زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٥

الملك ، لا تذكر يعقوب ، فإنه إسرائيل الله ابن ذبيح الله ابن خليل الله. فلمّا لم يجدوا إلى خلاص أخيهم سبيلا ، سألوه أن يأخذ منهم بديلا به ، فذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) أي : في سنّه ، وقيل : في قدره ، (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) أي : تستعبده بدلا عنه (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فيه قولان : أحدهما : فيما مضى. والثاني : إن فعلت. (قالَ مَعاذَ اللهِ) قد سبق تفسيره ، والمعنى : أعوذ بالله أن نأخذ بريئا بسقيم.

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١))

قوله تعالى : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) أي : يئسوا. وفي هاء «منه» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى يوسف ، فالمعنى : يئسوا من يوسف أن يخلّي سبيل أخيهم. والثاني : إلى أخيهم ، فالمعنى : يئسوا من أخيهم. قوله تعالى : (خَلَصُوا نَجِيًّا) أي : اعتزلوا الناس ليس معهم غيرهم ، يتناجون ويتناظرون ويتشاورون ، يقال : قوم نجيّ ، والجمع أنجية ، قال الشاعر :

إنّي إذا ما القوم كانوا أنجيه

واضطربت أعناقهم كالأرشيه (١)

وإنّما وحّد «نجيّا» لأنه يجري مجرى المصدر الذي يكون للاثنين ، والجمع والمؤنّث بلفظ واحد. وقال الزّجّاج : انفردوا متناجين فيما يعملون في ذهابهم إلى أبيهم وليس معهم أخوهم.

قوله تعالى : (قالَ كَبِيرُهُمْ) فيه قولان : أحدهما : أنه كبيرهم في العقل ، ثم فيه قولان (٢) : أحدهما : أنه يهوذا ، ولم يكن أكبرهم سنّا ، وإنما كان أكبرهم سنّا روبيل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك ، ومقاتل. والثاني : أنه شمعون ، قاله مجاهد. والثاني : أنه كبيرهم في السّنّ وهو روبيل ، قاله قتادة ، والسّدّيّ.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) في حفظ أخيكم وردّه إليه (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) قال الفرّاء : «ما» في موضع رفع ، كأنه قال : ومن قبل هذا تفريطكم في يوسف ، وإن شئت جعلتها نصبا ، المعنى : ألم تعلموا هذا ، وتعلموا من قبل تفريطكم في يوسف. وإن

__________________

(١) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «نجا» وعزاه إلى سحيم بن وثيل اليربوعي. وأرشت الشجرة إذا امتدت أغصانها ، وقال الأصمعي : إذا امتدت أغصان الحنظل قيل قد أرشت أي صارت كالأرشية وهي الحبال.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله ٧ / ٢٧٠ : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، قول من قال : عني بقوله (قالَ كَبِيرُهُمْ) روبيل لإجماع جميعهم على أنه كان أكبرهم سنا ، ولا تفهم العرب في المخاطبة إذا قيل لهم : «فلان كبير القوم» مطلقا بغير وصل إلا أحد معنيين : إما في الرياسة عليهم والسؤدد ، وإما في السن. فأما في العقل ، فإنهم إذا أرادوا ذلك وصلوه فقالوا : هو كبيرهم في العقل. وقد قال أهل التأويل : لم يكن لشمعون  ـ  وإن كان من العقل والعلم بالمكان الذي جعله الله به  ـ  على إخوته رئاسة وسؤدد. فإذا كان كذلك ، فلم يبق إلا الوجه الآخر وهو الكبر في السن وروبيل كان أكبر القوم سنا.

٤٦١

شئت جعلت «ما» صلة ، كأنه قال : ومن قبل فرّطتم في يوسف. قال الزّجّاج : وهذا أجود الوجوه ، أن تكون «ما» لغوا. قوله تعالى : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي : لن أخرج من أرض مصر ، يقال : برح الرجل براحا : إذا تنحّى عن موضعه. (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) قال ابن عباس : حتى يبعث إليّ أن آتيه (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أو يحكم الله لي ، فيردّ أخي عليّ. والثاني : يحكم الله لي بالسّيف ، فأحارب من حبس أخي. والثالث : يقضي في أمري شيئا ، (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) أي : أعدلهم وأفضلهم.

قوله تعالى : (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) وقرأ ابن عباس ، والضّحّاك ، وابن أبي سريج عن الكسائيّ : «سرق» بضمّ السين وتشديد الراء وكسرها. قوله تعالى : (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) فيه قولان : أحدهما : وما شهدنا عليه بالسّرقة إلّا بما علمنا ، لأنّا رأينا المسروق في رحله ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : وما شهدنا عند يوسف بأنّ السّارق يؤخذ بسرقته إلّا بما علمنا من دينك ، قاله ابن زيد. وفي قوله : (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) ثمانية أقوال : أحدها : أنّ الغيب هو الليل ، والمعنى : لم نعلم ما صنع بالليل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وهذا يدلّ على أنّ التّهمة وقعت به ليلا. والثاني : ما كنّا نعلم أنّ ابنك يسرق ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال عكرمة ، وقتادة ، ومكحول. قال ابن قتيبة : فالمعنى : لم نعلم الغيب حين أعطيناك الموثق لنأتينّك به أنه يسرق فيؤخذ. والثالث : لم نستطع أن نحفظه فلا يسرق ، رواه عبد الوهّاب عن مجاهد. والرابع : لم نعلم أنه سرق للملك شيئا ، ولذلك حكمنا باسترقاق السّارق ، قاله ابن زيد. والخامس : أنّ المعنى : قد رأينا السّرقة قد أخذت من رحله ، ولا علم لنا بالغيب فلعلّهم سرّقوه ، قاله ابن إسحاق. والسادس : ما كنّا لغيب ابنك حافظين ، إنما نقدر على حفظه في محضره ، فإذا غاب عنّا ، خفيت عنّا أموره. والسابع : لو علمنا من الغيب أنّ هذه البليّة تقع بابنك ما سافرنا به ، ذكرهما ابن الأنباري. والثامن : لم نعلم أنك تصاب به كما أصبت بيوسف ، ولو علمنا لم نذهب به ، قاله ابن كيسان.

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢))

قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) المعنى : قولوا لأبيكم : سل أهل القرية (الَّتِي كُنَّا فِيها) يعنون مصر (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) وأهل العير ، وكان قد صحبهم قوم من الكنعانيين. قال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون المعنى : وسل القرية والعير فإنها تعقل عنك لأنّك نبيّ والأنبياء قد تخاطبهم الأحجار والبهائم ، فعلى هذا تسلم الآية من إضمار.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣))

قوله تعالى : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ) في الكلام اختصار ، والمعنى : فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ذلك ، فقال لهم هذا ، وقد شرحناه في أوّل السّورة.

واختلفوا لأيّ علّة قال لهم هذا القول ، على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ظنّ أنّ الذي تخلّف منهم ، إنما تخلّف حيلة ومكرا ليصدّقهم ، قاله وهب بن منبّه. والثاني : أنّ المعنى : سوّلت لكم أنفسكم أنّ

٤٦٢

خروجكم بأخيكم يجلب نفعا ، فجرّ ضررا ، قاله ابن الأنباري. والثالث : سوّلت لكم أنه سرق ، وما سرق.

قوله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) يعني : يوسف وابن يامين وأخاهما المقيم بمصر. وقال مقاتل : أقام بمصر يهوذا وشمعون ، فأراد بقوله : «أن يأتيني بهم» يعني : الأربعة.

قوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) أي : بشدّة حزني ، وقيل : بمكانهم ، (الْحَكِيمُ) فيما حكم عليّ.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤))

قوله تعالى : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي : أعرض عن ولده أن يطيل معهم الخطب ، وانفرد بحزنه ، وهيّج عليه ذكر يوسف (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) قال ابن عباس : يا طول حزني على يوسف. قال ابن قتيبة : الأسف : أشدّ الحسرة. قال سعيد بن جبير : لقد أعطيت هذه الأمّة عند المصيبة ما لم يعط الأنبياء قبلهم (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب ، إذ يقول : «يا أسفى على يوسف». فإن قيل : هذا لفظ الشّكوى ، فأين الصّبر؟ فالجواب من وجهين : أحدهما : أنه شكا إلى الله تعالى ، لا منه. والثاني : أنه أراد به الدّعاء ، فالمعنى : يا ربّ ارحم أسفى على يوسف. وذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال : نداء يعقوب الأسف في اللفظ من المجاز الذي يعنى به غير المظهر في اللفظ ، وتلخيصه : يا إلهي ارحم أسفي ، أو أنت راء أسفى ، وهذا أسفى ، فنادى الأسف في اللفظ ، والمنادى في المعنى سواه ، كما قال : «يا حسرتنا» والمعنى : يا هؤلاء تنبّهوا على حسرتنا ، قال : والحزن ونفور النّفس من المكروه والبلاء لا عيب فيه ولا مأثم إذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثّم ولم يشك إلّا إلى ربّه ، فلمّا كان قوله : «يا أسفى» شكوى إلى ربّه ، كان غير ملوم. وقد روي عن الحسن أنّ أخاه مات ، فجزع الحسن جزعا شديدا ، فعوتب في ذلك ، فقال : ما وجدت الله عاب على يعقوب الحزن حيث قال : «يا أسفى على يوسف». قوله تعالى : (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي : انقلبت إلى حال البياض. وهل ذهب بصره ، أم لا؟ فيه قولان : أحدهما : أنه ذهب بصره ، قاله مجاهد. والثاني : ضعف بصره لبياض تغشّاه من كثرة البكاء ، ذكره الماوردي. وقال مقاتل : لم يبصر بعينيه ستّ سنين. قال ابن عباس : وقوله : «من الحزن» أي : من البكاء ، يريد أنّ عينيه ابيضّتا لكثرة بكائه ، فلما كان الحزن سببا للبكاء ، سمّي البكاء حزنا. وقال ثابت البنانيّ : دخل جبريل على يوسف ، فقال : أيها الملك الكريم على ربّه ، هل لك علم بيعقوب؟ قال : نعم. قال : ما فعل؟ قال : ابيضّت عيناه ، قال : ما بلغ حزنه؟ قال : حزن سبعين ثكلى ، قال : فهل له على ذلك من أجر؟ قال : أجر مائة شهيد. وقال الحسن البصريّ : ما فارق يعقوب الحزن ثمانين سنة ، وما جفّت عينه ، وما أحد يومئذ أكرم على الله منه حين ذهب بصره. قوله تعالى : (فَهُوَ كَظِيمٌ) الكظيم بمعنى الكاظم ، وهو الممسك على حزنه فلا يظهره ، قاله ابن قتيبة ، وقد شرحنا هذا عند قوله : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) (١).

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٣٤.

٤٦٣

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧))

قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) قال ابن الأنباري : معناه : والله ، وجواب هذا القسم «لا» المضمرة التي تأويلها : تالله لا تفتأ ، فلمّا كان موضعها معلوما خفّف الكلام بسقوطها من ظاهره ، كما تقول العرب : والله أقصدك أبدا ، يعنون : لا أقصدك ، قال امرؤ القيس :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي

يريد : لا أبرح ، وقالت الخنساء :

فأقسمت آسى على هالك

أو اسأل نائحة ما لها

أرادت : لا آسى ، وقال الآخر :

لم يشعر النّعش ما عليه من ال

عرف ولا الحاملون ما حملوا

تالله أنسى مصيبتي أبدا

ما أسمعتني حنينها الإبل

وقرأ أبو عمران ، وابن محيصن ، وأبو حياة : «قالوا بالله» بالباء ، وكذلك كلّ قسم في القرآن. وأمّا قوله : «تفتأ» فقال المفسّرون وأهل اللغة : معنى «تفتأ» تزال ، فمعنى الكلام : لا تزال تذكر يوسف ، وأنشد أبو عبيدة :

فما فتئت خيل تثوب وتدّعي

ويلحق منها لاحق وتقطّع (١)

وأنشد أبو القاسم :

فما فتئت منّا رعال كأنّها

رعال القطا حتّى احتوين بني صخر

قوله تعالى : (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً). فيه أربعة أقوال : أحدها : أنه الدّنف ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال ابن قتيبة : يقال : أحرضه الحزن ، أي : أدنفه. قال أبو عبيدة : الحرض : الذي قد أذابه الحزن أو الحبّ ، وهي في موضع محرض. وأنشد :

إني امرؤ لجّ بي حبّ فأحرضني

حتّى بليت وحتّى شفّني السّقم (٢)

أي : أذابني. وقال الزّجّاج : الحرض : الفاسد في جسمه ، والمعنى : حتى تكون مدنفا مريضا. والثاني : أنه الذّاهب العقل ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. وقال ابن إسحاق : الفاسد العقل. قال الزّجّاج : وقد يكون الحرض : الفاسد في أخلاقه. والثالث : أنه الفاسد في جسمه وعقله ، يقال : رجل حارض وحرض ، فحارض يثنّى ويجمع ويؤنّث ، وحرض لا يجمع ولا يثنّى ، لأنه مصدر ، قاله الفرّاء. والرابع : أنه الهرم ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن زيد.

قوله تعالى : (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) يعنون : الموتى. فإن قيل : كيف حلفوا على شيء يجوز

__________________

(١) ذكره أبو حيان في تفسيره ٥ / ٣٢٤ ، وعزاه إلى أوس بن حجر.

(٢) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «حرض» ، ونسبه إلى عبد الله بن عمر بن عبد الله العرجيّ.

٤٦٤

أن يتغيّر؟ فالجواب : أنّ في الكلام إضمارا ، تقديره : إنّ هذا في تقديرنا وظنّنا.

قوله تعالى : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) قال ابن قتيبة : البثّ : أشدّ الحزن ، سمّي بذلك ، لأنّ صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثّه.

قوله تعالى : (إِلَى اللهِ) المعنى : إنّي لا أشكو إليكم ، وذلك لمّا عنّفوه بما تقدّم ذكره.

(٨١٩) وروى الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» من حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كان ليعقوب أخ مؤاخ ، فقال له ذات يوم : يا يعقوب ، ما الذي أذهب بصرك؟ وما الذي قوّس ظهرك؟ قال : أمّا الذي أذهب بصري ، فالبكاء على يوسف ، وأمّا الذي قوّس ظهري ، فالحزن على بنيامين ، فأتاه جبريل ، فقال : يا يعقوب إنّ الله يقرئك السّلام ويقول لك : أما تستحي أن تشكو إلى غيري؟ فقال : إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله ، فقال جبريل : الله أعلم بما تشكو ، ثم قال يعقوب : أي ربّ ، أما ترحم الشيخ الكبير؟ أذهبت بصري ، وقوّست ظهري ، فاردد عليّ ريحاني أشمّه شمّة قبل الموت ، ثم اصنع بي يا ربّ ما شئت ، فأتاه جبريل ، فقال : يا يعقوب ، إنّ الله يقرأ عليك السّلام ويقول : أبشر ، فو عزّتي لو كانا ميّتين لنشرتهما لك ، اصنع طعاما للمساكين ، فإنّ أحبّ عبادي إليّ المساكين ، وتدري لم أذهبت بصرك ، وقوّست ظهرك ، وصنع إخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؟ لأنّكم ذبحتم شاة ، فأتاكم فلان المساكين وهو صائم ، فلم تطعموه منها. فكان يعقوب ، بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر مناديا فنادى : ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغد مع يعقوب ، وإذا كان صائما أمر مناديا فنادى : من كان صائما فليفطر مع يعقوب. وقال وهب بن منبّه : أوحى الله تعالى إلى يعقوب : أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة؟ قال : لا ، قال : لأنّك شويت عناقا وقتّرت على جارك وأكلت ولم تطعمه». وذكر بعضهم أنّ السبب في ذلك أنّ يعقوب ذبح عجل بقرة بين يديها ، وهي تخور ، فلم يرحمها.

فإن قيل : كيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكا؟ فقد ذكر المفسّرون عنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنه يجوز أن يكون ذلك عن أمر الله تعالى ، وهو الأظهر. والثاني : لئلّا يظنّ الملك بتعجيل

____________________________________

(٨١٩) أخرجه الحاكم ٢ / ٣٤٨  ـ  ٣٤٩ ، وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير ٢ / ٦٠١ وإسناده ضعيف جدا. قال الحاكم : هكذا في سماعي بخط يد حفص بن عمر بن الزبير ، وأظن الزبير وهما من الراوي فإنه حفص بن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري ابن أخي أنس بن مالك ، فإن كان كذلك فالحديث صحيح! وسكت الذهبي ، في حين ذكر الذهبيّ في «الميزان» ١ / ٥٦٦ حفصا هذا ، وقال : ضعفه الأزدي. وذكر الحافظ في «اللسان» ٢ / ٣٢٩ كلام الذهبي ، وزاد : وذكره ابن حبان في «ثقاته» وقال : حفص بن عمر بن أبي الزبير عن أنس ، روى عنه يحيى بن عبد الملك. قلت : ابن حبان يوثق المجاهيل ، وقد تفرد يحيى بن عبد الملك بالرواية عنه ، فهو مجهول ، ويدل على ذلك إبهامه في بعض الروايات كما سيأتي. وأخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» ٨٥٧ ، من طريق يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية عن حفص بن عمر الأحمسي عن أبي الزبير عن أنس بن مالك. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٤٠ : رواه الطبراني في «الصغير» و «الأوسط» عن شيخه : محمد بن أحمد الباهلي البصري وهو ضعيف جدا. والحديث استغربه ابن كثير واستنكره ، والأشبه أنه متلقى عن أهل الكتاب ، ولا أصل له في المرفوع. وأخرجه ابن أبي الدنيا في «الفرج بعد الشدة» ٤٦ ، من طريق يحيى بن عبد الملك ، عن رجل ، عن أنس ابن مالك. الخلاصة : هو حديث ضعيف جدا ، شبه موضوع ، والأشبه أنه من الإسرائيليات ، ولا يصح رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤٦٥

استدعائه أهله ، شدّة فاقتهم. والثالث : أنه أحبّ بعد خروجه من السّجن أن يدرّج نفسه إلى كمال السّرور. والصحيح أنّ ذلك كان عن أمر الله تعالى ، ليرفع درجة يعقوب بالصّبر على البلاء. وكان يوسف يلاقي من الحزن لأجل حزن أبيه عظيما ، ولا يقدر على دفع سببه.

قوله تعالى : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فيه أربعة أقال : أحدها : أعلم أنّ رؤيا يوسف صادقة وأنّا سنسجد له ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أعلم من سلامة يوسف ما لا تعلمون. قال ابن السّائب : وذلك أنّ ملك الموت أتاه ، فقال له يعقوب : هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال : لا. والثالث : أعلم من رحمة الله وقدرته ما لا تعلمون ، قاله عطاء. والرابع : أنه لمّا أخبره بنوه بسيرة العزيز ، طمع أن يكون هو يوسف ، قاله السّدّيّ ، قال : ولذلك قال لهم : (اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا). وقال وهب بن منبّه : لمّا قال له ملك الموت : ما قبضت روح يوسف ، تباشر عند ذلك ، ثم أصبح ، فقال لبنيه : (اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ). قال أبو عبيدة : «تحسّسوا» أي : تخبّروا والتمسوا في المظانّ. فإن قيل : كيف قال : «من يوسف» والغالب أن يقال : تحسّست عن كذا؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري : أحدهما : أنّ المعنى : عن يوسف ، ولكن نابت عنها «من» كما تقول العرب : حدّثني فلان من فلان ، يعنون عنه. والثاني : أن «من» أوثرت للتّبعيض ، والمعنى : تحسّسوا خبرا من أخبار يوسف. قوله تعالى : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : من رحمة الله ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك. والثاني : من فرج الله ، قاله ابن زيد. والثالث : من توسعة الله ، حكاه ابن القاسم. قال الأصمعيّ : الرّوح : الاستراحة من غمّ القلب. وقال أهل المعاني : لا تيأسوا من الرّوح الذي يأتي به الله ، (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) لأنّ المؤمن يرجو الله في الشدائد.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))

قوله تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) في الكلام محذوف ، تقديره : فخرجوا إلى مصر ، فدخلوا على يوسف ، ف (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) وكان يسمّون ملكهم بذلك ، (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) يعنون الفقر والحاجة (١) (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ). وفي ماهية تلك البضاعة سبعة أقوال : أحدها : أنها كانت دراهم ،

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «الجامع لأحكام القرآن» ٩ / ٢١٤ : في هذا دليل على جواز الشكوى عند الضر أي الجوع ، بل واجب عليه إذا ضاف على نفسه الضّر من الفقر وغيره أن يبدي حالته إلى من يرجو منه النفع ، كما هو واجب عليه أن يشكو ما به من الألم إلى الطبيب ليعالجه ، ولا يكون ذلك قدحا في التوكل ، وهذا ما لم يكن التشكّي على سبيل التّسخط ، والصبر والتجلد في النوائب أحسن ، والتعفف عن المسألة أفضل ، وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى.

٤٦٦

رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنها كانت متاعا رثّا كالحبل والغرارة ، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس. والثالث : كانت أقطا (١) ، قاله الحسن. والرابع : كانت نعالا وأدما ، رواه جويبر عن الضّحّاك. والخامس : كانت سويق المقل ، روي عن الضّحّاك أيضا. والسادس : حبّة الخضراء وصنوبر ، قاله أبو صالح. والسابع : كانت صوفا وشيئا من سمن ، قاله عبد الله بن الحارث. وفي المزجاة خمسة أقوال : أحدها : أنها القليلة. روى العوفيّ عن ابن عباس قال : دراهم غير طائلة ، وبه قال مجاهد ، وابن قتيبة. قال الزّجّاج : تأويله في اللغة أنّ التّزجية : الشيء الذي يدافع به ، يقال : فلان يزجي العيش ، أي : يدفع بالقليل ويكتفي به ، فالمعنى : جئنا ببضاعة إنما ندافع بها ونتقوّت ، وليست ممّا يتّسع به ، قال الشاعر :

الواهب المائة الهجان وعبدها

عوذا تزجّي خلفها أطفالها (٢)

أي : تدفع أطفالها. والثاني : أنها الرّديئة ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. قال أبو عبيدة : إنما قيل للرّديئة : مزجاة ، لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها ، قال : وهي من الإزجاء ، والإزجاء عند العرب : السّوق والدّفع ، وأنشد :

 ليبك على ملحان ضيف مدفّع

وأرملة تزجي مع اللّيل أرملا (٣)

أي : تسوقه. والثالث : الكاسدة ، رواه الضّحّاك أيضا عن ابن عباس. والرابع : الرّثّة ، وهي المتاع الخلق ، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس. والخامس : الناقصة ، رواه أبو حصين عن عكرمة. قوله تعالى : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي : أتمّه لنا ولا تنقصه لرداءة بضاعتنا. قوله تعالى : (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : تصدّق علينا بما بين سعر الجياد والرديئة ، قاله سعيد بن جبير ، والسّدّيّ. قال ابن الأنباري : كان الذي سألوه من المسامحة يشبه التّصدّق ، وليس به. والثاني : بردّ أخينا ، قاله ابن جريج ، قال : وذلك أنهم كانوا أنبياء ، والصّدقة لا تحلّ للأنبياء. والثالث : وتصدّق علينا بالزّيادة على حقّنا ، قاله ابن عيينة ، وذهب إلى أنّ الصّدقة قد كانت تحلّ للأنبياء قبل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حكاه عنه أبو سليمان الدّمشقي ، وأبو الحسن الماوردي ، وأبو يعلى بن الفرّاء.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) أي : بالثواب. قال الضّحّاك : لم يقولوا : إن الله يجزيك إن تصدّقت علينا ، لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن.

قوله تعالى : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) في سبب قوله لهم هذا ، ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه أخرج إليهم نسخة الكتاب الذي كتبوه على أنفسهم ببيعه من مالك بن ذعر ، وفي آخر الكتاب : «وكتب يهوذا» فلمّا قرءوا الكتاب اعترفوا بصحّته وقالوا : هذا كتاب كتبناه على أنفسنا عند بيع عبد كان لنا ، فقال يوسف عند ذلك : إنكم تستحقّون العقوبة ، وأمر بهم ليقتلوا ، فقالوا : إن كنت فاعلا ، فاذهب بأمتعتنا إلى يعقوب ، ثم أقبل يهوذا على بعض إخوته ، وقال : قد كان أبونا متّصل الحزن لفقد واحد من ولده ، فكيف به إذا أخبر بهلكنا أجمعين؟ فرقّ يوسف عند ذلك وكشف لهم أمره ، وقال لهم هذا القول ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنهم لمّا قالوا : (مسّنا وأهلنا الضرّ) أدركته

__________________

(١) في «القاموس» : الأقط : شيء يتخذ من المخيض الغنميّ ، وأقط الطعام : عمله به.

(٢) البيت للأعشى في ديوانه ٢٩ ، وفي «القاموس» الهجائن : البيض الكرام.

(٣) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «رمل» ، ونسبه إلى ابن بري. وامرأة أرملة ورجل أرمل : من لا زوج له.

٤٦٧

الرّحمة ، فقال لهم هذا ، قاله ابن إسحاق. والثالث : أنّ يعقوب كتب إليه كتابا : إن رددت ولدي ، وإلّا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك ، فبكى ، وقال لهم هذا. وفي «هل» قولان : أحدهما : أنها استفهام لتعظيم القصّة لا يراد به نفس الاستفهام. قال ابن الأنباري : والمعنى : ما أعظم ما ارتكبتم ، وما أسمج ما آثرتم من قطيعة الرّحم وتضييع الحقّ ، وهذا مثل قول العربي : أتدري من عصيت؟ هل تعرف من عاديت؟ لا يريد بذلك الاستفهام ، ولكن يريد تفظيع الأمر ، قال الشاعر :

أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي (١)

لم يرد الاستفهام ، إنما أراد أنّ هذا غير مرجو عندهم. قال : ويجوز أن يكون المعنى : هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله لهما من المكروه؟ وهذه الآية تصديق قوله : (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ). والثاني : أنّ «هل» بمعنى «قد» ، ذكره بعض أهل التّفسير.

فإن قيل : فالذي فعلوا بيوسف معلوم ، فما الذي فعلوا بأخيه ، وما سعوا في حبسه ولا أرادوه؟ فالجواب من وجوه : أحدها : أنهم فرّقوا بينه وبين يوسف ، فنغّصوا عيشه بذلك. والثاني : أنهم آذوه بعد فقد يوسف. والثالث : أنهم سبّوه لمّا قذف بسرقة الصّاع.

وفي قوله : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) أربعة أقوال : أحدها : إذ أنتم صبيان ، قاله ابن عباس. والثاني : مذنبون ، قاله مقاتل. والثالث : جاهلون بعقوق الأب ، وقطع الرّحم ، وموافقة الهوى. والرابع : جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف ، ذكرهما ابن الأنباري.

قوله تعالى : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) قرأ ابن كثير ، وأبو جعفر ، وابن محيصن : «إنك» على الخبر ، وقرأه آخرون بهمزتين محقّقتين ، وأدخل بعضهم بينهما ألفا (٢).

واختلف المفسّرون ، هل عرفوه ، أم شبّهوه؟ على قولين : أحدهما : أنهم شبّهوه بيوسف ، قاله ابن عباس في رواية. والثاني : أنهم عرفوه ، قاله ابن إسحاق. وفي سبب معرفتهم له ثلاثة أقوال : أحدها : أنه تبسّم ، فشبّهوا ثناياه بثنايا يوسف ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أنه كانت له علامة كالشّامة في قرنه ، وكان ليعقوب مثلها ، ولإسحاق مثلها ، ولسارة ، فلما وضع التّاج عن رأسه ، عرفوه ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث : أنه كشف الحجاب ، فعرفوه ، قاله ابن إسحاق.

قوله تعالى : (قالَ أَنَا يُوسُفُ) قال ابن الأنباري : إنما أظهر الاسم ، ولم يقل : أنا هو ، تعظيما لما وقع به من ظلم إخوته ، فكأنه قال : أنا المظلوم المستحلّ منه ، المراد قتله ، فكفى ظهور الاسم من هذه المعاني ، ولهذا قال : (وَهذا أَخِي) وهم يعرفونه ، وإنما قصد : وهذا المظلوم كظلمي. قوله تعالى :

__________________

(١) هذا صدر بيت وعجزه (وقومي تميم والفلاة ورائيا) ، وسيأتي بتمامه ص ٥٠٧.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله ٢ / ٦٠٢ : القراءة المشهورة هي الأولى ، لأن الاستفهام يدل على الاستعظام ، أي : إنهم تعجبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر ، وهم لا يعرفون ، وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه ، فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ).

وقال الطبري رحمه‌الله ٧ / ٢٩١ : الصواب من القراءة في ذلك عندنا ، قراءة من قرأه بالاستفهام ، لإجماع الحجة من القراء عليه ، فوافق بذلك ابن كثير.

٤٦٨

(قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : بخير الدنيا والآخرة. والثاني : بالجمع بعد الفرقة. والثالث : بالسلامة ثم بالكرامة.

قوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) قرأ ابن كثير في رواية قنبل : «من يتقي ويصبر» بياء في الوصل والوقف ، وقرأ الباقون بغير ياء في الحالين. وفي معنى الكلام أربعة أقوال : أحدها : من يتّق الزّنى ويصبر على البلاء. والثاني : من يتّق الزّنى ويصبر على العزوبة. والثالث : من يتّق الله ويصبر على المصائب ، رويت هذه الأقوال عن ابن عباس. والرابع : من يتّق معصية الله ويصبر على السجن ، قاله مجاهد.

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي : أجر من كان هذا حاله.

قوله تعالى : (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) أي : اختارك وفضّلك. وبما ذا عنوا أنه فضّله فيه؟ أربعة أقوال : أحدها : بالملك ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : بالصبر ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : بالحلم والصّفح عنا ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي. والرابع : بالعلم والعقل والحسن وسائر الفضائل التي أعطاه.

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) قال ابن عباس : لمذنبين آثمين في أمرك. قال ابن الأنباري : ولهذا اختير «خاطئين» على «مخطئين» ، وإن كان «أخطأ» على ألسن الناس أكثر من «خطئ يخطأ» لأنّ معنى خطئ يخطأ ، فهو خاطئ : آثم ، ومعنى أخطأ يخطئ ، فهو مخطئ : ترك الصواب ولم يأثم ، قال الشاعر :

عبادك يخطئون وأنت ربّ

بكفّيك المنايا والحتوم (١)

أراد : يأثمون. قال : ويجوز أن يكون آثر «خاطئين» على «مخطئين» لموافقة رؤوس الآيات ، لأنّ «خاطئين» أشبه بما قبلها. وذكر الفرّاء في معنى «إن» قولين :

أحدهما : وقد كنّا خاطئين. والثاني : وما كنّا إلّا خاطئين.

قوله تعالى : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) قال أبو صالح عن ابن عباس : لا أعيّركم بعد اليوم بهذا أبدا. قال ابن الأنباري : إنما أشار إلى ذلك اليوم ، لأنه أول أوقات العفو ، وسبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة. وقال ثعلب : قد ثرّب فلان على فلان : إذا عدّد عليه ذنوبه. وقال ابن قتيبة : لا تعيير عليكم بعد هذا اليوم بما صنعتم ، وأصل التّثريب : الإفساد ، يقال : ثرّب علينا : إذا أفسد. وفي الحديث :

(٨٢٠) «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ ، ولا يثرب» أي : لا يعيّرها بالزّنى. قال ابن عباس :

____________________________________

(٨٢٠) صحيح. أخرجه البخاري ٢١٥٢  ـ  ٢٢٣٤  ـ  ٦٨٣٩ ، ومسلم ٣٠  ـ  ٣١  ـ  ١٧٠٣ وأبو داود ٤٤٧٠ و ٤٤٧١ ، من طريق سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظ الحديث بتمامه في البخاري : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا زنت الأمة فتبين زناها ، فليجلدها ولا يثرّب ، ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرّب ، ثم إن زنت الثالثة ، فليبعها ولو بحبل من شعر» وسيأتي ذكره في سورة النور.

__________________

(١) ذكره ابن منظور في «اللسان» وقال : الحتم : القضاء ، وجمعه حتوم.

٤٦٩

جعلهم في حلّ ، وسأل الله المغفرة لهم.

وقال السّدّيّ : لمّا عرّفهم نفسه ، سألهم عن أبيه ، فقالوا : ذهبت عيناه ، فأعطاهم قميصه ، وقال : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي) وهذا القميص كان في قصبة من فضّة معلّقا في عنق يوسف لمّا ألقي في الجبّ ، وكان من الجنّة ، وقد سبق ذكره.

قوله تعالى : (يَأْتِ بَصِيراً) قال أبو عبيدة : يعود مبصرا.

فإن قيل : من أين قطع على الغيب؟ فالجواب : أنّ ذلك كان بالوحي إليه ، قاله مجاهد.

قوله تعالى : (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) قال الكلبيّ : كان أهله نحوا من سبعين إنسانا.

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤))

قوله تعالى : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) أي : خرجت من مصر متوجّهة إلى كنعان. وكان الذي حمل القميص يهوذا. قال السّدّيّ : قال يهوذا ليوسف : أنا الذي حملت القميص إلى يعقوب بدم كذب فأحزنته ، وأنا الآن أحمل قميصك لأسرّه ، فحمله ، قال ابن عباس : فخرج حافيا حاسرا يعدو ، ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها. قوله تعالى : (قالَ أَبُوهُمْ) يعني يعقوب لمن حضره من أهله وقرابته وولد ولده (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) ومعنى أجد : أشمّ ، قال الشاعر :

وليس صرير النّعش ما تسمعونه

ولكنّها أصلاب قوم تقصّف (١)

وليس فتيق المسك ما تجدونه

ولكنّه ذاك الثّناء المخلّف

فإن قيل : كيف وجد يعقوب ريحه وهو بمصر ، ولم يجد ريحه من الجبّ وبعد خروجه منه ، والمسافة هناك أقرب؟ فعنه جوابان :

أحدهما : أنّ الله أخفى أمر يوسف على يعقوب في بداية الأمر لتقع البليّة التي يتكامل بها الأجر ، وأوجده ريحه من المكان النّازح عند تقضّي البلاء ومجيء الفرج.

والثاني : أنّ هذا القميص كان في قصبة من فضّة معلّقا في عنق يوسف على ما سبق بيانه ، فلمّا نشره فاحت روائح الجنان في الدنيا فاتصلت بيعقوب ، فعلم أنّ الرائحة من جهة ذلك القميص. قال مجاهد : هبّت ريح فضربت القميص ، ففاحت روائح الجنّة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة ، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنّة إلا ما كان من ذلك القميص ، فمن ثم قال : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ). وقيل : إنّ ريح الصّبا استأذنت ربّها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل البشير فأذن لها ، فلذلك يستروح كلّ محزون إلى ريح الصّبا ، ويجد المكروبون لها روحا ، وهي ريح ليّنة تأتي من ناحية المشرق ، قال أبو صخر الهذليّ :

إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني

نسيم الصّبا من حيث يطّلع الفجر

قال ابن عباس : وجد ريح قميص يوسف من مسيرة ثمان ليال ثمانين فرسخا.

قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) فيه خمسة أقوال : أحدها : تجهّلون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن

__________________

(١) في «اللسان» الأصلاب : جمع صلب وهو الظهر.

٤٧٠

عباس ، وبه قال مقاتل. والثاني : تسفهون ، رواه عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، وقتادة ، ومجاهد في رواية. وقال في رواية أخرى : لو لا أن تقولوا : ذهب عقلك. والثالث : تكذّبون ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، والضّحّاك. والرابع : تهرّمون ، قاله الحسن ، ومجاهد في رواية. قال ابن فارس : الفند : إنكار العقل من هرم. والخامس : تعجّزون ، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة : تسفّهون وتعجّزون وتلومون ، وأنشد :

يا صاحبيّ دعا لومي وتفنيدي

فليس ما فات من أمر بمردود (١)

قال ابن جرير : وأصل التّفنيد : الإفساد ، وأقوال المفسّرين تتقارب معانيها (٢) ، وسمعت الشيخ أبا محمّد بن الخشّاب يقول : قوله : «لو لا أن تفنّدون» فيه إضمار تقديره : لأخبرتكم أنه حيّ.

(قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥))

قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) قال ابن عباس : بنو بنيه خاطبوه بهذا ، وكذلك قال السّدّيّ : هذا قول بني بنيه ، لأنّ بنيه كانوا بمصر. وفي معنى هذا الضلال ثلاثة أقوال : أحدها : أنه بمعنى الخطأ ، قاله ابن عباس ، وابن زيد. والثاني : أنه الجنون ، قاله سعيد بن جبير. والثالث : الشّقاء والعناء ، قاله مقاتل ، يريد بذلك شقاء الدنيا.

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨))

قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) فيه قولان : أحدهما : أنه يهوذا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال وهب بن منبّه ، والسّدّيّ ، والجمهور. والثاني : أنه شمعون ، قاله الضّحّاك.

فإن قيل : ما الفرق بين قوله ها هنا : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ) وقال في موضع : (فَلَمَّا جاءَهُمْ) (٣).

فالجواب : أنهما لغتان لقريش خاطبهم الله بهما جميعا ، فدخول «أن» لتوكيد مضيّ الفعل ، وسقوطها للاعتماد على إيضاح الماضي بنفسه ، ذكره ابن الأنباري (٤).

قوله تعالى : (أَلْقاهُ) يعني القميص (عَلى وَجْهِهِ) يعني يعقوب (فَارْتَدَّ بَصِيراً) ، الارتداد : رجوع الشيء إلى حال قد كان عليها. قال ابن الأنباري : إنما قال : ارتدّ ، ولم يقل : ردّ ، لأنّ هذا من الأفعال المنسوبة إلى المفعولين ، كقولهم : طالت النّخلة ، والله أطالها ، وتحركت الشجرة ، والله قد

__________________

(١) البيت لهانئ بن شكيم العدوي «مجاز القرآن» ١ / ٣١٨.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله ٧ / ٢٩٧ : أصل التفنيد ، الإفساد. وإذ كان ذلك كذلك فالضعف والهرم والكذب وذهاب العقل والضعف ، وفي الفعل : الكذب واللوم بالباطل. فالأقوال على اختلاف عباراتهم متقاربة المعاني ، محتمل جميعها ظاهر التنزيل ، إذ لم يكن في الآية دليل على أنه معني به بعض ذلك دون بعض.

(٣) سورة البقرة : ٨٩.

(٤) كذلك قال الطبري رحمه‌الله ٧ / ٢٩٩ ، وقال أيضا : هذا في «لما» و «حتى» خاصة ، كما قال جل ثناؤه ، (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا)  ـ  العنكبوت : ٣٣  ـ.

٤٧١

حركها. قال الضّحّاك : رجع إليه بصره بعد العمى ، وقوّته بعد الضّعف ، وشبابه بعد الهرم ، وسروره بعد الحزن. وروى يحيى بن يمان عن سفيان قال : لمّا جاء البشير يعقوب ، قال : على أيّ دين تركت يوسف؟ قال : على الإسلام ، قال : الآن تمّت النّعمة.

قوله تعالى : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فيه أقوال قد سبق ذكرها قبل هذا بقليل. قوله تعالى : (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) سألوه أن يستغفر لهم ما أتوا ، لأنه نبيّ مجاب الدّعوة. (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) في سبب تأخيره لذلك ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه أخّرهم لانتظار الوقت الذي هو مظنّة الإجابة ، ثم فيه ثلاثة أقوال :

(٨٢١) أحدها : أنه أخّرهم إلى ليلة الجمعة ، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال وهب : كان يستغفر لهم كلّ ليلة جمعة في نيّف وعشرين سنة (١). والثاني : إلى وقت السّحر من ليلة الجمعة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال طاوس : فوافق ذلك ليلة عاشوراء. والثالث : إلى وقت السّحر ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال ابن مسعود ، وابن عمر ، وقتادة ، والسّدّيّ ، ومقاتل. قال الزّجّاج : إنما أراد الوقت الذي هو أخلق لإجابة الدّعاء ، لا أنه ضنّ عليهم بالاستغفار ، وهذا أشبه بأخلاق الأنبياء عليهم‌السلام.

والقول الثاني : أنه دفعهم عن التّعجيل بالوعد. قال عطاء الخراسانيّ : طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ ، ألا ترى إلى قول يوسف : (لا تثريب عليكم اليوم) وإلى قول يعقوب : (سوف أستغفر لكم ربي).

والثالث : أنه أخّرهم ليسأل يوسف ، فإن عفا عنهم ، استغفر لهم ، قاله الشّعبيّ.

وروي عن أنس بن مالك أنهم قالوا : يا أبانا إن عفا الله عنا ، وإلّا فلا قرّة عين لنا في الدنيا ، فدعا يعقوب وأمّن يوسف ، فلم يجب فيهم عشرين سنة ، ثم جاء جبريل فقال : إنّ الله قد أجاب دعوتك في ولدك ، وعفا عمّا صنعوا به ، واعتقد مواثيقهم من بعد على النّبوّة. قال المفسّرون : وكان يوسف قد بعث مع البشير إلى يعقوب جهازا ومائتي راحلة ، وسأله أن يأتيه بأهله وولده. فلما ارتحل يعقوب ودنا

____________________________________

(٨٢١) ضعيف جدا ، والأشبه أنه موضوع. أخرجه الطبري ١٩٨٨٠ و ١٩٨٨١ من طريقين عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي قال : حدثنا الوليد ، قال : أخبرنا ابن جريج عن عطاء وعكرمة عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد قال أخي يعقوب (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) يقول : حتى تأتي ليلة الجمعة». وهذا إسناد ضعيف جدا ، وله علتان : الأولى : ضعف سليمان بن عبد الرحمن ، فهو وإن وثقه بعضهم ، وقال أبو حاتم الرازي : صدوق ، فقد عقب ذلك أبو حاتم بقوله : إلا أنه من أروى الناس عن الضعفاء والمجهولين ، وهو عندي في حدّ لو أن رجلا وضع له حديثا لم يفهم ، وكان لا يميّز. راجع «الميزان» ٢ / ٢١٢  ـ  ٢١٤. العلة الثانية : عنعنة ابن جريج ، وهو مدلس ، وهو لم يسمع من عكرمة. قال الإمام أحمد : بعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة ، كان ابن جريج ، لا يبالي من أين يأخذها. راجع «الميزان» ٢ / ٦٥٩. فالحديث ضعيف جدا ، والأشبه أنه موضوع. وقال الحافظ ابن كثير ٢ / ٤٠٦ : هذا حديث غريب ، وفي رفعه نظر ، والله أعلم.

__________________

(١) هذا قول بعيد ، وهب هو ابن منبه ، عامة ما يرويه عن كتب الإسرائيليات.

٤٧٢

من مصر ، استأذن يوسف الملك الذي فوقه في تلقي يعقوب ، فأذن له ، وأمر الملأ من أصحابه بالرّكوب معه ، فخرج في أربعة آلاف من الجند ، وخرج معهم أهل مصر. وقيل : إنّ الملك خرج معهم أيضا. فلما التقى يعقوب ويوسف ، بكيا جميعا ، فقال يوسف : يا أبت بكيت عليّ حتى ذهب بصرك ، أما علمت أنّ القيامة تجمعني وإيّاك؟ قال : أي بنيّ ، خشيت أن تسلب دينك فلا نجتمع. وقيل : إنّ يعقوب ابتدأه بالسّلام ، فقال : السّلام عليك يا مذهب الأحزان.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩))

قوله تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) يعني : يعقوب وولده. وفي هذا الدّخول قولان :

أحدهما : أنه دخول أرض مصر ، ثم قال لهم : (ادْخُلُوا مِصْرَ) يعني البلد.

والثاني : أنه دخول مصر ، ثم قال لهم : «ادخلوا مصر» أي : استوطنوها.

وفي قوله تعالى : (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) قولان : أحدهما : أبوه وخالته ، لأنّ أمّه كانت قد ماتت ، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني : أبوه وأمّه ، قاله الحسن ، وابن إسحاق.

وفي قوله تعالى : (إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) أربعة أقوال (١) : أحدها : أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، فالمعنى : سوف أستغفر لكم ربّي إن شاء الله ، إنه هو الغفور الرّحيم ، هذا قول ابن جريج. والثاني : أنّ الاستثناء يعود إلى الأمن. ثم فيه قولان : أحدهما : أنه لم يثق بانصراف الحوادث عنهم. والثاني : أنّ الناس كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر ، فلا يدخلون إلّا بجوارهم. والثالث : أنه يعود إلى دخول مصر ، لأنه قال لهم هذا حين تلقّاهم قبل دخولهم ، على ما سبق بيانه. والرابع : أنّ «إن» بمعنى : «إذ» : كقوله (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (٢). قال ابن عباس : دخلوا مصر يومئذ وهم نيّف وسبعون بين ذكر وأنثى. وقال ابن مسعود : دخلوا وهم ثلاثة وتسعون ، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا (٣).

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))

قوله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) في «أبويه» قولان : قد تقدما في الآية التي قبلها. والعرش ها هنا : سرير المملكة ، أجلس أبويه عليه (وَخَرُّوا لَهُ) يعني : أبويه وإخوته. وفي هاء «له» قولان :

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله ٩ / ٢٢٤ : إنما قال : «إن شاء الله» تبركا وجزما «آمنين» من القحط أو من فرعون ، وكانوا لا يدخلونها إلا بجوازه. وقال الإمام الطبري رحمه‌الله ٧ / ٣٠٢ : والصواب في ذلك عندنا ما قاله السدي ، وهو أن يوسف قال ذلك لأبويه ومن معهما من أولادهما وأهاليهم قبل دخولهم مصر حين تلقاهم لأن ذلك في ظاهر التنزيل كذلك ، فلا دلالة تدل على صحة ما قاله ابن جريج ، ولا وجه لتقديم شيء من كتاب الله عن موضعه أو تأخيره عن مكانه إلا بحجة واضحة.

(٢) سورة النور : ٣٣.

(٣) هذه أرقام مصدرها كتب الأقدمين ، لا حجة في شيء من ذلك.

٤٧٣

أحدهما : أنها ترجع إلى يوسف ، قاله الجمهور. قال أبو صالح عن ابن عباس : كان سجودهم كهيئة الرّكوع كما يفعل الأعاجم. وقال الحسن : أمرهم الله بالسجود لتأويل الرّؤيا. قال ابن الأنباري : سجدوا له على جهة التّحيّة لا على معنى العبادة ، وكان أهل ذلك الدّهر يحيّي بعضهم بعضا بالسجود والانحناء ، فحظّره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فروى أنس بن مالك قال :

(٨٢٢) «قال رجل : يا رسول الله! أحدنا يلقى صديقه ، أينحني له؟ قال : لا».

والثاني : أنها ترجع إلى الله ، فالمعنى : وخرّوا لله سجّدا ، رواه عطاء ، والضّحّاك عن ابن عباس ، فيكون المعنى : أنهم سجدوا شكرا لله إذ جمع بينهم وبين يوسف.

قوله تعالى : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) أي : تصديق ما رأيت ، وكان قد رآهم في المنام يسجدون له ، فأراه الله ذلك في اليقظة. واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها على سبعة أقوال : أحدها : أربعون سنة ، قاله سلمان الفارسيّ وعبد الله بن شدّاد بن الهاد ومقاتل. والثاني : اثنتان وعشرون سنة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : ثمانون سنة ، قاله الحسن والفضيل بن عياض. والرابع : ستّ وثلاثون سنة ، قاله سعيد بن جبير وعكرمة والسّدّيّ. والخامس : خمس وثلاثون سنة ، قاله قتادة. والسادس : سبعون سنة ، قاله عبد الله بن شوذب. والسابع : ثماني عشرة سنة ، قاله ابن إسحاق.

قوله تعالى : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) أي : إليّ. والبدو : البسط من الأرض. وقال ابن عباس : البدو : البادية ، وكانوا أهل عمود وماشية.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي : أفسد بيننا. قال أبو عبيدة : يقال : نزغ بينهم ينزغ ، أي : أفسد وهيّج ، وبعضهم يكسر زاي ينزغ. (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي : عالم بدقائق الأمور. وقد شرحنا معنى «اللطيف» في سورة (الأنعام) (١).

فإن قيل : قد توالت على يوسف نعم جمّة ، فما السّرّ في اقتصاره على ذكر السّجن ، وهلّا ذكر الجبّ ، وهو أصعب؟ فالجواب من وجوه : أحدها : أنه ترك ذكر الجبّ تكرّما ، لئلّا يذكّر إخوته صنيعهم ، وقد قال (لا تثريب عليكم اليوم). والثاني : أنه خرج من الجبّ إلى الرّقّ ، ومن السّجن إلى الملك ، فكانت هذه النّعمة أوفى. والثالث : أنّ طول لبثه في السّجن كان عقوبة له ، بخلاف الجبّ ، فشكر الله على عفوه.

____________________________________

(٨٢٢) أخرجه الترمذي ٢٧٢٨ ، وابن ماجة ٣٧٠٢ ، وأبو يعلى ٤٢٨٩ ، والطحاوي في «المعاني» ١ / ٢٨١ والبيهقي في «السنن» ٧ / ١٠٠ من طريق حنظلة بن عبد الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال : لا ، قال : أفيلتزمه ويقبله؟ قال : لا ، قال : أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال : نعم». وإسناده ضعيف لضعف حنظلة ، قال الذهبي في «الميزان» ١ / ٦٢١ : قال يحيى القطان : تركته عمدا ، كان قد اختلط ، وضعفه أحمد ، وقال : منكر الحديث ، يحدث بأعاجيب ، وقال ابن معين : ليس بشيء. وضعف هذا الحديث البيهقي عقب روايته ، وكذا ضعفه أحمد كما في «تخريج الإحياء» ٢ / ٢٠٤. وهو ضعيف بهذا اللفظ ، وبهذا الإسناد ، فقد وردت أحاديث مرفوعة وموقوفة في جواز المعانقة والالتزام. وأما سياق المصنف ابن الجوزي : فله طرق وشواهد تقويه.

__________________

(١) في سورة الأنعام : ١٠٣.

٤٧٤

قال العلماء بالسّير : أقام يعقوب بعد قدومه مصر أربعا وعشرين سنة. وقال بعضهم : سبع عشرة سنة في أهنأ عيش ، فلمّا حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف أن يحمل إلى الشام حتى يدفنه عند أبيه إسحاق ، ففعل به ذلك ، وكان عمره مائة وسبعا وأربعين سنة ، ثم إنّ يوسف تاق إلى الجنّة ، وعلم أنّ الدنيا لا تدوم فتمنّى الموت ، قال ابن عباس ، وقتادة : ولم يتمنّ الموت نبيّ قبله ، فقال : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) يعني : ملك مصر (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) وقد سبق تفسيرها ، وفي «من» قولان : أحدهما : أنها صلة ، قاله مقاتل. والثاني : أنها للتّبعيض ، لأنه لم يؤت كلّ الملك ، ولا كلّ تأويل الأحاديث.

قوله تعالى : (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قد شرحناه في (الأنعام) (١). (أَنْتَ وَلِيِّي) أي : الذي تلي أمري. (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) قال ابن عباس : يريد : لا تسلبني الإسلام حتى تتوفّاني عليه. وكان ابن عقيل يقول : لم يتمنّ يوسف الموت ، وإنما سأل أن يموت على صفة ، والمعنى : توفّني إذا توفّيتني مسلما ، وهذا الصحيح (٢).

قوله تعالى : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) والمعنى : ألحقني بدرجاتهم ، وفيهم قولان : أحدهما : أنهم أهل الجنّة ، قاله عكرمة. والثاني : آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، قاله الضّحّاك ، قالوا : فلمّا احتضر يوسف ، أوصى إلى يهوذا ، ومات ، فتشاحّ الناس في دفنه ، كلّ يحبّ أن يدفن في محلّته رجاء البركة ، فاجتمعوا على دفنه في النّيل ليمرّ الماء عليه ويصل إلى الجميع ، فدفنوه في صندوق من رخام ، فكان هنالك إلى أن حمله موسى حين خرج من مصر ودفنه بأرض كنعان. قال الحسن : مات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة. وذكر مقاتل أنه مات بعد يعقوب بسنتين.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢))

قوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي : ذلك الذي قصصنا عليك من أمر يوسف وإخوته من الأخبار التي كانت غائبة عنك ، فأنزلته عليك دليلا على نبوّتك. (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي : عند إخوة يوسف (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) أي : عزموا على إلقائه في الجبّ (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) بيوسف. وفي هذا احتجاج على صحّة نبوّة نبيّنا عليه‌السلام ، لأنه لم يشاهد تلك القصّة ، ولا كان يقرأ الكتاب ، وقد أخبر عنها بهذا الكلام المعجز ، فدلّ على أنه أخبر بوحي.

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤))

قوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) قال ابن الأنباري : إنّ قريشا واليهود سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصّة يوسف وإخوته ، فشرحها شرحا شافيا ، وهو يؤمّل أن يكون ذلك سببا

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٤.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله ٢ / ٦٠٦ : وهذا يحتمل أنه أول من سأل الوفاة على الإسلام كما أن نوحا أول من قال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً).

٤٧٥

لإسلامهم ، فخالفوا ظنّه ، فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعزّاه الله تعالى بهذه الآية (١). قال الزّجّاج : ومعناها : وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم. (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) أي : على القرآن وتلاوته وهدايتك إيّاهم (مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ) أي : ما هو إلّا تذكرة لهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥))

قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ) أي : وكم (مِنْ آيَةٍ) أي : علامة ودلالة تدلّهم على توحيد الله ، من أمر السّماوات والأرض ، (يَمُرُّونَ عَلَيْها) أي : يتجاوزونها غير مفكّرين ولا معتبرين.

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦))

قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) فيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم المشركون ، ثم في معناها المتعلّق بهم قولان : أحدهما : أنهم يؤمنون بأنّ الله خالقهم ورازقهم وهم يشركون به ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، والشّعبيّ ، وقتادة. والثاني : أنها نزلت في تلبية مشركي العرب ، كانوا يقولون : لبّيك اللهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك ، إلّا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أنهم النّصارى ، يؤمنون بأنه خالقهم ورازقهم ، ومع ذلك يشركون به ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث : أنهم المنافقون ، يؤمنون في الظاهر رئاء للناس ، وهم في الباطن مشركون ، قاله الحسن.

فإن قيل : كيف وصف المشرك بالإيمان؟ فالجواب : أنه ليس المراد به حقيقة الإيمان ، وإنما المعنى : أنّ أكثرهم ، مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم ، مشركون.

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧))

قوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) قال ابن قتيبة : الغاشية : المجلّلة تغشاهم. وقال الزّجّاج : المعنى : يأتيهم ما يغمرهم من العذاب. والبغتة : الفجأة من حيث لم تتوقّع.

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨))

قوله تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) المعنى : قل يا محمّد للمشركين : هذه الدّعوة التي أدعو إليها ، والطّريقة التي أنا عليها ، سبيلي ، أي : سنّتي ومنهاجي. والسبيل تذكّر وتؤنّث ، وقد ذكرنا ذلك في (آل عمران) (٢). (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) أي : على يقين. قال ابن الأنباري : وكلّ مسلم لا يخلو من الدّعاء إلى الله عزوجل ، لأنه إذا تلا القرآن ، فقد دعا إلى الله بما فيه. ويجوز أن يتمّ الكلام عند قوله : (إِلَى اللهِ) ثم ابتدأ فقال : (عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (٣).

__________________

(١) مساءلة اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام عن قصة يوسف هو خبر موضوع. انظر «تفسير الشوكاني» ٣ / ٥.

(٢) في آل عمران : ١٩٥.

(٣) قال الشوكاني ٣ / ٧١ : وفي هذا دليل على أن كل متّبع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقّ عليه أن يقتدي به في الدعاء إلى الله ، أي الدعاء إلى الإيمان به وتوحيده والعمل بما شرعه لعباده. وكذلك قال ابن كثير ٢ / ٦١٠.

٤٧٦

قوله تعالى : (وَسُبْحانَ اللهِ) المعنى : وقل : سبحان الله تنزيها له عمّا أشركوا.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩))

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) هذا نزل من أجل قولهم : هلّا بعث الله ملكا ، فالمعنى : كيف تعجّبوا من إرسالنا إيّاك ، وسائر الرّسل كانوا على مثل حالك «يوحى إليهم» ، وقرأ حفص عن عاصم : «نوحي» بالنون. والمراد بالقرى : المدائن. وقال الحسن : لم يبعث الله نبيّا من أهل البادية ، ولا من الجنّ ، ولا من النّساء ، قال قتادة : لأنّ أهل القرى أعلم وأحلم من أهل العمود.

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) يعني : المشركين المنكرين نبوّتك (فَيَنْظُرُوا) إلى مصارع الأمم المكذّبة فيعتبروا بذلك. (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) يعني : الجنّة (خَيْرٌ) من الدنيا (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشّرك. قال الفرّاء : أضيفت الدّار إلى الآخرة ، وهي الآخرة ، لأنّ العرب قد تضيف الشيء إلى نفسه إذا اختلف لفظه ، كقوله : (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (١) والحق : هو اليقين ، وقولهم : أتيتك عام الأول ، ويوم الخميس.

قوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، وحفص ، والمفضّل ، ويعقوب : (تَعْقِلُونَ) بالتاء ، وقرأ الآخرون بالياء ، والمعنى : أفلا يعقلون هذا فيؤمنوا.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠))

قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) المعنى متعلّق بالآية الأولى ، فتقديره : وما أرسلنا من قبلك إلّا رجالا ، فدعوا قومهم ، فكذّبوهم ، وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم ، حتى إذا استيأس الرّسل ، وفيه قولان : أحدهما : استيأسوا من تصديق قومهم ، قاله ابن عباس. والثاني : من أن نعذّب قومهم ، قاله مجاهد. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «كذّبوا» مشدّدة الذّال مضمومة الكاف (٢) ، والمعنى : وتيقّن الرّسل أنّ قومهم قد كذّبوهم ، فيكون الظّنّ ها هنا بمعنى اليقين ، هذا قول الحسن ، وعطاء ، وقتادة. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «كذبوا» خفيفة ،

__________________

(١) سورة الواقعة : ٩٦.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله ٧ / ٣٢٢  ـ  ٣٢٣ : وبهذه القراءة كانت تقرأ عامة قراء المدينة والبصرة والشام أعني بتشديد الذال من «كذّبوا» وضم كافها. وهذا التأويل الذي ذهب إليه الحسن وقتادة في ذلك ، خلاف لما ذكرنا من أقوال جميع من حكينا قوله من الصحابة ، لأنه لم يوجه «الظن» في هذا الموضع منهم أحد إلى معنى العلم واليقين ، مع أن «الظن» استعمله العرب في موضع العلم فيما أدرك من جهة الخبر أو من غير وجه المشاهدة والمعاينة. وأما رواية مجاهد المخالفة بفتح الكاف والذال وتخفيف الذال «كذبوا» فهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها ، لإجماع الحجة من قراء الأمصار على خلافها ، وقال الحافظ ابن كثير ٢ / ٦١٣ : قد أنكرت عائشة رضي الله عنها على من قرأ «كذبوا» بالتخفيف. وانتصر لها ابن جرير ، ووجّه المشهور عن الجمهور ، وزيّف القول الآخر بالكلية وردّه وأباه ، ولم يقبله ولا ارتضاه والله أعلم.

٤٧٧

والمعنى : ظنّ قومهم أنّ الرّسل قد كذبوا فيما وعدوا به من النّصر ، لأنّ الرّسل لا يظنّون ذلك. وقرأ أبو رزين ، ومجاهد ، والضّحّاك : «كذبوا» بفتح الكاف والذّال خفيفة ، والمعنى : ظنّ قومهم أيضا أنهم قد كذبوا ، قاله الزّجّاج.

قوله تعالى : (جاءَهُمْ نَصْرُنا) يعني : الرّسل (فَنُجِّيَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «فننجي» بنونين (١) ، الأولى مضمومة والثانية ساكنة والياء ساكنة. وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر ، وحفص ، جميعا عن عاصم ، ويعقوب : «فنجّي» مشدّدة الجيم مفتوحة الياء بنون واحدة ، يعني : المؤمنين ، نجوا عند نزول العذاب.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) أي : في خبر يوسف وإخوته. وروى عبد الوارث كسر القاف ، وهي قراءة قتادة ، وأبي الجوزاء. (عِبْرَةٌ) أي : عظة (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي : لذوي العقول السّليمة ، وذلك من وجهين : أحدهما : ما جرى ليوسف من إعزازه وتمليكه بعد استعباده ، فإنّ من فعل ذلك به قادر على إعزاز محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعلية كلمته. والثاني : أنّ من تفكّر ، علم أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع كونه أمّيا ، لم يأت بهذه القصة على موافقة ما في التّوراة من قبل نفسه ، فاستدلّ بذلك على صحّة نبوّته.

قوله تعالى : (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) في المشار إليه قولان : أحدهما : أنه القرآن ، قاله قتادة. والثاني : ما تقدّم من القصص ، قاله ابن إسحاق. فعلى القول الأول ، يكون معنى قوله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) : ولكن كان تصديقا لما بين يديه من الكتاب (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه من أمور الدّين (وَهُدىً) بيانا (وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي : يصدّقون بما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعلى القول الثاني : وتفصيل كلّ شيء من نبأ يوسف وإخوته.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٧ / ٣٢٤ : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، قراءة من قرأ «ننجي» بنونين ، لأن ذلك هو القراءة التي عليها القراء في الأمصار ، وما خالفه ممن قرأ ذلك ببعض الوجوه فمنفرد بقراءته عما عليه الحجة مجمعة من القراء. وغير جائز خلاف ما كان مستفيضا بالقراءة في قراء الأمصار.

٤٧٨

سورة الرّعد

صل في نزولها : اختلفوا في نزولها على قولين :

أحدهما : أنها مكّيّة ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وقتادة. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكّيّة ، إلّا آيتين منها ، قوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) (١) إلى آخر الآية ، وقوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) (٢).

والثاني : أنها مدنيّة ، رواه عطاء الخراسانيّ عن ابن عباس ، وبه قال جابر بن زيد. وروي عن ابن عباس أنها مدنيّة ، إلّا آيتين نزلتا بمكّة ، وهما قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) (٣) إلى آخرها. وقال بعضهم : المدنيّ منها قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) إلى قوله تعالى : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) (٤).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢))

قوله تعالى : (المر) قد ذكرنا في سورة (البقرة) جملة من الكلام في معاني هذه الحروف. وقد روي عن ابن عباس في تفسير هذه الكلمة ثلاثة أقوال (٥) : أحدها : أنّ معناها : أنا الله أعلم وأرى ، رواه

__________________

(١) سورة الرعد : ٣١.

(٢) سورة الرعد : ٤٣.

(٣) سورة الرعد : ٣١.

(٤) سورة الرعد : ١٤.

(٥) قال الإمام الطبري ٧ / ٣٢٦ : ما جاء في هذه السورة عن ابن عباس من نقل أبي الضحى مسلم بن صبيح وسعيد بن جبير عنه ، التفريق بين معنى ما ابتدئ به أولها ومع زيادة الميم التي فيها على سائر السور ذوات «الر» ، ومعنى ما ابتدئ به أخواتها ، مع نقصان ذلك منها عنها فعن ابن عباس : «المر» ، قال : أنا الله أرى.

وعن مجاهد : «المر» فواتح يفتتح بها كلامه.

وقال ابن كثير ٢ / ٦١٤ : إن كل سورة تبتدأ بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن ، وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب ، ولهذا قال : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ).

ـ  قلت : الصواب في ذلك أن يقال في الكلام على هذه الأحرف في أوائل بعض السور : الله أعلم بمراده.

٤٧٩

أبو الضّحى عنه. والثاني : أنا الله أرى ، رواه سعيد بن جبير عنه. والثالث : أنا الله الملك الرّحمن ، رواه عطاء عنه. قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) في «تلك» قولان ، وفي «الكتاب» قولان قد تقدّمت في أوّل «يونس» (١).

قوله تعالى : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) يعني : القرآن وغيره من الوحي (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) قال ابن عباس : يعني : أهل مكّة. قال الزّجّاج : لمّا ذكر أنهم لا يؤمنون ، عرّف الدّليل الذي يوجب التّصديق بالخالق فقال عزوجل : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) قال أبو عبيدة : العمد : متحرّك الحروف بالفتحة وبعضهم يحرّكها بالضمة ، لأنها جمع عمود ، وهو القياس ، لأنّ كلّ كلمة هجاؤها أربعة أحرف الثالث منها ألف أو ياء أو واو ، فجميعه مضموم الحروف ، نحو رسول ، والجمع : رسل ، وحمار ، والجمع : حمر ، غير أنه قد جاءت أسامي استعملوا جميعها بالحركة والفتحة ، نحو عمود ، وأديم ، وإهاب ، قالوا : أدم ، وأهب. ومعنى «عمد» : سوار ، ودعائم ، وما يعمد البناء. وقرأ أبو حياة : «بغير عمد» بضمّ العين والميم.

وفي قوله تعالى : (تَرَوْنَها) قولان : أحدهما : أنّ هاء الكناية ترجع إلى السّماوات ، فالمعنى : ترونها بغير عمد ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، والجمهور. وقال ابن الأنباري : «ترونها» خبر مستأنف ، والمعنى : رفع السّماوات بلا دعامة تمسكها ، ثم قال : «ترونها» أي : ما تشاهدون من هذا الأمر العظيم ، يغنيكم عن إقامة الدّلائل عليه. والثاني : أنها ترجع إلى العمد ، فالمعنى : إنها بعمد لا ترونها ، رواه عطاء والضّحّاك عن ابن عباس ، وقال : لها عمد على قاف ، ولكنّكم لا ترون العمد ، وإلى هذا القول ذهب مجاهد ، وعكرمة ، والأول أصحّ (٢). قوله تعالى : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي : ذلّلهما لما يراد منهما (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي : إلى وقت معلوم ، وهو فناء الدنيا. (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي : يصرّفه بحكمته. (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي : يبيّن الآيات التي تدلّ أنّه قادر على البعث لكي توقنوا بذلك. وقرأ أبو رزين ، وقتادة ، والنّخعيّ : «ندبّر الأمر نفصّل الآيات» بالنون فيهما.

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣))

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله ٧ / ٣٢٦  ـ  ٣٢٧ : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) : تلك التي قصصت عليك خبرها ، آيات الكتاب الذي أنزلته قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك إلى من أنزلته إليه من رسلي قبلك. وقيل : عني بذلك التوراة والإنجيل. وقال ابن كثير رحمه‌الله ٢ / ٦١٤ : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي : هذه آيات الكتاب وهو القرآن ، وقيل التوراة والإنجيل .. وفيه نظر ، بل هو بعيد.

(٢) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٧ / ٣٢٩ : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال كما قال الله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) فهي مرفوعة بغير عمد نراها ، كما قال ربنا جل ثناؤه ، ولا خبر بغير ذلك ولا حجة يجب التسليم بها بقول سواه. وقال الحافظ ابن كثير ٢ / ٦١٥ : ناقلا قول إياس بن معاوية : السماء على الأرض مثل القبة ، يعني بلا عمد وكذا روي عن قتادة ، وهذا هو اللائق بالسياق ، والظاهر من قوله تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، فعلى هذا يكون قوله (تَرَوْنَها) تأكيدا لنفي ذلك ، أي هي مرفوعة بغير عمد ترونها ، وهذا هو الأكمل في القدرة.

٤٨٠