زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٥

ابن زيد : كانوا لا يأكلون ما جعلوه لله حتى يذكروا عليه اسم أوثانهم ، ولا يذكرون الله على ما جعلوه للأوثان. فأمّا قوله : «بزعمهم» فقرأ الجمهور : بفتح الزّاي ؛ وقرأ الكسائيّ ، والأعمش : بضمّها. وفي الزّعم ثلاث لغات : ضمّ الزّاي ، وفتحها ، وكسرها ومثله : السّقط ، والسّقط ؛ والسّقط والفتك ؛ والفتك ، والفتك ؛ والزّعم ، والزّعم ، والزّعم ، قال الفرّاء : فتح الزاي في الزّعم ، لأهل الحجاز ؛ وضمّها لأسد ؛ وكسرها لبعض قيس فيما يحكي الكسائيّ.

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧))

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ) أي : ومثل ذلك الفعل القبيح فيما قسموا بالجهل زيّن. قال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون «وكذلك» مستأنفا ، غير مشار به إلى ما قبله ؛ فيكون المعنى : وهكذا زيّن. وقرأ الجمهور : «زيّن» بفتح الزّاي والياء ، ونصب اللام من «قتل» ، وكسر الدّال من «أولادهم» ، ورفع «الشّركاء» ؛ ووجه هذه القراءة ظاهر. وقرأ ابن عامر : بضمّ زاي «زين» ، ورفع اللام ، ونصب الدّال من «أولادهم» ، وخفض «الشّركاء». قال أبو عليّ : ومعناها : قتل شركائهم أولادهم ؛ ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به ، وهذا قبيح ، قليل في الاستعمال. وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلميّ ، والحسن : «زين» بالرفع ، «قتل» بالرّفع أيضا ، «أولادهم» بالجرّ ، «شركاؤهم» رفعا. قال الفرّاء : رفع القتل إذا لم يسمّ فاعله ، ورفع الشّركاء بفعل نواه ، كأنه قال : زيّنه لهم شركاؤهم. وكذلك قال سيبويه في هذه القراءة ؛ كأنه قيل : من زيّنه؟ فقال : شركاؤهم. قال مكّيّ بن أبي طالب : وقد روي عن ابن عامر أيضا أنه قرأ بضمّ الزّاي ، ورفع اللام ، وخفض الأولاد والشّركاء ؛ فيصير الشّركاء اسما للأولاد ، لمشاركتهم للآباء في النّسب والميراث والدّين.

وللمفسرين في المراد بشركائهم أربعة أقوال : أحدها : أنهم الشّياطين ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : شركاؤهم في الشّرك ، قاله قتادة. والثالث : قوم كانوا يخدمون الأوثان ، قاله الفرّاء ، والزّجّاج. والرابع : أنهم الغواة من الناس ، ذكره الماوردي. وإنما أضيف الشركاء إليهم ، لأنّهم هم الذين اختلقوا ذلك وزعموه.

وفي الذي زيّنوه لهم من قتل أولادهم قولان : أحدهما : أنه وأد البنات أحياء خيفة الفقر ، قاله مجاهد. والثاني : أنه كان يحلف أحدهم أنه إن ولد له كذا وكذا غلاما أن ينحر أحدهم ، كما حلف عبد المطّلب في نحر عبد الله ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل.

قوله تعالى : (لِيُرْدُوهُمْ) أي : ليهلكوهم. وفي هذه اللام قولان : أحدهما : أنّها لام «كي». والثاني : أنّها لام العاقبة ، كقوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) (١) أي : آل أمرهم إلى الرّدى ، لا أنهم قصدوا ذلك. قوله تعالى : (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي : ليخلطوا. قال ابن عباس : ليدخلوا عليهم الشّكّ في دينهم ؛ وكانوا على دين إسماعيل ، فرجعوا عنه بتزيين الشّياطين.

__________________

(١) سورة القصص : ٨.

٨١

قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) قال ابن عباس : كان أهل الجاهليّة إذا دفنوا بناتهم قالوا : إنّ الله أمرنا بذلك ؛ فقال : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) ؛ أي : يكذبون ؛ وهذا تهديد ووعيد ، فهو محكم ، وقال قوم : مقصوده ترك قتالهم ، فهو منسوخ بآية السيف.

(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨))

قوله تعالى : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) الحرث : الزّرع ، والحجر : الحرام ؛ والمعنى : أنهم حرّموا أنعاما وحرثا جعلوه لأصنامهم. قال ابن قتيبة : وإنما قيل للحرام : حجر ، لأنه حجر على الناس أن يصيبوه. وقرأ الحسن ، وقتادة : «حجر» بضمّ الحاء. قال الفرّاء : يقال : حجر ، وحجر ، بكسر الحاء وضمّها ؛ وهي في قراءة ابن مسعود : «حرج» ، مثل : «جذب» و «جبذ». وفي هذه الأنعام التي جعلوها للأصنام قولان : أحدهما : أنّها البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة ، والحام. والثاني : أنّها الذّبائح للأوثان ، وقد سبق ذكرهما.

قوله تعالى : (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ) هو كقولك : لا يذوقها إلّا من نريد. وفيمن أطلقوا له تناولها قولان : أحدهما : أنهم منعوا منها النّساء ، وجعلوها للرّجال ، قاله ابن السّائب. والثاني : عكسه ، قاله ابن زيد. قال الزّجّاج : أعلم الله عزوجل أنّ هذا التحريم زعم منهم ، لا حجّة فيه ولا برهان. وفي قوله تعالى : (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الحام ، قاله ابن عباس. والثاني : البحيرة ، كانوا لا يحجّون عليها ، قاله أبو وائل. والثالث : البحيرة ، والسّائبة ، والحام ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) هي قربان آلهتهم ، يذكرون عليها اسم الأوثان خاصّة. وقال أبو وائل. هي التي كانوا لا يحجّون عليها ؛ وقد ذكرنا هذا عنه في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ ظُهُورُها) ، فعلى قوله ، الصّفتان لموصوف واحد. وقال مجاهد : كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء ؛ لا إن ركبوا ولا إن حملوا ولا إن حلبوا ، ولا إن نتجوا. وفي قوله تعالى : (افْتِراءً عَلَيْهِ) قولان : أحدهما : أنّ ذكر أسماء أوثانهم وترك ذكر الله! هو الافتراء. والثاني : أنّ إضافتهم ذلك إلى الله تعالى ، هو الافتراء ؛ لأنّهم كانوا يقولون : هو حرّم ذلك.

(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩))

قوله تعالى : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ) يعني بالأنعام : المحرّمات عندهم ، من البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة. وللمفسّرين في المراد بما في بطونها ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنه اللبن ،

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ٥ / ٣٥٨  ـ  ٣٥٩ : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عزوجل أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يقولون لما في بطون هذه الأنعام  ـ  يعني أنعامهم  ـ  : «هذا محرم على أزواجنا» و «الأزواج» إنما هي نساؤهم في كلامهم ، وهن لا شك بنات من هن أولاده ، وحلائل من هن أزواجه. وفي قوله الله عزوجل : (وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) الدليل الواضح على أن تأنيث «الخالصة» كان لما وصفت من

٨٢

قاله ابن عباس ، وقتادة. والثاني : الأجنّة ، قاله مجاهد. والثالث : الولد واللبن ، قاله السّدّيّ ، ومقاتل.

قوله تعالى : (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا) قرأ الجمهور : «خالصة» على لفظ التأنيث. وفيها أربعة أوجه. أحدها : أنه إنّما أنّثت ، لأنّ الأنعام مؤنثة ، وما في بطونها مثلها ، قاله الفرّاء. والثاني : أنّ معنى «ما» التأنيث ، لأنها في معنى الجماعة ؛ فكأنه قال : جماعة ما في بطون هذه الأنعام خالصة ، قاله الزّجّاج. والثالث : أنّ الهاء دخلت للمبالغة في الوصف ، كما قالوا : «علّامة» و «نسّابة». والرابع : أنه أجري مجرى المصادر التي تكون بلفظ التأنيث عن الأسماء المذكّرة كقولك : عطاؤك عافية ، والرّخص نعمة ، ذكرهما ابن الأنباري. وقرأ ابن مسعود ، وأبو العالية ، والضّحّاك ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : «خالص» بالرفع ، من غير هاء. قال الفرّاء : وإنما ذكر لتذكير «ما». وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وعكرمة ، وابن يعمر : «خالصه» برفع الصاد والهاء على ضمير مذكّر ، قال الزّجّاج : والمعنى : ما خلص حيّا. وقرأ قتادة : «خالصة» بالنّصب. فأمّا الذّكور ، فهم الرجال ، والأزواج : النساء.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً) قرأ الأكثرون : «يكن» بالياء ، «ميتة» بالنّصب ؛ وذلك مردود على لفظ «ما». والمعنى وإن يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة. وقرأ ابن كثير : «يكن» بالياء ، «ميتة» بالرّفع. وافقه ابن عامر في رفع الميتة ؛ غير أنه قرأ : «تكن» بالتاء. والمعنى : وإن تحدث وتقع ، فجعل «كان» : تامّة لا تحتاج إلى خبر. وقرأ أبو بكر عن عاصم : «تكن» بالتاء ، «ميتة» بالنّصب. والمعنى : وإن تكن الأنعام التي في البطون ميتة.

قوله تعالى : (فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) يعني الرّجال والنّساء. (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) قال الزّجّاج : أراد جزاء وصفهم الذي هو كذب.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠))

قوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ) وقرأ ابن كثير ، وابن عامر : «قتلوا» بالتّشديد. قال ابن عباس : نزلت في ربيعة ، ومضر ، والذين كانوا يدفنون بناتهم أحياء في الجاهلية من العرب. وقال قتادة : كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم بنته مخافة السّبي والفاقة ، ويغذو كلبه. قال الزّجّاج : وقوله : «سفها» منصوب على معنى اللام. تقديره : للسّفه ؛ تقول : فعلت ذلك حذر الشّرّ. وقرأ ابن السّميفع ، والجحدريّ ، ومعاذ القارئ : «سفهاء» برفع السين وفتح الفاء والهمزة بالمدّ وبالنّصب والهمز.

قوله تعالى : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : أي : كانوا يفعلون ذلك للسّفه من غير أن أتاهم علم في ذلك ؛ وحرّموا ما رزقهم الله من الأنعام والحرث ، وزعموا أنّ الله أمرهم بذلك.

____________________________________

المبالغة في وصف ما في بطون الأنعام بالخلوصة للذكور ، لأنه لو كان لتأنيث الأنعام لقيل : «ومحرمة على أزواجنا» ولكن لما كان التأنيث في «الخالصة» لما ذكرت ، ثم لم يقصد في «المحرم» ما قصد في «الخالصة» من المبالغة ، رجع فيها إلى تذكير «ما» واستعمال ما هو أولى به من صفته ا. ه.

٨٣

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١))

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) فيه أربعة أقوال :

أحدها : أنّ المعروشات ما انبسط على وجه الأرض ، فانتشر مما يعرّش ، كالكرم ، والقرع ، والبطيخ ؛ وغير معروشات : ما قام على ساق ، كالنّخل ، والزّرع ، وسائر الأشجار. والثاني : أنّ المعروشات : ما أنبته الناس ؛ وغير معروشات : ما خرج في البراري والجبال من الثّمار ، رويا عن ابن عباس. والثالث : أنّ المعروشات ، وغير المعروشات : الكرم ، منه ما عرش ، ومنه ما لم يعرّش ، قاله الضّحّاك. والرابع : أنّ المعروشات : الكروم التي قد عرّش عنبها ، وغير المعروشات : سائر الشّجر الذي لا يعرّش ، قاله أبو عبيدة.

والأكل : الثّمر. (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً) قد سبق تفسيره.

قوله تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) هذا أمر إباحة ؛ وقيل : إنّما قدّم الأكل لينهى عن فعل الجاهليّة في زروعهم من تحريم بعضها.

قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قرأ ابن عامر ، وعاصم وأبو عمرو : بفتح الحاء ، وهي لغة أهل نجد ، وتميم. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والكسائيّ : بكسرها ، وهي لغة أهل الحجاز ، ذكره الفرّاء. وفي المراد بهذا الحقّ قولان (١) : أحدهما : أنه الزّكاة ، روي عن أنس بن مالك ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيّب ، والحسن ، وطاوس ، وجابر بن زيد ، وابن الحنفيّة ، وقتادة في آخرين ؛ فعلى هذا ، الآية محكمة. والثاني : أنه حقّ غير الزّكاة فرض يوم الحصاد ، وهو إطعام من حضر ، وترك ما سقط من الزّرع والثّمر ، قاله عطاء ومجاهد.

وهل نسخ ذلك ، أم لا؟ إن قلنا : إنه أمر وجوب ، فهو منسوخ بالزّكاة ؛ وإن قلنا : إنه أمر استحباب ، فهو باقي الحكم. فإن قيل : هل يجب إيتاء الحقّ يوم الحصاد؟ فالجواب : إن قلنا : إنه

__________________

(١) قال الإمام ابن العربي في «أحكام القرآن» ٢ / ٢٨٢. الآية (وَآتُوا حَقَّهُ) : اختلف في تفسير هذا الحق على ثلاثة أقوال : الأول : أنه الصدقة المفروضة ، قاله سعيد بن المسيب وغيره ، ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية. الثاني : أنها الصدقة في المفروضة تكون يوم الحصاد وعند الصرام وهي إطعام من حضر والإيتاء لمن غير قاله مجاهد. الثالث : أن هذا منسوخ بالزكاة قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير. وقد زعم قوم أن هذا اللفظ مجمل ولم يحصلوا القول فيه ، وحقيقة الكلام عليه : أن قوله (آتُوا) مفسر ، وقوله (حَقَّهُ) مفسر في المؤتى ، مجمل في المقدار. وإنما يقع النظر في رفع الإشكال الذي أنشأه احتمال هذه الأقوال. وقد بينا فيما سبق وجه أنه ليس في الماء حق سوى الزكاة ، وتحقيقه في القسم الثاني من علوم القرآن ، وفي سورة البقرة من هذا التأليف ، وثبت أن المراد بذلك ها هنا الصدقة المفروضة. وقد أفادت هذه الآية وجوب الزكاة فيما سمى الله سبحانه ، وأفادت بيان ما يجب فيه من مخرجات الأرض التي أجملها الله في قوله (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) [البقرة : ٢٦٧] وفسرها ها هنا ، فكانت آية البقرة عامة في المخرج كله مجملة في القدر ، فبينه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أمر بأن يبين للناس ما نزل إليهم.

٨٤

إطعام من حضر من الفقراء ، فذلك يكون يوم الحصاد ؛ وإن قلنا : إنه الزّكاة ، فقد ذكرت عنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنّ الأمر بالإيتاء محمول على النّخيل ، لأنّ صدقتها تجب يوم الحصاد. فأمّا الزّروع ، فالأمر بالإيتاء منها محمول على وجوب الإخراج ؛ إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد ؛ فيؤخّر إلى زمان التّنقية ، ذكره بعض السّلف. والثاني : أنّ اليوم ظرف للحقّ ، لا للإيتاء ؛ فكأنّه قال : وآتوا حقّه الذي وجب يوم حصاده بعد التّنقية. والثالث : أنّ فائدة ذكر الحصاد أنّ الحقّ لا يجب فيه بنفس خروجه وبلوغه ، إنّما يجب يوم حصوله في يد صاحبه. وقد كان يجوز أن يتوهم أنّ الحقّ يلزم بنفس نباته قبل قطعه ، فأفادت الآية أنّ الوجوب فيما يحصل في اليد ، دون ما يتلف ، ذكر الجوابين القاضي أبو يعلى.

وفي قوله تعالى : (وَلا تُسْرِفُوا) ستة أقوال (١) : أحدها : أنّه تجاوز المفروض في الزّكاة إلى حدّ يجحف به ، قاله أبو العالية ، وابن جريج. وروى أبو صالح عن ابن عباس : أنّ ثابت بن قيس بن شمّاس صرم خمسمائة نخلة ، ثم قسمها في يوم واحد ، فأمسى ولم يترك لأهله شيئا ، فكره الله تعالى له ذلك ، فنزلت : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). والثاني : أنّ الإسراف : يمنع الصّدقة الواجبة! قاله سعيد بن المسيّب. والثالث : أنه الإنفاق في المعصية ، قاله مجاهد ، والزّهريّ. والرابع : أنه إشراك الآلهة في الحرث والأنعام ، قاله عطيّة ، وابن السائب. والخامس : أنه خطاب للسلطان لئلّا يأخذ فوق الواجب من الصّدقة ، قاله ابن زيد. والسادس : أنه الإسراف في الأكل قبل أداء الزّكاة ، قاله ابن بحر.

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢))

قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً) هذا نسق على ما قبله ؛ والمعنى : أنشأ جنّات وأنشأ حمولة وفرشا. وفي ذلك خمسة أقوال : أحدها : أنّ الحمولة : ما حمل من الإبل ، والفرش : صغارها ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، ومجاهد ، وابن قتيبة. والثاني : أنّ الحمولة : ما انتفعت بظهورها ، والفرش : الرّاعية ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : أنّ الحمولة : الإبل : والخيل ، والبغال ، والحمير ، وكلّ شيء يحمل عليه. والفرش : الغنم : رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع :

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ٥ / ٣٧١ : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى بقوله : (وَلا تُسْرِفُوا) عن جميع معاني «الإسراف» ولم يخصص منها معنى دون معنى وإذ كان ذلك كذلك ، وكان «الإسراف» في كلام العرب : الإخطاء بإصابة الحق في العطية ، إما بتجاوز حده في الزيادة ، وإما بتقصير عن حده الواجب ، كان معلوما أن المفرق ماله مباراة ، والباذل له للناس حتى أجحفت به عطيته ، مسرف بتجاوزه حد الله إلى ما ليس له. وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه. وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصدقة إذا وجبت فيه ، أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله وألزمه منها ، وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه. كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون ، داخلون في معنى من أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله : (وَلا تُسْرِفُوا) في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم إذا كان ما قبله من الكلام أمرا من الله بإيتاء الواجب فيه أهله يوم حصاده. فإن الآية قد كانت تنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب خاص من الأمور والحكم بها على العام ، بل عامة آي القرآن كذلك ، فكذلك قوله (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) ا. ه.

٨٥

الحمولة : من الإبل ، والفرش : من الغنم ، قاله الضّحّاك. والخامس : الحمولة : الإبل والبقر. والفرش : الغنم ، وما لا يحمل عليه من الإبل ، قاله قتادة. وقرأ عكرمة ، وأبو المتوكّل ؛ وأبو الجوزاء : «حمولة» بضم الحاء.

قوله تعالى : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) قال الزّجّاج : المعنى : لا تحرّموا ما حرّمتم مما جرى ذكره ، (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي : طرقه. قال : وقوله تعالى : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) بدل من قوله تعالى : (حَمُولَةً وَفَرْشاً). والزّوج ، في اللغة : الواحد الذي يكون معه آخر. قلت : وهذا كلام يفتقر إلى تمام ، وهو أن يقال : الزّوج : ما كان معه آخر من جنسه ، فحينئذ يقال لكلّ واحد منهما : زوج.

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥))

قوله تعالى : (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) الضّأن : ذوات الصّوف من الغنم ، والمعز : ذوات الشّعر منها. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : من «المعز» بفتح العين. وقرأ نافع ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائيّ : بتسكين العين. والمراد بالأنثيين : الذّكر والأنثى. (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ) من الضّأن والمعز حرّم الله عليكم (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) منها؟ المعنى : فإن كان ما حرّم الله عليكم الذّكرين. فكلّ الذكور حرام ، وإن كان حرّم الأنثيين ، فكلّ الإناث حرام ، وإن كان حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، فهي تشتمل على الذّكور ، وتشتمل على الإناث ، وتشتمل على الذّكور والإناث ، فيكون كلّ جنين حراما. وقال ابن الأنباري : معنى الآية : ألحقكم التّحريم من جهة الذّكرين ، أم من جهة الأنثيين؟ فإن قالوا : من جهة الذّكرين حرم عليهم كلّ ذكر ، وإن قالوا : من جهة الأنثيين ، حرمت عليهم كلّ أنثى ، وإن قالوا : من جهة الرّحم ، حرم عليهم الذّكر والأنثى. وقال ابن جرير الطّبريّ : إن قالوا : حرّم الذّكرين ، أوجبوا تحريم كلّ ذكر من الضّأن والمعز ، وهم يستمتعون بلحوم بعض الذّكران منها وظهوره ، وفي ذلك فساد دعواهم. وإن قالوا : حرّم الأنثيين أوجبوا تحريم لحوم كلّ أنثى من ولد الضّأن والمعز ، وهم يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره. وإن قالوا : ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، فقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها. قال المفسّرون : فاحتجّ الله تعالى عليهم بهذه الآية والتي بعدها ، لأنهم كانوا يحرّمون أجناسا من النّعم ، بعضها على الرّجال والنّساء ، وبعضها على النّساء دون الرّجال.

وفي قوله تعالى : (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) إبطال لما حرّموه من البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة والحام. وفي قوله تعالى : (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) ، إبطال قولهم : (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا).

قوله تعالى : (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) قال الزّجّاج : المعنى : فسروا ما حرّمتم بعلم ، أي : أنتم لا علم

٨٦

لكم ، لأنكم لا تؤمنون بكتاب. (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أي : هل شاهدتم الله قد حرّم هذا ، إذا كنتم لا تؤمنون برسول؟

قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قال ابن عباس : يريد عمرو بن لحي ، ومن جاء بعده. والظّالمون ها هنا : المشركون.

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥))

قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) نبّههم بهذا على أنّ التّحريم والتّحليل ، إنما يثبت بالوحي ، وقال طاوس ، ومجاهد : معنى الآية : لا أجد محرّما مما كنتم تستحلّون في الجاهلية إلّا هذا. والمراد بالطّاعم : الآكل. (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) أي : إلّا أن يكون المأكول ميتة. قرأ ابن كثير ، وحمزة : «إلا أن يكون» بالياء ، «ميتة» نصبا! وقرأ ابن عامر : «إلا أن تكون» بالتاء ، «ميتة» بالرفع ؛ على معنى : إلّا أن تقع ميتة ، أو تحدث ميتة. (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) قال قتادة : إنما حرّم المسفوح. فأما اللحم إذا خالطه دم ، فلا بأس به. وقال الزّجّاج : المسفوح : المصبوب. وكانوا إذا ذكّوا يأكلون الدّم كما يأكلون اللحم. والرّجس : اسم لما يستقذر ، وللعذاب. (أَوْ فِسْقاً) المعنى : أو أن يكون المأكول فسقا. (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي : رفع الصوت على ذبحه باسم غير الله ، فسمّي ما ذكر عليه غير اسم الله فسقا ؛ والفسق : الخروج من الدّين.

فصل : اختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين (١) :

__________________

(١) قال الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه‌الله في «التمهيد» ١ / ١٣٩ ما ملخصه ، بعد أن أسند حديث أبي هريرة «أكل كل ذي ناب من السباع حرام» : وهذا حديث ثابت مجتمع على صحته ، وفيه من الفقه أن النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع نهي تحريم ، لا نهي أدب وإرشاد ، وكل خبر جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه نهي ، فالواجب استعماله على التحريم إلا أن يأتي معه أو في غيره دليل يبين أن المراد أنه ندب وأدب. وقد زعم بعض أصحابنا أنه نهى تنزه وتقذر ، فإن أراد به نهي أدب فهذا ما لا يوافق عليه ، وإن أراد أن كل ذي ناب من السباع يجب التنزه عنه كما يتنزه عن النجاسة فهذا غاية في التحريم. ولم يرده القائلون من أصحابنا. لأنهم استدلوا بظاهر هذه الآية (قُلْ لا أَجِدُ ...) وذكر أن من الصحابة من استعمل هذه الآية ، ولم يحرم ما عداها ، ويلزمه على أصله هذا أن يحل لحم الحمر الأهلية ، وهو لا يقول هذا في لحم الحمر الأهلية. لأنه لا تعمل الزكاة عنده في لحومها ولا في جلودها ، ولو لم يكن محرما إلا ما في هذه الآية لكانت الحمر الأهلية حلالا. وهو لا يقول به ، ولا أحد من أصحابه ، وهذه مناقضة ، وكذلك يلزمه أن لا يحرم ما لم يذكر اسم الله عليه عمدا ، ويستحل الخمر المحرمة عند جماعة المسلمين. وأظن قائل هذا القول من أصحابنا في أكل كل ذي ناب.

راعى اختلاف العلماء ، ولا يجوز مراعاة الاختلاف عند طلب الحجة. لأن الاختلاف ليس منه شيء لازم دون دليل ، وإنما الحجة اللازمة الإجماع لأن الإجماع يجب الانقياد إليه. فأما قوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ ...) فقال قوم من فقهاء العراقيين ، ممن يجيز نسخ القرآن بالسنة : إن هذه الآية منسوخة بالسنة. وقال آخرون : معنى الآية ، أي لا أجد قد أوحي إلي في هذا الحال أي وقت نزول الآية. وقالت فرقة : الآية محكمة ، ولا يحرم إلا ما فيها ، وهو قول ابن عباس ، وقد روي عنه خلافه في أشياء حرمها ، يطول ذكرها

٨٧

أحدهما : أنها محكمة. ولأرباب هذا القول في سبب إحكامها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها خبر ، والخبر لا يدخله النّسخ. والثاني : أنها جاءت جوابا عن سؤال سألوه ؛ فكان الجواب بقدر السّؤال ، ثم حرّم بعد ذلك ما حرّم. والثالث : أنه ليس في الحيوان محرّم إلّا ما ذكر فيها.

والقول الثاني : أنها منسوخة بما ذكر في (المائدة) من المنخنقة والموقوذة ، وفي السّنّة من تحريم الحمر الأهليّة ، وكلّ ذي ناب من السّباع ، ومخلب من الطّير. وقيل : إنّ آية (المائدة) داخلة في هذه الآية ، لأنّ تلك الأشياء كلّها ميتة.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦))

قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) وقرأ الحسن ، والأعمش : «ظفر» بسكون الفاء ؛ وهذا التّحريم تحريم بلوى وعقوبة. وفي ذي الظّفر ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه ما ليس بمنفرج الأصابع ، كالإبل ، والنّعام ، والإوز ، والبط ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والسّدّيّ. والثاني : أنّه الإبل فقط ، قاله ابن زيد. والثالث : كلّ ذي حافر من الدّواب ، ومخلب من الطّير ، قاله ابن قتيبة. قال : وسمّي الحافر ظفرا على الاستعارة ؛ والعرب تجعل الحافر والأظلاف موضع القدم ، استعارة ؛ وأنشدوا :

سأمنعها أو سوف أجعل أمرها

إلى ملك أظلافه لم تشقّق (١)

أراد قدميه ؛ وإنّما الأظلاف للشّاء والبقر. قال ابن الأنباري : الظّفر ها هنا ، يجري مجرى الظفر للإنسان. وفيه ثلاث لغات أعلاهنّ : ظفر ؛ ويقال : ظفر ، وأظفور. وقال الشاعر :

ألم تر أنّ الموت أدرك من مضى

فلم يبق منه ذا جناح وذا ظفر

وقال الآخر :

لقد كنت ذا ناب وظفر على العدى

فأصبحت ما يخشون نابي ولا ظفري

وقال الآخر :

ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت

وبين أخرى تليها قيد أظفور (٢)

وفي شحوم البقر والغنم ثلاثة أقوال : أحدها : أنه إنما حرّم من ذلك شحوم الثّروب خاصّة ، قاله قتادة. والثاني : شحوم الثّروب والكلى ، قاله السّدّيّ ، وابن زيد. والثالث : كلّ شحم لم يكن مختلطا

__________________

وكذلك اختلف فكيه عن عائشة ، وروي عن ابن عمر من وجه ضعيف ، وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير. وأما سائر فقهاء المسلمين في جميع الأمصار فمخالفون لهذا القول متبعون للسنة في ذلك. وقال أكثر أهل العلم ، والنظر من أهل الأثر : إن الآية محكمة غير منسوخة ، وكل ما حرمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضموم إليها ، ولا فرق بين ما حرم الله عزوجل في كتابه أو على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اه.

(١) البيت غير منسوب في «مشكل القرآن» ١١٦ وفي السمط ٧٤٦ منسوب لعقفان بن قيس بن عاصم بن عبيد اليربوعي. وقوله : أظلافه لم تشقق : أي أنه منتعل مترفه ، فلم تشقق قدماه.

(٢) البيت غير منسوب في «اللسان» ظفر «أساس البلاغة».

٨٨

بعظم ، ولا على عظم ، قاله ابن جريج. وفي قوله تعالى : (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) ثلاثة أقوال :أحدها : أنه ما علق بالظّهر من الشّحوم ، قاله ابن عباس. والثاني : الألية ، قاله أبو صالح ، والسّدّيّ. والثالث : ما علق بالظّهر والجنب من داخل بطونهما ، قاله قتادة. فأمّا الحوايا ، فللمفسّرين فيها أقوال تتقارب معانيها. قال ابن عباس ، والحسن ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والسّدّيّ ، وابن قتيبة : هي المباعر. وقال ابن زيد : هي بنات اللبن ، وهي المرابض التي تكون فيها الأمعاء. وقال الفرّاء : الحوايا : هي المباعر ، وبنات اللبن ، وقال الأصمعيّ : هي بنات اللبن ، واحدها : حاوياء ، وحاوية ، وحويّة. قال الشاعر :

أقتلهم ولا أرى معاوية

الجاحظ العين العظيم الحاوية (١)

وقال الآخر :

كأنّ نقيق الحبّ في حاويائه

فحيح الأفاعي أو نقيق العقارب (٢)

وقال أبو عبيدة : الحوايا اسم لجميع ما تحوّى من البطن ، أي : ما استدار منها. وقال الزّجّاج :الحوايا : اسم لجميع ما تحوّى من الأمعاء ، أي : استدار. وقال ابن جرير الطّبريّ : الحوايا : ما تحوّى من البطن. فاجتمع واستدار ، وهي بنات اللبن ، وهي المباعر ، وتسمى : المرابض ، وفيها الأمعاء.

قوله تعالى : (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) فيه قولان : أحدهما : أنه شحم البطن والألية ، لأنهما على عظم ، قاله السّدّيّ. والثاني : كلّ شحم في القوائم ، والجنب ، والرّأس. والعينين ، والأذنين ، فهو مما اختلط بعظم ، قاله ابن جريج. واتفقوا على أنّ ما حملت ظهورهما حلال ، بالاستثناء من التّحريم. فأمّا ما حملت الحوايا ، أو ما اختلط بعظم ، ففيه قولان : أحدهما : أنه داخل في الاستثناء ، فهو مباح ؛ والمعنى : وأبيح لهم ما حملت الحوايا من الشّحم وما اختلط بعظم ، وهذا قول الأكثرين. والثاني : أنه نسق على ما حرّم ، لا على الاستثناء ؛ فالمعنى : حرّمنا عليهم شحومهما ، أو الحوايا ، أو ما اختلط بعظم ، إلّا ما حملت الظّهور ، فإنه غير محرّم ، قاله الزّجّاج. فأمّا «أو» المذكورة هاهنا ، فهي بمعنى الواو ، كقوله تعالى (آثِماً أَوْ كَفُوراً).

قوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ) أي : ذلك التّحريم عقوبة لهم على بغيهم. وفي بغيهم قولان : أحدهما : أنه قتلهم الأنبياء ، وأكلهم الرّبا. والثاني : أنه تحريم ما أحلّ لهم.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧))

قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ).

(٥٦١) قال ابن عباس : لمّا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمشركين : «هذا ما أوحي إليّ أنّه محرّم على المسلمين وعلى اليهود» ، قالوا : فإنّك لم تصب ، فنزلت هذه الآية.

____________________________________

(٥٦١) لم أقف على إسناده ، وتفرد المصنف بذكره دليل وهنه.

__________________

(١) البيت منسوب لعلي رضي الله عنه «اللسان» حوي.

(٢) البيت منسوب إلى جرير وهو في ديوانه : ٨٣ «واللسان» حوى.

٨٩

وفي المكذّبين قولان : أحدهما : المشركون ، قاله ابن عباس. والثاني : اليهود ، قاله مجاهد.

والمراد بذكر الرّحمة الواسعة ، أنه لا يعجّل بالعقوبة. والبأس : العذاب. وفي المراد بالمجرمين قولان : أحدهما : المشركون. والثاني : المكذّبون.

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨))

قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي : إذا لزمتهم الحجّة ، وتيقّنوا باطل ما هم عليه من الشّرك وتحريم ما لم يحرّمه الله (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) ، فجعلوا هذا حجّة لهم في إقامتهم على الباطل ؛ فكأنّهم قالوا : لو لم يرض ما نحن عليه ، لحال بيننا وبينه ، وإنّما قالوا ذلك مستهزئين ، ودافعين للاحتجاج عليهم ، فيقال لهم : لم تقولون عن مخالفيكم : إنهم ضالّون ، وإنّما هم على المشيئة أيضا؟ فلا حجّة لهم ، لأنّهم تعلّقوا بالمشيئة ، وتركوا الأمر ، ومشيئة الله تعمّ جميع الكائنات ، وأمره لا يعمّ مراداته ، فعلى العبد اتباع الأمر ، وليس له أن يتعلّل بالمشيئة بعد ورود الأمر.

قوله تعالى : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قال ابن عباس : أي : قالوا لرسلهم مثلما قال هؤلاء لك ، (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي : عذابنا. (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) أي : كتاب نزّل من عند الله في تحريم ما حرّمتم (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) لا اليقين ؛ و «إن» بمعنى «ما». و «تخرصون» : تكذبون.

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩))

قوله تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) قال الزّجّاج : حجّته البالغة : تبيينه أنّه الواحد ، وإرساله الأنبياء بالحجج المعجزة. قال السّدّيّ : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) يوم أخذ الميثاق.

(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠))

قوله تعالى : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) قال الزّجّاج : زعم سيبويه أنّ (هَلُمَ) هاء ضمّت إليها «لمّ» ، وجعلتا كالكلمة الواحدة ؛ فأكثر اللغات أن يقال : «هلم» : للواحد والاثنين والجماعة ؛ بذلك جاء القرآن. ومن العرب من يثنّي ويجمع ويؤنّث ، فيقول للذّكر : «هلمّ» وللمرأة : «هلمّي» ، وللاثنين «هلمّا» ، وللثنتين : «هلمّا» ، وللجماعة : «هلمّوا» ، وللنّسوة : «هلممن». وقال ابن قتيبة : (هَلُمَ) ، بمعنى : «تعال». وأهل الحجاز لا يثنّونها ولا يجمعونها ، وأهل نجد يجعلونها من «هلممت» فيثنّون ويجمعون ويؤنّثون ، وتوصل باللام ، فيقال : «هلمّ لك» ، «وهلمّ لكما». قال : وقال الخليل : أصلها «لمّ» ، وزيدت الهاء في أوّلها. وخالفه الفرّاء فقال : أصلها «هل» ضمّ إليها «أم» ، والرّفعة التي في اللام من همزة «أمّ» لمّا تركت انتقلت إلى ما قبلها ؛ وكذلك «اللهمّ» يرى أصلها : «يا الله أمّنا بخير» فكثرت في الكلام ، فاختلطت ، وتركت الهمزة. وقال ابن الأنباري : معنى «هلمّ» : أقبل ؛ وأصله : «أمّ يا رجل» ، أي : «اقصد» ، فضمّوا «هل» إلى «أمّ» وجعلوهما حرفا واحدا ، وأزالوا «أم» عن التّصرّف ،

٩٠

وحوّلوا ضمّة همزة «أمّ» إلى اللام ، وأسقطوا الهمزة ، فاتّصلت الميم باللام. وإذا قال الرجل للرجل ؛ «هلمّ» ، فأراد أن يقول : لا أفعل ، قال : «لا أهلمّ ولا أهلمّ». قال مجاهد : هذه الآية جواب قولهم : إنّ الله حرّم البحيرة ، والسّائبة. قال مقاتل : الذين يشهدون أنّ الله حرّم هذا الحرث والأنعام ، (فَإِنْ شَهِدُوا) أنّ الله حرّمه (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي : لا تصدّق قولهم.

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١))

قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) «ما» بمعنى «الذي». وفي «لا» قولان : أحدهما : أنها زائدة كقوله تعالى : (أَلَّا تَسْجُدَ). والثاني : أنها ليست زائدة ، وإنّما هي باقية ؛ فعلى هذا القول ، في تقدير الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أن يكون قوله : «أن لا تشركوا» ، محمولا على المعنى ؛ فتقديره : أتل عليكم أن لا تشركوا ، أي أتل تحريم الشّرك. والثاني : أن يكون المعنى : أوصيكم أن لا تشركوا ، لأنّ قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) محمول على معنى : أوصيكم بالوالدين إحسانا ، ذكرهما الزّجّاج. والثالث : أنّ الكلام تمّ عند قوله : (حَرَّمَ رَبُّكُمْ). ثمّ في قوله : «عليكم» قولان : أحدهما : أنها إغراء ، كقوله (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (١) ، فالتقدير : عليكم أن لا تشركوا ، ذكره ابن الأنباري. والثاني : أن يكون بمعنى : فرض عليكم ، ووجب عليكم أن لا تشركوا. وفي هذا الشّرك قولان : أحدهما : أنه ادّعاء شريك مع الله عزوجل. والثاني : أنه طاعة غيره في معصيته.

قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) يريد دفن البنات أحياء ، (مِنْ إِمْلاقٍ) أي : من خوف فقر.

قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) فيه خمسة أقوال :

أحدها : أنّ الفواحش : الزّنا ، وما ظهر منه : الإعلان به ، وما بطن : الاستسرار به ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والسّدّيّ. والثاني : أنّ ما ظهر : الخمر ، ونكاح المحرّمات. وما بطن : الزّنا ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد. والثالث : أنّ ما ظهر : الخمر ، وما بطن : الزّنا ، قاله الضّحّاك. والرابع : أنه عامّ في الفواحش. وظاهرها : علانيتها ، وباطنها : سرّها ، قاله قتادة. والخامس : أنّ ما ظهر : أفعال الجوارح ، وما بطن : اعتقاد القلوب ، ذكره الماورديّ في تفسير هذا الموضع ، وفي تفسير قوله : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) (٢).

والنّفس التي حرّم الله : نفس مسلم أو معاهد. والمراد بالحقّ : ادن الشّرع.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢))

__________________

(١) سورة المائدة : ١٠٥.

(٢) سورة الأنعام : ١٢٠.

٩١

قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) إنما خصّ مال اليتيم ، لأنّ الطمع فيه ، لقلّة مراعيه وضعف مالكه ؛ أقوى. وفي قوله : (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أربعة أقوال : أحدها : أنه أكل الوصيّ المصلح للمال بالمعروف وقت حاجته ، قاله ابن عباس ، وابن زيد. والثاني : التجارة فيه ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضّحّاك ، والسّدّيّ. والثالث : أنه حفظه له إلى وقت تسليمه إليه ، قاله ابن السّائب. والرابع : أنه حفظه عليه ، وتثميره له ، قاله الزّجّاج. قال : و «حتى» محمولة على المعنى ؛ فالمعنى : احفظوه عليه حتى يبلغ أشدّه ، فإذا بلغ أشدّه ، فادفعوه إليه.

فأمّا الأشدّ ، فهو استحكام قوة الشباب والسّنّ. قال ابن قتيبة : ومعنى الآية : حتى يتناهى في النّبات إلى حدّ الرّجال. يقال : بلغ أشدّه : إذا انتهى منتهاه قبل أن يأخذ في النّقصان. وقال أبو عبيدة : الأشدّ لا واحد له منه ؛ فإن أكرهوا على ذلك ، قالوا : شدّ ، بمنزلة : ضبّ ؛ والجمع : أضبّ. قاله ابن الأنباري : وقال جماعة من البصريين : واحد الأشد : شدّ ، بضمّ الشين. وقال بعض البصريين : واحد الأشدّ : شدّة ، كقولهم : نعمة ، وأنعم. وقال بعض أهل اللغة : الأشدّ : اسم لا واحد له. وللمفسّرين في الأشد ثمانية أقوال : أحدها : أنه ثلاث وثلاثون سنة ، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثاني : ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أربعون سنة ، روي عن عائشة عليها‌السلام. والرابع : ثماني عشرة سنة ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل. والخامس : خمس وعشرون سنة ، قاله عكرمة. والسادس : أربعة وثلاثون سنة ، قاله سفيان الثّوري. والسابع : ثلاثون سنة ، قاله السّدّيّ. وقال : ثم جاء بعد هذه الآية : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) (١) فكأنه يشير إلى النّسخ. والثامن : بلوغ الحلم ، قاله زيد بن أسلم ، والشّعبيّ ، ويحيى بن يعمر ، وربيعة ، ومالك بن أنس ، وهو الصحيح. ولا أظنّ بالذين حكينا عنهم الأقوال التي قبله فسّروا هذه الآية بما ذكر عنهم ، وإنما أظن أنّ الذين جمعوا التفاسير ، نقلوا هذه الأقوال من تفسير قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) إلى هذا المكان ، وذلك نهاية الأشدّ ، وهذا ابتداء تمامه ؛ وليس هذا مثل ذاك. قال ابن جرير : وفي الكلام محذوف ، ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر عمّا حذف ، لأنّ المعنى : حتى يبلغ أشدّه ؛ فإذا بلغ أشدّه ، وآنستم منه رشدا ، فادفعوا إليه ماله. وهذا الذي ذكره ابن جرير ليس بصحيح ، لأنّ إيناس الرّشد استفيد من سورة (النساء) وكذلك أولياء اليتامى ، فحمل المطلق على المقيد.

قوله تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أي : أتمّوه ولا تنقصوا منه. (وَالْمِيزانَ) أي : وزن الميزان. والقسط : العدل. (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : ما يسعها. ولا تضيق عنه. قال القاضي أبو يعلى : لمّا كان الكيل والوزن يتعذّر فيهما التّحديد بأقل القليل ، كلّفنا الاجتهاد في التّحرّي ، دون تحقيق الكيل والوزن. قوله تعالى : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) أي : إذا تكلّمتم أو شهدتم ، فقولوا الحقّ ، ولو كان المشهود له أو عليه ذا قرابة. وعهد الله يشتمل على ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به ، وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره. (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي : لتذكّروه وتأخذوا به. قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «تذّكّرون» و «يذّكّرون» و «يذّكّر الإنسان» و «أن يذّكّر» ، و «ليذّكّروا» مشدّدا ذلك

__________________

(١) سورة النساء : ٦.

٩٢

كلّه. وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم ، وابن عامر كلّ ذلك بالتّشديد ، إلّا قوله تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) فإنّهم خفّفوه. روى أبان ، وحفص عن عاصم : «يذكرون» خفيفة الذال في جميع القرآن. قرأ حمزة ، والكسائيّ : «يذكّرون» مشدّدا إذا كان بالياء ، ومخفّفا إذا كان بالتاء.

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣))

قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو : «وأنّ» بفتح الألف مع تشديد النون. قال الفرّاء : إن شئت جعلت «أن» مفتوحة بوقوع «أتل» عليها ؛ وإن شئت جعلتها خفضا ، على معنى : ذلكم وصّاكم به ، وبأنّ هذا صراطي مستقيما. وقرأ ابن عامر بفتح الألف أيضا ، إلا أنه خفّف النّون ، فجعلها مخفّفة من الثقيلة ؛ وحكم إعرابها حكم تلك. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : بتشديد النون مع كسر الألف. قال الفرّاء : وكسر الألف على الاستئناف. وفي الصّراط قولان : أحدهما : أنه القرآن. والثاني : الإسلام. وقد بينّا إعراب قوله : «مستقيما». فأما «السّبل» ، فقال ابن عباس : هي الضّلالات. وقال مجاهد : البدع والشّبهات. وقال مقاتل : أراد ما حرّموا على أنفسهم من الأنعام والحرث. (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أي : فتضلّكم عن دينه.

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤))

قوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) قال الزّجّاج : «ثمّ» ها هنا للعطف على معنى التّلاوة ؛ فالمعنى : أتل ما حرّم ربّكم ، ثمّ أتل عليكم ما آتاه الله موسى. وقال ابن الأنباري : الذي بعد «ثمّ» مقدّم على الذي قبلها في النّية ؛ والتقدير : ثمّ كنّا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) في قوله تعالى : (تَماماً) قولان :

أحدهما : أنها كلمة متّصلة بما بعدها ؛ تقول : أعطيتك كذا تماما على كذا ، وتماما لكذا ، وهذا قول الجمهور. والثاني : أنّ قوله : (تَماماً) كلمة قائمة بنفسها ، غير متّصلة بما بعدها ؛ والتّقدير : آتينا موسى الكتاب تماما ، أي : في دفعة واحدة ، لم نفرّق إنزاله كما فرّق إنزال القرآن ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي. وفي المشار إليه بقوله : (أَحْسَنُ) أربعة أقوال : أحدها : أنه الله عزوجل : ثمّ في معنى الكلام قولان : أحدهما : تماما على إحسان الله إلى أنبيائه ، قاله ابن زيد. والثاني : تماما على إحسان الله تعالى إلى موسى ؛ وعلى هذين القولين ، يكون «الذي» بمعنى «ما». والقول الثاني : أنه إبراهيم الخليل عليه‌السلام ؛ فالمعنى : تماما للنّعمة على إبراهيم الذي أحسن في طاعة الله ، وكانت نبوّة موسى نعمة على إبراهيم ، لأنه من ولده ، ذكره الماوردي. والقول الثالث : أنه كلّ محسن من الأنبياء ، وغيرهم. وقال مجاهد : تماما على المحسنين ، أي : تماما لكلّ محسن. وعلى هذا القول ، يكون «الذي» بمعنى «من» ، و «على» بمعنى لام الجرّ ؛ ومن هذا قول العرب : أتمّ عليه ، وأتمّ له. قال الرّاعي :

٩٣

رعته أشهرا وخلا عليها (١)

أي : لها. قال ابن قتيبة : ومثل هذا أن تقول : أوصي بمالي للذي غزا وحجّ ؛ تريد : للغازين والحاجّين. والقول الرابع : أنه موسى. ثمّ في معنى : «أحسن» قولان : أحدهما : أحسن في الدّنيا بطاعة الله عزوجل. قال الحسن ، وقتادة : تماما لكرامته في الجنّة إلى إحسانه في الدنيا. وقال الرّبيع : هو إحسان موسى بطاعته. وقال ابن جرير : تماما لنعمنا عنده على إحسانه في قيامه بأمرنا ونهينا. والثاني : أحسن في العلم وكتب الله القديمة ؛ وكأنه زيد على ما أحسنه من التّوراة ؛ ويكون «التّمام» بمعنى الزّيادة ، ذكره ابن الأنباري. فعلى هذين القولين ، يكون «الذي» بمعنى : «ما».

وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو رزين ، والحسن ، وابن يعمر : «على الذي أحسن» ، بالرفع. قال الزّجّاج : معناه : على الذي هو أحسن الأشياء. وقرأ عبد الله بن عمرو ، وأبو المتوكّل ، وأبو العالية : «على الذي أحسن» برفع الهمزة وكسر السين وفتح النون ؛ وهي تحتمل الإحسان ، وتحتمل العلم.

قوله تعالى : (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي : تبيانا لكلّ شيء من أمر شريعتهم ممّا يحتاجون إلى علمه ، لكي يؤمنوا بالبعث والجزاء.

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥))

قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) يعني القرآن ، (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا) أن تخالفوه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). قال الزّجّاج : لتكونوا راجين للرّحمة.

(أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦))

قوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا). سبب نزولها :

(٥٦٢) أنّ كفّار مكّة قالوا : قاتل الله اليهود والنّصارى ، كيف كذّبوا أنبياءهم ؛ فو الله لو جاءنا نذير وكتاب ، لكنا أهدى منهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل.

قال الفرّاء : «أن» في موضع نصب في مكانين : أحدهما : أنزلناه لئلا تقولوا. والآخر : من قوله : واتّقوا أن تقولوا. وذكر الزّجّاج عن البصريين ، أنّ معناه : أنزلناه ، كراهة أن تقولوا ؛ ولا يجيزون إضمار «لا». فأمّا الخطاب بهذه الآية ، فهو لأهل مكّة ؛ والمراد إثبات الحجّة عليهم بإنزال القرآن كي لا يقولوا يوم القيامة : إنّ التّوراة والإنجيل أنزلا على اليهود والنّصارى ، وكنّا غافلين عمّا فيهما. و «دراستهم» : قراءتهم الكتاب. قال الكسائيّ. (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) لا نعلم ما هي ، لأنّ كتبهم لم تكن بلغتنا ، فأنزل الله كتابا بلغتهم لتنقطع حجّتهم.

____________________________________

(٥٦٢) باطل. عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث فالخبر لا شيء والمتن باطل.

__________________

(١) البيت منسوب للراعي النميري وهو عبيد بن حصين وتمامه : فطار النيّ فيها واستنارا. «أدب الكاتب» لابن قتيبة ٣٣٦. ورعته رعت هذه الناقة هذا النبات أشهرا وتخلت به لم يرعه غيرها.

٩٤

(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))

قوله تعالى : (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) قال الزّجّاج : إنّما كانوا يقولون هذا ، لأنّهم مدلّون بالأذهان والأفهام ، وذلك أنهم يحفظون أشعارهم وأخبارهم ، وهم أمّيّون لا يكتبون. (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ) أي : ما فيه البيان وقطع الشّبهات. قال ابن عباس : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ) أي : حجّة ، وهو النبيّ ، والقرآن ، والهدى ، والبيان ، والرّحمة ، والنّعمة. (فَمَنْ أَظْلَمُ) أي : أكفر (مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) يعني محمّدا والقرآن. (وَصَدَفَ عَنْها) : أعرض فلم يؤمن بها. وسوء العذاب : قبيحه.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨))

قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي : ينتظرون (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «تأتيهم» بالتاء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «يأتيهم» بالياء. وهذا الإتيان لقبض أرواحهم. وقال مقاتل : المراد بالملائكة : ملك الموت وحده.

قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) قال الحسن : أو يأتي أمر ربّك. وقال الزّجّاج : أو يأتي إهلاكه وانتقامه ، إمّا بعذاب عاجل ، أو بالقيامة. قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وروى عبد الوارث إلّا القزّاز : بتسكين ياء «أو يأتي» ، وفتحها الباقون. وفي هذه الآية أربعة أقوال :

(٥٦٣) أحدها : أنه طلوع الشّمس من مغربها ، رواه أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبه قال ابن مسعود في رواية زرارة بن أوفى عنه ، وعبد الله بن عمرو ، ومجاهد وقتادة ، والسّدّيّ.

(٥٦٤) وقد روى البخاريّ ، ومسلم في «الصّحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تقوم السّاعة حتى تطلع الشّمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس ، آمن من عليها ، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا».

(٥٦٥) وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تزال التّوبة مقبولة حتى

____________________________________

(٥٦٣) أخرجه الترمذي ٣٠٧١ وأحمد ٣ / ٣١ وأبو يعلى ١٣٥٣ وإسناده ضعيف فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيء الحفظ وعطية العوفي ضعيف وحسنه الترمذي ، وذكر أن بعضهم رواه موقوفا ا. ه. من حديث أبي سعيد الخدري ومع ذلك فمثله لا يقال بالرأي.

(٥٦٤) حديث صحيح أخرجه البخاري ٤٦٣٥ و ٤٦٣٦ و ٦٥٠٦ و ٧١٢١ ، ومسلم ١٥٧ وأبو داود ٤٣١٢ والنسائي في «الكبرى» ١١١٧٧ وابن ماجة ٤٠٦٨ وأحمد ٢ / ٢٣١ و ٣١٣ و ٣٥٠ و ٣٩٨ و ٥٣٠ وأبو يعلى ٦٠٨٥ وابن حبان ٦٨٣٨ والطبري ١٤٢٠٨ و ١٤٢١٤ و ١٤٢١٥ من حديث أبي هريرة.

(٥٦٥) حسن. أخرجه أحمد ١ / ١٩٢ والطبراني ١٩ / ٣٨١ وفي «مسند «الشاميين» ١٦٧٤ والطبري ١٤٢١٧ و ١٤٢١٨ من حديث معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص وإسناده حسن ، رجاله

٩٥

تطلع الشّمس من مغربها ، فإذا طلعت ، طبع على كلّ قلب بما فيه ، وكفي الناس العمل».

والثاني : أنه طلوع الشّمس والقمر من مغربهما ، رواه مسروق عن ابن مسعود. والثالث : أنه إحدى الآيات الثلاث ، طلوع الشّمس من مغربها ، والدّابّة ، وفتح يأجوج ومأجوج ، روى هذا المعنى القاسم عن ابن مسعود. والرابع : أنه طلوع الشّمس من مغربها ، والدّجال ، ودابّة الأرض ، قاله أبو هريرة ؛ والأوّل أصحّ.

والمراد بالخير ها هنا : العمل الصالح ؛ وإنما لم ينفع الإيمان والعمل الصالح حينئذ ، لظهور الآية التي تضطرّهم إلى الإيمان. وقال الضّحّاك : من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه ، قبل منه ، كما يقبل منه قبل الآية. وقيل : إنّ الحكمة في طلوع الشمس من مغربها ، أنّ الملحدة والمنجّمين ، زعموا أنّ ذلك لا يكون ، فيريهم الله تعالى قدرته ، ويطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق ، ولتحقّق عجز نمرود حين قال له إبراهيم : (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ) (١).

فصل : وفي قوله : (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) قولان : أحدهما : أنّ المراد به التّهديد ، فهو محكم. والثاني : أنه أمر بالكف عن القتال ، فهو منسوخ بآية السيف.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «فرّقوا» مشدّدة. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «فارقوا» بألف. وكذلك قرءوا في (الرّوم) ؛ فمن قرأ : «فرّقوا» ، أراد : آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض. ومن قرأ : «فارقوا» ، أراد : باينوا. وفي المشار إليهم أربعة أقوال :

أحدها : أنهم أهل الضّلالة من هذه الأمّة ، قاله أبو هريرة. والثاني : أنهم اليهود والنّصارى ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك ، وقتادة ، والسّدّيّ. والثالث : اليهود ، قاله مجاهد. والرابع : جميع المشركين ، قاله الحسن. فعلى هذا القول ، دينهم : الكفر الذي يعتقدونه دينا ، وعلى ما قبله ، دينهم : الذي أمرهم الله به. والشيع : الفرق والأحزاب. قال الزّجّاج : ومعنى «شيّعت» في اللغة : اتّبعت. والعرب تقول : شاعكم السّلام ، وأشاعكم ، أي : تبعكم. قال الشاعر :

ألا يا نخلة من ذات عرق

برود الظّلّ شاعكم السّلام (٢)

وتقول : أتيتك غدا ، أو شيعة ، أي : أو اليوم الذي يتبعه. فمعنى الشّيعة : الذين يتبع بعضهم بعضا ، وليس كلّهم متّفقين.

____________________________________

ثقات. وأخرجه أحمد ٤ / ٩٩ من حديث معاوية ، وإسناده حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» ٥ / ٢٥١ : رجال أحمد ثقات.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٥٨.

(٢) البيت غير منسوب في «أساس البلاغة» «واللسان» شيع.

٩٦

وفي قوله تعالى : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) قولان : أحدهما : لست من قتالهم في شيء ؛ ثم نسخ بآية السيف ، وهذا مذهب السّدّيّ. والثاني: لست منهم ، أي : أنت بريء منهم ، وهم منك برآء ، إنما أمرهم إلى الله في جزائهم ، فتكون الآية محكمة.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))

قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) وقرأ يعقوب ، والقزّاز عن عبد الوارث : «عشر» بالتنوين ، «أمثالها» بالرفع. قال ابن عباس : يريد من عملها ، كتبت له عشر حسنات. (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا) جزاء (مِثْلَها). وفي الحسنة والسيئة ها هنا قولان :

أحدهما : أنّ الحسنة : قول لا إله إلّا الله. والسّيئة : الشّرك ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، والنّخعيّ. والثاني : أنه عامّ في كلّ حسنة وسيئة.

(٥٦٦) روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي ذرّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله عزوجل : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد ، ومن جاء بالسّيئة فجزاء سيّئة مثلها أو أغفر».

فإن قيل : إذا كانت الحسنة كلمة التّوحيد ، فأيّ مثل لها حتى يجعل جزاء قائلها عشر أمثالها؟ فالجواب : أنّ جزاء الحسنة معلوم القدر عند الله ، فهو يجازي فاعلها بعشر أمثاله ، وكذلك السّيئة. وقد أشرنا إلى هذا في (المائدة) عند قوله : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (١). فإن قيل : المثل مذكّر ، فلم قال : (عَشْرُ أَمْثالِها) والهاء إنما تسقط في عدد المؤنّث؟ فالجواب : أنّ الأمثال خلقت حسنات مؤنّثة ؛ وتلخيص المعنى : فله عشر حسنات أمثالها ، فسقطت الهاء من عشر ، لأنها عدد مؤنّث ، كما تسقط عند قولك : عشر نعال ، وعشر جباب.

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١))

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال الزّجّاج : أي : دلّني على الدّين الذي هو دين الحقّ. ثم فسّر ذلك بقوله : (دِيناً قِيَماً) ؛ قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «قيما» مفتوحة القاف ،

____________________________________

(٥٦٦) صحيح. أخرجه مسلم ٢٦٨٧. وأخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» ٩٥٩ وابن المبارك في «الزهد» ١٠٣٥ ولصدره شاهد من حديث أبي هريرة عند البخاري ٧٥٠١ ومسلم ١٢٨ وأحمد ٢ / ٢٤٢ وابن حبان ٣٨٠ ، ٣٨١ ، ٣٨٢ ، وابن مندة في «الإيمان» ٣٧٥. ولعجزه «ومن تقرب مني ...» شاهد من حديث أنس عند البخاري ٧٥٣٦ وعبد الرزاق ٣٠٥٧٥ والطيالسي ٢٠١٢ وأحمد ٣ / ١٢٢ و ١٢٧ و ٢٧٢ ، ٢٨٣ وأبو يعلى ٣١٨٠. ويشهد لعجزه أيضا حديث أبي هريرة عند البخاري ٧٤٠٥ ومسلم ٢٦٧٥ وابن حبان ٣٧٦ وأحمد ٢ / ٤٣٥ و ٥٠٩. ولفظ الحديث : عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الله : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة بمثلها أو أغفر ، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة».

__________________

(١) سورة المائدة : ٣٢.

٩٧

مشدّدة الياء. والقيّم : المستقيم. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «قيما» بكسر القاف وتخفيف الياء. قال الزّجّاج : وهو مصدر ، كالصّغر والكبر. وقال مكّيّ : من خفّفه بناه على «فعل» وكان أصله أن يأتي بالواو ، فيقول : «قوما» كما قالوا : عوض ، وحول ، ولكنه شذّ عن القياس. قال الزّجّاج : ونصب قوله : (دِيناً قِيَماً) محمول على المعنى ، لأنّه لمّا قال : «هداني» دل على عرّفني دينا ؛ ويجوز أن يكون على البدل من قوله : (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، فالمعنى : هداني صراطا مستقيما دينا قيما. و «حنيفا» منصوب على الحال من إبراهيم ، والمعنى : هداني ملّة إبراهيم في حال حنيفيّته.

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣))

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي) يريد : الصّلاة المشروعة. والنّسك : جمع نسيكة. وفي النّسك ها هنا أربعة أقوال : أحدها : أنها الذّبائح ؛ قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وابن قتيبة. والثاني : الدّين ، قاله الحسن. والثالث : العبادة. قال الزّجّاج : النّسك كلّ ما تقرّب به إلى الله عزوجل ، إلّا أنّ الغالب عليه أمر الذّبح. والرابع : أنه الدّين ، والحج ، والذّبائح ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

قوله تعالى : (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) الجمهور على تحريك ياء «محياي» ، وتسكين ياء «مماتي». وقرأ نافع : بتسكين ياء «محياي» ، ونصب ياء «مماتي» ، ثمّ للمفسّرين في معناه قولان :

أحدهما : أنّ معناه : لا يملك حياتي ومماتي إلّا الله.

والثاني : حياتي لله في طاعته ، ومماتي لله في رجوعي إلى جزائه. ومقصود الآية أنه أخبرهم أنّ أفعالي وأحوالي لله وحده ، لا لغيره كما تشركون أنتم به.

قوله تعالى : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) قال الحسن ، وقتادة : أوّل المسلمين من هذه الأمّة.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤))

قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا).

(٥٦٧) سبب نزولها أنّ كفار قريش قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع عن هذا الأمر ، ونحن لك الكفلاء بما أصابك من تبعة ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) أي : لا يؤخذ سواها بعملها. وقيل : المعنى : إلّا عليها عقاب معصيتها ، ولها ثواب طاعتها. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) قال الزّجّاج : لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى. والمعنى : لا يؤخذ أحد بذنب غيره. قال أبو سليمان : ولما ادّعت كلّ فرقة من اليهود والنّصارى والمشركين أنهم أولى بالله من غيرهم. عرّفهم أنه الحاكم بينهم بقوله تعالى : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما

____________________________________

(٥٦٧) باطل ، عزاه المصنف لمقاتل وهو من يضع الحديث وقد وضع مقاتل وهو ابن سليمان وكذا الكلبي لكل آية سببا لنزولها ، وليس هذا بشيء.

٩٨

كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ، ونظيره : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١).

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) قال أبو عبيدة : الخلائف : جمع خليفة. قال الشّمّاخ :

تصيبهم وتخطئني المنايا

وأخلف في ربوع عن ربوع (٢)

وللمفسّرين فيمن خلفوه ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم خلفوا الجنّ الذين كانوا سكّان الأرض ؛ قاله ابن عباس. والثاني : أنّ بعضهم يخلف بعضا ؛ قاله ابن قتيبة. والثالث : أنّ أمّة محمّد خلفت سائر الأمم ، ذكره الزّجّاج.

قوله تعالى : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أي : في الرّزق ، والعلم ، والشّرف ، والقوّة ، وغير ذلك (لِيَبْلُوَكُمْ) أي : ليختبركم ، فيظهر منكم ما يكون عليه الثّواب والعقاب.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) فيه قولان : أحدهما : أنه سمّاه سريعا ، لأنّه آت ، وكلّ آت قريب. والثاني : أنه إذا شاء العقوبة ، أسرع عقابه.

__________________

(١) سورة الحج : ١٧.

(٢) البيت للشماخ ديوانه : ٥٨ «واللسان» ربع. الربوع : جمع ربع وهو جماعة الناس الذين ينزلون ربعا يسكنونه ، يقول : أبقى في قوم بعد قوم.

٩٩

سورة الأعراف

فصل في نزولها : روى العوفيّ ، وابن أبي طلحة ، وأبو صالح عن ابن عباس ، أن سورة (الأعراف) من المكّيّ ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وجابر بن زيد ، وقتادة. وروي عن ابن عباس ، وقتادة أنها مكّيّة ، إلّا خمس آيات ؛ أوّلها قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) (١). وقال مقاتل : كلّها مكّيّة ، إلّا قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) إلى قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٢) فإنهنّ مدنيّات.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المص (١))

فأمّا التفسير ، فقوله تعالى : (المص) قد ذكرنا في أوّل سورة البقرة كلاما مجملا في الحروف المقطّعة أوائل السّور ، فهو يعم هذه أيضا.

فأما ما يختصّ بهذه الآية ففيه سبعة أقوال : أحدها : أنّ معناه : أنا الله أعلم وأفضل ، رواه أبو الضّحى عن ابن عباس. والثاني : أنه قسم أقسم الله به ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : أنها اسم من أسماء الله تعالى ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع : أنّ الألف مفتاح اسمه «الله» ، واللام مفتاح اسمه «لطيف» ، والميم مفتاح اسمه «مجيد» ، قاله أبو العالية (٣). والخامس : أنّ (المص) اسم للسّورة ، قاله الحسن. والسادس : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة. والسابع : أنها بعض كلمة. ثمّ في تلك الكلمة قولان : أحدهما : المصوّر ، قاله السّدّيّ. والثاني : المصير إلى كتاب أنزل إليك ، ذكره الماوردي.

(كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢))

قوله تعالى : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) قال الأخفش : رفع الكتاب بالابتداء. ومذهب الفرّاء أنّ الله تعالى اكتفى في مفتتح السّور ببعض حروف المعجم عن جميعها ، كما يقول القائل : «ا ب ت ث»

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٦٣.

(٢) سورة الأعراف : ١٧٢.

(٣) هذه الأقوال الأربعة واهية لا برهان عليها ، وهي بعيدة جدا ، وكذا ما بعدها ، والصواب في ذلك أن يقال : الله أعلم بمراده.

١٠٠