زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٥

أمركم واعزموا عليه. قال المؤرّج : «أجمعت الأمر» أفصح من «أجمعت عليه» ، وأنشد (١) :

يا ليت شعري والمنى لا تنفع

هل أغدون يوما وأمري مجمع

فأمّا رواية الأصمعيّ ، فقال أبو عليّ : يجوز أن يكون معناها : اجمعوا ذوي الأمر منكم ، أي : رؤساءكم. ويجوز أن يكون جعل الأمر ما كانوا يجمعونه من كيدهم الذي يكيدونه ، فيكون كقوله : (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) (٢). قوله تعالى : (وَشُرَكاءَكُمْ) قال الفرّاء وابن قتيبة : المعنى : وادعوا شركاءكم. وقال الزّجّاج : الواو ها هنا بمعنى «مع» ، فالمعنى : مع شركائكم. تقول : لو تركت النّاقة وفصيلها لرضعها ، أي : مع فصيلها. وقرأ يعقوب «وشركاؤكم» بالرّفع.

قوله تعالى : (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) فيه قولان : أحدهما : لا يكن أمركم مكتوما ، قاله ابن عباس. والثاني : غما عليكم ، كما تقول : كرب وكربة ، قاله ابن قتيبة. وذكر الزّجّاج القولين. وفي قوله : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) قولان : أحدهما : ثمّ اقضوا إليّ ما في أنفسكم ، قاله مجاهد. والثاني : افعلوا ما تريدون ، قاله الزّجّاج ، وابن قتيبة. وقال ابن الأنباري : معناه : اقضوا إليّ بمكروهكم وما توعدونني به ، كما تقول العرب : قد قضى فلان ، يريدون : مات ومضى.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣))

قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي : أعرضتم عن الإيمان. (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي : لم يكن دعائي إيّاكم طمعا في أموالكم. وقوله تعالى : (إِنْ أَجْرِيَ) حرّك هذه الياء ابن عامر ، وأبو عمرو ، ونافع ، وحفص عن عاصم ، وأسكنها الباقون.

قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) أي : جعلنا الذين نجوا مع نوح خلفا ممّن هلك.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤))

قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد نوح (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) قال ابن عباس : يريد : إبراهيم وهودا وصالحا ولوطا وشعيبا. (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : بان لهم أنّهم رسل الله. (فَما كانُوا) أي : أولئك الأقوام (لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا) يعني الذين قبلهم. والمراد : أنّ المتأخّرين مضوا على سنن المتقدّمين في التّكذيب. وقال مقاتل : فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا به من العذاب من قبل نزوله. قوله تعالى : (كَذلِكَ نَطْبَعُ) أي : كما طبعنا على قلوب أولئك ، (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) يعني المتجاوزين ما أمروا به.

__________________

(١) ذكره ابن منظور في «اللسان» ولم ينسبه لقائل ، ولعله للمؤرج نفسه ، حيث قال المصنف : وأنشد المؤرج.

(٢) سورة طه : ٦٤.

٣٤١

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥))

قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني الرّسل الذين أرسلوا بعد نوح.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢))

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) وهو ما جاء به موسى من الآيات.

قوله تعالى : (أَسِحْرٌ هذا) قال الزّجّاج : المعنى : أتقولون للحقّ لمّا جاءكم هذا اللفظ ، وهو قولهم : (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ). ثم قرّرهم فقال : (أَسِحْرٌ هذا)؟. قال ابن الأنباري : إنّما أدخلوا الألف على جهة تفظيع الأمر ، كما يقول الرّجل إذا نظر إلى الكسوة الفاخرة : أكسوة هذه؟ يريد بالاستفهام تعظيمها ، وتأتي الرّجل جائزة ، فيقول : أحقّ ما أرى؟ معظّما لما ورد عليه. وقال غيره : تقدير الكلام : أتقولون للحقّ لمّا جاءكم : هو سحر؟ أسحر هذا؟ فحذف السّحر الأوّل اكتفاء بدلالة الكلام عليه ، كقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) (١) المعنى : بعثناهم ليسوؤوا وجوهكم.

قوله تعالى : (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) قال ابن قتيبة : لتصرفنا. يقال : لفتّ فلانا عن كذا : إذا صرفته. ومنه الالتفات ، وهو الانصراف عمّا كنت مقبلا عليه. قوله تعالى : (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) وروى أبان ، وزيد عن يعقوب : «ويكون لكما» بالياء. وفي المراد بالكبرياء ثلاثة أقوال : أحدها : الملك والشّرف ، قاله بن عباس. والثاني : الطّاعة ، قاله الضّحّاك. والثالث : العلوّ ، قاله ابن زيد. قال ابن عباس : والأرض ها هنا : أرض مصر.

قوله تعالى : (بِكُلِّ ساحِرٍ) قرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف : «بكلّ سحّار» بتشديد الحاء وتأخير الألف. وقوله تعالى : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) قرأ الأكثرون «السحر» بغير مدّ ، على لفظ الخبر ، والمعنى : الذي جئتم به من الحبال والعصيّ ، هو السّحر ، وهذا ردّ لقولهم للحقّ : هذا سحر ، فتقديره : الذي جئتم به السّحر ، فدخلت الألف واللام ، لأنّ النّكرة إذا عادت ، عادت معرفة ، كما تقول : رأيت رجلا ، فقال لي الرّجل. وقرأ مجاهد ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وأبان عن عاصم ، وأبو حاتم عن يعقوب : «السحر» بمدّ الألف ، استفهاما. قال الزّجّاج : والمعنى : أيّ شيء جئتم به؟ أسحر هو؟ على جهة التّوبيخ لهم. وقال ابن الأنباري : هذا الاستفهام معناه التّعظيم للسّحر ، لا على سبيل الاستفهام عن الشّيء الذي يجهل ، وذلك مثل قول الإنسان في الخطأ الذي يستعظمه من إنسان : أخطأ هذا؟ هو عظيم الشّأن في الخطأ. والعرب تستفهم عمّا هو معلوم عندها ، قال امرؤ القيس :

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧.

٣٤٢

أغرّك منّي أنّ حبّك قاتلي

وأنّك مهما تأمري القلب يفعل

وقال قيس بن ذريح :

أراجعة يا لبن أيامنا الألى

بذي الطّلح أم لا ما لهنّ رجوع (١)

فاستفهم وهو يعلم أنهنّ لا يرجعن.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أي : يهلكه ، ويظهر فضيحتكم ، (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لا يجعل عملهم نافعا لهم. (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) أي : يظهره ويمكّنه ، (بِكَلِماتِهِ) بما سبق من وعده بذلك.

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢))

قوله تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ) في المراد بالذّرّية ها هنا ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : أنّ المراد بالذّرّيّة : القليل. قاله ابن عباس. والثاني : أنهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى مات آباؤهم لطول الزّمان ، وآمنوا هم ، قاله مجاهد. وقال ابن زيد : هم الذين نشئوا مع موسى حين كفّ فرعون عن ذبح

__________________

(١) في «اللسان» : طلح : اسم موضع. وفي «القاموس» : الطّلح : شجر عظام.

(٢) قال الطبري ٦ / ٥٩١ : وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية قول مجاهد ... لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى فلأن تكون «الهاء» في قوله : «من قومه» من ذكر موسى لقربها من ذكره ، أولى من أن تكون من ذكر فرعون ، لبعد ذكره منها ، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليل من خبر ولا نظر.

ـ  وقال ابن كثير رحمه‌الله ٢ / ٥٢٧ : وفي هذا نظر لأنه أراد بالذرية : الأحداث والشباب ، وأنهم من بني إسرائيل ، فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه‌السلام واستبشروا به وقد كانوا يعرفون نعته وصفته ، والبشارة به من كتبهم المتقدمة ، وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر فرعون ويظهرهم عليه ، ولهذا لما بلغ هذا فرعون حذر كل الحذر ، فلم يجد عنه شيئا ولما جاء موسى آذاهم فرعون أشد الأذى ، وقالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ، قال : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون» وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد : إلا ذرية من قوم موسى ، وهم بنو إسرائيل؟.

٣٤٣

الغلمان. قال ابن الأنباري : وإنّما قيل لهؤلاء : «ذرّيّة» لأنّهم أولاد الذين بعث إليهم موسى ، وإن كانوا بالغين. والثالث : أنّهم قوم ، أمّهاتهم من بني إسرائيل ، وآباؤهم من القبط ، قاله مقاتل ، واختاره الفرّاء. قال : وإنّما سمّوا (١) ذريّة كما قيل لأولاد فارس : الأبناء ، لأنّ أمّهاتهم من غير جنس آبائهم. وفي هاء «قومه» قولان : أحدهما : أنّها تعود إلى موسى ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : إلى فرعون ، رواه أبو صالح عن ابن عباس (٢). فعلى القول الأوّل يكون قوله : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) أي : وملأ فرعون. قال الفرّاء : إنّما قال : «وملئهم» بالجمع ، وفرعون واحد ، لأنّ الملك إذا ذكر ذهب الوهم إليه وإلى من معه ، تقول : قدم الخليفة فكثر الناس ، تريد : بمن معه. وقد يجوز أن يريد بفرعون : آل فرعون ، كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٣). وعلى القول الثاني : يرجع ذكر الملأ إلى الذّريّة. قال ابن جرير : وهذا أصحّ ، لأنه كان في الذّرية من أبوه قبطيّ وأمّه إسرائيليّة ، فهو مع فرعون على موسى.

قوله تعالى : (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) يعني فرعون ، ولم يقل : يفتنوهم ، لأنّ قومه كانوا على من كان عليه. وفي هذه الفتنة قولان : أحدهما : أنّها القتل ، قاله ابن عباس. والثاني : التّعذيب ، قاله ابن جرير. قوله تعالى : (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) قال ابن عباس : متطاول في أرض مصر (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) حين كان عبدا فادّعى الرّبوبيّة.

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) لمّا شكا بنو إسرائيل إلى موسى ما يهدّدهم به فرعون من ذبح أولادهم ، واستحياء نسائهم ، قال لهم هذا.

وفي قوله : (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) ثلاثة أقوال : أحدها : لا تهلكنا بعذاب على أيدي قوم فرعون ، ولا بعذاب من قبلك ، فيقول قوم فرعون : لو كانوا على حقّ ما عذّبوا ولا سلّطنا عليهم. والثاني : لا تسلّطهم علينا فيفتنونا ، والقولان مرويّان عن مجاهد. والثالث : لا تسلّطهم علينا فيفتتنون بنا ، لظنّهم أنّهم على حقّ ، قاله أبو الضّحى ، وأبو مجلز.

قوله تعالى : (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) قال المفسّرون : لمّا أرسل موسى ، أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخرّبت كلّها ، ومنعوا من الصّلاة ، وكانوا لا يصلّون إلّا في الكنائس ؛ فأمروا أن يتّخذوا مساجد في بيوتهم ويصلّون فيها خوفا من فرعون. و «تبوّءا» معناه : اتّخذا ، وقد شرحناه في سورة

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله ٦ / ٥٩٣ : وقد زعم بعض أهل العربية أنه إنما قيل : «فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه» لأن الذين آمنوا به إنما كانت أمهاتهم من بني إسرائيل ، وآباؤهم من القبط ، فقيل لهم «الذرية» من أجل ذلك ، كما قيل لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب وآباؤهم من العجم «أبناء». والمعروف من معنى (الذرية) في كلام العرب ، أنها أعقاب من نسبت إليه من قبل الرجال والنساء ، كما قال تعالى (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) (الإسراء : ٣) وكما قال تعالى (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ) ثم قال بعد (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ) الأنعام ٨٤ ، ٨٥ فجعل من كان قبل الرجال والنساء من ذرية إبراهيم.

(٢) والذي ذهب إليه الطبري رحمه‌الله ٦ / ٥٩٢ : هو أنه في قوله (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) الدليل الواضح على أن «الهاء» في «قومه» من ذكر موسى ، لا من ذكر فرعون ، لأنها لو كانت من ذكر فرعون ، لكان الكلام (عَلى خَوْفٍ) منه ولم يكن (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ).

(٣) سورة يوسف ٨٢.

٣٤٤

الأعراف (١). وفي المراد بمصر قولان : أحدهما : أنه البلد المعروف بمصر ، قاله الضّحّاك. والثاني : أنه الإسكندريّة ، قاله مجاهد. وفي البيوت قولان : أحدهما : أنها المساجد ، قاله الضّحّاك ، والثاني : القصور ، قاله مجاهد.

وفي قوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أربعة أقوال (٢) : أحدها : اجعلوها مساجد ، رواه مجاهد ، وعكرمة ، والضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال النّخعيّ ، وابن زيد. وقد ذكرنا أنّ فرعون أمر بهدم مساجدهم ، فقيل لهم : اجعلوا بيوتكم قبلة بدلا من المساجد. والثاني : اجعلوها قبل القبلة ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. وروى الضّحّاك عن ابن عباس ، قال : قبل مكّة. وقال مجاهد : أمروا أن يجعلوها مستقبلة الكعبة ، وبه قال مقاتل ، وقتادة ، والفرّاء. والثالث : اجعلوها يقابل بعضها بعضا ، وهو مرويّ عن ابن عباس أيضا ، وبه قال سعيد بن جبير. والرابع : واجعلوا بيوتكم التي بالشّام قبلة لكم في الصّلاة ، فهي قبلة اليهود إلى اليوم ، قاله ابن بحر.

فإن قيل : البيوت جمع ، فكيف قال : «قبلة» على التّوحيد؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : من قال : المراد بالقبلة الكعبة ، قال : وحدت القبلة لتوحيد الكعبة. قال : ويجوز أن يكون أراد : اجعلوا بيوتكم قبلا ، فاكتفى بالواحد من الجميع ، كما قال العبّاس بن مرداس :

فقلنا أسلموا إنّا أخوكم

فقد برئت من الإحن الصّدور (٣)

يريد : إنّا إخوتكم. ويجوز أن يكون وحّد «قبلة» لأنه أجراها مجرى المصدر ، فيكون المعنى : واجعلوا بيوتكم إقبالا على الله ، وقصدا لما كنتم تستعملونه في المساجد. ويجوز أن يكون وحّدها ، والمعنى : واجعلوا بيوتكم شيئا قبلة ، ومكانا قبلة ، ومحلّة قبلة.

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) قال ابن عباس : أتمّوا الصّلاة (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أنت يا محمّد. قال سعيد بن جبير : بشّرهم بالنّصر في الدنيا ، وبالجنّة في الآخرة.

قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً) قال ابن عباس : كان لهم من لدن فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن ذهب وفضّة وزبرجد وياقوت.

قوله تعالى : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) وفي لام «ليضلّوا» أربعة أقوال : أحدها : أنها لام «كي» والمعنى : آتيتهم ذلك كي يضلّوا ، وهذا قول الفرّاء. والثاني : أنها لام العاقبة ، والمعنى : إنّك آتيتهم ذلك فأصارهم إلى الضّلال ، ومثله قوله : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أي : آل أمرهم إلى أن صار لهم عدوا ، لا أنّهم قصدوا ذلك ، وهذا كما تقول للذي كسب مالا فأدّاه إلى الهلاك : إنّما كسب فلان

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧٤.

(٢) قال الزمخشري رحمه‌الله في «الكشاف» ٢ / ٣٤٦ : تبوّأ المكان : اتخذه مباءة ، كقولك ، توطنه إذا اتخذه وطنا.

والمعنى : اجعلا بمصر بيوتا من بيوته مباءة لقومكما ومرجعا يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه. (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ) تلك (قِبْلَةً) أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة ، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة ، وكانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة ، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم ، كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام بمكة.

(٣) في «اللسان» : الإحن : الحقد في الصدر.

٣٤٥

لحتفه ، وهو لم يكسب المال طلبا للحتف ، وأنشدوا :

وللمنايا تربّي كلّ مرضعة

وللخراب يجدّ النّاس عمرانا (١)

وقال آخر :

وللموت تغذو الوالدات سخالها

كما لخراب الدّور تبنى المساكن (٢)

وقال آخر :

فإن يكن الموت أفناهم

فللموت ما تلد الوالده

أراد : عاقبة الأمر ومصيره إلى ذلك ، هذا قول الزّجّاج. والثالث : أنّها لام الدّعاء ، والمعنى : ربّنا ابتلهم بالضّلال عن سبيلك ، ذكره ابن الأنباري. والرابع : أنّها لام أجل ، فالمعنى : آتيتهم لأجل ضلالتهم عقوبة منك لهم ، ومثله قوله : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) (٣) أي : لأجل إعراضكم ، حكاه بعض المفسّرين. وقرأ أهل الكوفة إلّا المفضّل ، وزيد ، وأبو حاتم عن يعقوب : «ليضلّوا» بضمّ الياء ، أي : ليضلّوا غيرهم.

قوله تعالى : (رَبَّنَا اطْمِسْ) روى الحلبيّ عن عبد الوارث : «اطمس» بضمّ الميم ، (عَلى أَمْوالِهِمْ) وفيه قولان : أحدهما : أنها جعلت حجارة ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والضّحّاك ، وأبو صالح ، والفرّاء. وقال القرظيّ : جعل سكّرهم حجارة. وقال ابن زيد : صار ذهبهم ودراهمهم وعدسهم وكلّ شيء لهم حجارة. وقال مجاهد : مسخ الله النّخل والثّمار والأطعمة حجارة ، فكانت إحدى الآيات التّسع. وقال الزّجّاج : تطميس الشيء : إذهابه عن صورته والانتفاع به على الحال الأولى التي كان عليها. والثاني : أنّها هلكت ، فالمعنى : أهلك أموالهم ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، ومنه يقال : طمست عينه ، أي : ذهبت ، وطمس الطّريق : إذا عفا ودرس. وفي قوله : (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أربعة أقوال : أحدها : اطبع عليها ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل ، والفرّاء ، والزّجّاج. والثاني : أهلكهم كفّارا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك. والثالث : أشدد عليها بالضّلالة ، قاله مجاهد. والرابع : أنّ معناه : قسّ قلوبهم ، قاله ابن قتيبة.

قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُوا) فيه قولان :

أحدهما : أنه دعاء عليهم أيضا ، كأنّه قال : اللهمّ فلا يؤمنوا ، قاله الفرّاء ، وأبو عبيدة ، والزّجّاج. وقال ابن الأنباري : معناه : فلا آمنوا ، قال الأعشى :

فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى

ولا تلقني إلّا وأنفك راغم (٤)

معناه : لا انبسط ، ولا لقيتني. والثاني : أنه عطف على قوله : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) ، فالمعنى : أنّك آتيتهم ليضلّوا فلا يؤمنوا ، حكاه الزّجّاج عن المبرّد.

__________________

(١) البيت من البسيط لم أهتد لقائله.

(٢) في «اللسان» : سخالها : السخل هو المولود المحبب إلى أبويه وهو في الأصل ولد الغنم.

(٣) سورة التوبة : ٩٥.

(٤) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «زوي» ، وزوى ما بين عينيه فانزوى : جمعه فاجتمع وقبضه.

٣٤٦

قوله تعالى : (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) قال ابن عباس : هو الغرق ، وكان موسى يدعو ، وهارون يؤمّن ، فقال الله تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) وكان بين الدّعاء والإجابة أربعون سنة.

فإن قيل : كيف قال : (دَعْوَتُكُما) وهما دعوتان؟ فعنه ثلاثة أجوبة :

أحدها : أنّ الدّعوة تقع على دعوتين وعلى دعوات وكلام يطول كما بيّنّا في سورة الأعراف (١) أنّ الكلمة تقع على كلمات ، قال الشاعر (٢) :

وكان دعا دعوة قومه

هلمّ إلى أمركم قد صرم

فأوقع «دعوة» على ألفاظ بيّنها آخر بيته. والثاني : أن يكون المعنى : قد أجيبت دعواتكما ، فاكتفى بالواحد من ذكر الجميع ، ذكر الجوابين ابن الأنباري. وقد روى حمّاد بن سلمة عن عاصم أنه قرأ : «دعواتكما» بالألف وفتح العين. والثالث : أنّ موسى هو الذي دعا ، فالدّعوة له ، غير أنّه لمّا أمّن هارون ، أشرك بينهما في الدّعوة ، لأنّ التّأمين على الدّعوة منهما.

وفي قوله تعالى : (فَاسْتَقِيما) أربعة أقوال : أحدها : فاستقيما على الرّسالة وما أمرتكما به ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : فاستقيما على دعاء فرعون وقومه إلى طاعة الله ، قاله ابن جرير. والثالث : فاستقيما في دعائكما على فرعون وقومه. والرابع : فاستقيما على ديني ، ذكرهما أبو سليمان الدّمشقي.

قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعانِ) قرأ الأكثرون بتشديد تاء «تتّبعان». وقرأ ابن عامر بتخفيفها مع الاتّفاق على تشديد نون «تتّبعانّ» إلّا أنّ في بعض الرّوايات عن ابن عامر تخفيف. قال الزّجّاج : موضع «تتبعان» جزم ، إلّا أنّ النون الشديدة دخلت للنّهي مؤكّدة ، وكسرت لسكونها ولسكون النون التي قبلها ، واختير لها الكسر لأنّها بعد الألف ، فشبّهت بنون الاثنين. قال أبو عليّ : ومن خفض النّون أمكن أن يكون خفّف النّون الثّقيلة ، فإن شئت كان على لفظ الخبر ، والمعنى الأمر ، كقوله : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) (٣) و (لا تُضَارَّ والِدَةٌ) (٤) أي : لا ينبغي ذلك ، وإن شئت جعلته حالا من قوله : (فَاسْتَقِيما) تقديره : استقيما غير متّبعين. وفي المراد بسبيل الذين لا يعلمون قولان : أحدهما : أنهم فرعون وقومه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه ذكره أبو سليمان الدّمشقي.

فإن قيل : كيف جاز أن يدعو موسى على قومه؟

فالجواب : أنّ بعضهم يقول : كان ذلك بوحي ، وهو قول صحيح ، لأنه لا يظنّ بنبيّ أن يقدم على مثل ذلك إلّا عن إذن من الله عزوجل ، لأنّ دعاءه سبب للانتقام.

قوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) قال أبو عبيدة : أتبعهم وتبعهم سواء. وقال ابن قتيبة : أتبعهم لحقهم. (بَغْياً وَعَدْواً) أي : ظلما. وقرأ الحسن «فاتّبعهم» بالتشديد ، وكذلك شدّدوا «وعدوّا» مع ضمّ العين. قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) قرأ ابن كثير ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر «أنه» بفتح الألف ، والمعنى : آمنت بأنه ، فلمّا حذف حرف الجرّ ، وصل الفعل

__________________

(١) الآية ١٥٨.

(٢) البيت للأعشى كما في ديوانه / ٤٣. وفي «اللسان» صرم : من الصريمة وهي العزيمة على الشيء وقطع الأمر.

(٣) سورة البقرة : ٢٢٨.

(٤) سورة البقرة : ٢٣٣.

٣٤٧

إلى «أنّ» فنصب. وقرأ حمزة والكسائيّ «إنه» بكسر الألف ، فحملوه على القول المضمر ، كأنّه قال : آمنت ، فقلت : إنّه. قال ابن عباس : لم يقبل الله إيمانه عند رؤية العذاب. قال ابن الأنباري : جنح فرعون إلى التّوبة حين أغلق بابها لحضور الموت ومعاينة الملائكة ، فقيل له : (آلآن) أي : آلآن تتوب وقد أضعت التّوبة في وقتها ، وكنت من المفسدين بالدّعاء إلى عبادة غير الله تعالى؟ والمخاطب له بهذا كان جبريل عليه‌السلام.

(٧٨٦) وجاء في الحديث «أنّ جبريل جعل يدسّ الطين في فم فرعون خشية أن يغفر له».

قال الضّحّاك بن قيس : اذكروا الله في الرّخاء يذكركم في الشّدّة ، إنّ يونس عليه‌السلام كان عبدا صالحا ، وكان يذكر الله ، فلمّا وقع في بطن الحوت سأل الله ، فقال الله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١) وإنّ فرعون كان عبدا طاغيا ناسيا لذكر الله تعالى ، فلمّا أدركه الغرق قال : آمنت ، فقال الله : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ).

قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) وقرأ يعقوب «ننجيك» مخفّفة. قال اللغويون ، منهم يونس وأبو عبيدة : نلقيك على نجوة من الأرض ، أي : ارتفاع ، ليصير علما أنه قد غرق. وقرأ ابن السّميفع «ننحّيك» بحاء. وفي سبب إخراجه من البحر بعد غرقه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّ موسى وأصحابه لمّا خرجوا ، قال من بقي من المدائن من قوم فرعون : ما غرق فرعون ، ولكنّه هو وأصحابه يتصيّدون في جزائر البحر ، فأوحى الله إلى البحر أن الفظ فرعون عريانا ، فكانت نجاة عبرة ، وأوحى الله تعالى إلى البحر : أن الفظ ما فيك ، فلفظهم البحر بالسّاحل ، ولم يكن يلفظ غريقا ، إلى يوم القيامة ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.

والثاني : أنّ أصحاب موسى قالوا : إنّا نخاف أن يكون فرعون ما غرق ، ولا نؤمن بهلاكه ، فدعا موسى ربّه ، فأخرجه حتى أيقنوا بهلاكه ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وإلى نحوه ذهب قيس بن عباد ، وعبد الله بن شدّاد ، والسّدّيّ ، ومقاتل. وقال السّدّيّ : لمّا قال بنو إسرائيل : لم يغرق فرعون ،

____________________________________

(٧٨٦) حديث قوي من جهة الإسناد بطرقه وشواهده ، لكن في المتن غرابة ، وقد ورد موقوفا ، ولعله أشبه. والله أعلم. أخرجه الترمذي ٣١٠٨ ، والنسائي في «التفسير» ٢٥٨ ، وأحمد ١ / ٢٤٠ و ٣٤٠ ، والطيالسي ٢٦١٨ والطبري ١٧٨٥٨ و ١٧٨٦٢ ، والحاكم ١ / ٥٧ و ٢ / ٣٤٠ و ٤ / ٢٤٩ ، وابن حبان ٦٢١٥ من طريق شعبة عن عطاء بن السائب ، وعن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، صححه الحاكم وقال : على شرطهما إلا أن أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن عباس. ووافقه الذهبي. وقال الترمذي : حسن صحيح غريب.

وصححه الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢ / ٣٦٨. وأطال الكلام في هذا الشأن ورد فيه على الزمخشري حيث استنكر الحديث ووهنه. وورد من وجه آخر أخرجه الترمذي ٣١٠٧ ، وأحمد ١ / ٢٤٥  ـ  ٣٠٩ والطبراني ١٢٩٣٢ والطبري ١٧٨٧٥ ، والطيالسي ٢٦٩٣ ومداره على علي بن زيد وهو ضعيف. وله شاهد من حديث أبي هريرة ، أخرجه الطبري ١٧٨٧٤ وابن عدي ٢ / ٧٨٨ ، وفيه كثير بن زاذان ، وهو مجهول. وورد من وجه آخر أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» ١١٠٧٠ وفيه قيس بن الربيع قال الهيثمي : وثقه شعبة والثوري وضعفه جماعة.

__________________

(١) سورة الصافات : ١٤٣  ـ  ١٤٤.

٣٤٨

دعا موسى ، فخرج فرعون في ستمائة ألف وعشرين ألفا عليهم الحديد (١) ، فأخذته بنو إسرائيل يمثّلون به. وذكر غيره أنه إنّما أخرج من البحر وحده دون أصحابه. وقال ابن جريج : كذّب بعض بني إسرائيل بغرقه ، فرمى به البحر على ساحل البحر حتى رآه بنو إسرائيل قصيّرا أحمر كأنه ثور. وقال أبو سليمان : عرفه بنو إسرائيل بدرع كان له من لؤلؤ لم يكن لأحد مثلها. فأمّا وجهه فقد غيّره سخط الله تعالى.

والثالث : أنه كان يدّعي أنه ربّ ، وكان يعبده قوم ، فبيّن الله تعالى أمره ، فأغرقه وأصحابه ، ثم أخرجه من بينهم ، قاله الزّجّاج.

وفي قوله تعالى : (بِبَدَنِكَ) أربعة أقوال : أحدها : بجسدك من غير روح ، قاله مجاهد. وذكر البدن دليل على عدم الرّوح. والثاني : بدرعك ، قاله أبو صخر. وقد ذكرنا أنه كانت له درع من لؤلؤ ، وقيل : من ذهب ، فعرف بدرعه. والثالث : نلقيك عريانا ، قاله الزّجّاج. والرابع : ننجّيك وحدك ، قاله ابن قتيبة. وفي قوله : (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) ثلاثة أقوال : أحدها : لتكون لمن بعدك في النّكال آية لئلّا يقولوا مثل مقالتك ، فإنّك لو كنت إلها ما غرقت ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال أبو عبيدة : (خَلْفَكَ) بمعنى بعدك ، والآية : العلامة. والثاني : لتكون لبني إسرائيل آية ، قاله السّدّيّ. والثالث : لمن تخلّف من قومه ، لأنهم أنكروا غرقه على ما ذكرنا في أوّل الآية ، فخرج في معنى الآية قولان : أحدهما : عبرة للناس. والثاني : علامة تدلّ على غرقه. وقال الزّجّاج : الآية أنه كان يدّعي أنه ربّ ، فبان أمره ، وأخرج من بين أصحابه لمّا غرقوا. وقرأ ابن السّميفع ، وأبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء «لمن خلقك» بالقاف.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : أنزلناهم منزل صدق ، أي منزلا كريما. وفي المراد ببني إسرائيل قولان. أحدهما : أصحاب موسى. والثاني : قريظة والنضير. وفي المراد بالمنزل الذي أنزلوه خمسة أقوال : أحدها : أنه الأردن ، وفلسطين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : الشّام ، وبيت المقدس ، قاله الضّحّاك وقتادة. والثالث : مصر ، روي عن الضّحّاك أيضا. والرابع : بيت المقدس ، قاله مقاتل. والخامس : ما بين المدينة والشّام من أرض يثرب ، ذكره عليّ بن أحمد النّيسابوري. والمراد بالطّيبات : ما أحلّ لهم من الخيرات الطّيبة. (فَمَا اخْتَلَفُوا) يعني بني إسرائيل. قال ابن عباس : ما اختلفوا في محمّد ، لم يزالوا به مصدّقين ، (حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) يعني : القرآن ، وروي عنه : حتى جاءهم العلم ، يعني محمّدا. فعلى هذا يكون العلم ها هنا : عبارة عن المعلوم. وبيان هذا أنه لمّا

__________________

(١) فيه مبالغة من حيث عدد جيش فرعون ، والظاهر أنه من مجازفات الإسرائيليين.

٣٤٩

جاءهم ، اختلفوا في تصديقه ، وكفر به أكثرهم بغيا وحسدا بعد أن كانوا مجتمعين على تصديقه قبل ظهوره.

قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) في تأويل هذه الآية ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّ الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد غيره من الشّاكّين ، بدليل قوله في آخر السّورة : (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) (١) ، ومثله قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٢) ثم قال تعالى : (بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (٣) ولم يقل : بما تعمل ، وهذا قول الأكثرين.

والثاني : أن الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو المراد به. ثم في المعنى قولان : أحدهما : أنه خوطب بذلك وإن لم يكن في شكّ ، لأنه من المستفيض في لغة العرب أن يقول الرجل لولده : إن كنت ابني فبرّني ، ولعبده : إن كنت عبدي فأطعني ، وهذا اختيار الفرّاء.

(٧٨٧) وقال ابن عباس : لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شكّ ، ولا سأل. والثاني : أن تكون «إن» بمعنى «ما» فالمعنى : ما كنت في شكّ (فَسْئَلِ) ، المعنى : لسنا نريد أن نأمرك أن تسأل لأنك شاكّ ، ولكن لتزداد بصيرة ، ذكره الزّجّاج.

والثالث : أنّ الخطاب للشّاكّين ، فالمعنى : إن كنت أيّها الإنسان في شكّ ممّا أنزل إليك على لسان محمّد ، فسل ، روي عن ابن قتيبة.

وفي الذي أنزل إليه قولان : أحدهما : أنه أنزل إليه أنه رسول الله. والثاني : أنه مكتوب عندهم في التّوراة والإنجيل.

قوله تعالى : (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) وهم اليهود والنّصارى. وفي الذين أمر بسؤالهم منهم قولان : أحدهما : من آمن منهم ، كعبد الله بن سلام ، قاله ابن عباس ، ومجاهد في آخرين. والثاني : أهل الصّدق منهم ، قاله الضّحّاك ، وهو يرجع إلى الأوّل ، لأنه لا يصدق إلّا من آمن. قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) هذا كلام مستأنف.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ) أي : وجبت (عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي : قوله. وبما ذا حقّت الكلمة عليهم؟ فيه أربعة أقوال : أحدها : باللعنة. والثاني : بنزول العذاب. والثالث : بالسّخط. والرابع :بالنّقمة. قوله تعالى : (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) ، قال الأخفش : إنما أنّث فعل «كل» لأنه أضافه إلى «آية» وهي مؤنّثة.

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨))

____________________________________

(٧٨٧) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في «المختارة» كما في «الدر» ٣ / ٥٧١. عن ابن عباس به ، ولم أقف على إسناده لكن الظاهر أنه لا بأس به حيث اختاره الضياء ، وقد ورد مرفوعا صريحا.

وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ١١٧٣ ، والطبري ١٧٩٠٧ و ١٧٩٠٨ عن قتادة بلاغا وهو ضعيف لإرساله ، ومراسيل قتادة واهية ، والصواب أنه من كلام قتادة كما في الرواية الأولى ، ولا يصح رفعه. والله أعلم.

__________________

(١) سورة يونس : ١٠٥.

(٢) سورة الأحزاب : ٢.

(٣) سورة الأحزاب : ٣.

٣٥٠

قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) أي : أهل قرية. وفي «لولا» قولان :

أحدهما : أنه بمعنى لم تكن قرية آمنت (فَنَفَعَها إِيمانُها) أي قبل منها (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) ، قاله ابن عباس. وقال قتادة : لم يكن هذا لأمّة آمنت عند نزول العذاب إلّا لقوم يونس.

والثاني : أنّها بمعنى : فهلّا ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزّجّاج. قال الزّجّاج : والمعنى : فهلّا كانت قرية آمنت في وقت نفعها إيمانها ، إلّا قوم يونس؟ و (إِلَّا) ها هنا استثناء ليس من الأوّل ، كأنه قال : لكن قوم يونس. قال الفرّاء : نصب القوم على الانقطاع ممّا قبله ، ألا ترى أنّ «ما» بعد «إلّا» في الجحد يتبع ما قبلها؟ تقول : ما قام أحد إلّا أخوك ، فإذا قلت : ما فيها أحد إلّا كلبا أو حمارا ، نصبت ، لانقطاعهم من الجنس ، كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم من أمم الأنبياء ، ولو كان الاستثناء وقع على طائفة منهم لكان رفعا. وذكر ابن الأنباري في قوله : «إلا» قولين آخرين. أحدهما : أنها بمعنى الواو ، والمعنى : وقوم يونس لمّا آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا ، وهذا مرويّ عن أبي عبيدة ، والفرّاء ينكره. والثاني : أنّ الاستثناء من الآية التي قبل هذه ، تقديره : حتى يروا العذاب الأليم إلّا قوم يونس ، فالاستثناء على هذا متّصل غير منقطع.

قوله تعالى : (كَشَفْنا عَنْهُمْ) أي : صرفنا عنهم (عَذابَ الْخِزْيِ) أي : عذاب الهوان والذل (وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي : إلى حين آجالهم (١).

الإشارة إلى شرح قصّتهم

ذكر أهل العلم بالسّير والتّفسير أنّ قوم يونس كانوا ب «نينوى» من أرض الموصل ، فأرسل الله عزوجل إليهم يونس يدعوهم إلى الله ويأمرهم بترك الأصنام ، فأبوا ، فأخبرهم أنّ العذاب مصبّحهم بعد ثلاث ، فلمّا تغشّاهم العذاب ، قال ابن عباس ، وأنس : لم يبق بين العذاب وبينهم إلّا قدر ثلثي ميل ، وقال مقاتل : قدر ميل ، وقال أبو صالح عن ابن عباس : وجدوا حرّ العذاب على أكتافهم ، وقال سعيد بن جبير : غشيهم العذاب كما يغشى الثّوب القبر ، وقال بعضهم : غامت السماء غيما أسود يظهر دخانا شديدا ، فغشي مدينتهم ، واسودّت سطوحهم ، فلمّا أيقنوا بالهلاك لبسوا المسوح (٢) ، وحثوا على رؤوسهم الرّماد ، وفرّقوا بين كلّ والدة وولدها من الناس والأنعام ، وعجّوا إلى الله تعالى بالتّوبة الصّادقة ، وقالوا : آمنّا بما جاء به يونس ، فاستجاب الله منهم. قال ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم بينهم ، حتى إن كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه ، فيردّه ، وقال أبو الجلد : لمّا غشيهم العذاب ، مشوا إلى شيخ من بقيّة علمائهم ، فقالوا : ما ترى؟ قال : قولوا : يا حيّ حين لا حيّ ، يا حيّ محيي الموتى ، يا حيّ لا إله إلّا أنت ، فقالوها ، فكشف العذاب عنهم. قال

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٢ / ٥٣٣ : واختلف المفسرون : هل كشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي؟ أو إنما كشف عنهم في الدنيا فقط؟ على قولين ، أحدهما : إنما كان ذلك في الحياة الدنيا ، كما هو مقيد في هذه الآية. وقال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٨ / ٣٤٢ : قيل : إلى أجلهم ؛ قاله السّدي وقيل : إلى أن يصيروا إلى الجنة أو إلى النار ، قاله ابن عباس.

(٢) المسوح : الثياب الخشنة ، وفي «اللسان» المسيح : المنديل الأخشن.

٣٥١

مقاتل : عجّوا إلى الله أربعين ليلة ، فكشف العذاب عنهم. وكانت التّوبة عليهم في يوم عاشوراء يوم الجمعة. قال : وكان يونس قد خرج من بين أظهرهم ، فقيل له : ارجع إليهم ، فقال : كيف أرجع إليهم فيجدوني كاذبا؟ وكان من يكذب بينهم ولا بيّنة له يقتل ، فانصرف مغاضبا ، فالتقمه الحوت. وقال أبو صالح عن ابن عباس : أوحى الله إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعيا ، فقيل له : ائت فلانا الملك ، فقل له يبعث إلى بني إسرائيل نبيّا قويّا أمينا ، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ، فقال الملك ليونس : اذهب إليهم ، فقال : ابعث غيري ، فعزم عليه أن يذهب ، فأتى بحر الرّوم ، فركب سفينة ، فالتقمه الحوت ، فلمّا خرج من بطنها أمر أن ينطلق إلى قومه فانطلق نذيرا لهم ، فأبوا عليه ، فوعدهم بالعذاب ، وخرج ، فلمّا تابوا رفع عنهم. والقول الأوّل أثبت عند العلماء ، وأنه إنما التقمه الحوت بعد إنذاره لهم وتوبتهم. وسيأتي شرح قصّته في التقام الحوت إيّاه في مكانه إن شاء الله تعالى.

فإن قيل : كيف كشف العذاب عن قوم يونس بعد إتيانه إليهم ، ولم يكشف عن فرعون حين آمن؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنّ ذلك كان خاصّا لهم كما ذكرنا في أوّل الآية. والثاني : أنّ فرعون باشره العذاب ، وهؤلاء دنا منهم ولم يباشرهم ، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية ، فأمّا الذي يعاين ، فلا توبة له ، ذكره الزّجّاج. والثالث : أنّ الله تعالى علم منهم صدق النّيات ، بخلاف من تقدّمهم من الهالكين ، ذكره ابن الأنباري.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩))

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) قال ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على إيمان جميع الناس ، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلّا من سبقت له السّعادة. قال الأخفش : جاء بقوله : «جميعا» مع «كل» تأكيدا كقوله : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) (١).

قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) قال المفسّرون ، منهم مقاتل : هذا منسوخ بآية السّيف. والصحيح أنه ليس ها هنا نسخ ، لأنّ الإكراه على الإيمان لا يصحّ ، لأنه عمل القلب.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠))

قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فيه ستة أقوال : أحدها : بقضاء الله وقدره. والثاني : بأمر الله؟ رويا عن ابن عباس. والثالث : بمشيئة الله ، قاله عطاء والرابع : إلّا أن يأذن الله في ذلك ، قاله مقاتل. والخامس : بعلم الله. والسادس : بتوفيق الله ، ذكرهما الزّجّاج ، وابن الأنباري. قوله تعالى : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) أي : ويجعل الله الرّجس. وروى أبو بكر عن عاصم «ونجعل الرجس» بالنون. وفيه خمسة أقوال : أحدها : أنه السّخط ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : الإثم والعدوان ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أنه ما لا خير فيه ، قاله مجاهد. والرابع : العذاب ، قاله الحسن ، وأبو عبيدة ، والزّجّاج. والخامس : العذاب والغضب ، قاله الفرّاء. قوله تعالى : (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي : لا يعقلون عن الله أمره ونهيه. وقيل : لا يعقلون حججه ودلائل توحيده.

__________________

(١) سورة النحل : ٥١.

٣٥٢

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١))

قوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال المفسّرون : قل للمشركين الذين يسألونك الآيات على توحيد الله : أنظروا بالتّفكّر والاعتبار ما ذا في السّماوات والأرض من الآيات والعبر التي تدلّ على وحدانيّته ونفاذ قدرته كالشّمس ، والقمر ، والنّجوم ، والجبال ، والشّجر ، وكلّ هذا يقتضي خالقا مدبّرا. (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في علم الله.

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣))

قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ) قال ابن عباس : يعني كفّار قريش. (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) قال ابن الأنباري : أي : مثل وقائع الله بمن سلف قبلهم ، والعرب تكني بالأيام عن الشّرور والحروب ، وقد تقصد بها أيام السّرور والأفراح إذا قام دليل بذلك.

قوله تعالى : (قُلْ فَانْتَظِرُوا) هلاكي (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لنزول العذاب بكم. (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) من العذاب إذا نزل ، فلم يهلك قوم قطّ إلّا نجا نبيّهم والذين آمنوا معه. قوله تعالى : (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) وقرأ يعقوب ، وحفص ، والكسائيّ في قراءته وروايته عن أبي بكر : «ننج المؤمنين» بالتّخفيف. ثم في هذا الإنجاء قولان :

أحدهما : ننجيهم من العذاب إذا نزل بالمكذّبين ، قاله الرّبيع بن أنس.

والثاني : ننجيهم في الآخرة من النار ، قاله مقاتل.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦))

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) قال ابن عباس : يعني أهل مكّة (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) الإسلام (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وهي الأصنام (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي) يقدر أن يميتكم. وقال ابن جرير : معنى الآية : لا ينبغي لكم أن تشكّوا في ديني ، لأنّي أعبد الله الذي يميت وينفع ويضرّ ، ولا تستنكر عبادة من يفعل هذا ، وإنّما ينبغي لكم أن تشكّوا وتنكروا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع. فإن قيل : لم قال : (الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) ولم يقل : «الذي خلقكم»؟ فالجواب : أنّ هذا يتضمّن تهديدهم ، لأنّ ميعاد عذابهم الوفاة.

قوله تعالى : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) المعنى : وأمرت أن أقم وجهك ، وفيه قولان :

أحدهما : أخلص عملك. والثاني : استقم بإقبالك على ما أمرت به بوجهك.

وفي المراد بالحنيف ثلاثة أقوال. أحدها : أنه المتّبع ، قاله مجاهد. والثاني : المخلص ، قاله عطاء. والثالث : المستقيم ، قاله القرظيّ قوله تعالى : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ) إن دعوته (وَلا

٣٥٣

يَضُرُّكَ) إن تركت عبادته. و «الظّالم» الذي يضع الشيء في غير موضعه.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) أي : بشدّة وبلاء (فَلا كاشِفَ) لذلك (إِلَّا هُوَ) دون ما يعبده المشركون من الأصنام. وإن يصبك بخير ، أي : برخاء ونعمة وعافية ، فلا يقدر أحد أن يمنعك إيّاه. (يُصِيبُ بِهِ) أي : بكلّ واحد من الضّرّ والخير.

قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) فيه قولان :

أحدهما : أنه القرآن. والثاني : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي : فإنما يكون وبال ضلاله على نفسه.

قوله تعالى : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي : في منعكم من اعتقاد الباطل ، والمعنى : لست بحفيظ عليكم من الهلاك كما يحفظ الوكيل المتاع من الهلاك. قال ابن عباس : وهذه منسوخة بآية القتال ، والتي بعدها أيضا ، وهي قوله : (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) لأنّ الله تعالى حكم بقتل المشركين ، والجزية على أهل الكتاب ، والصّحيح : أنه ليس ها هنا نسخ. أمّا الآية الأولى ، فقد ذكرنا الكلام عليها في نظيرتها في «الأنعام» (١) وأمّا الثانية ، فقد ذكرنا نظيرتها في سورة «البقرة» قوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (٢).

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٠٧.

(٢) سورة البقرة : ١٠٩.

٣٥٤

سورة هود

فصل في نزولها : روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكّية كلّها ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وجابر بن زيد ، وقتادة. وروي عن ابن عباس أنه قال : هي مكّية ، إلّا آية ، وهي قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) (١) ، وعن قتادة نحوه. وقال مقاتل : هي مكّية كلّها ، إلّا قوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) (٢) وقوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) (٣) وقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٤). وروى أبو بكر الصّديق رضي الله عنه قال :

(٧٨٨) قلت : يا رسول الله ، عجل إليك الشّيب ، قال : «شيّبتني هود وأخواتها : الحاقّة ، والواقعة ، وعمّ يتساءلون ، وهل أتاك حديث الغاشية».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١))

فأمّا (الر) فقد ذكرنا تفسيرها في سورة يونس.

____________________________________

(٧٨٨) صحيح ، أخرجه الترمذي ٣٢٩٧ ، والحاكم ٢ / ٣٤٤  ـ  ٤٧٦ ، والبزار في «البحر الزخار» ١ / ١٧٠ من حديث ابن عباس عن أبي بكر به وإسناده صحيح. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وكذا صححه الألباني في صحيح الترمذي ٣ / ١١٣. وهو كما قالوا. وأخرجه أبو يعلى ١٠٧ عن عكرمة عن أبي بكر وهذا منقطع لكن الحجة بما قبله. وله شاهد من حديث أنس : أخرجه البزار ٩٢ «البحر الزخار» ولفظه «قلت : يا رسول الله عجل إليك الشيب ، قال : شيبتني هود وأخواتها ، والواقعة ، والحاقة ، عم يتساءلون ، وهل أتاك حديث الغاشية». وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري قال : «قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله! أسرع إليك الشيب ، قال : شيبتني هود وأخواتها : الواقعة ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت» أخرجه البيهقي في «الدلائل» ١ / ٣٥٨ وفيه عطية العوفي واه. وله شاهد من حديث سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شيبتني هود وأخواتها : الواقعة والحاقة ، وإذا الشمس كورت». أخرجه الطبراني ٥٨٠٤ ، وقال الهيثمي في «المجمع» ١١٠٧٥ : فيه سعيد بن سلام العطار ، كذاب. وله شاهد من حديث أبي جحيفة قال : قالوا : يا رسول الله قد شبت ، قال : «شيبتني هود وأخواتها». أخرجه الترمذي في «الشمائل» ٤١ ، وأبو يعلى ٨٨٠ ، والبغوي ٤٠٧١. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٢٢٠ و ١٢٣٠ بتخريجنا.

__________________

(١) سورة هود : ١١٤.

(٢) سورة هود : ١٢.

(٣) سورة هود : ١٧.

(٤) سورة هود : ١١٤.

٣٥٥

قال الفرّاء : و (كِتابٌ) مرفوع بالهجاء الذي قبله ، كأنّك قلت : حروف الهجاء هذا القرآن ، وإن شئت رفعته بإضمار : هذا كتاب ، والكتاب : القرآن. وفي قوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أربعة أقوال : أحدها : أحكمت فلم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتاب والشّرائع ، قاله ابن عباس ، واختاره ابن قتيبة. والثاني : أحكمت بالأمر والنّهي ، قاله الحسن ، وأبو العالية. والثالث : أحكمت عن الباطل ، أي : منعت ، قاله قتادة ، ومقاتل. والرابع : أحكمت بمعنى جمعت ، قاله ابن زيد. فإن قيل : كيف عمّ الآيات ها هنا بالإحكام ، وخصّ بعضها في قوله : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) (١)؟ فعنه جوابان :

أحدهما : أنّ الإحكام الذي عمّ به ها هنا ، غير الذي خصّ به هناك. وفي معنى الإحكام العامّ خمسة أقوال ، قد أسلفنا منها أربعة في قوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ). والخامس : أنه إعجاز النّظم والبلاغة وتضمين الحكم المعجزة. ومعنى الإحكام الخاصّ : زوال اللّبس ، واستواء السّامعين في معرفة معنى الآية.

والجواب الثاني : أنّ الإحكام في الموضعين بمعنى واحد. والمراد بقوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) : أحكم بعضها بالبيان الواضح ومنع الالتباس ، فأوقع العموم على معنى الخصوص ، كما تقول العرب : قد أكلت طعام زيد ، يعنون : بعض طعامه ، ويقولون : قتلنا وربّ الكعبة ، يعنون : قتل بعضنا ، ذكر ذلك ابن الأنباري.

وفي قوله : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) ستة أقوال : أحدها : فصّلت بالحلال والحرام ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : فصّلت بالثواب والعقاب ، رواه جسر بن فرقد (٢) عن الحسن. والثالث : فصّلت بالوعد والوعيد ، رواه أبو بكر الهذليّ عن الحسن أيضا. والرابع : فصّلت بمعنى فسّرت ، قاله مجاهد. والخامس : أنزلت شيئا بعد شيء ، ولم تنزل جملة ، ذكره ابن قتيبة. والسادس : فصّلت بجميع ما يحتاج إليه من الدّلالة على التّوحيد ، وتثبيت نبوّة الأنبياء ، وإقامة الشّرائع ، قاله الزّجّاج. قوله تعالى : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) أي : من عنده.

(أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤))

قوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) قال الفرّاء. المعنى : فصّلت آياته بأن لا تعبدوا إلّا الله (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا). «وأن» في موضع النّصب بإلقائك الخافض.

وقال الزّجّاج : المعنى : آمركم أن لا تعبدوا إلها غيره ، وأن استغفروا.

قال مقاتل : والمراد بهذه العبادة : التّوحيد ، والخطاب لكفّار مكّة.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٨.

(٢) هو أبو جعفر جسر بن فرقد البصري ، قال البخاري : ليس بذلك عندهم ، وقال ابن معين : ليس بشيء. انظر «الميزان» ١ / ٣٩٨.

٣٥٦

قوله تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيه قولان : أحدهما : أنّ الاستغفار والتّوبة هاهنا من الشّرك ، قاله مقاتل. والثاني : استغفروه من الذّنوب السّالفة ، ثمّ توبوا إليه من المستأنفة متى وقعت. وذكر عن الفرّاء أنه قال : «ثم» ها هنا بمعنى الواو.

قوله تعالى : (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) قال ابن عباس : يتفضّل عليكم بالرّزق والسّعة. وقال ابن قتيبة : يعمّركم. وأصل الإمتاع : الإطالة ، يقال : أمتع الله بك ، ومتّع الله بك ، إمتاعا ومتاعا ، والشيء الطّويل : ماتع ، يقال : جبل ماتع ، وقد متاع النهار : إذا تطاول.

وفي المراد بالأجل المسمّى قولان : أحدهما : أنه الموت ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة. والثاني : أنه يوم القيامة ، قاله سعيد بن جبير.

قوله تعالى : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) في هاء الكناية قولان :

أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى. ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : ويؤت كلّ ذي فضل من حسنة وخير فضله ، وهو الجنّة. والثاني : يؤتيه فضله من الهداية إلى العمل الصّالح.

والثاني : أنها ترجع إلى العبيد ، فيكون المعنى : ويؤت كلّ من زاد في إحسانه وطاعاته ثواب ذلك الفضل الذي زاده ، فيفضّله في الدنيا بالمنزلة الرّفيعة ، وفي الآخرة بالثّواب الجزيل.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : تعرضوا عمّا أمرتم به. وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء : «وإن تولّوا» بضمّ التاء. (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) فيه إضمار «فقل». واليوم الكبير : يوم القيامة.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥))

قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) ، في سبب نزولها خمسة أقوال :

(٧٨٩) أحدها : أنها نزلت في الأخنس بن شريق ، وكان يجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحلف إنّه ليحبّه ، ويضمر خلاف ما يظهر له ، فنزلت فيه هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(٧٩٠) والثاني : أنها نزلت في ناس كانوا يستحيون أن يفضوا إلى السّماء في الخلاء ومجامعة النساء ، فنزلت فيهم هذه الآية ، رواه محمّد بن عبّاد عن ابن عباس.

(٧٩١) والثالث : أنها نزلت في بعض المنافقين ، كان إذا مرّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطّى وجهه لئلّا يراه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قاله عبد الله بن شدّاد.

____________________________________

(٧٨٩) لا أصل له. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس وراويته الكلبي ، وهو ممن يضع الحديث. ذكره البغوي في «تفسيره» ٢ / ٣٧٣ ، عن ابن عباس بدون إسناد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٣٧ بدون إسناد.

(٧٩٠) صحيح. أخرجه البخاري ٤٦٨١ والطبري ١٧٩٦٥ من حديث محمد بن عباد عن ابن عباس.

(٧٩١) ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٩٥٢ و ١٧٩٥٣ و ١٧٩٥٤ عن عبد الله بن شداد بن الهاد به ورجاله ثقات إلا أنه مرسل ابن شداد تابعي والخبر واه.

٣٥٧

(٧٩٢) والرابع : أنّ طائفة من المشركين قالوا : إذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كيف يعلم بنا؟ فأخبر الله عمّا كتموا ، ذكره الزّجّاج.

(٧٩٣) والخامس : أنها نزلت في قوم كانوا لشدّة عداوتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سمعوا منه القرآن حنوا صدورهم ، ونكسوا رؤوسهم ، وتغشّوا ثيابهم ليبعد عنهم صوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يدخل أسماعهم شيء من القرآن ، ذكره ابن الأنباري.

قوله تعالى : (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يقال : ثنيت الشيء : إذا عطفته وطويته. وفي معنى الكلام خمسة أقوال : أحدها : يكتمون ما فيها من العداوة لمحمّد عليه‌السلام ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : يثنون صدورهم على الكفر ، قاله مجاهد. والثالث : يحنونها لئلّا يسمعوا كتاب الله ، قاله قتادة. والرابع : يثنونها إذا ناجى بعضهم بعضا في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن زيد. والخامس : يثنونها حياء من الله تعالى ، وهو يخرّج على ما حكينا عن ابن عباس.

قال ابن الأنباري : وكان ابن عباس يقرؤها «ألا إنّهم تثنوني صدورهم» وفسّرها أنّ ناسا كانوا يستحيون أن يفضوا إلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء. فتثنوني : تفعوعل ، وهو فعل للصّدور ، معناه : المبالغة في تثنّي الصّدور ، كما تقول العرب : احلولى الشيء ، يحلولي : إذا بالغوا في وصفه بالحلاوة ، قال عنترة :

ألا قاتل الله الطّلول البواليا

وقاتل ذكراك السّنين الخواليا (١)

وقولك للشّيء الّذي لا تناله

إذا ما هو احلولى ألا ليت ذا ليا

فعلى هذا القول ، هو في حقّ المؤمنين ، وعلى بقيّة الأقوال ، هو في حقّ المنافقين. وقد خرّج من هذه الأقوال في معنى (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) قولان : أحدهما : أنه حقيقة في الصّدور. والثاني : أنه كتمان ما فيها.

قوله تعالى : (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) في هاء (مِنْهُ) قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى. والثاني : إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله تعالى : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) قال أبو عبيدة : العرب تدخل «ألا» توكيدا وإيجابا وتنبيها. قال ابن قتيبة : «يستغشون ثيابهم» : أي : يتغشّونها ويستترون بها. قال قتادة : أخفى ما يكون ابن آدم ، إذا حتى ظهره ، واستغشى ثيابه ، وأضمر همّه في نفسه. قال ابن الأنباري : أعلم الله أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهراتهم.

قوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) قد شرحناه في سورة آل عمران (٢).

____________________________________

(٧٩٢) لم أقف عليه بهذا اللفظ ، ولعل ابن الأنباري استنبطه من الآية ، ولم يروه عن أحد. والله أعلم.

(٧٩٣) ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٩٦٢ و ١٧٩٦٣ عن قتادة مرسلا ، مع اختلاف يسير فيه وهو ضعيف لإرساله.

__________________

(١) في «القاموس» الطلول : الشاخص من آثار الدار ، وشخص كل شيء.

(٢) سورة آل عمران : ١١٩.

٣٥٨

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) قال أبو عبيدة : «من» من حروف الزّوائد ، والمعنى : وما دابّة ، والدّابّة : اسم لكلّ حيوان يدبّ. وقوله تعالى : (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) قال العلماء : فضلا منه لا وجوبا عليه. و «على» ها هنا بمعنى «من». وقد ذكرنا المستقرّ والمستودع في سورة الأنعام (١). قوله تعالى : (كُلٌّ فِي كِتابٍ) أي : ذلك عند الله في اللوح المحفوظ ، هذا قول المفسّرين. وقال الزّجّاج : المعنى : ذلك ثابت في علم الله عزوجل.

قوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) قال ابن عباس : عرشه : سريره ، وكان الماء إذ كان العرش عليه على الرّيح. قال قتادة : ذلك قبل أن يخلق السّماوات والأرض.

قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ) أي : ليختبركم الاختبار الذي يجازي عليه ، فيثيب المعتبر بما يرى من آيات السّماوات والأرض. ويعاقب أهل العناد.

قوله تعالى : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فيه أربعة أقوال :

(٧٩٤) أحدها : «أيّكم أحسن عقلا ، وأورع عن محارم الله عزوجل ، وأسرع في طاعة الله» رواه ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني : أيّكم أعمل بطاعة الله ، قاله ابن عباس. والثالث : أيّكم أتمّ عقلا ، قاله قتادة. والرابع : أيّكم أزهد في الدنيا ، قاله الحسن وسفيان.

قوله تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) قال الزّجّاج : السّحر باطل عندهم ، فكأنّهم قالوا : إن هذا إلّا باطل بيّن ، فأعلمهم الله تعالى أنّ القدرة على خلق السّماوات والأرض تدلّ على بعث الموتى.

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨))

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) قال المفسّرون : هؤلاء كفّار مكّة ، والمراد بالأمّة المعدودة : الأجل المعلوم ، والمعنى : إلى مجيء أمّة وانقراض أخرى قبلها. (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) وإنّما قالوا ذلك تكذيبا واستهزاء. قوله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) وقال : (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ). وقال بعضهم : لا يصرف عنهم العذاب إذا أتاهم. وقال آخرون : إذا أخذتهم سيوف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تغمد

____________________________________

(٧٩٤) باطل. أخرجه الطبري ١٨٠٠٣ من حديث ابن عمر ، ومداره على داود بن المجبر ، وهو متهم بوضع كتاب «فضل العقل» ، راجع ترجمته في «الميزان». وهذا الحديث ذكر فيه العقل كما ترى.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦٧.

٣٥٩

عنهم حتى يباد أهل الكفر وتعلو كلمة الإخلاص. قوله تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ) قال أبو عبيدة : نزل بهم وأصابهم. وفي قوله : (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) قولان : أحدهما : أنه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكتاب ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، فيكون المعنى : حاق بهم جزاء استهزائهم. والثاني : أنه العذاب ، كانوا يستهزئون بقولهم : (ما يَحْبِسُهُ) ، وهذا قول مقاتل.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩))

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. قاله ابن عباس.

والثاني : في عبد الله بن أبي أميّة المخزومي ، ذكره الواحدي والثالث : أنّ الإنسان ها هنا اسم جنس ، والمعنى : ولئن أذقنا الناس ، قاله الزّجّاج. والمراد بالرّحمة : النّعمة ، من العافية ، والمال ، والولد. واليؤوس : القنوط ، قال أبو عبيدة : هو فعول من يئست. قال مقاتل : إنه ليؤوس عند الشدة من الخير ، كفور لله في نعمه في الرّخاء.

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠))

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ) قال ابن عباس : صحة وسعة في الرّزق (بَعْدَ ضَرَّاءَ) بعد مرض وفقر. (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) يريد الضّرّ والفقر. (إِنَّهُ لَفَرِحٌ) أي : بطر. (فَخُورٌ) قال ابن عباس : يفاخر أوليائي بما أوسعت عليه.

فإن قيل : ما وجه عيب الإنسان في قوله : (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) ، وما وجه ذمّه على الفرح ، وقد وصف الله الشهداء فقال تعالى : (فَرِحِينَ)؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : إنّما عابه بقوله : (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) لأنّه لم يعترف بنعمة الله ولم يحمده على ما صرف عنه. وإنّما ذمّه بهذا الفرح لأنه يرجع إلى معنى المرح والتّكبّر عن طاعة الله ، قال الشاعر :

ولا ينسيني الحدثان عرضي

ولا ألقي من الفرح الإزارا (١)

يعني من المرح. وفرح الشّهداء فرح لا كبر فيه ولا خيلاء ، بل هو مقرون بالشّكر فهو مستحسن.

(إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١))

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) قال الفرّاء : هذا الاستثناء من الإنسان ، لأنّه في معنى الناس ، كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) (٢). وقال الزّجّاج : هذا استثناء ليس من الأوّل ، والمعنى : لكن الذين صبروا. قال ابن عباس : الوصف الأوّل للكافر ، والذين صبروا أصحاب محمّد عليه‌السلام.

__________________

(١) البيت لابن أحمر. وفي «اللسان» حدثان الدهر وحوادثه : نوبه وما يحدث منه.

(٢) سورة العصر : ٢  ـ  ٣.

٣٦٠