زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٥

المحفوظ الذي أثبت فيه ما يكون ويحدث. وروى أبو الدّرداء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

(٨٣٦) «إنّ الله تعالى في ثلاث ساعات يبقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت». وروى عكرمة عن ابن عباس قال : هما كتابان ، كتاب سوى أمّ الكتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت ، وعنده أمّ الكتاب لا يغيّر منه شيء.

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠))

قوله تعالى : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي : من العذاب وأنت حيّ (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن نريك ذلك ، فليس عليك إلّا أن تبلّغ ، (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) قال مقاتل : يعني الجزاء. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنّ قوله : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) نسخ بآية السّيف وفرض الجهاد ، وبه قال قتادة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١))

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) فيه خمسة أقوال (١) :

أحدها : أنه ما يفتح الله على نبيّه من الأرض ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والضّحّاك. قال مقاتل : (أو لم يروا) يعني : كفّار مكّة (أنّا نأتي الأرض) يعني : أرض مكّة «ننقصها من أطرافها» يعني : ما حولها. والثاني : أنها القرية تخرب حتى تبقى الأبيات في ناحيتها ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة. والثالث : أنه نقص أهلها وبركتها ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال الشّعبيّ : نقص الأنفس والثّمرات. والرابع : أنه ذهاب فقهائها وخيار أهلها ، رواه عطاء عن ابن عباس. والخامس : أنه موت أهلها ، قاله مجاهد ، وعطاء ، وقتادة.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) قال ابن قتيبة : لا يتعقّبه أحد بتغيير ولا نقص. وقد شرحنا معنى سرعة الحساب في سورة (البقرة) (٢).

____________________________________

(٨٣٦) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٢٠٥٠٢ و ٢٠٥٠٣ والبزار ٣٥١٦ «كشف» ، وأبو نعيم في «صفة الجنة» ٨ ، وابن الجوزي في «العلل» ٢١ من حديث أبي الدرداء. وقال ابن الجوزي : هذا الحديث من عمل زيادة بن محمد ، ولم يتابعه عليه أحد اه. وقال في «المجمع» ١٨٧١٩ : زيادة بن محمد ، ضعيف.

ـ  قلت : الصواب أنه ضعيف جدا ، قال الذهبي في «الميزان» ٢ / ٩٨ : قال البخاري والنسائي : منكر الحديث.

ثم ذكر الذهبي هذا الحديث بأتم منه ، وقال : فهذه ألفاظ منكرة ، لم يأت بها غير زيادة.

وقاعدة البخاري : كل من قلت عنه منكر الحديث ، فلا تحل الرواية عنه.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٧ / ٤٠٨ : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال : بظهور المسلمين من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها وقهرهم أهلها ، أفلا يعتبرون بذلك فيخافون ظهورهم على أرضهم وقهرهم إياهم؟ وذلك أن الله توعد الذين سألوا رسوله الآيات من مشركي قومه بقوله : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ...) ، ثم وبّخهم تعالى ذكره بسوء اعتبارهم بما يعاينون من فعل الله بضربائهم من الكفار ، وهم مع ذلك يسألون الآيات ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بقهر أهلها والغلبة عليها من أطرافها وجوانبها ، وهم لا يعتبرون بما يرون من ذلك.

(٢) سورة البقرة : ٢٠٢.

٥٠١

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢))

قوله تعالى : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني : كفّار الأمم الخالية ، مكروا بأنبيائهم يقصدون قتلهم ، كما مكرت قريش برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقتلوه. (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) يعني : أنّ مكر الماكرين مخلوق له ، ولا يضرّ إلّا بإرادته ؛ وفي هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسكين له. (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) من خير وشرّ ، ولا يقع ضرر إلّا بإذنه. (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «وسيعلم الكافر». قال ابن عباس : يعني : أبا جهل. وقال الزّجّاج : الكافر ها هنا : اسم جنس. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «الكفّار» على الجمع.

قوله تعالى : (لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) أي : لمن الجنّة آخر الأمر.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيهم قولان : أحدهما : أنهم اليهود والنّصارى. والثاني : كفّار قريش. (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي : شاهدا (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) بما أظهر من الآيات ، وأبان من الدّلالات على نبوّتي. قوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) فيه سبعة أقوال (١) : أحدها : أنهم علماء اليهود والنّصارى ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنه عبد الله بن سلام ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن زيد ، وابن السّائب ، ومقاتل. والثالث : أنهم قوم من أهل الكتاب كانوا يشهدون بالحقّ ، منهم عبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسيّ ، وتميم الدّاريّ ، قاله قتادة. والرابع : أنه جبريل عليه‌السلام ، قاله سعيد بن جبير. والخامس : أنه عليّ بن أبي طالب ، قاله ابن الحنفيّة. والسادس : أنه ابن يامين ، قاله شمر. والسابع : أنه الله عزوجل ، روي عن الحسن ، ومجاهد ، واختاره الزّجّاج واحتجّ له بقراءة من قرأ : «ومن عنده علم الكتاب» وهي قراءة ابن السّميفع ، وابن أبي عبلة ، ومجاهد ، وأبي حياة. ورواية ابن أبي سريج عن الكسائيّ : «ومن» بكسر الميم «عنده» بكسر الدّال «علم» بضمّ العين وكسر اللام وفتح الميم «الكتاب» بالرّفع. وقرأ الحسن «ومن» بكسر الميم «عنده» بكسر الدّال «علم» بكسر العين وضمّ الميم «الكتاب» مضاف ، كأنه قال : أنزل من علم الله عزوجل.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله ٢ / ٦٤٣ : والصحيح في هذا : أن (وَمَنْ عِنْدَهُ) اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة ، من بشارات الأنبياء ، كما قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) ، وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل : أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزّلة.

وقال في أنها نزلت في عبد الله بن سلام : وهذا القول غريب ، لأن هذه الآية مكية ، وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، والأظهر في هذا ما قاله العوفي.

٥٠٢

سورة ابراهيم

وهي مكيّة من غير خلاف علمناه بينهم ، إلّا ما روي عن ابن عباس ، وقتادة أنهما قالا : سوى آيتين منها ، وهما قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) والتي بعدها (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢))

قوله تعالى : (الر) قد سبق بيانه. وقوله : (كِتابٌ) قال الزّجّاج : المعنى : هذا كتاب ، والكتاب : القرآن. وفي المراد بالظّلمات والنّور ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الظّلمات : الكفر. والنّور : الإيمان ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنّ الظّلمات : الضّلالة. والنّور : الهدى ، قاله مجاهد ، وقتادة. والثالث : أنّ الظّلمات : الشّكّ. والنّور : اليقين ، ذكره الماوردي. وفي قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ثلاثة أقوال : أحدها : بأمر ربّهم ، قاله مقاتل. والثاني : بتوفيق ربّهم ، قاله أبو سليمان. والثالث : أنه الإذن نفسه ، فالمعنى : بما أذن لك من تعليمهم ، قاله الزّجّاج ، قال : ثم بيّن ما النّور ، فقال : (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) قال ابن الأنباري : وهذا مثل قول العرب : جلست إلى زيد ، إلى العاقل الفاضل ، وإنما تعاد «إلى» بمعنى التّعظيم للأمر ، قال الشاعر (٢) :

إذا خدرت رجلي تذكّرت من لها

فناديت لبنى باسمها ودعوت

دعوت الّتي لو أنّ نفسي تطيعني

لألقيتها من حبّها وقضيت

فأعاد «دعوت» لتفخيم الأمر.

قوله تعالى : (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «الحميد الله» على البدل. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبان ، والمفضّل : «الحميد. الله» رفعا على الاستئناف ، وقد سبق بيان ألفاظ الآية.

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٢٨  ـ  ٢٩.

(٢) البيتان لقيس لبنى كما في ديوانه : ٦٩.

٥٠٣

(الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي : يؤثرونها (عَلَى الْآخِرَةِ) قال ابن عباس : يأخذون ما تعجّل لهم منها تهاونا بأمر الآخرة. قوله تعالى : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : يمنعون الناس من الدّخول في دينه ، (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) قد شرحناه في (آل عمران) (١). قوله تعالى : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ) أي : في ذهاب عن الحقّ (بَعِيدٍ) من الصّواب.

قوله تعالى : (إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) أي : بلغتهم. قال ابن الأنباري : ومعنى اللغة عند العرب : الكلام المنطوق به ، وهو مأخوذ من قولهم : لغا الطائر يلغو : إذا صوّت في الغلس. وقرأ أبو رجاء ، وأبو المتوكّل ، والجحدريّ : «إلّا بلسن قومه» برفع اللام والسين من غير ألف. وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو عمران : «بلسن قومه» بكسر اللام وسكون السين من غير ألف.

قوله تعالى : (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي : الذي أرسل به فيفهمونه عنه. وهذا نزل ، لأنّ قريشا قالوا : ما بال الكتاب كلّها أعجميّة ، وهذا عربيّ!

قوله تعالى : (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) قال الزّجّاج : «أن» مفسّر ، والمعنى : قلنا له : أخرج قومك ، وقد سبق بيان الظّلمات والنّور. وفي قوله : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) ثلاثة أقوال (٢) :

(٨٣٧) أحدها : أنّها نعم الله ، رواه أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبه قال مجاهد وقتادة وابن قتيبة.

____________________________________

(٨٣٧) أخرجه أحمد ٥ / ١٢٢ من طريق محمد بن أبان الجعفي عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب مرفوعا ، وكرره عبد الله بن أحمد من طريق الطيالسي عن الجعفي به موقوفا. وأخرجه مسلم ٢٣٨٠ ح ٧١ من طريق آخر عن أبي إسحاق به مرفوعا في أثناء خبر مطول ، وفيه «وأيام الله نعماؤه وبلاؤه». وأخرجه النسائي في «التفسير» ٢٨٠ من طريق آخر عن أبي إسحاق به مرفوعا ، وليس فيه لفظ «بلاؤه». الخلاصة هذه الروايات تتأيد بمجموعها ، وقد ورد موقوفا عن جماعة من التابعين ، فهو صحيح إن شاء الله تعالى ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٩.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله ٢ / ٦٤٥ : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي بأياديه ونعمه عليهم في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه ، وإنجائه إياهم من عدوهم ، وفلقه لهم البحر وتظليله إياهم بالغمام ، وإنزاله عليهم المن والسلوى ، إلى غير ذلك من النعم.

٥٠٤

والثاني : أنها وقائع الله في الأمم قبلهم ، قاله ابن زيد وابن السّائب ومقاتل. والثالث : أنها أيّام نعم الله عليهم وأيّام نقمه ممّن كفر من قوم نوح وعاد وثمود ، قاله الزّجّاج.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) يعني : التّذكير (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على طاعة الله وعن معصيته (شَكُورٍ) لأنعمه. والصّبّار : الكثير الصّبر ، والشّكور : الكثير الشّكر ، وإنما خصّه بالآيات ، لانتفاعه بها. وما بعد هذا مشروح في سورة البقرة.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤))

قوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) مذكور في (الأعراف) (١). وفي قوله (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) ثلاثة أقوال : أحدها : لئن شكرتم لأزيدنّكم من طاعتي ، قاله الحسن. والثاني : لئن شكرتم إنعامي لأزيدنّكم من فضلي ، قاله الرّبيع. والثالث : لئن وحّدتموني لأزيدنّكم خيرا في الدنيا ، قاله مقاتل. وفي قوله : (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) قولان : أحدهما : أنه كفر بالتّوحيد. والثاني : كفران النّعم. قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي : غنيّ عن خلقه ، محمود في أفعاله ، لأنه إمّا متفضّل بفعله ، أو عادل.

قوله تعالى : (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) قال ابن الأنباري : أي : لا يحصي عددهم إلّا هو ، على أنّ الله تعالى أهلك أمما من العرب وغيرها ، فانقطعت أخبارهم ، وعفت آثارهم ، فليس يعلمهم أحد إلّا الله. قوله تعالى : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) فيه سبعة أقوال :

أحدها : أنهم عضّوا أصابعهم غيظا ، قاله ابن مسعود ، وابن زيد. وقال ابن قتيبة : «في» ها هنا بمعنى : «إلى» ، ومعنى الكلام : عضّوا عليها حنقا وغيظا ، كما قال الشاعر (٢) :

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٦٧.

(٢) هذا صدر بيت ، لم أجد من نسبه لقائل ، وهو في «تفسير القرطبي» ٩ / ٣٤٦ :

تردّون في فيه غش الحسود

حتى يعضّ عليّ الأكفا

٥٠٥

يردّون في فيه عشر الحسود

يعني : أنهم يغيظون الحسود حتى يعضّ على أصابعه العشر ، ونحوه قول الهذليّ :

قد أفنى أنامله أزمه

فأضحى يعضّ عليّ الوظيفا (١)

يقول : قد أكل أصابعه حتى أفناها بالعضّ ، فأضحى يعضّ عليّ وظيف الذّراع.

والثاني : أنهم كانوا إذا جاءهم الرّسول فقال : إنّي رسول ، قالوا له : اسكت ، وأشاروا بأصابعهم إلى أفواه أنفسهم ، ردّا عليه وتكذيبا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أنهم لمّا سمعوا كتاب الله ، عجّوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والرابع : أنهم وضعوا أيديهم على أفواه الرّسل. ردّا لقولهم ، قاله الحسن. والخامس : أنهم كذّبوهم بأفواههم ، وردّوا عليهم قولهم ، قاله مجاهد ، وقتادة. والسادس : أنه مثل ، ومعناه : أنهم كفّوا عمّا أمروا بقبوله من الحقّ ، ولم يؤمنوا به. يقال : ردّ فلان يده إلى فمه ، أي : أمسك فلم يجب ، قاله أبو عبيدة. والسابع : ردّوا ما لو قبلوه لكان نعما وأيادي من الله ، فتكون الأيدي بمعنى : الأيادي ، و «في» بمعنى : الباء ، والمعنى : ردّوا الأيادي بأفواههم ، ذكره الفرّاء ، وقال : قد وجدنا من العرب من يجعل «في» موضع الباء ، فيقول : أدخلك الله بالجنّة ، يريد : في الجنّة ، وأنشدني بعضهم :

وأرغب فيها عن لقيط ورهطه

ولكنّني عن سنبس لست أرغب

فقال : أرغب فيها ، يعني : بنتا له ، يريد : أرغب بها ، وسنبس : قبيلة.

قوله تعالى : (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي : على زعمكم أنكم أرسلتم ، لا أنهم أقرّوا بإرسالهم. وباقي الآية قد سبق (٢) تفسيره. (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌ) هذا استفهام إنكار ، والمعنى : لا شكّ في الله ، أي : في توحيده (يَدْعُوكُمْ) بالرّسل والكتاب (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) قال أبو عبيدة : «من» زائدة ، كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) ، قال أبو ذؤيب :

جزيتك ضعف الحبّ لمّا شكوته

وما إن جزاك الضّعف من أحد قبلي

أي : أحد. وقوله تعالى : (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو الموت ، والمعنى : لا يعاجلكم بالعذاب. (قالُوا) للرّسل (إِنْ أَنْتُمْ) أي : ما أنتم (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي : ليس لكم علينا فضل ، والسلطان : الحجّة. قالت الرّسل : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فاعترفوا لهم بذلك ، (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ) يعنون : بالنبوّة والرّسالة ، (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : ليس ذلك من قبل أنفسنا.

قوله تعالى : (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) فيه قولان : أحدهما : بيّن لنا رشدنا. والثاني : عرّفنا طريق التّوكّل. وإنما نصّ هذا وأمثاله على نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقتدي بمن قبله في الصّبر وليعلم ما جرى لهم. قوله تعالى : (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) يعني : الكافرين بالرّسل. وقوله : (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : بعد هلاكهم. (ذلِكَ) الإسكان (لِمَنْ خافَ مَقامِي) قال ابن عباس : خاف مقامه بين يديّ. قال الفرّاء : العرب قد

__________________

(١) في «القاموس» الأزم : القطع بالناب وبالسكين ، وأزم : عض بالفم كله شديدا.

(٢) سورة هود : ٦٢.

٥٠٦

تضيف أفعالها إلى أنفسها ، وإلى ما أوقعت عليه ، فتقول : قد ندمت على ضربي إيّاك ، وندمت على ضربك ، فهذا من ذاك ، ومثله (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) (١) أي : رزقي إيّاكم. وقوله تعالى : (وَخافَ وَعِيدِ) أثبت ياء «وعيدي» في الحالين يعقوب ، وتابعه ورش في الوصل.

(وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧))

قوله تعالى : (وَاسْتَفْتَحُوا) يعني : استنصروا. وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وحميد ، وابن محيصن : «واستفتحوا» بكسر التاء على الأمر. وفي المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم الرّسل ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة. والثاني : أنهم الكفّار ، واستفتاحهم : سؤالهم العذاب ، كقولهم : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) (٢) وقولهم : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣) ، هذا قول ابن زيد.

قوله تعالى : (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ) قال ابن السّائب : خسر عند الدّعاء ، وقال مقاتل : خسر عند نزول العذاب ، وقال أبو سليمان الدّمشقي : يئس من الإجابة. وقد شرحنا معنى الجبّار والعنيد في سورة (هود) (٤). قوله تعالى : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) فيه قولان :

أحدهما : أنه بمعنى القدّام ، قال ابن عباس ، يريد : أمامه جهنّم. وقال أبو عبيدة : «من ورائه» أي : قدّامه ، يقال : الموت من ورائك ، وأنشد (٥) :

أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم والفلاة ورائيا

والثاني : أنها بمعنى : «بعد» ، قال ابن الأنباري : «من ورائه» أي : من بعد يأسه ، فدلّ «خاب» على اليأس ، فكنّى عنه ، وحملت «وراء» على معنى : «بعد» كما قال النّابغة :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مذهب

أراد : ليس بعد الله مذهب. قال الزّجّاج : والوراء يكون بمعنى الخلف والقدّام ، لأنّ ما بين يديك وما قدّامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك ، قال الشاعر (٦) :

أليس ورائي إن تراخت منيّتي

لزوم العصا تحنى عليها الأصابع

قال : وليس الوراء من الأضداد كما يقول بعض أهل اللغة. وسئل ثعلب : لم قيل : الوراء للإمام؟ فقال : الوراء : اسم لما توارى عن عينك ، سواء أكان أمامك أو خلفك. وقال الفرّاء : إنما يجوز هذا في المواقيت من الأيام والليالي والدّهر ، تقول : وراءك برد شديد ، وبين يديك برد شديد. ولا يجوز أن تقول للرجل وهو بين يديك : هو وراءك ، ولا للرجل وراءك : هو بين يديك.

قوله تعالى : (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) قال عكرمة ، ومجاهد ، واللغويون : الصّديد : القيح والدّم ،

__________________

(١) سورة الواقعة : ٨٢.

(٢) سورة ص : ١٦.

(٣) سورة الأنفال : ٣٢.

(٤) سورة هود : ٥٩.

(٥) ذكره ابن منظور في «اللسان» ، مادة «وري» ، ونسبه إلى سوّار بن المضرّب.

(٦) ذكره ابن منظور في «اللسان» ، مادة «وري» ، ونسبه إلى لبيد.

٥٠٧

قاله قتادة ، وهو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه. وقال القرظيّ : هو غسالة أهل النار ، وذلك ما يسيل من فروج الزّناة. وقال ابن قتيبة : المعنى : يسقى الصّديد مكان الماء ، قال : ويجوز أن يكون على التشبيه ، أي : ما يسقى ماء كأنه صديد. قوله تعالى : (يَتَجَرَّعُهُ) والتّجرّع : تناول المشروب جرعة جرعة ، لا في مرّة واحدة ، وذلك لشدة كراهته له ، وإنما يكره على شربه. قوله تعالى : (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) قال الزّجّاج : لا يقدر على ابتلاعه ، تقول : ساغ لي الشيء ، وأسغته.

(٨٣٨) وروى أبو أمامة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يقرّب إليه فيكرهه ، فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطّع أمعاءه حتى يخرج من دبره».

قوله تعالى : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ) أي : همّ الموت وكربه وألمه (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : من كلّ شعرة في جسده ، رواه عطاء عن ابن عباس. وقال سفيان الثّوريّ : من كلّ عرق. وقال ابن جريج : تتعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فتموت ولا ترجع إلى مكانها فتجد راحة. والثاني : من كلّ جهة ، من فوقه وتحته وعن يمينه وشماله وخلفه وقدّامه ، قاله ابن عباس أيضا. والثالث : أنها البلايا التي تصيب الكافر في النار سمّاها موتا ، قاله الأخفش. قوله تعالى : (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي : موتا تنقطع معه الحياة. (وَمِنْ وَرائِهِ) أي : من بعد هذا العذاب. قال ابن السّائب : من بعد الصّديد (عَذابٌ غَلِيظٌ). وقال إبراهيم التّيميّ : بعد الخلود في النار. والغليظ : الشّديد.

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨))

قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) قال الفرّاء : أضاف المثل إليهم ، وإنما المثل للأعمال ، فالمعنى : مثل أعمال الذين كفروا. ومثله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (١) أي : ترى وجوههم. وجعل العصوف تابعا لليوم في إعرابه ، وإنما العصوف للرّيح ، وذلك جائز على جهتين :

____________________________________

(٨٣٨) حديث حسن ، أو يقرب من الحسن بمجموع طرقه وشواهده ، أخرجه الترمذي ٢٥٨٣ والنسائي في «التفسير» ٢٨٣ ، وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» ٣١٤ ، وأحمد ٥ / ٢٦٥ والحاكم ١ / ٣٥١ ، والطبري ٢٠٦٣٢ ، والبيهقي في «البعث» ٦٠٢ ، رووه من طرق عن ابن المبارك به ، وصححه الحاكم على شرط مسلم! ووافقه الذهبي! وهو ضعيف لضعف ابن بسر. وقال الترمذي : هذا حديث غريب ، وهكذا قال البخاري عن عبيد الله بن بسر ، ولا نعرف عبيد الله بن بسر إلا في هذا الحديث. وله شاهد من حديث أبي سعيد ، أخرجه أحمد ٣ / ٧٠ ، وابن حبان ٣٤٧٣ ، وإسناده ضعيف ، لأنه من رواية دراج عن أبي الهيثم. وله شاهد من حديث أبي هريرة ، أخرجه البيهقي في «البعث ٥٧٩ ، وفيه دراج ، لكن رواه عن غير أبي الهيثم ، فالإسناد لا بأس به. الخلاصة : هذا الحديث بشواهده يصير حسنا ، أو قريبا من الحسن ، والآية تشهد لبعضه ، وهناك آيات تشهد لبعضه الآخر ، والحديث في الترهيب ، ومذهب ابن المبارك وأحمد وغيرهما التساهل في هذا الباب ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة الزمر : ٦٠.

٥٠٨

إحداهما : أنّ العصوف ، وإن كان للريح ، فإنّ اليوم يوصف به ، لأنّ الريح فيه تكون ، فجاز أن تقول : يوم عاصف ، كما تقول : يوم بارد ، ويوم حارّ. والوجه الآخر : أن تريد : في يوم عاصف الرّيح ، فتحذف الرّيح ، لأنها قد ذكرت في أول الكلام ؛ قال الشاعر :

وتضحك عرفان الدّروع جلودنا

إذا كان يوم مظلم الشّمس كاسف

يريد : كاسف الشّمس. وروي عن سيبويه أنه قال : في هذه الآية إضمار ، والمعنى : وممّا نقصّ عليك مثل الذين كفروا ، ثم ابتدأ فقال : (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ). وقرأ النّخعيّ ، وابن يعمر ، والجحدريّ : «في يوم عاصف» بغير تنوين اليوم. قال المفسّرون : ومعنى الآية : أنّ كلّ ما يتقرّب به المشركون يحبط ولا ينتفعون به ، كالرّماد الذي سفته الرّيح فلا يقدر على شيء منه ، فهم لا يقدرون ممّا كسبوا في الدنيا على شيء في الآخرة ، أي : لا يجدون ثوابه ، (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) من النّجاة.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) فيه قولان : أحدهما : أنّ معناه : ألم تخبر ، قاله ابن السّائب. والثاني : ألم تعلم ، قاله مقاتل ، وأبو عبيدة.

قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) قال المفسّرون : أي : لم يخلقهنّ عبثا ، وإنما خلقهنّ لأمر عظيم. (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) قال ابن عباس : يريد : يميتكم يا معشر الكفّار ويخلق قوما غيركم خيرا منكم وأطوع ، وهذا خطاب لأهل مكّة.

قوله تعالى : (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي : بممتنع متعذّر.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١))

قوله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) لفظه لفظ الماضي ، ومعناه المستقبل ، والمعنى : خرجوا من قبورهم يوم البعث ، واجتمع التّابع والمتبوع ، (فَقالَ الضُّعَفاءُ) وهم الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم المتبوعون : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) قال الزّجّاج : هو جمع تابع ، يقال : تابع وتبع ، مثل : غائب وغيب ، والمعنى : تبعناكم فيما دعوتمونا إليه.

قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا) أي : دافعون عنّا (مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ). قال القتادة : (لَوْ هَدانَا اللهُ) أي : لو أرشدنا في الدنيا لأرشدناكم ، يريدون : أنّ الله أضلّنا فدعوناكم إلى الضّلال ، (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) قال ابن زيد : إنّ أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالوا نبكي ونتضرّع ، فإنما أدرك أهل الجنّة الجنّة ببكائهم وتضرّعهم ، فبكوا وتضرّعوا ، فلمّا رأوا ذلك لا ينفعهم ، قالوا : تعالوا نصبر ، فإنما أدرك أهل الجنّة بالصّبر ، فصبروا صبرا لم ير مثله قطّ ، فلم ينفعهم ذلك ، فعندها قالوا : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ). وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم قال : جزعوا مائة سنة ، وصبروا مائة سنة. وقال مقاتل : جزعوا خمسمائة عام ، وصبروا خمسمائة عام. وقد

٥٠٩

شرحنا معنى المحيص في سورة النّساء (١).

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣))

قوله تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ) قال المفسّرون : يعني به إبليس ، (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أي : فرغ منه ، فدخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النّار النّار ، فحينئذ يجتمع أهل النار باللّوم على إبليس ، فيقوم فيما بينهم خطيبا ويقول : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) أي : وعدكم كون هذا اليوم فصدقكم (وَوَعَدْتُكُمْ) أنه لا يكون (فَأَخْلَفْتُكُمْ) الوعد (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي : ما أظهرت لكم حجّة على ما ادّعيت. وقال بعضهم : ما كنت أملككم فأكرهكم (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) وهذا من الاستثناء المنقطع ، والمعنى : لكن دعوتكم (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) حيث أجبتموني من غير برهان ، (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي : بمغيثكم (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) أي : بمغيثيّ. قرأ حمزة «بمصرخيّ» فحرّك الياء إلى الكسر ، وحرّكها الباقون إلى الفتح. قال قطرب : هي لغة في بني يربوع ؛ يعني : قراءة حمزة. قال اللغويون : يقال : استصرخني فلان فأصرخته ، أي : استغاثني فأغثته. (إِنِّي كَفَرْتُ) اليوم بإشراككم إيّاي في الدنيا مع الله في الطاعة ، (إِنَّ الظَّالِمِينَ) يعني : المشركين. قوله تعالى : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي : بأمر ربّهم. وقوله : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) قد ذكرناه في سورة يونس (٢).

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ، قال المفسرون : ألم تر بعين قلبك كيف ضرب الله مثلا أي : بيّن شبها ، (كَلِمَةً طَيِّبَةً) قال ابن عباس : هي شهادة أن لا إله إلّا الله. (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) أي : طيّبة الثّمرة ، فترك ذكر الثّمرة اكتفاء بدلالة الكلام عليه. وفي هذه الشّجرة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها النّخلة.

(٨٣٩) وهو في (الصّحيحين) من حديث ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد رواه سعيد بن جبير عن

____________________________________

(٨٣٩) صحيح. أخرجه البخاري ٦١ ومسلم ٢٨١١ ، والترمذي ٢٨٦٧ ، وأحمد ٢ / ٦١ و ١٥٧ و ٢ / ٣١ و ٢ / ١٢ و ١١٥ ، والحميدي ٦٧٦ ، وابن مندة في «الإيمان» ١٩٠ ، وابن حبان ٢٤٦ و ٢٤٣ و ٢٤٤. واللفظ عند البخاري : عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم ، حدّثوني ما هي؟» قال : فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبد الله : فوقع في نفسي أنها النخلة. ثم قالوا : حدّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال : «هي النخلة».

__________________

(١) سورة النساء : ١٢١.

(٢) سورة يونس : ١٠.

٥١٠

ابن عباس ، وبه قال ابن مسعود ، وأنس بن مالك ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضّحّاك في آخرين.

والثاني : أنها شجرة في الجنّة ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس. والثالث : أنها المؤمن ، وأصله الثّابت أنه يعمل في الأرض ويبلغ عمله السماء. وقوله عزوجل : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) فالمؤمن يذكر الله كلّ ساعة من النهار ، ورواه عطيّة عن ابن عباس.

قوله تعالى : (أَصْلُها ثابِتٌ) أي : في الأرض ، (وَفَرْعُها) أعلاها عال (فِي السَّماءِ) أي : نحو السّماء ، وأكلها : ثمرها.

وفي الحين ها هنا ستة أقوال (١) : أحدها : أنه ثمانية أشهر ، قاله عليّ عليه‌السلام. والثاني : ستة أشهر ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، وقتادة. والثالث : أنه بكرة وعشيّة ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس. والرابع : أنه السّنة ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال مجاهد ، وابن زيد. والخامس : أنه شهران ، قاله سعيد بن المسيّب. والسادس : أنه غدوة وعشيّة وكلّ ساعة ، قاله ابن جرير. فمن قال : ثمانية أشهر ، أشار إلى مدّة حملها باطنا وظاهرا ، ومن قال : ستة أشهر ، فهي مدّة حملها إلى حين صرامها ، ومن قال : بكرة وعشيّة ، أشار إلى الاجتناء منها ، ومن قال : سنة ، أشار إلى أنها لا تحمل في السّنة إلّا مرّة ، ومن قال : شهران ، فهو مدّة صلاحها. قال ابن المسيّب : لا يكون في النّخلة أكلها إلّا شهرين. ومن قال : كلّ ساعة ، أشار إلى أنّ ثمرتها تؤكل دائما. قال قتادة : تؤكل ثمرتها في الشتاء والصّيف. وقال ابن جرير : الطّلع في الشتاء من أكلها ، والبلح والبسر والرّطب والتّمر في الصّيف.

فأمّا الحكمة في تمثيل الإيمان بالنّخلة ، فمن أوجه : أحدها : أنها شديدة الثّبوت ، فشبّه ثبات الإيمان في قلب المؤمن بثباتها. والثاني : أنها شديدة الارتفاع ، فشبّه ارتفاع عمل المؤمن بارتفاع فروعها. والثالث : أنّ ثمرتها تأتي في كلّ حين ، فشبّه ما يكسب المؤمن من بركة الإيمان وثوابه في كلّ وقت بثمرتها المجتناة في كلّ حين على اختلاف صنوفها ، فالمؤمن كلّما قال : لا إله إلّا الله ، صعدت إلى السماء ، ثم جاءه خيرها ومنفعتها. والرابع : أنها أشبه الشّجر بالإنسان ، فإنّ كلّ شجرة يقطع رأسها تتشعّب غصونها من جوانبها ، إلّا هي ، إذا قطع رأسها يبست ، ولأنها لا تحمل حتى تلقّح ، ولأنها فضلة تربة آدم عليه‌السلام فيما يروى (٢).

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٧ / ٤٤٣ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بالحين في ذلك الموضع غدوة وعشية كل ساعة ، لأن الله تعالى ذكره ، ضرب ما تؤتي هذه الشجرة كل حين من الأكل لعمل المؤمن وكلامه مثلا ، ولا شك أن المؤمن يرفع له إلى الله في كل يوم صالح من العمل والقول لا في كل سنة أو في كل ستة أشهر أو في كل شهرين فإذا كان ذلك كذلك فلا شك أن المثل لا يكون خلافا للممثّل به في المعنى ، وإذا كان ذلك كذلك كان بينا صحة ما قلنا. فإن قال قائل : فأي نخلة تؤتي أكلها في كل وقت أكلا صيفا أو شتاء؟ قيل : أما في الشتاء فإن الطلع من أكلها ، وأما في الصيف فالبلح والبسر والرّطب والتمر. وذلك كله من أكلها.

(٢) يشير المصنف لحديث علي رضي الله عنه ، ولفظه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طينة آدم ، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران ، فأطعموا نساءكم الولّد الرطب فإن لم يكن رطبا فتمرا». وهو ضعيف جدا. أخرجه أبو يعلى ٤٥٥ ، وابن حبان في

٥١١

(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦))

قوله تعالى : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) قال ابن عباس : هي الشّرك.

وقوله عزوجل : (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) فيها خمسة أقوال : أحدها :

(٨٤٠) أنها الحنظلة ، رواه أنس بن مالك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبه قال أنس ، ومجاهد (١).

والثاني : أنها الكافر ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وروى العوفيّ عنه أنه قال : الكافر لا يقبل عمله ، ولا يصعد إلى الله تعالى ، فليس له أصل في الأرض ثابت ، ولا فرع في السماء. والثالث : أنها الكشوثى (٢) ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والرابع : أنه مثل ، وليست بشجرة مخلوقة ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس. والخامس : أنها الثّوم ، روي عن ابن عباس أيضا.

قوله تعالى : (اجْتُثَّتْ) قال ابن قتيبة : استؤصلت وقطعت. قال الزّجّاج : ومعنى اجتثّ الشيء في اللغة : أخذت جثّته بكمالها. وفي قوله تعالى : (ما لَها مِنْ قَرارٍ) قولان :

أحدهما : مالها من أصل ، لم تضرب في الأرض عرقا. والثاني : مالها من ثبات.

ومعنى تشبيه الكافر بهذه الشجرة أنه لا يصعد للكافر عمل صالح ، ولا قول طيّب ، ولا لقوله أصل ثابت.

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))

قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : يثبّتهم على الحقّ بالقول الثّابت ، وهو شهادة أن لا إله إلّا الله. قوله تعالى : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) فيه قولان : أحدهما : أنّ الحياة الدنيا : زمان الحياة على وجه الأرض ، والآخرة : زمان المساءلة في القبر ، وإلى هذا المعنى ذهب البراء بن عازب ، وفيه أحاديث تعضده. والثاني : أنّ الحياة الدنيا : زمن السؤال في القبر ، والآخرة : السّؤال في القيامة ، وإلى هذا المعنى ذهب طاوس ، وقتادة.

____________________________________

(٨٤٠) أخرجه الترمذي ٣١١٩ والنسائي في «الكبرى» ١١٢٦٢ ، و «التفسير» ٢٨٢ ، وأبو يعلى ٤١٦٥ ، والحاكم ٢ / ٣٥٢ ، والطبري ٢٠٦٦٩ و ٢٠٦٧٠ عن حماد بن سلمة عن شعيب بن الحبحاب عن أنس مرفوعا. وإسناده صحيح ، حماد من رجال مسلم ، وشيخه روى له الشيخان ، لكن أعله الترمذي بالوقف حيث قال : وروى غير واحد مثل هذا موقوفا ، ولا نعلم أحدا رفعه غير حماد بن سلمة ، ورواه معمر وحماد بن زيد وغير واحد فلم يرفعوه. وأخرجه الطبري ٢٠٦٦٨ من طريق ابن علية و ٢٠٦٧٢ من طريق مهدي بن ميمون كلاهما عن شعيب به موقوفا. انظر «أحكام القرآن» لابن العربي ١٣٠٨ بتخريجنا.

__________________

«المجروحين» ٣ / ٤٤ ، وابن الجوزي في «الموضوعات» ١ / ١٨٤ ، وأبو نعيم في «الحلية» ٦ / ١٢٣. وفي إسناده مسرور بن سعيد. قال ابن الجوزي : لا يصح ، مسرور بن سعيد منكر الحديث.

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٧ / ٤٤٥ : وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتصحيح قول من قال : هي الحنظلة خبر ، فإن صحّ فلا قول يجوز أن يقال غيره ، وإلا فإنها شجرة بالصفة التي وصفها الله بها.

(٢) في «القاموس» مادة «كشث» ، الكشوثى : نبت يتعلق بالأغصان ، ولا عرق له في الأرض.

٥١٢

قال المفسّرون : هذه الآية وردت في فتنة القبر ، وسؤال الملكين ، وتلقين الله تعالى للمؤمنين كلمة الحقّ عند السؤال ، وتثبيته إيّاهم على الحقّ (١). (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) يعني : المشركين ، يضلّهم عن هذه الكلمة ، (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) من هداية المؤمن وإضلال الكافر.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) في المشار إليهم سبعة أقوال (٢) :

أحدها : أنهم الأفجران من قريش : بنو أميّة ، وبنو المغيرة ، روي عن عمر بن الخطّاب ، وعليّ بن أبي طالب. والثاني : أنهم منافقو قريش ، رواه أبو الطّفيل عن عليّ. والثالث : بنو أميّة ، وبنو المغيرة ، ورؤساء أهل بدر الذين ساقوا أهل بدر إلى بدر ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع : أهل مكّة ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك. والخامس : المشركون من أهل بدر ، قاله مجاهد ، وابن زيد. والسادس : أنهم الذين قتلوا ببدر من كفّار قريش ، قاله سعيد بن جبير ، وأبو مالك. والسابع : أنها عامّة في جميع المشركين ، قاله الحسن.

قال المفسّرون : وتبديلهم نعمة الله كفرا ، أنّ الله أنعم عليهم برسوله ، وأسكنهم حرمه ، فكفروا بالله وبرسوله ، ودعوا قومهم إلى الكفر به ، فذلك قوله عزوجل : (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) أي : الهلاك. ثم فسّر الدّار بقوله تعالى : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) أي : يقاسون حرّها (وَبِئْسَ الْقَرارُ) أي : بئس المقرّ هي.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠))

قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) قد بيّنّاه في سورة البقرة (٣) ، واللام في «ليضلّوا» لام العاقبة ، وقد سبق شرحها (٤) ، ومن قرأ «ليضلوا» بضمّ الياء ، أراد : ليضلّوا الناس عن دين الله. قوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا) أي : في حياتكم الدنيا ، وهذا وعيد لهم. قال ابن عباس : لو كان الكافر مريضا لا ينام ، جائعا لا يأكل ولا يشرب ، لكان هذا نعيما يتمتّع به بالقياس إلى ما يصير إليه من العذاب ، ولو كان المؤمن في أنعم عيش لكان بؤسا عند ما يصير إليه من نعيم الآخرة.

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٧ / ٤٥١ : والصواب من القول في ذلك ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، وهو أن معناه (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، وذلك تثبيته إياهم في الحياة الدنيا بالإيمان بالله وبرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَفِي الْآخِرَةِ) بمثل الذي ثبّتهم به في الحياة الدنيا ، وذلك في قبورهم حين يسألون عن الذي هم عليه من التوحيد والإيمان برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) انظر «تفسير ابن كثير» ٢ / ٦٦٤.

(٣) سورة البقرة : ٢٢.

(٤) سورة يونس : ٨٨.

٥١٣

رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦))

قوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) أسكن ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ياء «عبادي».

قوله تعالى : (يُقِيمُوا الصَّلاةَ) قال ابن الأنباري : معناه : قل لعبادي : أقيموا الصلاة وأنفقوا ، يقيموا وينفقوا ، فحذف الأمران ، وترك الجوابان ، قال الشاعر :

فأيّ امرئ أنت أيّ امرئ

إذا قيل في الحرب من يقدم

أراد : إذا قيل : من يقدم تقدم. ويجوز أن يكون المعنى : قل لعبادي أقيموا الصلاة ، وأنفقوا ، فصرف عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر. ويجوز أن يكون المعنى : قل لهم ليقيموا الصلاة ، ولينفقوا ، فحذف لام الأمر ، لدلالة «قل» عليها. قال ابن قتيبة : والخلال مصدر خاللت فلانا خلالا ومخالّة ، والاسم الخلّة ، وهي الصّداقة.

قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) أي : ذلّلها ، تجري حيث تريدون ، وتركبون فيها حيث تشاؤون. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما (دائِبَيْنِ) في إصلاح ما يصلحانه من النّبات وغيره ، لا يفتران. ومعنى الدّؤوب : مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه. (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ) لتسكنوا فيه ، راحة لأبدانكم ، (وَالنَّهارَ) لتنتفعوا بمعاشكم ، (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) وفيه خمسة أقوال : أحدها : أنّ المعنى : من كلّ الذي سألتموه ، قاله الحسن وعكرمة. والثاني : من كلّ ما سألتموه لو سألتموه ، قاله الفرّاء. والثالث : وآتاكم من كلّ شيء سألتموه شيئا ، فأضمر الشيء ، كقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (١) أي ، من كلّ شيء في زمانها شيئا ، قاله الأخفش. والرابع : من كلّ ما سألتموه وما لم تسأله لأنّكم لم تسألوا شمسا ولا قمرا ولا كثيرا من النّعم التي ابتدأكم بها ، فاكتفي بالأول من الثاني ، كقوله عزوجل : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٢) ، قاله ابن الأنباري. والخامس : على قراءة ابن مسعود ، وأبي رزين والحسن وعكرمة وقتادة وأبان عن عاصم وأبي حاتم عن يعقوب : «من كل ما» بالتنوين من غير إضافة ، فالمعنى : آتاكم من كلّ ما لم تسألوه ، قاله قتادة والضّحّاك.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ) أي : إنعامه (لا تُحْصُوها) لا تطيقوا الإتيان على جميعها بالعدّ لكثرتها. (إِنَّ الْإِنْسانَ) قاله ابن عباس : يريد أبا جهل. وقال الزّجّاج : الإنسان اسم للجنس يقصد به الكافر خاصّة. وقوله تعالى : (لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) الظّلوم هاهنا : الشّاكر غير من أنعم عليه ، والكفّار : الجحود لنعم الله تعالى.

__________________

(١) سورة النمل : ٢٣.

(٢) سورة النحل : ٨١.

٥١٤

قوله تعالى : (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) قد سبق تفسيره في سورة البقرة (١).

قوله تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَ) أي : جنّبني وإيّاهم ، والمعنى : ثبّتني على اجتناب عبادتها. (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) يعني : الأصنام ، وهي لا توصف بالإضلال ولا بالفعل ، ولكنّهم لمّا ضلّوا بسببها ، كانت كأنّها أضلّتهم. (فَمَنْ تَبِعَنِي) أي : على ديني التّوحيد (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي : فهو على ملّتي ، (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : ومن عصاني ثمّ تاب فإنك غفور رحيم ، قاله السّدّيّ. والثاني : ومن عصاني فيما دون الشّرك ، قاله مقاتل بن حيّان. والثالث : ومن عصاني فكفر فإنك غفور رحيم أن تتوب عليه فتهديه إلى التّوحيد ، قاله مقاتل بن سليمان. وقال ابن الأنباري : يحتمل أن يكون دعا بهذا قبل أن يعلمه الله تعالى أنه لا يغفر الشّرك كما استغفر لأبيه.

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧))

قوله تعالى : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) في «من» قولان : أحدهما : أنها للتّبعيض ، قاله الأخفش ، والفرّاء. والثاني : أنها للتوكيد ، والمعنى : أسكنت ذرّيّتي ، ذكره ابن الأنباري.

قوله تعالى : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) يعني : مكّة ، ولم يكن فيها حرث ولا ماء. (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إنما سمّي محرّما ، لأنه يحرم استحلال حرماته والاستخفاف بحقّه. فإن قيل : ما وجه قوله : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ولم يكن هناك بيت حينئذ ، إنما بناه إبراهيم بعد ذلك بمدّة؟ فالجواب من ثلاثة وجوه : أحدها : أنّ الله تعالى حرّم موضع البيت منذ خلق السّماوات والأرض ، قاله ابن السّائب. والثاني : عند بيتك الذي كان قبل أن يرفع أيام الطّوفان. والثالث : عند بيتك الذي قد جرى في سابق علمك أنه يحدث هاهنا ، ذكرهما ابن جرير (٢).

وكان أبو سليمان الدّمشقي يقول : ظاهر الكلام يدلّ على أنّ هذا الدّعاء إنما كان بعد أن بني البيت وصارت مكّة بلدا. والمفسّرون على خلاف ما قال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنّ إبراهيم خرج من الشّام ومعه ابنه إسماعيل وأمّه هاجر ومعه جبريل حتى قدم مكّة وبها ناس يقال لهم : العماليق ، خارجا من مكّة ، والبيت يومئذ ربوة حمراء ، فقال إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما؟ قال : نعم ؛ فأنزلهما في مكان من الحجر ، وأمر هاجر أن تتّخذ فيه عريشا ، ثم قال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) الآية وفتح أهل الحجاز ، وأبو عمرو ياء «إني أسكنت».

قوله تعالى : (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) في متعلّق هذه اللام قولان : أحدهما : أنها تتعلّق بقوله تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ، فالمعنى : جنّبهم الأصنام ليقيموا الصّلاة ، هذا قول مقاتل. والثاني : أنها تتعلّق بقوله تعالى : (أَسْكَنْتُ) ، فالمعنى : أسكنتهم عند بيتك ليقيموا الصلاة ، لأنّ البيت قبلة الصّلوات ، ذكره الماوردي. قوله تعالى : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) ، فيه قولان : أحدهما : أنها القلوب ، قاله الأكثرون. قال ابن الأنباري : وإنّما عبّر عن القلوب بالأفئدة ، لقرب القلب من الفؤاد

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٦.

(٢) انظر «تفسير الطبري» ٧ / ٤٦٥.

٥١٥

ومجاورته ، قال امرؤ القيس :

رمتني بسهم أصاب الفؤاد

غداة الرّحيل فلم أنتصر

وقال آخر :

كأنّ فؤادي كلّما مرّ راكب

جناح غراب رام نهضا إلى وكر

وقال آخر :

وإنّ فؤادا قادني لصبابة

إليك على طول الهوى لصبور

يعنون بالفؤاد : القلب. والقول الثاني : أنّ المراد بالأفئدة الجماعة من الناس. قاله الزّجّاج.

قوله تعالى : (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قال ابن عباس : تحنّ إليهم. وقال قتادة : تنزع إليهم. وقال الفرّاء : تريدهم ، كما تقول : رأيت فلانا يهوي نحوك ، أي : يريدك. وقرأ بعضهم : «تهوى إليهم» بمعنى : تهواهم ، كقوله : (رَدِفَ لَكُمْ) (١) ، أي : ردفكم. و «إلى» توكيد للكلام. وقال ابن الأنباري : «تهوي» : تنحطّ إليهم وتنحدر. وفي معنى هذا الميل قولان : أحدهما : أنه الميل إلى الحجّ ، قاله الأكثرون. والثاني : أنه حبّ سكنى مكّة ، رواه عطيّة عن ابن عباس. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لو كان إبراهيم قال : فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ، لحجّة اليهود والنّصارى ، ولكنه قال : من النّاس.

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨))

قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي) قال أبو صالح عن ابن عباس : ما نخفي من الوجد بمفارقة إسماعيل ، وما نعلن من الحبّ له. قال المفسّرون : إنما قال هذا لمّا نزل إسماعيل الحرم ، وأراد فراقه.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠))

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) أي : بعد الكبر (إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) قال ابن عباس : ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين ، وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. قوله تعالى : (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وهبيرة عن حفص عن عاصم : «وتقبّل دعائي» بياء في الوصل. وقال البزّي عن ابن كثير : يصل ويقف بياء. وقال قنبل عن ابن كثير : يشمّ الياء في الوصل ، ولا يثبتها ، ويقف عليها بالألف. الباقون «دعاء» بغير ياء في الحالين. قال أبو عليّ : الوقف والوصل بياء هو القياس ، والإشمام جائز ، لدلالة الكسرة على الياء.

(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١))

قوله تعالى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) قال ابن الأنباري : استغفر لأبويه وهما حيّان ، طمعا في أن يهديا إلى الإسلام. وقيل : أراد بوالديه : آدم ، وحوّاء. وقرأ ابن مسعود ، وأبيّ ، والنّخعيّ ، والزّهريّ : «ولولديّ» يعني : إسماعيل وإسحاق ، يدلّ عليه ذكرهما قبل ذلك. وقرأ مجاهد : «ولوالدي» على

__________________

(١) سورة النمل : ٧٢.

٥١٦

التّوحيد. وقرأ عاصم الجحدريّ : «ولولدي» بضمّ الواو. وقرأ يحيى بن يعمر ، والجوني : «ولولدي» بفتح الواو وكسر الدال على التّوحيد. (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أي : يظهر الجزاء على الأعمال. وقيل : معناه : يوم يقوم الناس للحساب. ، فاكتفي بذكر الحساب من ذكر الناس إذ كان المعنى مفهوما.

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣))

قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) قال ابن عباس : هذا وعيد للظّالم ، وتعزية للمظلوم.

قوله تعالى : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو رزين ، وقتادة : «نؤخرهم» بالنون ، أي : يؤخّر جزاءهم (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي : تشخص أبصار الخلائق لظهور الأحوال فلا تغتمض.

قوله تعالى : (مُهْطِعِينَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن الإهطاع : النّظر من غير أن يطرف النّاظر ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والضّحّاك ، وأبو الضّحى. والثاني : أنه الإسراع ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وأبو عبيدة. وقال ابن قتيبة : يقال : أهطع البعير في سيره ، واستهطع : إذا أسرع. وفي ما أسرعوا إليه قولان : أحدهما : إلى الدّاعي ، قاله قتادة. والثاني : إلى النار ، قاله مقاتل. والثالث : أنّ المهطع : الذي لا يرفع رأسه ، قاله ابن زيد.

وفي قوله تعالى : (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) قولان : أحدهما : رافعي رؤوسهم ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وأبو عبيدة ، وأنشد أبو عبيدة :

أنغض نحوي رأسه وأقنعا

كأنّما أبصر شيئا أطمعا (١)

وقال ابن قتيبة : المقنع رأسه : الذي رفعه وأقبل بطرفه على ما بين يديه. وقال الزّجّاج : رافعي رؤوسهم ، ملتصقة بأعناقهم. و «مهطعين مقنعي رؤوسهم» نصب على الحال ، المعنى : ليوم تشخص فيه أبصارهم مهطعين. والثاني : ناكسي رؤوسهم ، حكاه الماوردي عن المؤرّج.

قوله تعالى : (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي : لا ترجع إليهم أبصارهم من شدّة النّظر ، فهي شاخصة. قال ابن قتيبة : والمعنى : أن نظرهم إلى شيء واحد ، وقال الحسن : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء ، لا ينظر أحد إلى أحد.

قوله تعالى : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) الأفئدة : مساكن القلوب. وفي معنى الكلام أربعة أقوال :

أحدها : أنّ القلوب خرجت من مواضعها فصارت في الحناجر ، رواه عطاء عن ابن عباس. وقال قتادة : خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم ، فأفئدتهم هواء ليس فيها شيء.

والثاني : وأفئدتهم ليس فيها شيء من الخير ، فهي كالخربة ، رواه العوفيّ عن ابن عباس.

والثالث : وأفئدتهم منخرقة لا تعي شيئا ، قاله مرّة بن شراحيل. وقال الزّجّاج : متخرّقة لا تعي

__________________

(١) في «القاموس» أنغض : حرّك ، والنّغض : من يحرك رأسه ، ويرجف في مشيته.

٥١٧

شيئا من الخوف. والرابع : وأفئدتهم جوف لا عقول لها ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد لحسّان :

ألا أبلغ أبا سفيان عنّي

فأنت مجوّف نخب هواء

فعلى هذا يكون المعنى : أنّ قلوبهم خلت عن العقول لما رأوا من الهول ، والعرب تسمّي كلّ أجوف خاو هواء. قال ابن قتيبة : ويقال : أفئدتهم منخوبة من الخوف والجبن.

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤))

قوله تعالى : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ) أي : خوّفهم (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) يعني به يوم القيامة ؛ وإنما خصّه بذكر العذاب ، وإن كان فيه ثواب ، لأنّ الكلام خرج مخرج التّهديد للعصاة. قال ابن عباس : يريد بالناس هاهنا : أهل مكّة. قوله تعالى : (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : أشركوا (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي : أمهلنا مدّة يسيرة. وقال مقاتل : سألوا الرّجوع إلى الدنيا ، لأنّ الخروج من الدنيا قريب. (نُجِبْ دَعْوَتَكَ) يعني : التّوحيد ، فيقال لهم : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي : حلفتم في الدنيا أنّكم لا تبعثون ولا تنتقلون من الدنيا إلى الآخرة.

(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥))

قوله تعالى : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي : نزلتم في أماكنهم وقراهم ، كالحجر ومدين ، والقرى التي عذّب أهلها. ومعنى «ظلموا أنفسهم» ضرّوها بالكفر والمعصية. (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو المتوكّل النّاجي «وتببّن» بضمّ التاء. (كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) يعني : كيف عذّبناهم ، يقول : فكان ينبغي لكم أن تنزجروا عن المخالفة اعتبارا بمساكنهم بعد ما علمتم فعلنا بهم ، (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) قال ابن عباس : يريد الأمثال التي في القرآن.

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧))

قوله تعالى : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) في المشار إليهم أربعة أقوال :

أحدها : أنه نمرود الذي حاجّ إبراهيم في ربّه ، قال : لا أنتهي حتى أنظر إلى السماء ، فأمر بفرخي نسر فربّيا حتى سمنا واستعلجا ، ثم أمر بتابوت فنحت ، ثم جعل في وسطه خشبة ، وجعل على رأس الخشبة لحما شديد الحمرة ، ثم جوّعهما وربط أرجلهما بأوتار إلى قوائم التّابوت. ودخل هو وصاحب له في التّابوت وأغلق بابه ، ثم أرسلهما ، فجعلا يريدان اللحم ، فصعدا في السماء ما شاء الله ، ثم قال لصاحبه : افتح وانظر ما ذا ترى؟ ففتح ، فقال : أرى الأرض كأنّها الدّخان ، فقال له : أغلق ، ثم صعد ما شاء الله ، ثم قال : افتح فانظر ، ففتح ، فقال : ما أرى إلّا السماء ، وما نزداد منها إلا بعدا ، قال : فصوّب

٥١٨

خشبتك ، فصوّبها ، فانقضّت النّسور تريد اللحم ، فسمعت الجبال هدّتها ، فكادت تزول عن مراتبها (١). هذا قول عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. وفي رواية عنه : كانت النّسور أربعة. وروى السّدّيّ عن أشياخه : أنه ما زال يصعد إلى أن رأى الأرض يحيط بها بحر ، فكأنّها فلكة في ماء ، ثم صعد حتى وقع في ظلمة ، فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته ، ففزع ، فصوّب اللحم ، فانقضّت النّسور ، فلمّا نزل أخذ في بناء الصّرح. وروي عن ابن عباس أنه بنى الصّرح ، ثم صعد منه مع النّسور ، فلمّا لم يقدر على السماء ، اتّخذه حصنا ، فأتى الله بنيانه من القواعد. وقال عكرمة : كان معه في التّابوت غلام قد حمل القوس والنّشّاب ، فرمى بسهم فعاد إليه ملطّخا بالدّم ، فقال : كفيت إله السماء ، وذلك من دم سمكة في بحر معلّق في الهواء ، فلمّا هاله الارتفاع ، قال لصاحبه : صوّب الخشبة ، فصوّبها ، فانحطت النّسور ، فظنّت الجبال أنه أمر نزل من السماء فزالت عن مواضعها. وقال غيره : لمّا رأت الجبال ذلك ، ظنّت أنه قيام السّاعة ، فكادت تزول ، وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير ، وأبو مالك.

والقول الثاني : أنه بخت نصّر ، وأنّ هذه القصة له جرت ، وأنّ النسور لمّا ارتفعت تطلب اللحم إلى حيث شاء الله ، نودي : يا أيّها الطّاغية ، أين تريد؟ ففرق ، ثم سمع الصوت فوقه ، فنزل ، فلمّا رأت الجبال ذلك ، ظنّت أنه قيام الساعة فكادت تزول ، وهذا قول مجاهد.

والثالث : أنّ المشار إليهم الأمم المتقدّمة. قال ابن عباس : وعكرمة : مكرهم : شركهم.

والرابع : أنهم الذين مكروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين همّوا بقتله وإخراجه.

وفي قوله تعالى : (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) قولان : أحدهما : أنه محفوظ عنده حتى يجازيهم به ، قاله الحسن ، وقتادة. والثاني : وعند الله جزاء مكرهم.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) وقرأ أبو بكر ، وعمر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وأبيّ ، وابن عباس ، وعكرمة ، وأبو العالية : «وإن كاد مكرهم» بالدال ، (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) وقرأ الأكثرون «لتزول» بكسر اللام الأولى من «لتزول» وفتح الثانية. أراد : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، أي : هو أضعف وأوهن ، كذلك فسّرها الحسن البصريّ. وقرأ الكسائيّ «لتزول» بفتح اللام الأولى وضمّ الثانية ، أراد : قد كادت الجبال تزول من مكرهم ، كذلك فسّرها ابن الأنباري. وفي المراد بالجبال قولان : أحدهما : أنها الجبال المعروفة ، قاله الجمهور. والثاني : أنها ضربت مثلا لأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وثبوت دينه كثبوت الجبال الرّاسية ، والمعنى : لو بلغ كيدهم إلى إزالة الجبال ، لما زال أمر الإسلام ، قاله الزّجّاج. قال أبو عليّ : ويدلّ على صحّة هذا قوله عزوجل : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) أي : فقد وعدك الظهور عليهم ، قال ابن عباس : يريد بوعده : النّصر والفتح وإظهار الدّين. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي : منيع (ذُو انتِقامٍ) من الكافرين ، وهو أن يجازيهم بالعقوبة على كفرهم.

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨))

قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) وروى أبان «يوم نبدّل» بالنون وكسر الدال «الأرض»

__________________

(١) لا يصح هذا وأمثاله عن علي ، وإنما مصدر هذه الأخبار كتب الإسرائيليات ، وظاهر الآيات يدل على أن المراد بذلك أعداء الرسل في كل قوم ، والله أعلم.

٥١٩

بالنّصب ، «والسماوات» بخفض التاء ، ولا خلاف في نصب «غير». وفي معنى تبديل الأرض قولان : أحدهما : أنها تلك الأرض ، وإنّما يزاد فيها وينقص منها ، وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها ، وتمدّ مدّ الأديم ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس.

(٨٤١) وقد روى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) قال : «يبسطها ويمدّها مدّ الأديم».

والثاني : أنها تبدّل بغيرها. ثم فيه أربعة أقوال (١) : أحدها : أنها تبدّل بأرض غيرها بيضاء كالفضّة لم يعمل عليها خطيئة ، رواه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود ، وعطاء عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد. والثاني : أنها تبدّل نارا ، قاله أبيّ بن كعب. والثالث : أنها تبدّل بأرض من فضّة ، قاله أنس بن مالك. والرابع : تبدّل بخبزة بيضاء ، فيأكل المؤمن من تحت قدميه ، قاله أبو هريرة ، وسعيد بن جبير ، والقرظيّ. وقال غيرهم : يأكل منها أهل الإسلام حتى يفرغ من حسابهم.

فأمّا تبديل السّماوات ، ففيه ستة أقوال : أحدها : أنها تجعل من ذهب ، قاله عليّ عليه‌السلام. والثاني : أنها تصير جنانا ، قاله أبيّ بن كعب. والثالث : أنّ تبديلها : تكوير شمسها وتناثر نجومها ، قاله ابن عباس. والرابع : أنّ تبديلها : اختلاف أحوالها ، فمرّة كالمهل ، ومرّة تكون كالدّهان ، قاله ابن الأنباري. والخامس : أنّ تبديلها أن تطوى كطيّ السّجلّ للكتاب. والسادس : أن تنشق فلا تظلّ ، ذكرهما الماوردي.

قوله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي : خرجوا من القبور.

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١))

قوله تعالى : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) يعني : الكفّار (مُقَرَّنِينَ) يقال : قرنت الشيء إلى الشيء : إذا

____________________________________

(٨٤١) ضعيف. هو بعض حديث الصور ، أخرجه الطبراني في «الطوال» ٣٦ ، وأبو الشيخ في «العظمة» ٣٨٨ و ٣٨٩ و ٣٩٠ ، والبيهقي في «البعث» ٦٦٨ و ٦٦٩ ، والطبري ٢ / ٣٣٠ و ٣٣١ و ٢٠٩٦٢ من طرق عن إسماعيل بن رافع تارة عن يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة. وتارة عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب عن أبي هريرة. وتارة عن محمد بن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب عن أبي هريرة. وتارة عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة. وأيا كان فمداره على إسماعيل بن رافع ، ولم يتابعه على هذا الحديث بطوله أحد ، وهو واه. وانظر مزيد الكلام عليه في سورة الأنعام عند الآية : ٧٣.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٧ / ٤٨٣ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : يوم تبدّل الأرض التي نحن عليها اليوم يوم القيامة غيرها ، وكذلك السماوات اليوم تبدل غيرها ، كما قال جل ثناؤه.

وجائز أن تكون المبدلة أرضا أخرى من فضة ، وجائز أن تكون نارا وجائز أن تكون غير ذلك ، ولا خبر في ذلك عندنا من الوجه الذي يجب التسليم له أي ذلك يكون ، فلا قول في ذلك يصح إلا ما دل عليه ظاهر التنزيل.

٥٢٠