زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٥

١
٢

٣
٤

فهرس الموضوعات

الموضوع

الصفحة

٦  ـ  تفسير سورة الأنعام.......................................................... ٧

٧  ـ  تفسير سورة الأعراف..................................................... ١٠٠

٨  ـ  تفسير سورة الأنفال...................................................... ١٨٦

٩  ـ  تفسير سورة التوبة........................................................ ٢٣٠

١٠  ـ  تفسير سورة يونس...................................................... ٣١٤

١١  ـ  تفسير سورة هود....................................................... ٣٥٥

١٢  ـ  تفسير سورة يوسف.................................................... ٤١١

١٣  ـ  تفسير سورة الرعد...................................................... ٤٧٩

١٤  ـ  تفسير سورة إبراهيم..................................................... ٥٠٣

١٥  ـ  تفسير سورة الحجر..................................................... ٥٢٢

١٦  ـ  تفسير سورة النحل..................................................... ٥٤٨

٥
٦

سورة الانعام

فصل في نزولها : روى مجاهد عن ابن عباس : أنّ سورة الأنعام مما نزل بمكّة. وهذا قول الحسن ، وقتادة ، وجابر بن زيد.

(٤٨٨) وروى يوسف بن مهران عن ابن عبّاس ، قال : نزلت سورة الأنعام جملة ليلا بمكّة. وحولها سبعون ألف ملك.

(٤٨٩) وروى أبو صالح عن ابن عبّاس قال : هي مكيّة ، نزلت جملة واحدة ، ونزلت ليلا ؛ وكتبوها من ليلتهم ، غير ست آيات منها مدنيّات (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى آخر الثّلاث آيات (١) ، وقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (٢) الآية. وقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ) (٣) إلى آخر الآيتين. وذكر مقاتل نحو هذا. وزاد آيتين : قوله : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) (٤) ، وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) (٥).

وروي عن ابن عباس ، وقتادة قالا : هي مكّيّة ، إلّا آيتين نزلتا بالمدينة ؛ قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ). وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) (٦). وذكر أبو الفتح بن شيطاء : أنّها

____________________________________

(٤٨٨) روي موقوفا ومرفوعا ، والمرفوع لا يصح ، والصحيح موقوف.

ـ  أما الموقوف ، فأخرجه الطبراني ١٢ / ١٢٩٣٠ من طريق علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس موقوفا ، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان ، وورد من وجوه أخر موقوفا ، وهو الراجح.

ـ  وورد مرفوعا بنحوه عن جماعة من الصحابة فقد أخرجه الطبراني في «الأوسط» ٦٤٤٣ وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ٢ / ١٥٩ من حديث أنس. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠٩٩٢ : رواه الطبراني عن شيخه عمر بن عبد الله بن عرس عن أحمد بن محمد السالمي ولم أعرفهما ، وبقية رجاله ثقات ا. ه.

قلت : ابن عرس توبع عند ابن مردويه ، فانحصر الإسناد في أحمد السالمي ، وقد تفرد به.

ـ  وفي الباب من حديث ابن عمر عند الطبراني في «الصغير» ٢٢٠ وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠٩٩١ : وفيه يوسف بن عطية الصفّار ، وهو ضعيف ا ه. بل متروك. ومن حديث جابر عند الحاكم ٢ / ٣١٥ ، وصححه ، ورده الذهبي بقوله : لا والله لم يدرك جعفر السدي ، وأظن هذا موضوعا اه.

(٤٨٩) موقوف ، صدره له شواهد منها ما تقدم ، وعجزه واه بمرة. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس ، وروايته الكلبي ، وهو ممن يضع الحديث ، ولفظ «غير ست آيات ...» واه ليس بشيء.

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٥١  ـ  ١٥٣.

(٢) سورة الأنعام : ٩١.

(٣) سورة الأنعام : ٩٢.

(٤) سورة الأنعام : ١١٤.

(٥) سورة الأنعام : ٢١.

(٦) سورة الأنعام : ١٤١.

٧

مكية ، غير آيتين نزلتا بالمدينة (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ، والتي بعدها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١))

فأمّا التّفسير ، فقال كعب : فاتحة التوراة فاتحة الأنعام ، وخاتمتها خاتمة هود ؛ وإنّما ذكر السّماوات والأرض ، لأنّهما من أعظم المخلوقات. والمراد «بالجعل» : الخلق. وقيل : إنّ «جعل» هاهنا : صلة ؛ والمعنى : والظّلمات. وفي المراد بالظّلمات والنّور ثلاثة أقوال : أحدها : الكفر والإيمان ، قاله الحسن. والثاني : الليل والنّهار ، قاله السّدّيّ. والثالث : جميع الظّلمات والأنوار. قال قتادة : خلق السّماوات قبل الأرض ، والظّلمات قبل النّور ، والجنّة قبل النّار.

قوله تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : المشركين بعد هذا البيان (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ، أي : يجعلون له عديلا ، فيعبدون الحجارة الموات ، مع إقرارهم بأنّه الخالق لما وصف. يقال : عدلت هذا بهذا : إذا ساويته به. قال أبو عبيدة : هو مقدّم ومؤخّر ، تقديره : يعدلون بربّهم. وقال النّصر بن شميل : الباء : بمعنى «عن».

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢))

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) يعني : آدم ، وذلك أنّه لما شكّ المشركون في البعث ، وقالوا : من يحيى هذه العظام؟ أعلمهم أنّه خلقهم من طين ، فهو قادر على إعادة خلقهم.

قوله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) فيه ستّة أقوال (١) : أحدها : أنّ الأجل الأوّل : أجل الحياة إلى الموت والأجل الثّاني : أجل الموت إلى البعث ، روي عن ابن عبّاس ، والحسن ، وابن المسيّب ، وقتادة ، والضّحّاك ، ومقاتل. والثّاني : أنّ الأجل الأوّل : النّوم الذي تقبض فيه الرّوح ، ثمّ ترجع في حال اليقظة ؛ والأجل المسمّى عنده : أجل موت الإنسان. رواه العوفيّ عن ابن عبّاس. والثالث : أنّ الأجل الأوّل : أجل الآخرة متى يأتي ، والأجل الثّاني : أجل الدّنيا ، قاله مجاهد في رواية. والرابع : أنّ الأوّل : خلق الأشياء في ستّة أيّام ، والثاني : ما كان بعد ذلك إلى يوم القيامة ، قاله عطاء الخراسانيّ. والخامس : أنّ الأوّل : قضاه حين أخذ الميثاق على خلقه ، والثّاني : الحياة في الدنيا ، قاله

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ٥ / ١٤٨ : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : معناه : ثم قضى أجل الحياة الدنيا (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وهو أجل البعث عنده. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب. لأنه تعالى ذكره نبّه خلقه على موضع حجته عليهم من أنفسهم فقال لهم : أيها الناس إن الذي يعدل به كفاركم الآلهة والأنداد هو الذي خلقكم فابتدأكم وأنشأكم من طين ، فجعلكم صورا أجساما أحياء بعد إذ كنتم طينا جمادا ، ثم قضى آجال حياتكم لفنائكم ومماتكم ليعيدكم ترابا وطينا كالذي كنتم قبل أن ينشئكم ويخلقكم ، وأجل مسمى عنده لإعادتكم أحياء وأجساما كالذي كنتم قبل مماتكم. وذلك نظير قوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٨].

٨

ابن زيد ، كأنّه يشير إلى أجل الذّرّية حين أحياهم وخاطبهم. والسادس : أنّ الأوّل : أجل من قد مات من قبل ، والثاني : أجل من يموت من بعد ، ذكره الماورديّ.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ) أي بعد هذا البيان (تَمْتَرُونَ) وفيه قولان : أحدهما : تشكّون قاله قتادة ، والسّدّيّ. وفيما شكوا فيه قولان : أحدهما : الوحدانيّة. والثاني : البعث. والثاني : يختلفون : مأخوذ من المراء ، ذكره الماورديّ.

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

قوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) فيه أربعة أقوال (١) : أحدها : هو المعبود في السّماوات وفي الأرض ، قاله ابن الأنباري. والثاني : وهو المنفرد بالتدبير في السّماوات وفي الأرض ، قاله الزّجّاج. والثالث : وهو الله في السّماوات ، ويعلم سرّكم وجهركم في الأرض ، قاله ابن جرير.

والرابع : أنّه مقدّم ومؤخّر. والمعنى : وهو الله يعلم سرّكم وجهركم في السّماوات والأرض ، ذكره بعض المفسّرين.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥))

قوله تعالى : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) نزلت في كفّار قريش. وفي «الآية» قولان :

أحدهما : أنّها الآية من القرآن. والثاني : المعجزة ، مثل انشقاق القمر.

والمراد بالحقّ : القرآن. والأنباء : الأخبار. والمعنى : سيعلمون عاقبة استهزائهم.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦))

قوله تعالى : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) القرن : اسم أهل كلّ عصر. وسمّوا بذلك ، لاقترانهم في الوجود : وللمفسّرين في المراد بالقرن سبعة أقوال (٢) :

(٤٩٠) أحدها : أنّه أربعون سنة ، ذكره ابن سيرين عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني : ثمانون سنة ، رواه أبو صالح عن ابن عبّاس.

____________________________________

(٤٩٠) عزاه المصنف لابن سيرين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا مرسل فهو واه ، ولم أقف على إسناده ، وهو منكر ، والمحفوظ ما بعده.

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢ / ١٦٠ : أصح الأقوال أنه : المدعو الله في السماوات وفي الأرض ، أي يعبده ويوحده ويقرّ له بالإلهية من في السماوات ومن في الأرض ، ويسمونه الله ، ويدعونه رغبا ورهبا ، إلا من كفر من الجن والإنس. وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أي : هو إله من في السماء وإله من في الأرض وعلى هذا فيكون قوله (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) خبرا أو حالا.

(٢) الراجح من هذه الأقوال هو القول الثالث : حيث ورد مرفوعا وهو حديث قوي.

٩

(٤٩١) والثالث : مائة سنة ، قاله عبد الله بن بسر (١) المازنيّ وأبو سلمة بن عبد الرحمن.

والرابع : مائة وعشرون سنة ، قاله زرارة بن أوفى ، وإياس بن معاوية. والخامس : عشرون سنة ، حكاه الحسن البصري. والسادس : سبعون سنة ، ذكره الفرّاء. والسابع : أنّ القرن : أهل كلّ مدّة كان فيها نبيّ ، أو طبقة من العلماء ، قلّت السّنون ، أو كثرت ؛ بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(٤٩٢) «خيركم قرني» يعني : أصحابي «ثمّ الذين يلونهم» يعني : التّابعين «ثمّ الذين يلونهم» يعني : الذين أخذوا عن التّابعين. فالقرن : مقدار التوسّط في أعمار أهل الزّمان ؛ فهو في كلّ قوم على مقدار أعمالهم.

واشتقاق القرن : من الاقتران. وفي معنى ذلك الاقتران قولان : أحدهما : أنّه سمّي قرنا ، لأنّه المقدار الذي هو أكثر ما يقترن فيه أهل ذلك الزّمان في بقائهم. هذا اختيار الزّجّاج. والثاني : أنّه سمّي قرنا ، لأنّه يقرن زمانا بزمان ، وأمّة بأمّة ، قاله ابن الأنباريّ. وحكى ابن قتيبة عن أبي عبيدة قال : يرون أنّ أقلّ ما بين القرنين : ثلاثون سنة.

قوله تعالى : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) قال ابن عبّاس : أعطيناهم ما لم نعطكم. يقال : مكّنته ومكّنت له : إذا أقدرته على الشّيء بإعطاء ما يصحّ به الفعل من العدة. وفي هذه الآية رجوع من الخبر إلى الخطاب. فأمّا السّماء : فالمراد بها المطر. ومعنى «أرسلنا» : أنزلنا. و «المدرار» : مفعال ، من درّ يدرّ ؛ والمعنى : نرسلها كثيرة الدّرّ. ومفعال : من أسماء المبالغة ، كقولهم : امرأة مذكار : إذا كانت كثيرة الولادة للذّكور ، وكذلك مئناث. فإن قيل : السّماء مؤنّثة ، فلم ذكّر مدرارا؟! فالجواب : أن حكم ما انعدل من النعوت عن منهاج الفعل وبنائه ، أن يلزم التّذكير في كلّ حال ، سواء كان وصفا لمذكّر أو مؤنّث ؛ كقولهم : امرأة مذكار ، ومعطار ؛ وامرأة مذكّر ، ومؤنث : وهي كفور ، وشكور. ولو

____________________________________

(٤٩١) ورد ذلك مرفوعا وهو حديث قوي. علقه البخاري في «التاريخ الكبير» ١ / ٣٢٣ و «الصغير» ١ / ٢١٦ قال : قال داود بن رشيد حدثنا أبو حياة شريح بن يزيد الحضرمي عن إبراهيم بن محمد بن زياد عن أبيه عن عبد الله بن بسر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يعيش هذا الغلام قرنا» ، فعاش مائة سنة. وذكره الهيثمي في «المجمع» ١٦١١٩ بأتم منه وقال رواه الطبراني والبزار باختصار إلا أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليدركن قرنا» ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب الحضرمي ، وهو ثقة ا ه.

وورد بنحوه عن الحسن بن أيوب الحضرمي قال : أراني عبد الله بن بسر شامة في قرنه فوضعت إصبعي عليها فقال : وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إصبعه عليها وقال : «لتبلغن قرنا» أخرجه أحمد ٤ / ١٨٩ والطبراني كما في «المجمع» ١٦١٢٠. قال الهيثمي : ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب ، وهو ثقة ، ورجال الطبراني ثقات ا ه. وانظر «الإصابة» ٢ / ٢٨١  ـ  ٢٨٢ (٤٥٦٥).

الخلاصة هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده.

(٤٩٢) حديث صحيح. لكن لفظ «يعني ...» ليس من الحديث. أخرجه البخاري ٢٦٥١ و ٣٦٥٠ و ٦٤٢٨ و ٦٦٩٥ ومسلم ٢١٤ و ٢١٥ و ٢٥٣٥ وأبو داود ٤٦٥٧ ، والترمذي ٢٢٢٢ والنسائي ٧ / ١٧ و ١٨ ، والطيالسي ٨٥٢ وأحمد ٤ / ٤٢٧ و ٤٣٦ و ٤٤٠ وابن حبان ٦٧٢٩. والبيهقي ١٠ / ١٢٣ و ١٦٠ وفي «الدلائل» ٦ / ٥٥٢. من حديث عمران بن حصين. وله شواهد.

__________________

(١) وقع في المطبوع «بشر» والمثبت عن كتب الحديث والتراجم.

١٠

بنيت هذه الأوصاف على الفعل ، لقيل : كافرة ، وشاكرة ، ومذكرة ؛ فلمّا عدل عن بناء الفعل ، جرى مجرى ما يستغني بقيام معنى التأنيث فيه عن العلامة ؛ كقولهم : النّعل لبستها ، والفأس كسرتها ، وكأنّ إيثارهم التّذكير للفرق بين المبنيّ على الفعل ، والمعدول عن مثل الأفاعيل. والمراد بالمدرار : المبالغة في اتصال المطر ودوامه ؛ يعنى : أنّها تدرّ وقت الحاجة إليها ؛ لا أنّها تدوم ليلا ونهارا ، فتفسد ، ذكره ابن الأنباريّ.

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

قوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ).

(٤٩٣) سبب نزولها : أنّ مشركي مكّة قالوا : يا محمّد ، والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ، ومعه أربعة من الملائكة ، يشهدون أنّه من عند الله ، وأنّك رسوله ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السّائب.

قال ابن قتيبة : والقرطاس : الصّحيفة ، يقال للرّامي إذا أصاب الصّحيفة : قرطس. قال شيخنا أبو منصور اللّغويّ : القرطاس قد تكلّموا به قديما. ويقال : إنّ أصله غير عربيّ. والجمهور على كسر قافه ، وضمّها أبو رزين ، وعكرمة ، وطلحة ، ويحيى بن يعمر.

فأما قوله تعالى : (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) فهو توكيد لنزوله ، وقيل : إنّما علّقه باللّمس باليد إبعادا له عن السّحر ، لأنّ السّحر يتخيّل في المرئيات دون الملموسات. ومعنى الآية : إنّهم يدفعون الصّحيح.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨))

قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) قال مقاتل :

(٤٩٤) نزلت في النّضر بن الحارث ، وعبد الله بن أبي أميّة ، ونوفل بن خويلد.

و «لولا» بمعنى «هلّا» (أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) نصدّقه : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) فعاينوه ولم يؤمنوا ، (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) ؛ وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ المعنى : لماتوا ، ولم يؤخّروا طرفة عين لتوبة ، قاله ابن عباس. والثاني : لقامت السّاعة ، قاله عكرمة ، ومجاهد. والثالث : لعجّل لهم العذاب ، قاله قتادة.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩))

____________________________________

(٤٩٣) لا أصل له. عزاه المصنف لابن السائب ، وهو محمد بن السائب الكلبي ، وهو ساقط الرواية ، ممن يضع الحديث. وعزاه البغوي ٢ / ١١٠ للكلبي ومقاتل ، ومقاتل أيضا يضع الحديث. وانظر «أسباب النزول» ٤٢٢ للواحدي.

(٤٩٤) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ابن سليمان حيث أطلق وهو كذاب ؛ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» ٣ / ٨ عن محمد بن إسحاق قال : دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم ، فيما بلغني ، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب ، والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث ، وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله في ذلك من قولهم.

١١

قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي : ولو جعلنا الرّسول إليهم ملكا ، لجعلناه في صورة رجل ، لأنّهم لا يستطيعون رؤية الملك على صورته ، (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ) أي : لشبّهنا عليهم. يقال : ألبست الأمر على القوم ، ألبسه ؛ أي : شبّهته عليهم ، وأشكلته. والمعنى : لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتّى يشكّوا ، فلا يدرون أملك هو أم آدمي؟ فأضللناهم بما به ضلّوا قبل أن يبعث الملك. وقال الزّجّاج : كانوا يلبسون على ضعفتهم في أمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقولون : إنّما هذا بشر مثلكم ؛ فقال تعالى : لو رأوا الملك رجلا ، لكان يلحقهم فيه من اللّبس مثل ما لحق ضعفتهم منه. وقرأ الزّهريّ ، ومعاذ القارئ ، وأبو رجاء : «وللبّسنا» ، بالتّشديد ، «عليهم ما يلبّسون» ، مشدّدة أيضا.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))

قوله تعالى : (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا) أي : أحاط. قال الزّجاج : الحيق في اللغة : ما اشتمل على الإنسان من مكروه فعله ، ومنه : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (١) ؛ أي : لا ترجع عاقبة مكروهه إلّا عليهم. قال السّدّيّ : وقع بهم العذاب الّذي استهزءوا به.

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢))

قوله تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) المعنى : فإن أجابوك ، وإلّا ف (قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) قال ابن عبّاس : قضى لنفسه أنّه أرحم الراحمين. قال الزّجّاج : ومعنى كتب : أوجب ذلك إيجابا مؤكّدا ، وجائز أن يكون كتب في اللّوح المحفوظ ؛ وإنّما خوطب الخلق بما يعقلون ، فهم يعقلون أنّ توكيد الشّيء المؤخّر أن يحفظ بالكتاب. وقال غيره : رحمته عامّة ؛ فمنها تأخير العذاب عن مستحقه ، وقبول توبة العاصي.

قوله تعالى : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) اللّام : لام القسم. كأنّه قال : والله ليجمعنّكم إلى اليوم الذي أنكرتموه. وذهب قوم إلى أنّ «إلى» بمعنى : «في» ثم اختلفوا ، فقال قوم : في يوم القيامة. وقال آخرون : في قبوركم إلى يوم القيامة.

قوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي : بالشّرك ، (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، لما سبق فيهم من القضاء. وقال ابن قتيبة : قوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) مردود إلى قوله : (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) الذين خسروا.

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣))

قوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ).

__________________

(١) سورة فاطر : ٤٣.

١٢

(٤٩٥) سبب نزولها أنّ كفار مكّة قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد علمنا أنّه إنّما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة ؛ فنحن نجعل لك نصيبا في أموالنا حتّى تكون من أغنانا رجلا ، وترجع عمّا أنت عليه ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عبّاس.

وفي معنى «سكن» قولان : أحدهما : أنّه من السّكنى. قال ابن الأعرابي : «سكن» بمعنى حلّ. والثاني : أنه من السّكون الّذي يضادّ الحركة. قال مقاتل : من المخلوقات ما يستقرّ بالنّهار ، وينتشر باللّيل ؛ ومنها ما يستقرّ باللّيل ، وينتشر بالنّهار. فإن قيل : لم خصّ السّكون بالذّكر دون الحركة؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنّ السكون أعمّ وجودا من الحركة. والثاني : أنّ كلّ متحرّك قد يسكن ، وليس كلّ ساكن يتحرّك. والثالث : أنّ في الآية إضمارا ؛ والمعنى : وله ما سكن وتحرّك ؛ كقوله تعالى (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (١) أراد : والبرد ؛ فاختصر.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤))

قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا).

(٤٩٦) ذكر مقاتل أن سبب نزولها ، أنّ كفّار قريش قالوا : يا محمد ، ألا ترجع إلى دين آبائك؟ فنزلت هذه الآية. وهذا الاستفهام معناه الإنكار ؛ أي : لا أتّخذ وليّا غير الله أتولّاه ، وأعبده ، وأستعينه.

قوله تعالى : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الجمهور على كسر راء «فاطر». وقرأ ابن أبي عبلة برفعها. قال أبو عبيدة : الفاطر ، معناه : الخالق. وقال ابن قتيبة : المبتدئ.

(٤٩٧) ومنه «كل مولود يولد على الفطرة» أي : على ابتداء الخلقة ، وهو الإقرار بالله حين أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم. وقال ابن عباس : كنت لا أدري ما فاطر السّماوات والأرض ، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ؛ فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي : أنا ابتدأتها. قال الزّجاج : إن قيل : كيف يكون الفطر بمعنى الخلق ؛ والانفطار الانشقاق في قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١))  (٢) فالجواب : إنما يرجعان إلى شيء واحد ، لأنّ معنى «فطرهما» : خلقهما خلقا قاطعا. والانفطار ، والفطور : تقطّع وتشقّق.

قوله تعالى : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) قرأ الجمهور بضمّ الياء من الثّاني ؛ ومعناه : وهو يرزق ولا

____________________________________

(٤٩٥) باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٢٣ من رواية الكلبي عن ابن عباس. وهذه رواية ساقطة ، الكلبي متروك كذاب. وقد روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا.

(٤٩٦) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، فخبره لا شيء.

(٤٩٧) حديث صحيح. أخرجه البخاري ١٣٥٨ و ١٣٨٥ و ١٣٥٩. ومسلم ٢٦٥٨ ٢٣٨٠ ، وأبو داود ٤٧٠٥ و ٤٧٠٦ والترمذي ٣١٥٠ ، والطيالسي ٢٤٣٣ وأحمد ٢ / ٢٥٣ و ٢٨٢ و ٣٤٦ و ٤٨١. وابن حبان ١٢٨ و ١٢٩ من حديث أبي هريرة ، وله شواهد.

__________________

(١) سورة النحل : ٨١.

(٢) سورة الانفطار : ١.

١٣

يرزق ، لأنّ بعض العبيد يرزق مولاه. وقرأ عكرمة والأعمش «ولا يطعم» بفتح الياء. قال الزّجاج : وهذا الاختيار عند البصراء بالعربية ، ومعناه : وهو يرزق ويطعم ولا يأكل.

قوله تعالى : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي : أول مسلم من هذه الأمّة ؛ (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قال الأخفش : معناه : وقيل لي : لا تكوننّ ، فصارت : أمرت ، بدلا من ذلك ؛ لأنه حين قال : أمرت ، قد أخبر أنه قيل له.

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥))

قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥))  زعم بعض المفسّرين أنّه كان يجب عليه أن يخاف عاقبة الذّنوب ، ثمّ نسخ ذلك بقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (١) ، والصّحيح أنّ الآيتين خبر ، والخبر لا يدخله النسخ ، وإنّما هو معلّق بشرط ، ومثله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٢).

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦))

قوله تعالى : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم (مَنْ يُصْرَفْ) بضم الياء وفتح الرّاء ، يعنون : العذاب. وقرأ حمزة والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم «يصرف» بفتح الياء وكسر الرّاء ؛ الضّمير قوله : (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) ؛ وممّا يحسّن هذه القراءة قوله تعالى : (فَقَدْ رَحِمَهُ) ، فقد اتّفق إسناد الضّميرين إلى اسم الله عزوجل ، ويعني بقوله : يصرف العذاب (يَوْمَئِذٍ) ، يعني : يوم القيامة ، (وَذلِكَ) يعني : صرف العذاب.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧))

قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) الضر : اسم جامع لكلّ ما يتضرّر به الإنسان ، من فقر ومرض وغير ذلك ؛ والخير : اسم جامع لكلّ ما ينتقع به الإنسان. وللمفسرين في الضّر والخير قولان : أحدهما : أنّ الضّر السّقم ؛ والخير : العافية. والثاني : أنّ الضّرّ : الفقر ، والخير : الغنى.

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨))

قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) القاهر : الغالب ، والقهر : الغلبة. والمعنى : أنّه قهر الخلق فصرفهم على ما أراد طوعا وكرها ؛ فهو المستعلي عليهم ، وهم تحت التّسخير والتذليل.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩))

قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً).

__________________

(١) سورة الفتح : ٣.

(٢) سورة الزمر : ٦٦.

١٤

(٤٩٨) سبب نزولها : أنّ رؤساء مكّة أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا محمد ، ما نرى أحدا يصدّقك بما تقول ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى ، فزعموا أنّه ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ، فأرنا من يشهد أنّك رسول الله ؛ فنزلت هذه الآية ؛ رواه أبو صالح عن ابن عبّاس.

ومعنى الآية : قل لقريش : أي شيء أعظم شهادة؟ فإن أجابوك ، وإلّا فقل : الله ، وهو شهيد بيني وبينكم على ما أقول. وقال الزّجّاج : أمره الله تعالى أن يحتجّ عليهم بأنّ شهادة الله عزوجل في نبوّته أكبر شهادة ، وأنّ القرآن الذي أتى به ، يشهد له أنّه رسول الله ، وهو قوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) ففي الإنذار به دليل على نبوّته ، لأنّه لم يأت أحد بمثله ، ولا يأتي ؛ وفيه خبر ما كان وما يكون ؛ ووعد فيه بأشياء ، فكانت كما قال. وقرأ عكرمة ، وابن السّميفع ، والجحدريّ «وأوحى إليّ» بفتح الهمزة والحاء «القرآن» بالنّصب ؛ فأمّا «الإنذار» ، فمعناه : التّخويف ، ومعنى (وَمَنْ بَلَغَ) أيّ : من بلغ إليه هذا القرآن ، فإني نذير له. قال القرظيّ : من بلغه القرآن فكأنّما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكلّمه.

(٤٩٩) وقال أنس بن مالك : لمّا نزلت هذه الآية ، كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كسرى وقيصر وكلّ جبّار يدعوهم إلى الله عزوجل.

قوله تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) هذا استفهام معناه الإنكار عليهم. قال الفرّاء : وإنّما قال : «أخرى» ولم يقل : «آخر» لأنّ الآلهة جمع ؛ والجمع يقع عليه التأنيث ، كما قال : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (١). وقال : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) (٢).

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠))

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ، في الكتاب قولان : أحدهما : أنّه التّوراة والإنجيل ؛ وهذا قول الجمهور. والثاني : أنّه القرآن.

وفي هاء (يَعْرِفُونَهُ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنّها ترجع إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله السّدّيّ.

(٥٠٠) وروي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال لعبد الله بن سلام : إنّ الله قد أنزل على نبيّه بمكّة (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) ، فكيف هذه المعرفة؟ فقال : لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ، ولأنا أشدّ معرفة بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منّي بابني. فقال عمر : وكيف ذاك؟ فقال : إنّي أشهد أنه رسول الله حقا ، ولا أدري ما يصنع النساء (٣).

____________________________________

(٤٩٨) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس وراويته هو الكلبي وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٢٤ عن الكلبي والكلبي ممن يضع الحديث ، فالخبر لا شيء.

(٤٩٩) باطل ، عزاه السيوطي في «الدر» ٣ / ١٢  ـ  ١٣ لأبي الشيخ وابن مردويه عن أنس ، ولم أقف على إسناده وهو باطل لتفردهما به ، ولأن السورة مكية وقد كتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الملوك في العهد المدني وليس في مكة.

(٥٠٠) عزاه السيوطي في «الدر» ١ / ٢٧١ للثعلبي من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس وهي رواية ساقطة. السدي هذا متروك متهم ، والكلبي يضع الحديث. وورد من وجوه أخر واهية ، لا تقوم بها حجة.

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٨١.

(٢) سورة طه : ٥٢.

(٣) أي ما أحدث النساء ، فلعل الولد ليس من زوج المرأة.

١٥

والثاني : أنّها ترجع إلى الدّين والنّبي. فالمعنى : يعرفون الإسلام أنّه دين الله عزوجل ، وأنّ محمدا رسول الله ، قاله قتادة. والثالث : أنّها ترجع إلى القرآن. فالمعنى : يعرفون الكتاب الدال على صدقه ؛ ذكره الماوردي.

وفي (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) قولان : أحدهما : أنّهم مشركو مكّة. والثاني : كفّار أهل الكتابين.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١))

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي : اختلق على الله الكذب في ادّعاء شريك معه. وفي «آياته» قولان : أحدهما : أنّها محمّد والقرآن ، قاله ابن السّائب. والثاني : القرآن ، قاله مقاتل. والمراد بالظّلم المذكور في هذه الآية : الشّرك.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢))

قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) انتصب «اليوم» بمحذوف تقديره : واذكر يوم نحشرهم. قال ابن جرير : والمعنى : لا يفلحون اليوم ، ولا يوم نحشرهم. وقرأ يعقوب : «يحشرهم» «ثم يقول» بالياء فيهما. وفي الذين عنى قولان : أحدهما : المسلمون والمشركون. والثاني : العابدون والمعبودون.

وقوله : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) سؤال توبيخ. والمراد بشركائهم : الأوثان ؛ وإنّما أضافها إليهم لأنّهم زعموا أنّها شركاء لله. وفي معنى (تَزْعُمُونَ) قولان : أحدهما : يزعمون أنّهم شركاء مع الله. والثاني : يزعمون أنها تشفع لهم.

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣))

قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «ثم لم تكن» بالتّاء ، «فتنتهم» بالرّفع. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : «تكن» بالتّاء أيضا ، «فتنتهم» بالنّصب ؛ وقد رويت عن ابن كثير أيضا. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «يكن» بالياء ، «فتنتهم» بالنّصب. وفي «الفتنة» أربعة أقوال (١) : أحدها : أنّها بمعنى الكلام والقول. قال ابن عبّاس ، والضّحّاك : لم يكن كلامهم. والثاني : أنّها المعذرة. قال قتادة ، وابن زيد : لم تكن معذرتهم. قال ابن الأنباريّ : فالمعنى : اعتذروا بما هو مهلك لهم ، وسبب لفضيحتهم. والثالث : أنّها بمعنى البليّة. قال عطاء الخراسانيّ : لم تكن بليّتهم. وقال أبو عبيد : لم تكن بليّتهم الّتي ألزمتهم الحجّة ، وزادتهم لائمة. والرابع : أنّها بمعنى الافتتان. والمعنى : لم تكن عاقبة فتنتهم.

قال الزّجّاج : لم يكن افتتانهم بشركهم ، وإقامتهم عليه ، إلا أن تبرؤوا منه. ومثل ذلك في اللغة

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ٥ / ١٦٦ والصواب من القول في ذلك أن يقال : معناه : ثم لم يكن قبلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله ، (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فوصفت «الفتنة» موضع «القول» لمعرفة السامعين معنى الكلام. وإنما الفتنة التي هي الاختبار والابتلاء ولكن لما كان الجواب من القوم غير واقع هنالك إلا عند الاختبار ، وضعت «الفتنة» التي هي الاختبار موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم ا. ه.

١٦

أن ترى إنسانا يحبّ غاويا ، فإذا وقع في هلكة تبرّأ منه ؛ فيقول : ما كانت محبّتك لفلان إلّا أن انتفيت منه. قال : وهذا تأويل لطيف ، لا يعرفه إلّا من عرف معاني الكلام ، وتصرّف العرب في ذلك. وقال ابن الأنباري : المعنى : أنّهم افتتنوا بقولهم هذا ، إذ كذبوا فيه ، ونفوا عن أنفسهم ما كانوا معروفين به في الدنيا.

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «والله ربنا» بكسر الباء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف : بنصب الباء. وفي هؤلاء القوم الذين هذا وصفهم قولان (١) : أحدهما : أنّهم المشركون. والثاني : المنافقون.

ومتى يحلفون؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها : إذا رأوا أنّه لا يدخل الجنّة إلّا من كان مسلما ، قالوا : تعالوا نكابر عن شركنا ، فحلفوا ، قاله ابن عبّاس. والثاني : أنّهم إذا دخلوا النّار ، ورأوا أهل التّوحيد يخرجون ، فحلفوا واعتذروا ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد. والثالث : أنّهم إذا سئلوا : أين شركاؤكم؟ تبرّؤوا ، وحلفوا : ما كنا مشركين ، قاله مقاتل.

(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))

قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي : باعتذارهم بالباطل. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : ذهب ما كانوا يدّعون ويختلقون من أنّ الأصنام شركاء لله ، وشفعاؤهم في الآخرة.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦))

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ).

(٥٠١) سبب نزولها : أنّ نفرا من المشركين ، منهم عتبة ، وشيبة ، والنّضر بن الحارث ، وأميّة وأبيّ ابنا خلف ، جلسوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستمعوا إليه ، ثمّ قالوا للنّضر بن الحارث : ما يقول محمّد؟ فقال : والّذي جعلها بنيّة ، ما أدري ما يقول؟ إلّا أنّي أرى تحرّك شفتيه ، وما يقول إلّا أساطير الأوّلين ، مثلما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية ؛ وكان النّضر كثير الحديث عن القرون الأولى ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عبّاس.

فأمّا «الأكنّة» ، فقال الزّجّاج : هي جمع كنان ، وهو الغطاء ؛ مثل عنان وأعنّة.

____________________________________

(٥٠١) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وهي رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٢٥. تعليقا بقوله : قال ابن عباس في رواية أبي صالح ... فذكره فهذه علة وثمّ علة ثانية : أبو صالح ، اسمه باذام ضعفه غير واحد ، ولم يلق ابن عباس وذكره الواحدي في «الوسيط» ٢ / ٢٦١ بقوله : نزلت. من غير عزو لقائل.

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير ، ٢ / ١٦٤ : وقال الضحاك عن ابن عباس : هذه في المنافقين ، وفي هذا نظر فإن هذه الآية مكية والمنافقون إنما كانوا بالمدينة والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ) ..

١٧

وأمّا : «أن يفقهوه» ، فمنصوب على أنّه مفعول له. المعنى : وجعلنا على قلوبهم أكنّة لكراهة أن يفقهوه ، فلما حذفت اللّام ، نصبت الكراهة ؛ ولمّا حذفت الكراهة ، انتقل نصبها إلى «أن».

«الوقر» : ثقل السّمع ، يقال : في أذنه وقر ، وقد وقرت الأذن توقر. قال الشاعر :

وكلام سيّئ قد وقرت

أذني عنه وما بي من صمم (١)

والوقر ، بكسر الواو ؛ أن يحمّل البعير وغيره مقدار ما يطيق ، يقال : عليه وقر ، ويقال : نخلة موقر ، وموقرة ، وإنّما فعل ذلك بهم مجازاة لهم بإقامتهم على كفرهم ، وليس المعنى أنّهم لم يفهموه ، ولم يسمعوه ؛ ولكنّهم لمّا عدلوا عنه ، وصرفوا فكرهم عمّا عليهم في سوء العاقبة ، كانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع. (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ) أي : كلّ علامة تدلّ على رسالتك ، (لا يُؤْمِنُوا بِها). ثمّ أعلم الله عزوجل مقدار احتجاجهم وجدلهم ، وأنّهم إنّما يستعملون في الاحتجاج أن يقولوا : (إِنْ هذا) ، أي : ما هذا (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وفيها قولان :

أحدهما : أنّها ما سطّر من أخبارهم وأحاديثهم. روى أبو صالح عن ابن عبّاس قال : أساطير الأولين : كذبهم ، وأحاديثهم في دهرهم. وقال أبو الحسن الأخفش : يزعم بعضهم أنّ واحدة الأساطير : أسطورة. وقال بعضهم : أسطارة ؛ ولا أراه إلّا من الجمع الّذي ليس له واحد ، نحو عباديد ومذاكير وأبابيل. وقال ابن قتيبة : أساطير الأوّلين : أخبارهم وما سطر منها ، أي : ما كتب ، ومنه قوله تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) (٢) أي : يكتبون ، واحدها سطر ، ثم أسطار ، ثم أساطير جمع الجمع ، مثل قول ، وأقوال ، وأقاويل.

والقول الثاني : أنّ معنى أساطير الأوّلين : التّرّهات. قال أبو عبيدة : واحد الأساطير : أسطورة ، وإسطارة ، ومجازها مجاز الترّهات. قال ابن الأنباريّ : التّرّهات عند العرب : طرق غامضة ، ومسالك مشكلة ، يقول قائلهم : قد أخذنا في ترّهات البسابس ، يعني : قد عدلنا عن الطّريق الواضح إلى المشكل ؛ وعمّا يعرف إلى ما لا يعرف. و «البسابس» : الصّحاري الواسعة ، والتّرّهات : طرق تتشعّب من الطريق الأعظم ، فتكثر وتشكل ، فجعلت مثلا لما لا يصحّ وينكشف.

فإن قيل : لم عابوا القرآن بأنّه أساطير الأوّلين ، وقد سطر الأوّلون ما فيه علم وحكمة ، وما لا عيب على قائله؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنّهم نسبوه إلى أنّه ليس بوحي من الله. والثاني : أنّهم عابوه بالإشكال والغموض ، استراحة منهم إلى البهت والباطل. فعلى الجواب الأوّل تكون «أساطير» من التّسطير ، وعلى الثّاني تكون بمعنى التّرهات ، وقد شرحنا معنى التّرّهات.

قوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) في سبب نزولها قولان :

(٥٠٢) أحدهما : أنّ أبا طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويتباعد عمّا جاء

____________________________________

(٥٠٢) أخرجه الحاكم ٢ / ٣١٥ والواحدي ٤٢٦ كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت عن سعد بن جبير عن ابن عباس به ، وحبيب مدلس وقد عنعن ورواه عبد الرزاق في «تفسيره» ٧٨٥ والطبري ١٣١٧٣ و ١٣١٧٤ و ١٣١٧٥ من

__________________

(١) البيت : للمثقب العبدي في قصيدة حكمية جيدة أثبتها صاحب «المفضليات» ٢٩٣.

(٢) سورة القلم : ١.

١٨

به ، فنزلت فيه هذه الآية ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عبّاس ، وهو قول عمرو بن دينار ، وعطاء بن دينار ، والقاسم بن مخيمرة.

(٥٠٣) وقال مقاتل : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام ، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوءا ، فسألوا أبا طالب أن يدفعه إليهم ، فيقتلوه ، فقال : ما لي عنه صبر ؛ فقالوا : ندفع إليك من شبابنا من شئت مكان ابن أخيك ، فقال أبو طالب : حين تروح الإبل ، فإن حنّت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم ، وقال :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتّى أوسّد في التّراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر وقرّ بذاك منك عيونا

وعرضت دينا لا محالة أنّه

من خير أديان البريّة دينا

لو لا الملامة أو حذاري سبّة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا (١)

فنزلت فيه هذه الآية

(٥٠٤) والثاني : أنّ كفّار مكّة كانوا ينهون النّاس عن اتّباع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويتباعدون بأنفسهم عنه ، رواه الوالبيّ عن ابن عبّاس ، وبه قال ابن الحنفية ، والضّحّاك ، والسّدّى. فعلى القول الأول ، يكون قوله تعالى : «وهم» كناية عن واحد ؛ وعلى الثاني : عن جماعة. وفي هاء «عنه» قولان :

أحدهما : أنّها ترجع إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم فيه قولان (٢). أحدهما : ينهون عن أذاه ؛ والثاني : عن اتّباعه. والقول الثاني : أنّها ترجع إلى القرآن ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد. (وَيَنْأَوْنَ) بمعنى

____________________________________

طريق الثوري عن حبيب عمن سمع ابن عباس عن ابن عباس ، وهذا أصح فالإسناد فيه راو مجهول ومع ذلك صححه الحاكم! وسكت عنه الذهب!. ولا يصح وما يأتي عن ابن عباس أرجح ، وانظر «تفسير الشوكاني» ٨٩٠ بتخريجنا.

(٥٠٣) عزاه المصنف لمقاتل ، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٢٦ عن مقاتل بدون إسناد ومع ذلك فهو معضل ، ومقاتل هو ابن سليمان متهم بالكذب والخبر لم يصح بكل حال وهو واه بمرة.

(٥٠٤) أخرجه الطبري ١٣١٦٣ والبيهقي ٢ / ٣٤١ من طريق علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس ، وفيه إرسال بينهما. وله شواهد عند الطبري عن ابن الحنفية ١٣١٦٢ وعن السدي ١٣١٦٤. وفي الباب روايات.

__________________

(١) نسب المصنف هذه الأبيات لأبي طالب ولم يصح ذلك من جهة الإسناد كما تقدم.

قوله «غضاضة» : الغض من الشيء التنقص «والتوسد» كناية عن الموت.

(٢) قال الطبري في «تفسيره» ٥ / ١٧٣ : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، قول من قال : تأويله (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) عن اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سواهم من الناس وينأون عن اتباعه. وذلك أن الآيات قبلها جرت بذكر جماعة المشتركين العادين به. والخبر عن تكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإعراض عما جاءهم به من تنزيل الله ووحيه ، فالواجب أن يكون قوله : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) خبرا عنهم ، إذا لم يأتنا ما يدل على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم ، بل ما قبل هذه الآية وما بعدها ، يدل على صحة ما قلنا من أن ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دون أن يكون خبرا عن خاص منهم. وإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : وإن ير هؤلاء المشركون يا محمد ، كل آية لا يؤمنوا بها ، حتى إذا جاءوك يجادلونك يقولون : «إن هذا الذي جئتنا به إلا أحاديث الأولين وأخبارهم». وهم ينهون من استماع التنزيل. وينأون عنك فيبعدون منك ومن أتباعك ا ه.

١٩

يبعدون. وفي هاء «عنه» قولان : أحدهما : أنها راجعة إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثاني : إلى القرآن.

قوله تعالى : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) أي : وما يهلكون (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بالتّباعد عنه (وَما يَشْعُرُونَ) أنّهم يهلكونها.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧))

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) في معنى «وقفوا» ستّة أقوال. أحدها : حبسوا عليها ، قاله ابن السّائب. والثاني : عرضوا عليها ، قاله مقاتل. والثالث : عاينوها. والرابع : وقفوا عليها وهي تحتهم. والخامس : دخلوا إليها فعرفوا مقدار عذابها ، تقول : وقفت على ما عند فلان ، أي فهمته وتبيّنته ، ذكر هذه الأقوال الثّلاثة الزّجّاج ، واختار الأخير. وقال ابن جرير : (عَلَى) هاهنا بمعنى «في». السادس : جعلوا عليها وقفا ، كالوقوف المؤبّدة على سبلها ، ذكره الماورديّ. والخطاب بهذه الآية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والوعيد للكفّار ، وجواب «لو» محذوف ، ومعناه : لو رأيتهم في تلك الحال ، لرأيت عجبا.

قوله تعالى : (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم برفع الباء من «نكذب» ؛ والنّون من «نكون».

قال الزّجّاج : والمعنى أنّهم تمنّوا الرّدّ ، وضمنوا أنّهم لا يكذّبون. والمعنى : يا ليتنا نردّ ، ونحن لا نكذّب بآيات ربنا ، رددنا أو لم نردّ ، ونكون من المؤمنين ، لأنّا قد عاينّا مالا نكذّب معه أبدا. قال : ويجوز الرّفع على وجه آخر ، على معنى «يا ليتنا نرد» ، يا ليتنا لا نكذّب ، كأنّهم تمنّوا الرّدّ والتوفيق للتصديق. وقال الأخفش : إذا رفعت جعلته على مثل اليمين ، كأنّهم قالوا : ولا نكذّب  ـ  والله  ـ  بآيات ربّنا ، ونكون  ـ  والله  ـ  من المؤمنين. وقرأ حمزة إلا العجليّ (١) ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب : بنصب الباء من «نكذب» ، والنون من «نكون». قال مكّي بن أبي طالب : وهذا النّصب على جواب التّمني ، وذلك بإضمار «أن» ، حملا على مصدر «نرد» ، فأضمرت «أن» لتكون مع الفعل مصدرا ، فعطف بالواو مصدرا على مصدر. وتقديره : يا ليت لنا ردّا ، وانتفاء من التّكذيب ، وكونا من المؤمنين. وقرأ ابن عامر برفع الباء من «نكذب» ، ونصب النون من «نكون» ؛ بالرّفع قد بيّنا علّته ، والنصب على جواب التّمني.

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩))

قوله تعالى : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) «بل» : ها هنا ردّ لكلامهم ، أي : ليس الأمر على ما قالوا من أنّهم لو ردّوا لآمنوا. وقال الزّجّاج : «بل» استدراك وإيجاب بعد نفي ؛ تقول : ما جاء زيد بل عمرو.

وفي معنى الآية أربعة أقوال : أحدها : بدا ما كان يخفيه بعضهم عن بعض ، قاله الحسن. والثاني : بدا بنطق الجوارح ما كانوا يخفون من قبل بألسنتهم ، قاله مقاتل. والثالث : بدا لهم جزاء ما كانوا

__________________

(١) العجلي : هو أبو أحمد عبد الله بن صالح بن مسلم بن صالح العجلي الكوفي نزيل بغداد مقرئ مشهور ثقة.

أخذ القراءة عرضا عن حمزة الزيات وعن سليم عن حمزة أيضا ، مات في حدود العشرين ومائتين.

٢٠