود بن عبد يغوث ، وأصرم وبعكك ابنا عبد الحارث بن السبّاق. وكذلك عدّهم مقاتل ، إلّا أنّه قال مكان الحارث بن عديّ :

الحارث بن قيس السّهميّ ، وقال : أصرم وبعكك ابنا الحجّاج بن السبّاق.

ذكر ما أهلكهم الله به فكفى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرهم

(٨٥٤) قال المفسّرون : أتى جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمستهزئون يطوفون بالبيت ، فمرّ الوليد بن المغيرة ، فقال جبريل : يا محمّد ، كيف تجد هذا؟ فقال «بئس عبد الله» ، قال : قد كفيت ، وأومأ إلى ساق الوليد ، فمرّ الوليد برجل يريش (٢) نبلا له ، فتعلّقت شظيّة من نبل بإزاره ، فمنعه الكبر أن يطامن (٣) لينزعها ، وجعلت تضرب ساقه ، فمرض ومات. وقيل : تعلّق سهم بثوبه فأصاب أكحله فقطعه ، فمات. ومرّ العاص بن وائل ، فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمّد ، فقال : «بئس عبد الله» فأشار إلى أخمص

____________________________________

(٨٥٤) متن حسن بطرقه وشواهده من جهة الإسناد ، لكن المتن غريب. أخرجه الطبري ٢١٤١٧ عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير به مع اختلاف يسير وهذا مرسل. وكرره ٢١٤١٩ عن سعيد بن جبير مرسلا ، وكرره ٢١٤٣٠ من مرسل قتادة. وورد بنحوه عن قتادة ومقسم أخرجه الطبري ٢١٤٢٨. وورد بنحوه من حديث ابن عباس عند الطبراني في «الطوال» ٣٣ وفي «الأوسط» ٤٩٨٣ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ٣١٧  ـ  ٣١٨ من طريقين عن جعفر بن إياس عن سعيد عن ابن عباس. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٤٦  ـ  ٤٧ وقال : وفيه محمد بن عبد الحكيم النيسابوري ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات. قلت : توبع عند البيهقي.

الخلاصة : هذه روايات عامتها مرسلة ، والموصول لا بأس به بطريقيه ، فالحديث حسن من جهة الإسناد بطرقه وشواهده ، لكن المتن فيه غرابة والله تعالى أعلم.

__________________

(١) وهو كتاب مطبوع متداول ، واسمه «تلقيح فهوم أهل الأثر».

(٢) في «القاموس» : راش السهم يريشه : ألزق عليه الريش.

(٣) في «اللسان» : ويقال : طأمن ظهره : إذا حنى ظهره.

٥٤٦

رجله ، وقال : قد كفيت ، فدخلت شوكة في أخمصه ، فانتفخت رجله ومات. ومرّ الأسود بن المطّلب ، فقال : كيف تجد هذا؟ قال : «عبد سوء» فأشار بيده إلى عينيه ، فعمي وهلك. وقيل : جعل ينطح برأسه الشجر ويضرب وجهه بالشّوك ، فاستغاث بغلامه ، فقال : لا أرى أحدا يصنع بك هذا غير نفسك ، فمات وهو يقول : قتلني ربّ محمّد. ومرّ الأسود بن عبد يغوث ، فقال جبريل : كيف تجد هذا؟ فقال : «بئس عبد الله» ، فقال : قد كفيت ، وأشار إلى بطنه ، فسقى بطنه ، فمات. وقيل : أصاب عينه شوك ، فسالت حدقتاه ، وقيل : خرج عن أهله فأصابه السّموم ، فاسودّ حتى عاد حبشيّا ، فلمّا أتى أهله لم يعرفوه ، فأغلقوا دونه الأبواب حتى مات. ومرّ به الحارث بن قيس ، فقال : كيف تجد هذا؟ قال : «عبد سوء» فأومأ إلى رأسه ، وقال : قد كفيت ، فانتفخ رأسه فمات ، وقيل : أصابه العطش ، فلم يزل يشرب الماء حتى انقدّ بطنه ، وأمّا أصرم وبعكك ، فقال مقاتل : أخذت أحدهما الدّبيلة (١) والآخر ذات الجنب ، فماتا جميعا. قال عكرمة : هلك المستهزئون قبل بدر. وقال ابن السّائب : أهلكوا جميعا في يوم وليلة.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) فيه قولان : أحدهما : أنه التّكذيب. والثاني : الاستهزاء. قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فيه قولان : أحدهما : قل سبحان الله وبحمده ، قاله الضّحّاك. والثاني : فصلّ بأمر ربّك ، قاله مقاتل. وفي قوله : (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) قولان : أحدهما : من المصلّين. والثاني : من المتواضعين ، رويا عن ابن عباس. قوله تعالى : (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) فيه قولان : أحدهما : أنه الموت ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والجمهور. وسمّي يقينا ، لأنه موقن به. وقال الزّجّاج : معنى الآية : اعبد ربّك أبدا ، ولو قيل : اعبد ربّك ، بغير توقيت ، لجاز إذا عبد الإنسان مرّة أن يكون مطيعا ، فلمّا قال : (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أمر بالإقامة على العبادة ما دام حيّا (٢). والثاني : أنه الحقّ الذي لا ريب فيه من نصرك على أعدائك ، حكاه الماوردي.

__________________

(١) في «القاموس» : الدبيلة : داء في الجوف.

(٢) استدل الباطنية القرامطة ومنهم الشاذلية اليشرطية بهذه الآية على سقوط التكليف عنهم ، وفسروا اليقين هنا بالعلم والمعرفة ، فقالوا : من حصلت له المعرفة بالله سقطت عنه التكاليف.

قال الحافظ ابن كثير في رده عليهم في «تفسيره» ٢ / ٦٩٢ : ويستدل من هذه الآية الكريمة ، وهي قوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) ، على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا ، فيصلي بحسب حاله ، كما ثبت في صحيح البخاري ، عن عمران بن حصين  ـ  رضي الله عنهما  ـ  أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلّ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب». ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة ، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل ، فإن الأنبياء  ـ  عليهم‌السلام  ـ  كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته ، وما يستحق من التعظيم ، وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة ، وإنما المراد باليقين هاهنا الموت ، كما قدمناه. ولله الحمد والمنة والحمد لله على الهداية ، وعليه الاستعانة والتوكل ، وهو المسؤول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها.

٥٤٧

سورة النّحل

فصل في نزولها : روى مجاهد ، وعطيّة ، وابن أبي طلحة عن ابن عباس : أنها مكّيّة ، وكذلك روي عن الحسن ، وعكرمة ، وعطاء : أنها مكّيّة كلّها. وقال ابن عباس في رواية : إنه نزل منها بعد قتل حمزة : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) (١). وقال في رواية : هي مكية إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة ، وهي قوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) إلى قوله : (يَعْمَلُونَ) (٢). وقال الشّعبيّ : كلّها مكيّة إلّا قوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) ... إلى آخر الآيات. وقال قتادة : هي مكّية إلّا خمس آيات : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) ... الآيتين ، ومن قوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) ... إلى آخرها. وقال ابن السّائب : هي مكيّة إلّا خمس آيات : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) (٣) الآية ، وقوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) (٤) الآية ، وقوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) إلى آخرها. وقال مقاتل : مكيّة إلّا سبع آيات ، قوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) الآية ، وقوله : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) (٥) الآية ، وقوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) الآية ، وقوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً) (٦) الآية ، وقوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) إلى آخرها. قال جابر بن زيد : أنزل من أول النّحل أربعون آية بمكّة وبقيّتها بالمدينة. وروى حمّاد عن عليّ بن زيد قال : كان يقال لسورة النّحل : سورة النّعم ، يريد لكثرة تعداد النّعم فيها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣))

قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) قرأ حمزة والكسائيّ بالإمالة.

__________________

(١) سورة النحل : ١٢٦.

(٢) سورة النحل : ٩٥  ـ  ٩٧.

(٣) سورة النحل : ٤١.

(٤) سورة النحل : ١١٠.

(٥) سورة النحل : ١٠٦.

(٦) سورة النحل : ١١٢.

٥٤٨

(٨٥٥) سبب نزولها : أنه لمّا نزل قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) (١) ، فقال الكفّار بعضهم لبعض : إنّ هذا يزعم أنّ القيامة قد اقتربت ، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ، فلمّا رأوا أنّه لا ينزل شيء ؛ قالوا : ما نرى شيئا ، فأنزل الله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) (٢) فأشفقوا ، وانتظروا قرب الساعة ، فلمّا امتدّت الأيام قالوا : يا محمّد ما نرى شيئا ممّا تخوّفنا به ، فأنزل الله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) ، فوثب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورفع الناس رؤوسهم ، فنزل : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فاطمأنّوا ، قاله ابن عباس.

وفي قوله : (أَتى) ثلاثة أقوال : أحدها : أتى بمعنى : يأتي ، كما يقال : أتاك الخير فأبشر ، أي : سيأتيك ، قاله ابن قتيبة ، وشاهده : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٣) ، (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى) (٤) ونحو ذلك. والثاني : أتى بمعنى : قرب ، قال الزّجّاج : أعلم الله تعالى أنّ ذلك في قربه بمنزلة ما قد أتى. والثالث : أنّ «أتى» للماضي ، والمعنى : أتى بعض عذاب الله ، وهو : الجدب الذي نزل بهم ، والجوع. (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فينزل بكم مستقبلا كما نزل ماضيا ، قاله ابن الأنباري.

وفي المراد ب «أمر الله» خمسة أقوال : أحدها : أنها السّاعة ، وقد يخرّج على قول ابن عباس الذي قدّمناه ، وبه قال ابن قتيبة. والثاني : خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، يعني : أنّ خروجه من أمارات السّاعة. وقال ابن الأنباري : أتى أمر الله من أشراط السّاعة ، فلا تستعجلوا قيام السّاعة. والثالث : أنه الأحكام والفرائض ، قاله الضّحّاك (٥). والرابع : عذاب الله ، ذكره ابن الأنباري. والخامس : وعيد المشركين ، ذكره الماوردي.

قوله تعالى : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أي : لا تطلبوه قبل حينه ، (سُبْحانَهُ) أي : تنزيه له وبراءة من السّوء عمّا يشركون به من الأصنام.

قوله تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : «ينزل» بإسكان النّون وتخفيف الزاي. وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : (يُنَزِّلُ) بالتشديد ، وروى الكسائيّ عن أبي بكر عن عاصم : «تنزّل» بالتاء مضمومة ، وفتح الزاي مشدّدة. «الملائكة» رفع. قال ابن عباس : يريد

____________________________________

(٨٥٥) واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٥٧ عن ابن عباس بدون إسناد. والظاهر أنه من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وهي رواية ساقطة. وأخرجه الطبري ٢١٤٤٨ عن ابن جريج مرسلا بنحوه ، ومراسيل ابن جريج واهية ، فالخبر لا شيء ، وهو شبه موضوع.

__________________

(١) سورة القمر : ١.

(٢) سورة الأنبياء : ١.

(٣) سورة الأعراف : ٤٤.

(٤) سورة المائدة : ١١٦.

(٥) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٢ / ٥٦٠ : وقد ذهب الضحاك في تفسير هذه الآية إلى قول عجيب في قوله (أَتى أَمْرُ اللهِ) أي فرائضه وحدوده وقد ردّه ابن جرير فقال : لا نعلم أحدا استعجل بالفرائض والشرائع قبل وجودها بخلاف العذاب فإنهم استعجلوه قبل كونه استبعادا وتكذيبا.

ـ  وقال الطبري رحمه‌الله ٧ / ٥٥٧ : وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال : هو تهديد من الله أهل الكفر به وبرسوله وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك وذلك أنه عقّب ذلك بقوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) فدل بذلك على تقريعه للمشركين ، ووعيده لهم.

٥٤٩

بالملائكة جبريل عليه‌السلام وحده. وفي المراد بالرّوح ستة أقوال (١) :

أحدها : الوحي ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : أنه النّبوّة ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث : أنّ المعنى : تنزّل الملائكة بأمره ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. فعلى هذا يكون المعنى : أنّ أمر الله كلّه روح. قال الزّجّاج : الرّوح ما كان فيه من أمر الله حياة النّفوس بالإرشاد. والرابع : أنه الرّحمة ، قاله الحسن ، وقتادة. والخامس : أنه أرواح الخلق : لا ينزل ملك إلّا ومعه روح ، قاله مجاهد. والسادس : أنه القرآن ، قاله ابن زيد. فعلى هذا سمّاه روحا ، لأنّ الدّين يحيا به ، كما أنّ الرّوح تحيي البدن.

وقال بعضهم : الباء في قوله : (بِالرُّوحِ) بمعنى : مع ، فالتّقدير : مع الرّوح ، (مِنْ أَمْرِهِ) أي : بأمره ، (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يعني : الأنبياء ، (أَنْ أَنْذِرُوا) قال الزّجّاج : والمعنى : أنذروا أهل الكفر والمعاصي (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) أي : مروهم بتوحيدي ، وقال غيره : أنذروا بأنه لا إله إلّا أنا ، أي : مروهم بالتّوحيد مع تخويفهم إن لم يقرّوا.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤))

قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) قال المفسّرون : أخذ أبيّ بن خلف عظما رميما ، فجعل يفتّه ويقول : يا محمّد كيف يبعث الله هذا بعد ما رمّ؟ فنزلت فيه هذه الآية. والخصيم : المخاصم ، والمبين : الظّاهر الخصومة. والمعنى : أنه مخلوق من نطفة ، وهو مع ذلك يخاصم وينكر البعث ، أفلا يستدلّ بأوّله على آخره ، وأنّ من قدر على إيجاده أوّلا ، يقدر على إعادته ثانيا؟! وفيه تنبيه على إنعام الله عليه حين نقله من حال ضعف النّطفة إلى القوّة التي أمكنه معها الخصام.

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧))

قوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) الأنعام : الإبل ، البقر ، والغنم.

قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه ما استدفئ من أوبارها تتّخذ ثيابا ، وأخبية ، وغير ذلك. روى العوفيّ عن ابن عباس أنه قال : يعني بالدّفء : اللباس ، وإلى هذا المعنى ذهب الأكثرون. والثاني : أنه نسلها. روى عكرمة عن ابن عباس : (فِيها دِفْءٌ) قال : الدّفء : نسل كلّ دابّة ، وذكر ابن السّائب قال : يقال : الدّفء أولادها ، ومن لا يحمل من الصّغار ، وحكى ابن فارس اللغويّ عن الأمويّ ، قال : الدّفء عند العرب : نتاج الإبل وألبانها.

قوله تعالى : (وَمَنافِعُ) أي : سوى الدّفء من الجلود ، والألبان ، والنّسل ، والرّكوب ، والعمل عليها ، إلى غير ذلك ، (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) يعني : من لحوم الأنعام.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٢ / ٥٦١ : يقول الله تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) أي الوحي كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ ...).

٥٥٠

قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) أي : زينة ، (حِينَ تُرِيحُونَ) أي : حين تردّونها إلى مراحها ، وهو المكان الذي تأوي إليه ، فترجع عظام الضّروع والأسنمة ، فيقال : هذا مال فلان ، (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) : ترسلونها بالغداة إلى مراعيها. فإن قيل : لم قدّم الرّواح وهو مؤخّر؟ فالجواب : أنها في حال الرّواح تكون أجمل ؛ لأنها قد رعت ، وامتلأت ضروعها ، وامتدّت أسنمتها.

قوله تعالى : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) الإشارة بهذا إلى ما يطيق الحمل منها ، والأثقال : جمع ثقل ، وهو متاع المسافر. وفي قوله تعالى : (إِلى بَلَدٍ) قولان : أحدهما : أنه عامّ في كلّ بلد يقصده المسافر ، وهو قول الأكثرين. والثاني : أنّ المراد به : مكّة ، قاله عكرمة ، والأول أصحّ. والمعنى : أنها تحملكم إلى كلّ بلد لو تكلّفتم أنتم بلوغه لم تبلغوه إلّا بشقّ الأنفس.

وفي معنى «شق الأنفس» قولان : أحدهما : أنه المشقّة ، قاله الأكثرون. قال ابن قتيبة : يقال : نحن بشقّ من العيش ، أي : بجهد.

(٨٥٦) وفي حديث أمّ زرع : «وجدني في أهل غنيمة بشقّ».

والثاني : أنّ الشّقّ : النّصف ، فكان الجهد ينقص من قوة الرّجل ونفسه كأنه قد ذهب نصفه ، ذكره الفرّاء.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي حين منّ عليكم بالنّعم التي فيها هذه المرافق.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨))

قوله تعالى : (وَالْخَيْلَ) أي : وخلق الخيل (وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) قال الزّجّاج : المعنى : وخلقها زينة.

فصل : ويجوز أكل لحم الخيل ، وإنما لم يذكر في الآية ، لأنه ليس هو المقصود ، وإنما معظم المقصود بها الرّكوب والزّينة ، وبهذا قال الشّافعيّ. وقال أبو حنيفة ومالك : لا تؤكل لحوم الخيل.

قوله تعالى : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) ذكر قوم من المفسّرين : أنّ المراد به عجائب المخلوقات في السّماوات والأرض التي لم يطّلع عليها ، مثل ما يروى : إنّ لله ملكا من صفته كذا ، وتحت العرش نهر من صفته كذا. وقال قوم : هو ما أعدّ الله لأهل الجنّة فيها ولأهل النّار. وقال أبو سليمان الدّمشقي : في النّاس من كره تفسير هذا الحرف. وقال الشعبيّ : هذا الحرف من أسرار القرآن.

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢))

____________________________________

(٨٥٦) صحيح ، هو قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري ٥١٨٩ ومسلم ٢٤٤٨ ، وأبو يعلى ٤٧٠١ والترمذي في «الشمائل» ٢٥١ وابن حبان ٧١٠٥ من حديث عائشة.

٥٥١

قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) القصد : استقامة الطّريق ، يقال : طريق قصد وقاصد : إذا قصد بك ما تريد. قال الزّجّاج : المعنى : وعلى الله تبيين الطّريق المستقيم ، والدّعاء إليه بالحجج والبرهان. قوله تعالى : (وَمِنْها جائِرٌ) قال أبو عبيدة : السّبيل لفظه لفظ الواحد ، وهو في موضع الجميع ، فكأنّه قال : ومن السّبل سبيل جائر. قال ابن الأنباري : لمّا ذكر السّبيل ، دلّ على السّبل ، فلذلك قال : (وَمِنْها جائِرٌ) ، كما دلّ الحدثان على الحوادث في قول العبدي :

ولا يبقى على الحدثان حيّ

فهل يبقى عليهنّ السّلام

أراد : فهل يبقى على الحوادث ، والسّلام : الصّخور ، قال : ويجوز أن يكون إنما قال : (ومنها) لأنّ السّبيل تؤنّث وتذكّر ، فالمعنى : من السّبيل جائر. وقال ابن قتيبة : المعنى : ومن الطّرق جائر لا يهتدون فيه ، والجائر : العادل عن القصد ، قال ابن عباس : (وَمِنْها جائِرٌ) الأهواء المختلفة. وقال ابن المبارك : الأهواء والبدع.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يعني : المطر (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) وهو ما تشربونه ، (وَمِنْهُ شَجَرٌ) ذكر ابن الأنباري في معناه قولين : أحدهما : ومنه سقي شجر ، وشرب شجر ، فخلف المضاف إليه المضاف ، كقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) (١). والثاني : أنّ المعنى : ومن جهة الماء شجر ، ومن سقيه شجر ، ومن ناحيته شجر ، فحذف الأول ، وخلفه الثاني ، قال زهير :

لمن الدّيار بقنّة الحجر

أقوين من حجج ومن شهر (٢)

أي : من ممرّ حجج. قال ابن قتيبة : والمراد بهذه الشّجر : المرعى. وقال الزّجّاج : كلّ ما نبت على الأرض فهو شجر ، قال الشاعر يصف الخيل:

يعلفها اللّحم إذا عزّ الشّجر

والخيل في إطعامها اللّحم ضرر

يعني : أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض. و (تُسِيمُونَ) بمعنى : ترعون ، يقال : سامت الإبل فهي سائمة : إذا رعت ، وإنما أخذ ذلك من السّومة ، وهي : العلامة ، وتأويلها : أنها تؤثّر في الأرض برعيها علامات. قوله تعالى : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ) وروى أبو بكر عن عاصم : «ننبت» بالنون. قال ابن عباس : يريد الحبوب ، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى : (وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) قال الأخفش : المعنى : وجعل النّجوم مسخّرات ، فجاز إضمار فعل غير الأوّل ، لأنّ هذا المضمر في المعنى مثل المظهر ، وقد تفعل العرب أشدّ من هذا ، قال الرّاجز :

تسمع في أجوافهنّ صردا

وفي اليدين جسأة وبددا (٣)

المعنى : وترى في اليدين. والجسأة : اليبس. والبدد : السّعة. وقال غيره : قوله تعالى : (مُسَخَّراتٌ) حال مؤكّدة ، لأنّ تسخيرها قد عرف بقوله تعالى : (وَسَخَّرَ). وقرأ ابن عامر : «والشمس

__________________

(١) سورة البقرة : ٩٣.

(٢) في «القاموس» : قنة الحجر : موضع قرب حومانة الدّرّاج.

(٣) في «اللسان» الصّرد : البرد ، وقيل : شدّته. والجسأة : من جسأ فهو جاسئ : صلب وخشن.

٥٥٢

والقمر والنجوم مسخرات» ، رفعا كلّه ، وروى حفص عن عاصم : بالنّصب ؛ كالجمهور ؛ إلّا قوله تعالى : (وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) فإنه رفعها.

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦))

قوله تعالى : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ) أي : وسخّر ما ذرأ لكم. وذرأ بمعنى : خلق. و (سَخَّرَ الْبَحْرَ) أي : ذلّله للركوب والغوص فيه (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) يعني : السّمك (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) يعني : الدّرّ ، واللؤلؤ ، والمرجان ، وفي هذا دلالة على أنّ حالفا لو حلف : لا يلبس حليّا ، فلبس لؤلؤا ، أنه يحنث ، وقال أبو حنيفة : لا يحنث. قوله تعالى : (وَتَرَى الْفُلْكَ) يعني : السّفن. وفي معنى (مَواخِرَ) قولان : أحدهما : جواري ، قاله ابن عباس. قال اللغويون : يقال : مخرت السّفينة مخرا : إذا شقّت الماء في جريانها. والثاني : المواخر ، يعني : المملوءة ، قاله الحسن. وفي قوله تعالى : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) قولان : أحدهما : بالرّكوب فيه للتّجارة ابتغاء الرّبح من فضل الله؟! والثاني : بما تستخرجون من حليته ، وتصيدون من حيتانه. قال ابن الأنباري : وفي دخول الواو في قوله تعالى : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) وجهان : أحدهما : أنها معطوفة على لام محذوفة تقديره : وترى الفلك مواخر فيه لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا. والثاني : أنها دخلت لفعل مضمر ، تقديره : وفعل ذلك لكي تبتغوا.

قوله تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي : نصب فيها جبالا ثوابت (أَنْ تَمِيدَ) أي : لئلّا تميد ، وقال الزّجّاج : كراهة أن تميد ، يقال : ماد الرجل يميد ميدا : إذا أدير به ، وقال ابن قتيبة : الميد : الحركة والميل ، يقال : فلان يميد في مشيته ، أي : يتكفّأ. قوله تعالى : (وَأَنْهاراً) قال الزّجّاج : المعنى : وجعل فيها سبلا ، لأنّ معنى «ألقى» : «جعل» ، فأمّا السّبل ، فهي الطّرق ، (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي : لكي تهتدوا إلى مقاصدكم. قوله تعالى : (وَعَلاماتٍ) فيها ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنها معالم الطّرق بالنهار ، وبالنّجم هم يهتدون بالليل ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنها النّجوم أيضا ، منها ما يكون

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٧ / ٥٧٢ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره عدّد على عباده من نعمه ، إنعامه عليهم بما جعل لهم من العلامات التي يهتدون بها في مسالكهم وطرقهم التي يسيرونها ، ولم يخصص بذلك بعض العلامات دون بعض ، فكل علامة استدل بها الناس على طرقهم وفجاج سبلهم ، فداخل في قوله (وَعَلاماتٍ) والطرق المسبولة : الموطوءة ، علامة للناحية المقصودة ، والجبال علامات يهتدى بهن إلى قصد السبيل ، وكذلك النجوم بالليل. غير أن الذي أولى بتأويل الآية أن تكون العلامات من أدلة النهار إذ كان الله قد فصل منها أدلة الليل بقوله (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) ، وإذ كان ذلك أشبه وأولى بتأويل الآية ، فالواجب أن يكون القول في ذلك ما قاله ابن عباس في الخبر الذي رويناه وهو أن العلامات معالم الطرق وأماراتها التي يهتدى بها إلى المستقيم منها نهارا ، وأن يكون النجم الذي يهتدى به ليلا هو الجدي والفرقدان. لأن بها اهتداء السفر دون غيرها من النجوم.

٥٥٣

علامة لا يهتدى به ، ومنها ما يهتدى به ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والنّخعيّ. والثالث : الجبال ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل. وفي المراد بالنّجم أربعة أقوال : أحدها : أنه الثّريّا ، والفرقدان ، وبنات نعش ، والجدي ، قاله السّدّيّ. والثاني : أنه الجدي ، والفرقدان ، قاله ابن السائب. والثالث : أنه الجدي وحده ، لأنه أثبت النّجوم كلّها في مركزه ، ذكره الماوردي. والرابع : أنه اسم جنس ، والمراد جميع النّجوم ، قاله الزّجّاج. وقرأ الحسن ، والضّحّاك ، وأبو المتوكّل ، ويحيى بن وثّاب : «وبالنّجم» بضمّ النون وإسكان الجيم ، وقرأ الجحدريّ : «وبالنّجم» بضمّ النون والجيم ، وقرأ مجاهد : «وبالنجوم» بواو على الجمع. وفي المراد بهذا الاهتداء قولان : أحدهما : الاهتداء إلى القبلة. والثاني : إلى الطريق في السّفر.

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩))

قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) يعني : الأوثان ، وإنما عبّر عنها ب «من» لأنهم نحلوها العقل والتّمييز ، (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) يعني : المشركين ، يقول : أفلا تتّعظون كما اتّعظ المؤمنون؟ قال الفرّاء : وإنما جاز أن يقول : (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) ، لأنه ذكر مع الخالق ، كقوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) (١) ، والعرب تقول : اشتبه عليّ الراكب وجمله ، فما أدري من ذا من ذا ، لأنهم لمّا جمعوا بين الإنسان وغيره صلحت «من» فيهما جميعا.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) قد فسّرناه في سورة إبراهيم (٢).

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ) أي : لما كان منكم من تقصيركم في شكر نعمه (رَحِيمٌ) بكم إذ لم يقطعها عنكم بتقصيركم.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) (١٩) ، روى عبد الوارث ، إلّا القزّاز «يسرون» و «يعلنون» بالياء.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، قرأ عاصم : يدعون ، بالياء.

قوله تعالى : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) يعني : الأصنام. قال الفرّاء : ومعنى الأموات هاهنا : أنها لا روح فيها. قال الأخفش : وقوله : (غَيْرُ أَحْياءٍ) توكيد.

قوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ، «أيّان» بمعنى : «متى». وفي المشار إليهم قولان : أحدهما : أنها الأصنام ، عبّر عنها كما يعبّر عن الآدميين. قال ابن عباس : وذلك أنّ الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها ، فيتبرّؤون من عبادتهم ، ثم يؤمر بالشياطين والذين كانوا يعبدونها إلى النار. الثاني : أنهم الكفّار ، لا يعلمون متى بعثهم ، قاله مقاتل.

__________________

(١) سورة النور : ٤٥.

(٢) سورة إبراهيم : ٣٤.

٥٥٤

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧))

قوله تعالى : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) قد ذكرناه في سورة (البقرة) (١).

قوله تعالى : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي : بالبعث والجزاء (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) أي : جاحدة لا تعرف التّوحيد (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي : ممتنعون من قبول الحقّ.

قوله تعالى : (لا جَرَمَ) قد فسّرناه في (هود) (٢). ومعنى الآية : أنّه يجازيهم بسرّهم وعلنهم ، لأنه يعلمه. والمستكبرون : المتكبّرون عن التّوحيد والإيمان. وقال مقاتل : (ما يسرون) حين بعثوا في كلّ طريق من يصدّ الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وما يعلنون) حين أظهروا العداوة لرسول الله. قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) يعني : المستكبرين (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال الزّجّاج : «ما ذا» بمعنى «ما الذي». و (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) مرفوعة على الجواب ، كأنهم قالوا : الذي أنزل : أساطير الأوّلين ، أي : الذي تذكرون أنتم أنه منزّل أساطير الأوّلين. وقد شرحنا معنى الأساطير في سورة الأنعام (٣). قال مقاتل : الذين بعثهم الوليد بن المغيرة في طرق مكّة يصدّون الناس عن الإيمان ، ويقول بعضهم : إنّ محمّدا ساحر ، ويقول بعضهم : شاعر ، وقد شرحنا هذا المعنى في الحجر : في ذكر المقتسمين (٤).

قوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ) هذه لام العاقبة ، وقد شرحناها في غير موضع ، والأوزار : الآثام ، وإنما قال : كاملة ، لأنه لم يكفّر منها شيء بما يصيبهم من نكبة ، أو بليّة ، كما يكفّر عن المؤمن ، (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي : أنهم أضلّوهم بغير دليل ، وإنما حملوا من أوزار الأتباع ، لأنهم كانوا رؤساء يقتدى بهم في الضّلالة ، وقد ذكر ابن الأنباري في «من» وجهين : أحدهما : أنها للتّبعيض ، فهم يحملون ما شركوهم فيه ، فأمّا ما ركبه أولئك باختيارهم من غير تزيين هؤلاء ، فلا يحملونه ، فيصحّ معنى التّبعيض. والثاني : أنّ «من» مؤكّدة ، والمعنى : وأوزار الذين يضلّونهم. (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي : بئس ما حملوا على ظهورهم.

قوله تعالى : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قال المفسّرون : يعني به : النّمرود بن كنعان ، وذلك أنه بنى صرحا طويلا ، واختلفوا في طوله ، فقال ابن عباس : خمسة آلاف ذراع ، وقال مقاتل : كان طوله فرسخين ، قالوا : ورام أن يصعد إلى السماء ليقاتل أهلها بزعمه. ومعنى «المكر» ها هنا : التّدبير

__________________

(١) سورة البقرة : ١٦٣.

(٢) سورة هود : ٢٢.

(٣) سورة الأنعام : ٢٥.

(٤) سورة الحجر : ٩٠.

٥٥٥

الفاسد. وفي الهاء والميم من «قبلهم» قولان : أحدهما : أنها للمقتسمين على عقاب مكّة ، قاله ابن السّائب. والثاني : لكفّار مكّة ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) أي : من الأساس. قال المفسّرون : أرسل الله ريحا فألقت رأس الصّرح في البحر ، وخرّ عليهم الباقي. قال السّدّيّ : لمّا سقط الصّرح ، تبلبلت ألسن الناس من الفزع ، فتكلّموا بثلاثة وسبعين لسانا ، فلذلك سمّيت «بابل» (١) ، وإنما كان لسان الناس قبل ذلك بالسّريانيّة ، وهذا قول مردود ، لأنّ التّبلبل يوجب الاختلاط والتّكلّم بشيء غير مستقيم ، فأمّا أن يوجب إحداث لغة مضبوطة الحواشي ، فباطل ، وإنما اللغات تعليم من الله تعالى. فإن قيل : إذا كان الماكر واحدا ، فكيف قال : «الذين» ولم يقل : «الذي»؟ ، فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنه كان الماكر ملكا له أتباع ، فأدخلوا معه في الوصف. والثاني : أنّ العرب توقع الجمع على الواحد ، فيقول قائلهم : خرجت إلى البصرة على البغال ، وإنما خرج على بغل واحد. والثالث : أنّ «الذين» غير موقع على واحد معيّن ، لكنه يراد به : قد مكر الجبّارون الذين من قبلهم ، فكان عاقبة مكرهم رجوع البلاء عليهم ، ذكر هذه الأجوبة ابن الأنباري. قال : وذكر بعض العلماء : أنه إنما قال : «من فوقهم» ، لينبّه على أنهم كانوا تحته ، إذ لو لم يقل ذلك ، لاحتمل أنهم لم يكونوا تحته ، لأنّ العرب تقول : سقط علينا البيت ، وخرّ علينا الحانوت ، وتداعت علينا الدّار ، وليسوا تحت ذلك.

قوله تعالى : (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي : من حيث ظنّوا أنهم آمنون فيه. قال السّدّيّ : أخذوا من مأمنهم ، وروى عطيّة عن ابن عباس قال : خرّ عليهم عذاب من السماء ، وعامّة المفسّرين على ما حكيناه من أنه بنيان سقط. وقال ابن قتيبة : هذا مثل ، والمعنى : أهلكهم الله ، كما هلك من هدم مسكنه من أسفله ، فخرّ عليه.

قوله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) أي : يذلّهم بالعذاب. (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ ، «شركائي الذين» بهمزة وفتح الياء ، وقال البزّيّ عن ابن كثير : «شركاي» مثل : هداي ، والمعنى : أين شركائي على زعمكم؟ هلّا دفعوا عنكم!. (الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي : تخالفون المسلمين فتعبدونهم وهم يعبدون الله ، وقرأ نافع : «تشاقّون» بكسر النون ، أراد : تشاقّونني ، فحذف النون الثانية ، وأبقى الكسرة تدلّ عليها ، والمعنى : كنتم تنازعونني فيهم ، وتخالفون أمري لأجلهم.

قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) فيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم الملائكة ، قاله ابن عباس. والثاني : الحفظة من الملائكة ، قاله مقاتل. والثالث : أنهم المؤمنون.

فأمّا «الخزي» فقد شرحناه في مواضع (٢) ، و «السّوء» ها هنا : العذاب.

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))

__________________

(١) في «اللسان» بابل : موضع بالعراق ، وقيل : موضع ينسب إليه السحر والخمر.

(٢) انظر تفسير آل عمران : ١٩٢.

٥٥٦

قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) قال عكرمة : هؤلاء قوم كانوا بمكّة أقرّوا بالإسلام ولم يهاجروا ، فأخرجهم المشركون كرها إلى بدر ، فقتل بعضهم ، وقد شرحنا هذا في سورة (النساء) (١). قوله تعالى : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) قال ابن قتيبة : انقادوا واستسلموا ، والسّلم : الاستسلام. قال المفسّرون : وهذا عند الموت يتبرّؤون من الشّرك ، وهو قولهم : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) وهو الشّرك ، فتردّ عليهم الملائكة فتقول : «بلى». وقيل : هذا ردّ خزنة جهنّم عليهم (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الشّرك والتّكذيب. ثم يقال لهم : ادخلوا أبواب جهنّم ، وقد سبق تفسير ألفاظ الآية (٢).

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢))

قوله تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ).

(٨٥٧) روى أبو صالح عن ابن عباس أنّ مشركي قريش بعثوا ستة عشر رجلا إلى عقاب (٣) مكّة أيام الحجّ على طريق الناس ، ففرّقوهم على كلّ عقبة أربعة رجال ، ليصدّوا الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا لهم : من أتاكم من الناس يسألكم عن محمّد فليقل بعضكم شاعر ، وبعضكم كاهن ، وبعضكم مجنون ، وألّا تروه ولا يراكم خير لكم ، فإذا انتهوا إلينا صدّقناكم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعث إلى كلّ أربعة منهم أربعة من المسلمين ، فيهم عبد الله بن مسعود ، فأمروا أن يكذّبوهم ، فكان الناس إذا مرّوا على المشركين ، فقالوا ما قالوا ، ردّ عليهم المسلمون ، وقالوا : كذبوا ، بل يدعو إلى الحقّ ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الخير ، فيقولون : وما هذا الخير الذي يدعو إليه؟ فيقولون : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ).

قوله تعالى : (قالُوا خَيْراً) أي : أنزل خيرا ، ثم فسّر ذلك الخير فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا) قالوا : لا إله إلّا الله ، وأحسنوا العمل (حَسَنَةٌ) أي : كرامة من الله تعالى في الآخرة ، وهي الجنة ، وقيل : «للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة» في الدنيا وهي ما رزقهم من خيرها وطاعته فيها ، (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) يعني : الجنّة (خَيْرٌ) من الدنيا.

وفي قوله تعالى : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) قولان : أحدهما : أنها الجنّة ، قاله الجمهور. قال ابن الأنباري : في الكلام محذوف ، تقديره : ولنعم دار المتّقين الآخرة ، غير أنه لمّا ذكرت أولا ، عرف

____________________________________

(٨٥٧) لا أصل له ، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، ورواية أبي صالح هو الكلبي ، وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا ، ليس له أصل ، وتفردهما بهذا الخبر لا شيء ، وهو مما لا أصل له.

__________________

(١) سورة النساء : ٩٧.

(٢) انظر النساء : ٩٧ ، الحجر : ٤٤.

(٣) في «اللسان» العقاب : جمع عقبة ، والعقبة : طريق في الجبل وعر.

٥٥٧

معناها آخرا ، ويجوز أن يكون المعنى : ولنعم دار المتّقين جنّات عدن. والثاني : أنها الدنيا. قال الحسن : ولنعم دار المتّقين الدنيا ، لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة.

قوله تعالى : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) قد شرحناه في (براءة) (١).

قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) وقرأ حمزة «يتوفاهم» بياء مع الإمالة. وفي معنى (طَيِّبِينَ) خمسة أقوال : أحدها : مؤمنين. والثاني : طاهرين من الشّرك. والثالث : زاكية أفعالهم وأقوالهم. والرابع : طيّبة وفاتهم سهل خروج أرواحهم. والخامسة : طيّبة أنفسهم بالموت ، ثقة بالثواب. قوله تعالى : (يَقُولُونَ) يعني الملائكة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ، وفي أيّ وقت يكون هذا السلام؟ فيه قولان : أحدهما : عند الموت. قال البراء بن عازب : يسلّم عليه ملك الموت إذا دخل عليه. وقال القرظيّ : ويقول له : الله عزوجل يقرأ عليك السّلام ، ويبشّره بالجنّة. والثاني : عند دخول الجنّة. قال مقاتل : هذا قول خزنة الجنّة لهم في الآخرة. يقولون : سلام عليكم.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤))

قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) وقرأ حمزة ، والكسائيّ «يأتيهم» بالياء ، وهذا تهديد للمشركين ، وقد شرحناه في سورة البقرة (٢). وآخر سورة الأنعام (٣). وفي قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) قولان : أحدهما : أمر الله فيهم ، قاله ابن عباس. والثاني : العذاب في الدنيا ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يريد : كفّار الأمم الماضية ، كذّبوا كما كذّب هؤلاء. (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بإهلاكهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالشّرك (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي : جزاؤها ، قال ابن عباس : جزاء ما عملوا من الشّرك ، (وَحاقَ بِهِمْ) قد بيّناه في سورة الأنعام (٤) ، والمعنى : أحاط بهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب.

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧))

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) يعني : كفّار مكّة (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)

__________________

(١) سورة التوبة : ٧٢.

(٢) سورة البقرة : ٢١٠.

(٣) عند الآية : ١٥٨.

(٤) عند الآية : ١٠.

٥٥٨

يعني : الأصنام ، أي : لو شاء ما أشركنا ولا حرّمنا من دونه من شيء من البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة ، والحام ، والحرث ، وذلك أنه لمّا نزل : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١) قالوا هذا ، على سبيل الاستهزاء ، لا على سبيل الاعتقاد ، وقيل : معنى كلامهم : لو لم يأمرنا بهذا ويرده منّا ، لم نأته.

قوله تعالى : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : من تكذيب الرّسل وتحريم ما أحلّ الله ، (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يعني : ليس عليهم إلّا التّبليغ ، فأمّا الهداية ، فهي إلى الله تعالى ، وبيّن ذلك بقوله : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) أي : كما بعثناك في هؤلاء (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي : وحّدوه (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) وهو الشّيطان (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) أي : أرشده (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أي : وجبت في سابق علم الله ، فأعلم الله عزوجل أنه إنّما بعث الرّسل بالأمر بالعبادة ، وهو من وراء الإضلال والهداية ، (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي : معتبرين بآثار الأمم المكذّبة ، ثم أكّد أنّ من حقّت عليه الضّلالة لا يهتدي ، فقال : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) أي : إن تطلب هداهم بجهدك (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر ، «لا يهدى» برفع الياء وفتح الدال ، والمعنى : من أضلّه ، فلا هادي له ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «يهدي» بفتح الياء وكسر الدال ، ولم يختلفوا في «يضل» أنها بضمّ الياء وكسر الضاد ، وهذه القراءة تحتمل معنيين ، ذكرهما ابن الأنباري : أحداهما : لا يهدي من طبعه ضالا ، وخلقه شقيّا. والثاني : لا يهدي ، أي : لا يهتدي من أضلّه ، أي : من أضلّه الله لا يهتدي ، فيكون معنى يهدي : يهتدي ، تقول العرب : قد هدى فلان الطّريق ، يريدون : اهتدى.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢))

قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ).

(٨٥٨) سبب نزولها أنّ رجلا من المسلمين كان له على رجل من المشركين دين ، فأتاه يتقاضاه ، فكان فيما تكلّم به : والذي أرجوه بعد الموت ، فقال المشرك : وإنّك لتزعم أنك تبعث بعد الموت؟! فأقسم بالله (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو العالية.

و (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) مفسّر في المائدة (٢). وقوله : (بَلى) ردّ عليهم ، قال الفرّاء : والمعنى : (بَلى) ليبعثنّهم (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا).

قوله تعالى : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) قال الزّجّاج : يجوز أن يكون متعلّقا بالبعث ، فيكون

____________________________________

(٨٥٨) ضعيف. أخرجه الطبري ٢١٥٨٧ عن أبي العالية مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث.

__________________

(١) الدهر : ٣٠.

(٢) عند الآية : ٥٣.

٥٥٩

المعنى : بلى يبعثهم فيبين لهم ، ويجوز أن يكون متعلّقا بقوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) ليبيّن لهم. وللمفسّرين في قوله (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ) قولان : أحدهما : أنهم جميع الناس ، قاله قتادة. والثاني : أنهم المشركون ، يبيّن لهم بالبعث ما خالفوا المؤمنين فيه.

قوله تعالى : (أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) أي : فيما أقسموا عليه من نفي البعث. ثم أخبر بقدرته على البعث بقوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة «فيكون» رفعا ، وكذلك في كلّ القرآن. وقرأ ابن عامر ، والكسائيّ «فيكون» نصبا. قال مكّيّ بن إبراهيم : من رفع ، قطعه عمّا قبله ، والمعنى : فهو يكون ، ومن نصب ، عطفه على «يقول» ، وهذا مثل قوله : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وقد فسّرناه في البقرة (١). فإن قيل : كيف سمّي الشيء قبل وجوده شيئا؟. فالجواب : أنّ الشيء وقع على المعلوم عند الله قبل الخلق ، لأنه بمنزلة ما قد عوين وشوهد.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :

(٨٥٩) أحدها : أنها نزلت في ستة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بلال ، وعمّار ، وصهيب ، وخبّاب بن الأرتّ ، وعايش وجبر موليان لقريش ، أخذهم أهل مكّة فجعلوا يعذّبونهم ، ليردّوهم عن الإسلام ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني : أنها نزلت في أبي جندل بن سهيل بن عمرو ، قاله داود بن أبي هند.

والثالث : أنهم جميع المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله قتادة. ومعنى (هاجروا في الله) ، أي : في طلب رضاه وثوابه (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) بما نال المشركون منهم ، (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) وفيها خمسة أقوال (٢) : أحدها : لنزلنّهم المدينة ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والشّعبيّ ، وقتادة ، فيكون المعنى : لنبوّئنّهم دارا حسنة وبلدة حسنة. والثاني : لنرزقنّهم في الدنيا الرزق الحسن ، قاله مجاهد. والثالث : النّصر على العدوّ ، قاله الضّحّاك. والرابع : أنه ما بقي بعدهم من الثّناء الحسن ، وصار لأولادهم من الشّرف ، ذكره الماوردي ، وقد روي معناه عن مجاهد ، فروى عنه ابن أبي نجيح أنه قال : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) قال : لسان صادق. والخامس : أنّ المعنى : لنحسننّ إليهم في الدنيا ، قال بعض أهل المعاني : فتكون على هذه الأقوال «لنبوّئنهم» ، على سبيل الاستعارة ، إلّا على القول الأول.

قوله تعالى : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) قال ابن عباس : يعني : الجنّة ، (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يعني : أهل مكّة. ونقل عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ، أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه ،

____________________________________

(٨٥٩) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وتقدم الكلام على هذه الرواية مرارا ، فهو لا شيء.

__________________

(١) عند الآية : ١١٧.

(٢) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٧ / ٥٨٦ : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال ؛ معنى (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) : لنحلنهم ولنسكننهم ، لأن التبوء في كلام العرب الحلول بالمكان والنزول به ، ومنه قول الله تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ)  ـ  يونس : ٩٣  ـ.

٥٦٠