زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٥

فإن قيل : لم حتّم على وقوع التّأويل ، وربّما صدق تأويل الرّؤيا وكذب؟ فعنه جوابان :

أحدهما : أنه حتّم ذلك لوحي أتاه من الله ، وسبيل المنام المكذوب فيه أن لا يقع تأويله ، فلمّا قال : «قضي الأمر» ، دلّ على أنه وحي.

والثاني : أنه لم يحتّم ، بدليل قوله : (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) ، قال أصحاب هذا الجواب : معنى «قضي الأمر» : قطع الجواب الذي التمستماه من جهتي ، ولم يعن أنّ الأمر واقع بكما. وقال أصحاب الجواب الأول : الظّنّ ها هنا بمعنى العلم.

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))

قوله تعالى : (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) يعني السّاقي. وفي هذا الظّنّ قولان : أحدهما : أنه بمعنى العلم ، قاله ابن عباس.

والثاني : أنه الظّنّ الذي يخالف اليقين ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي : عند صاحبك ، وهو الملك ، وقل له : إنّ في السّجن غلاما حبس ظلما. واسم الملك : الوليد بن الرّيّان.

قوله تعالى : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) فيه قولان :

أحدهما : فأنسى الشيطان السّاقي ذكر يوسف لربّه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن إسحاق. والثاني : فأنسى الشيطان يوسف ذكر ربّه ، وأمره بذكر الملك ابتغاء الفرج من عنده ، قاله مجاهد ومقاتل والزّجّاج ، وهذا نسيان عمد ، لا نسيان سهو ، وعكسه القول الذي قبله.

قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) أي : غير ما كان قد لبث قبل ذلك ، عقوبة له على تعلّقه بمخلوق. وفي البضع تسعة أقوال : أحدها : ما بين السّبع والتّسع.

(٨١٢) روى ابن عباس أنّ أبا بكر لمّا ناحب قريشا عند نزول (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ) ، قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا احتطت ، فإنّ البضع ما بين السّبع إلى التّسع».

والثاني : اثنتا عشرة سنة ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : سبع سنين ، قاله عكرمة. والرابع : أنه ما بين الخمس إلى السّبع ، قاله الحسن. والخامس : أنه ما بين الأربع إلى التّسع ، قاله مجاهد. والسادس : ما بين الثلاث إلى التسع ، قاله الأصمعيّ ، والزّجّاج. والسابع : أنّ البضع يكون بين الثلاث والتسع والعشر ، قاله قتادة. والثامن : أنه ما دون العشرة ، قاله الفرّاء ، وقال الأخفش : البضع : من واحد إلى عشرة. والتاسع : أنه ما لم يبلغ العقد ولا نصفه ، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة : يعني ما بين الواحد إلى الأربعة. وروى الأثرم عن أبي عبيدة : البضع : ما بين ثلاث وخمس. وفي جملة ما لبث في السّجن ثلاثة أقوال : أحدها : اثنتا عشرة سنة ، قاله ابن عباس. والثاني : أربع عشرة ، قاله الضّحّاك. والثالث : سبع سنين ، قاله قتادة. قال مالك بن دينار : لمّا قال يوسف للسّاقي : «اذكرني عند ربك» ، قيل

____________________________________

(٨١٢) يأتي في مطلع سورة الروم إن شاء الله تعالى.

٤٤١

له : يا يوسف ، اتّخذت من دوني وكيلا؟ لأطيلنّ حبسك ، فبكى ، وقال : يا ربّ ، أنسى قلبي كثرة البلوى ، فقلت كلمة ، فويل لإخوتي.

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣))

قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ) يعني ملك مصر الأكبر (إِنِّي أَرى) يعني في المنام ، ولم يقل : رأيت ، وهذا جائز في اللغة أن يقول القائل : أرى ، بمعنى رأيت. قال وهب بن منبّه : لمّا انقضت المدّة التي وقّتها الله تعالى ليوسف في حبسه ، دخل عليه جبريل إلى السّجن ، فبشّره بالخروج وملك مصر ولقاء أبيه ، فلما أمسى الملك من ليلتئذ ، رأى سبع بقرات سمان خرجن من البحر ، في آثارهنّ سبع عجاف ، فأقبلت العجاف على السّمان ، فأخذن بأذنابهنّ فأكلنهنّ إلى القرنين ، ولم يزد في العجاف شيء ، ورأى سبع سنبلات خضر وقد أقبل عليهنّ سبع يابسات فأكلنهنّ حتى أتين عليهنّ ، ولم يزدد في اليابسات شيء ، فدعا أشراف قومه فقصّها عليهم ، فقالوا : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ). قال الزّجّاج : والعجاف : التي قد بلغت في الهزال الغاية. والملأ : الذين يرجع إليهم في الأمور ويقتدى برأيهم ، واللام في قوله : (لِلرُّءْيا) دخلت على المفعول للتّبيين ، المعنى : إن كنتم تعبرون. ثم بيّن باللام فقال : «للرؤيا». ومعنى عبرت الرّؤيا وعبّرتها : أخبرت بآخر ما يؤول إليه أمرها ، واشتقاقه من عبر النّهر ، وهو شاطئ النّهر ، فتأويل عبرت النهر : بلغت إلى عبره ، أي : إلى شطه ، وهو آخر عرضه. وذكر ابن الأنباري في اللام قولين : أحدهما : أنها للتّوكيد. والثاني : أنها أفادت معنى «إلى» والمعنى : إن كنتم توجّهون العبارة إلى الرّؤيا.

(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤))

قوله تعالى : (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) قال أبو عبيدة : واحدها ضغث ، مكسورة ، وهي ما لا تأويل له من الرّؤيا تراه جماعات ، تجمع من الرّؤيا كما يجمع الحشيش ، فيقال : ضغث ، أي : ملء كفّ منه. وقال الكسائيّ : الأضغاث : الرّؤيا المختلطة. وقال ابن قتيبة : «أضغاث أحلام» أي : أخلاط مثل أضغاث النبات يجمعها الرجل ، فيكون فيها ضروب مختلفة. وقال الزّجّاج : الضّغث في اللغة : الحزمة والباقة من الشيء ، كالبقل وما أشبهه ، فقالوا له : رؤياك أخلاط أضغاث ، أي : حزم أخلاط ، ليست برؤيا بينة (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) أي : ليس للرؤيا المختلطة عندنا تأويل. وقال غيره : وما نحن بتأويل الأحلام الذي هذا وصفها بعالمين. والأحلام : جمع حلم ، وهو ما يراه الإنسان في نومه مما يصحّ ومما يبطل.

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨))

٤٤٢

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما) يعني الذي تخلّص من القتل من الفتيين ، وهو السّاقي ، (وَادَّكَرَ) أي : تذكّر شأن يوسف وما وصّاه به. قال الزّجّاج : وأصل ادّكر : اذتكر ، ولكنّ التاء أبدلت منها الدال ، وأدغمت الذال في الدال. وقرأ الحسن : «واذّكر» بالذال المشدّدة.

وقوله تعالى : (بَعْدَ أُمَّةٍ) أي : بعد حين ، وهو الزّمان الذي لبثه يوسف بعده في السجن ، وقد سبق بيانه. وقرأ ابن عباس ، والحسن «بعد أمة» أراد : بعد نسيان.

فإن قيل : هذا يدلّ على أنّ النّاسي في قوله : «فأنساه الشيطان ذكر ربه» هو السّاقي ، ولا شكّ أنّ من قال : إنّ النّاسي يوسف يقول : لم ينس السّاقي. فالجواب : أنّ من قال : إنّ يوسف نسي ، يقول : معنى قوله : «وادّكر» ذكر ، كما تقول العرب : احتلب بمعنى حلب ، واغتدى بمعنى غدا ، فلا يدلّ إذا على نسيان سبقه. وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال : إنما لم يذكر السّاقي خبر يوسف للملك حتى احتاج الملك إلى تأويل رؤياه ، خوفا من أن يكون ذكره ليوسف سببا لذكره الذّنب الذي من أجله حبس ، ذكر هذا الجواب ابن الأنباري.

قوله تعالى : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) أي : من جهة يوسف (فَأَرْسِلُونِ) أثبت الياء فيها وفي (وَلا تَقْرَبُونِ) (١) (أَنْ تُفَنِّدُونِ) (٢) يعقوب في الحالين ، فخاطب الملك وحده بخطاب الجميع ، تعظيما ، وقيل : خاطبه وخاطب أتباعه. وفي الكلام اختصار ، المعنى : فأرسلوه فأتى يوسف فقال : يا يوسف يا أيّها الصّدّيق. والصّدّيق : الكثير الصّدق ، كما يقال : فسّيق ، وسكّير ، وقد سبق بيانه.

قوله تعالى : (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) يعني الملك وأصحابه والعلماء الذين جمعهم لتعبير رؤياه. وفي قوله : (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) قولان : أحدهما : يعلمون تأويل رؤيا الملك. والثاني : يعلمون بمكانك فيكون سبب خلاصك. وذكر ابن الأنباري في تكرير «لعلّ» قولين. أحدهما : أنّ «لعل» الأولى متعلّقة بالإفتاء ، والثانية : مبنيّة على الرّجوع ، وكلتاهما بمعنى «كي». والثاني : أنّ الأولى بمعنى «عسى» ، والثانية بمعنى «كي» فأعيدت لاختلاف المعنيين ، وهذا هو الجواب عن قوله : (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣).

قال : المفسّرون : كان سيّده العزيز قد مات ، واشتغلت عنه امرأته. وقال بعضهم : لم يكن العزيز قد مات ، فقال يوسف للسّاقي : قل للملك : هذه سبع سنين مخصبات ، ومن بعدهنّ سبع سنين شداد ، إلّا أن يحتال لهنّ ، فانطلق الرّسول إلى الملك فأخبره ، فقال له الملك : ارجع إليه فقل له : كيف يصنع؟ فقال : (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم «دأبا» ساكنة الهمزة ، إلّا أنّ أبا عمرو كان إذا أدرج القراءة لم يهمزها. وروى حفص عن عاصم «دأبا» بفتح الهمزة. قال أبو عليّ : الأكثر في «دأب» الإسكان ، ولعلّ الفتح لغة ، ومعنى «دأبا» أي : زراعة متوالية على عادتكم ، والمعنى : تزرعون دائبين. فناب «دأب» عن «دائبين». وقال الزّجّاج : المعنى : تدأبون دأبا ، ودلّ على تدأبون «تزرعون» والدّأب : الملازمة للشيء والعادة.

فإن قيل : كيف حكم بعلم الغيب ، فقال : «تزرعون» ولم يقل : إن شاء الله؟ فعنه أربعة أجوبة :

__________________

(١) سورة يوسف : ٦٠.

(٢) سورة يوسف : ٩٤.

(٣) سورة يوسف : ٦٣.

٤٤٣

أحدها : أنه كان بوحي من الله عزوجل. والثاني : أنه بنى على علم ما علّمه الله من التّأويل الحقّ ، فلم يشكّ. والثالث : أنه أضمر «إن شاء الله» كما أضمر إخوته في قولهم : (وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا) (١) ، فأضمروا الاستثناء في نيّاتهم ، لأنهم على غير ثقة ممّا وعدوا ، ذكره ابن الأنباري. والرابع : أنه كالآمر لهم ، فكأنه قال : ازرعوا.

قوله تعالى : (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) فإنه أبقى له ، وأبعد من الفساد. والشّداد : المجدبات التي تشتدّ على الناس. (يَأْكُلْنَ) أي : يذهبن ما قدّمتم لهنّ في السنين المخصبة ، فوصف السّنين بالأكل ، وإنما يؤكل فيها ، كما يقال : ليل نائم.

قوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي : تحرزون وتدّخرون.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))

قوله تعالى : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ) إن قيل : لم أشار إلى السّنين وهي مؤنّثة ب «ذلك»؟ فعنه جوابان ؛ ذكرهما ابن القاسم : أحدهما : أنّ السّبع مؤنّثة ، ولا علامة للتأنيث في لفظها ، فأشبهت المذكّر ، كقوله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) (٢) فذكّر منفطرا لمّا لم يكن في السماء علم التأنيث ، قال الشاعر :

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها (٣)

فذكر «أبقل» لما وصفنا. والثاني : أنّ «ذلك» إشارة إلى الجدب ، وهذا قول مقاتل ، والأول قول الكلبيّ. قال قتادة : زاده الله علم عام لم يسألوه عنه.

قوله تعالى : (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) فيه قولان أحدهما : يصيبهم الغيث ، قاله ابن عباس. والثاني : يغاثون بالخصب. ذكره الماوردي. قوله تعالى : (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم : «يعصرون» بالياء. وقرأ حمزة والكسائيّ بالتاء ، فوجّها الخطاب إلى المستفتين. وفي قوله : «يعصرون» خمسة أقوال : أحدها : يعصرون العنب والزيت والثّمرات ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والجمهور. والثاني : «يعصرون» بمعنى يحتلبون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وروى ابن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد قال : تفسير «يعصرون» يحتلبون الألبان لسعة خيرهم واتساع خصبهم ، واحتجّ بقول الشاعر :

فما عصمة الأعراب إن لم يكن لهم

طعام ولا درّ من المال يعصر

أي : يحلب. والثالث : ينجون ، وهو من العصر ، والعصر : النّجاء ، والعصرة : المنجاة. ويقال : فلان في عصرة : إذا كان في حصن لا يقدر عليه ، قال الشاعر :

صاديا يستغيث غير مغاث

ولقد كان عصرة المنجود (٤)

__________________

(١) سورة يوسف : ٦٥.

(٢) سورة المزمل : ١٨.

(٣) البيت لعامر بن جوين الطائي ، انظر «خزانة الأدب» ١ / ٢١. وذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ودق». وودق به أي : أنس ، والودق : المطر كله شديدة وهيّنه ، وقد ودق : أي قطر.

(٤) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «عصر» ونسبه لأبي زبيد. والصدى : شدة العطش.

٤٤٤

أي : غياثا للمغلوب المقهور ، وقال عديّ :

لو بغير الماء حلقي شرق

كنت كالغصّان بالماء اعتصاري (١)

هذا قول أبي عبيدة. والرابع : يصيبون ما يحبّون ، روي عن أبي عبيدة أيضا أنه قال : المعتصر : الذي يصيب الشيء ويأخذه ، ومنه هذه الآية. ومنه قول ابن أحمر :

فإنّما العيش بريّانه

وأنت من أفنانه معتصر

والخامس : يعطون ويفضلون لسعة عيشهم ، رواه ابن الأنباري عن بعض أهل اللغة. وقرأ سعيد بن جبير : «يعصرون» بضمّ الياء وفتح الصاد. وقال الزّجّاج : أراد : يمطرون من قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) (٢).

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١))

قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) قال المفسّرون : لمّا رجع السّاقي إلى الملك وأخبره بتأويل رؤياه ، وقع في نفسه صحّة ما قال ، فقال : ائتوني بالذي عبّر رؤياي ، فجاءه الرسول ، فقال : أجب الملك ، فأبى أن يخرج حتى تبين براءته مما قرف به ، فقال : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) يعني الملك (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ) وقرأ ابن أبي عبلة : «النّسوة» بضم النون ، والمعنى : فاسأل الملك أن يتعرّف ما شأن تلك النسوة وحالهنّ ليعلم صحة براءتي ، وإنما أشفق أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره أو متّهم بفاحشة ، وأحبّ أن يراه بعد استقرار براءته عنده. وظاهر قوله : (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أنه يعني الله عزوجل ، وحكى ابن جرير الطّبري أنه أراد به سيّده العزيز ، والمعنى : أنه يعلم براءتي. وقد روي عن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه استحسن حزم يوسف وصبره عن التّسرّع إلى الخروج. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(٨١٣) «إنّ الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، لو لبثت في السجن ما لبث يوسف ، ثم جاءني الدّاعي لأجبت».

____________________________________

(٨١٣) صحيح. أخرجه الترمذي ٣١١٦ ، والطحاوي في «المشكل» ٣٣٠ ، والطبري ١٩٤٠٤ من حديث أبي هريرة ، وإسناده حسن لأجل محمد بن عمرو ، وحسنه الترمذي. وورد من وجه آخر بنحوه. أخرجه البخاري ٣٣٧٢ ومسلم ١٥١ وابن ماجة ٤٠٢٦ ، وأحمد ٢ / ٣٢٦ ، وابن حبان ٦٢٠٨ ، والطحاوي في «المشكل» ٣٢٦ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظه في البخاري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نحن أحق من إبراهيم إذ قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ويرحم الله لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي».

__________________

(١) البيت لعدي بن زيد انظر «مجاز القرآن» ١ / ٣١٤ ، و «الخزانة» ٣ / ٥٩٤ ، وذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «شرق». والشّرق : الشجا والغصة.

(٢) سورة النبأ : ١٤.

٤٤٥

وفي ذكره للنسوة دون امرأة العزيز أربعة أقوال : أحدها : أنه خلطها بالنّسوة ، لحسن عشرة فيه وأدب ، قاله الزّجّاج. والثاني : لأنها زوجة ملك ، فصانها. والثالث : لأن النّسوة شاهدات عليها له. والرابع : لأنّ في ذكره لها نوع تهمة ، ذكر الأقوال الثلاثة الماوردي.

قال المفسّرون : فرجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف ، فدعا الملك النّسوة وفيهنّ امرأة العزيز ، فقال : (ما خَطْبُكُنَ) أي : ما شأنكنّ وقصتكنّ (إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ). فإن قيل : إنما راودته واحدة ، فلم جمعهنّ؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنه جمعهنّ في السؤال ليعلم عين المراودة. والثاني : أنّ أزليخا راودته على نفسه ، وراوده باقي النّسوة على القبول منها. والثالث : أنه جمعهنّ في الخطاب ، والمعنى لواحدة منهنّ ، لأنه قد يوقع على النّوع وصف الجنس إذا أمن من اللبس ، يدلّ عليه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(٨١٤) «إنّكنّ أكثر أهل النّار» فجمعهنّ في الخطاب والمعنى لبعضهنّ ، ذكره ابن الأنباري.

قوله تعالى : (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) قال الزّجّاج : قرأ الحسن «حاش» بتسكين الشين ، ولا اختلاف بين النّحويين أنّ الإسكان غير جائز ، لأنّ الجمع بين ساكنين لا يجوز ، ولا هو من كلام العرب. فأعلم النّسوة الملك براءة يوسف من السّوء ، فقالت امرأة العزيز : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) أي : برز وتبيّن ، واشتقاقه في اللغة من الحصّة ، أي : بانت حصّة الحقّ وجهته من حصّة الباطل. وقال ابن القاسم : «حصحص» بمعنى وضح وانكشف ، تقول العرب : حصحص البعير في بروكه : إذا تمكّن ، وأثّر في الأرض ، وفرّق الحصى. وللمفسّرين في ابتداء أزليخا بالإقرار قولان :

أحدهما : أنها لمّا رأت النّسوة قد برّأنه ، قالت : لم يبق إلّا أن يقبلن عليّ بالتّقرير ، فأقرّت ، قاله الفرّاء. والثاني : أنها أظهرت التّوبة وحقّقت صدق يوسف ، قاله الماوردي.

(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢))

قوله تعالى : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) قال مقاتل : «ذلك» بمعنى هذا. وقال ابن الأنباري :

قال اللغويون : هذا وذلك يصلحان في هذا الموضع وأشباهه ، لقرب الخبر من أصحابه ، فصار كالمشاهد الذي يشار إليه بهذا ، ولمّا كان متقضّيا أمكن أن يشار إليه بذلك ، لأن المتقضّي كالغائب. واختلفوا في القائل لهذا على ثلاثة أقوال :

____________________________________

(٨١٤) صحيح. هذا جزء من حديث طويل ، أخرجه البخاري ٣٠٤ ، ومسلم ٨٠ والبيهقي ٤ / ٢٣٥ ، وابن حبان ٥٧٤٤ والبغوي ١٩ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولفظه في البخاري خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أضحى  ـ  أو فطر  ـ  إلى المصلى ، فمرّ على النساء فقال : «يا معشر النساء تصدّقن ، فإني أريتكن أكثر أهل النار» ، فقلن : وبم يا رسول الله؟ ، قال : «تكثرن اللعن ، وتكفرن العشير ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن» ، قلن : وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال : «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟» قلن : بلى. قال : «فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟» قلن : بلى. قال : «فذلك من نقصان دينها». وله شاهد من حديث ابن عمر ، أخرجه مسلم ٧٩.

٤٤٦

أحدها : أنه يوسف (١) ، وهو من أغمض ما يأتي من الكلام أن تحكى عن شخص شيئا ثم تصله بالحكاية عن آخر ، ونظير هذا قوله : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) هذا قول الملأ (فَما ذا تَأْمُرُونَ) (٢) قول فرعون. ومثله : (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) هذا قول بلقيس (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٣) قول الله عزوجل. ومثله : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) هذا قول الكفّار ، فقالت الملائكة : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) (٤) وإنما يجوز مثل هذا في الكلام ، لظهور الدّلالة على المعنى. واختلفوا ، أين قال يوسف هذا؟ على قولين :

أحدهما : أنه لمّا رجع السّاقي إلى يوسف فأخبره وهو في السّجن بجواب امرأة العزيز والنّسوة للملك ، قال حينئذ : «ذلك ليعلم» ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن جريج.

والثاني : أنه قاله بعد حضوره مجلس الملك ، رواه عطاء عن ابن عباس.

قوله تعالى : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) أي : ذلك الذي فعلت من ردّي رسول الملك ، ليعلم.

واختلفوا في المشار إليه بقوله : «ليعلم» وقوله : «لم أخنه» على أربعة أقوال :

أحدها : أنه العزيز ، والمعنى : ليعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته (بِالْغَيْبِ) أي : إذا غاب عني ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور.

والثاني : أنّ المشار إليه بقوله : «ليعلم» الملك ، والمشار إليه بقوله : «لم أخنه» العزيز ، والمعنى : ليعلم الملك أني لم أخن العزيز في أهله بالغيب ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.

والثالث : أنّ المشار إليه بالشّيئين ، الملك ، فالمعنى : ليعلم الملك أني لم أخنه ، يعني الملك أيضا ، بالغيب. وفي وجه خيانة الملك في ذلك قولان : أحدهما : لكون العزيز وزيره ، فالمعنى : لم أخنه في امرأة وزيره ، قاله ابن الأنباري. والثاني : لم أخنه في بنت أخنه ، وكانت أزليخا بنت أخت الملك ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.

والرابع : أنّ المشار إليه بقوله : «ليعلم» الله عزوجل ، فالمعنى : ليعلم الله أني لم أخنه ، روي عن مجاهد ، قال ابن الأنباري : نسب العلم إلى الله في الظاهر ، وهو في المعنى للمخلوقين ، كقوله : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) (٥).

فإن قيل : إن كان يوسف قال هذا في مجلس الملك ، فكيف قال : «ليعلم» ولم يقل : لتعلم ، وهو يخاطبه؟ فالجواب : أنّا إن قلنا : إنه كان حاضرا عند الملك ، فإنما آثر الخطاب بالياء توقيرا للملك ، كما يقول الرجل للوزير : إن رأى الوزير أن يوقّع في قصّتي. وإن قلنا : إنه كان غائبا ، فلا وجه لدخول التاء ، وكذلك إن قلنا : إنه عنى العزيز ، والعزيز غائب عن مجلس الملك حينئذ.

والقول الثاني : أنه قول امرأة العزيز ، فعلى هذا يتّصل بما قبله ، والمعنى : ليعلم يوسف أني لم

__________________

(١) هذا القول ورد عن جماعة من المفسرين ، وهو غريب ، وكأنهم تتابعوا على ذلك حيث أخذه بعضهم عن بعض ، وليس بصواب وانظر ما يأتي.

(٢) سورة الأعراف : ١١٠.

(٣) سورة النمل : ٣٤.

(٤) سورة يس : ٥٢.

(٥) سورة محمد : ٣١.

٤٤٧

أخنه في غيبته الآن بالكذب عليه (١).

والثالث : أنه قول العزيز ، والمعنى : ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب ، فلم أغفل عن مجازاته على أمانته ، حكى القولين الماوردي.

قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) قال ابن عباس : لا يصوّب عمل الزّناة ، وقال غيره : لا يرشد من خان أمانته ويفضحه في عاقبته.

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦))

قوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ) ، في القائل لهذا ثلاثة أقوال ، وهي تقدّمت في الآية قبلها.

فالذين قالوا : هو يوسف ، اختلفوا في سبب قوله لذلك على خمسة أقوال : أحدها : أنه لمّا قال : «ليعلم أني لم أخنه بالغيب» غمزه جبريل عليه‌السلام ، فقال : ولا حين هممت؟ فقال : «وما أبرّئ نفسي» رواه عكرمة عن ابن عباس (٢) ، وبه قال الأكثرون. والثاني : أنّ يوسف لمّا قال : «لم أخنه» ذكر أنه قد همّ بها ، فقال : «وما أبرّئ نفسي» ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث : أنه لمّا قال ذلك ،

__________________

(١) هذا القول هو الحق إن شاء الله تعالى ، وسياق الكلام في الآيات وسياقها يدل على ذلك دلالة واضحة ، فيوسف اكتفى بقوله لرسول الملك (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) قاله وهو في السجن ، وانقطع كلامه ، ثم كان من الملك أن جمع النسوة مع امرأة العزيز ، وسألهن عن ذلك بقوله (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ...) فالكلام موصول. حوار يدور بين الملك والنسوة ، وأما يوسف فهو في السجن ، وقد اكتفى بأمره رسول الملك أن يستفسر الملك عن ذلك.

ـ  وقال الحافظ ابن كثير في «التفسير» ٢ / ٥٩٣ ما ملخصه : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) تقول : إنما اعترفت بهذا على نفسي ، ذلك ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الأمر ، ولا وقع المحذور الأكبر ، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع ، فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة ، (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) تقول المرأة : ولست أبرئ نفسي ، فإن النفس تتحدث وتتمنى ، ولهذا راودته لأن النفس أمّارة بالسوء ، (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي : إلا من عصمه الله تعالى ، (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا القول هو الأشهر والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. وقد حكاه الماوردي في تفسيره. وانتدب لنصره الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه‌الله فأفرده بتصنيف على حدة ، وقد قيل : إن ذلك من كلام يوسف عليه‌السلام ، وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ، وابن أبي هذيل ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والسدي والقول الأول أقوى وأظهر ، لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ، ولم يكن يوسف  ـ  عليه‌السلام  ـ  عندهم ، بل بعد ذلك أحضره الملك.

(٢) باطل مصنوع. أخرجه الطبري ١٩٤٣٥ و ١٩٤٣٦ و ١٩٤٣٧ من طرق عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس ، وسماك ضعيف في روايته عن عكرمة ، وقد اختلط بأخرة ، وهذا قول باطل ، وإن ثبت عن ابن عباس ، فإنما يكون تلقاه عن كتب الأقدمين.

٤٤٨

خاف أن يكون قد زكّى نفسه ، فقال : «وما أبرّئ نفسي» ، قاله الحسن. والرابع : أنه لمّا قاله ، قال له الملك الذي معه : اذكر ما هممت به ، فقال : «وما أبرّئ نفسي» ، قاله قتادة. والخامس : أنه لمّا قاله ، قالت امرأة العزيز : ولا يوم حللت سراويلك؟ فقال : «وما أبرّئ نفسي» ، قاله السّدّيّ (١).

والذين قالوا : هذا قول امرأة العزيز ، فالمعنى : وما أبرّئ نفسي من سوء الظّنّ بيوسف ، لأنه قد خطر لي.

قوله تعالى : (لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) قرأ ابن عامر ، وأهل الكوفة ، ويعقوب إلّا رويسا : «بالسوء إلا» بتحقيق الهمزتين. وقرأ أبو عمرو ، وابن شنبوذ عن قنبل بتحقيق الثانية وحذف الأولى. وروى نظيف عن قنبل بتحقيق الأولى وقلب الثانية ياء. وقرأ أبو جعفر ، وورش ، ورويس بتحقيق الأولى وتليين الثانية بين بين ، مثل : «السّوء علّا». وروى ابن فليح بتحقيق الثانية وقلب الأولى واوا ، وأدغمها في الواو قبلها ، فتصير واوا مكسورة مشدّدة قبل همزة «إلا».

قوله تعالى : (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) قال ابن الأنباري : قال اللغويون : هذا استثناء منقطع ، والمعنى : إلا أنّ رحمة ربّي عليها المعتمد. قال أبو صالح عن ابن عباس : المعنى : إلّا من عصم ربي وقيل «ما» بمعنى «من». قال الماوردي : ومن قال : هو من قول امرأة العزيز ، فالمعنى : إلّا من رحم ربّي في قهره لشهوته ، أو في نزعها عنه. ومن قال : هو قول العزيز ، فالمعنى : إلّا من رحم ربّي بأن يكفيه سوء الظّنّ ، أو يثبّته ، فلا يعجل. قال ابن الأنباري : والقول بأنّ هذا قول يوسف أصحّ لوجهين : أحدهما : لأنّ العلماء عليه. والثاني : لأنّ المرأة كانت عابدة وثن ، وما تضمّنته الآية أليق أن يكون قول يوسف من قول من لا يعرف الله تعالى.

وقال المفسّرون : فلمّا تبيّن الملك عذر يوسف وعلم أمانته ، قال : (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي : أجعله خالصا لي ، لا يشركني فيه أحد.

فإن قيل : فقد رويتم في بعض ما مضى أنّ يوسف قال في مجلس الملك : «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب» ، فكيف قال الملك : «ائتوني به» وهو حاضر عنده؟!

فالجواب : أنّ أرباب هذا القول يقولون : أمر الملك بإحضاره ليقلّده الأعمال في غير المجلس الذي استحضره فيه لتعبير الرّؤيا. قال وهب : لمّا دخل يوسف على الملك ، وكان الملك يتكلّم بسبعين لسانا ، كان كلّما كلّمه بلسان ، أجابه يوسف بذلك اللسان ، فعجب الملك ، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فقال إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها ، فذكرها له ، قال : فما ترى أيها الصّدّيق؟ قال : أرى أن تزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة ، وتجمع الطعام ، فيأتيك الناس فيمتارون ، وتجمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد ، فقال الملك : ومن لي بهذا؟ فقال يوسف : «اجعلني على خزائن الأرض». قال ابن عباس : ويريد بقوله : (مَكِينٌ أَمِينٌ) أي : قد مكّنتك في ملكي وائتمنتك فيه. وقال مقاتل : المكين : الوجيه ، والأمين : الحافظ.

__________________

(١) هذه الأقوال جميعا باطلة لا تليق بنبي الله يوسف عليه‌السلام ، كيف وقد أثنى عليه الله تبارك وتعالى حيث قال (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)؟

٤٤٩

قوله تعالى : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) أي : خزائن أرضك. وفي المراد بالخزائن قولان : أحدهما : خزائن الأموال ، قاله الضّحّاك ، والزّجّاج. والثاني : خزائن الطعام فحسب ، قاله ابن السّائب. قال الزّجّاج : وإنما سأل ذلك لأنّ الأنبياء بعثوا بالعدل ، فعلم أنه لا أحد أقوم بذلك منه. وفي قوله تعالى : (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ثلاثة أقوال : أحدها : حفيظ لما ولّيتني ، عليم بالمجاعة متى تكون ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : حفيظ لما استودعتني ، عليم بهذه السنين ، قاله الحسن. والثالث : حفيظ للحساب ، عليم بالألسن ، قاله السّدّيّ ، وذلك أنّ الناس كانوا يردون على الملك من كلّ ناحية فيتكلّمون بلغات مختلفة.

واختلفوا ، هل ولّاه الملك يومئذ ، أم لا؟ على ثلاثة أقوال : أحدها : أنّه ولّاه بعد سنة.

(٨١٥) روى الضّحّاك عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «رحم الله أخي يوسف ، لو لم يقل : اجعلني على خزائن الأرض ، لاستعمله من ساعته ، ولكنه أخّر ذلك سنة».

(٨١٦) وذكر مقاتل أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أنّ يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء الله ، لملك من وقته».

قال مجاهد : أسلم الملك على يد يوسف. وقال أهل السّير : أقام في بيت الملك سنة ، فلمّا انصرمت دعاه الملك ، فتوجّه ، وردّاه بسيفه ، وأمر له بسرير من ذهب ، وضرب عليه كلّة من إستبرق ، فجلس على السّرير كالقمر ، ودانت له الملوك ، ولزم الملك بيته وفوّض أمره إليه ، وعزل قطفير عمّا كان عليه ، وجعل يوسف مكانه ، ثم إنّ قطفير هلك في تلك الليالي ، فزوّج الملك يوسف بامرأة قطفير ، فلمّا دخل عليها ، قال : أليس هذا خيرا مما تريدين؟ فقالت : أيّها الصّدّيق لا تلمني ، فإني كنت امرأة حسناء في ملك ودنيا ، وكان صاحبي لا يأتي النساء ، فغلبتني نفسي ، فلمّا بنى بها يوسف وجدها عذراء ، فولدت له ابنين ، إفراييم ، وميشا ، واستوثق له ملك مصر.

والقول الثاني : أنه ملّكه بعد سنة ونصف ، حكاه مقاتل عن ابن عباس.

والثالث : أنه سلّم إليه الأمر من وقته ، قاله وهب ، وابن السّائب.

فإن قيل : كيف قال يوسف (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ولم يقل : إن شاء الله؟ فعنه ثلاثة أجوبة :

أحدها : أنّ ترك الاستثناء أوجب عقوبة بأن أخر تمليكه ، على ما ذكرنا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني : أنه أضمر الاستثناء ، كما أضمروه في قولهم : (وَنَمِيرُ أَهْلَنا).

والثالث : أنه أراد أنّ حفظي وعلمي يزيدان على حفظ غيري وعلمه ، فلم يحتج هذا إلى الاستثناء ، لعدم الشّكّ فيه ، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري.

____________________________________

(٨١٥) باطل. ذكره الزمخشري في «الكشاف» ٢ / ٤٨٢ وقال ابن حجر في تخريجه : أخرجه الثعلبي من حديث ابن عباس وهو من رواية إسحاق بن بشر عن جويبر عن الضحاك ، وهذا إسناد ساقط. قلت : إسحاق متروك متهم ، ومثله جويبر بن سعيد ، والضحاك لم يلق ابن عباس ، والمتن منكر جدا فهو باطل. وانظر «تفسير القرطبي» ٣٦٨٣ ، بتخريجنا.

(٨١٦) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ابن سليمان حيثما أطلق ، وهو ممن يضع الحديث ويكذب فهذا خبر باطل.

٤٥٠

فإن قيل : كيف مدح نفسه بهذا القول ، ومن شأن الأنبياء والصالحين التّواضع؟

فالجواب : أنه لمّا خلا مدحه لنفسه من بغي وتكبّر ، وكان مراده به الوصول إلى حقّ يقيمه وعدل يحييه وجور يبطله ، كان ذلك جميلا جائزا.

(٨١٧) وقد قال نبيّنا عليه‌السلام : «أنا أكرم ولد آدم على ربّه».

وقال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : والله ما من آية إلّا وأنا أعلم أبليل نزلت ، أم بنهار. وقال ابن مسعود : لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله منّي تبلغه الإبل لأتيته. فهذه الأشياء ، خرجت مخرج الشّكر لله ، وتعريف المستفيد ما عند المفيد ، ذكر هذا محمّد بن القاسم. قال القاضي أبو يعلي : في قصة يوسف دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه ، وأنه ليس من المحظور في قوله : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) (١).

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) في الكلام محذوف ، تقديره : اجعلني على خزائن الأرض ، قال : قد فعلت ، فحذف ذلك ، لأن قوله : «وكذلك مكّنّا ليوسف» يدلّ عليه ، والمعنى : ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في دفع المكروه عنه ، وتخليصه من السّجن ، وتقريبه من قلب الملك ، أقدرناه على ما يريد في أرض مصر (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) قال ابن عباس : ينزل حيث أراد. وقرأ ابن كثير ، والمفضّل : «حيث نشاء» بالنون.

قوله تعالى : (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا) أي : نختصّ بنعمتنا من النّبوّة والنّجاة (مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) يعني المؤمنين. يقال : إنّ يوسف باع أهل مصر الطعام بأموالهم وحليهم ومواشيهم وعقارهم وعبيدهم ثم بأولادهم ثم برقابهم ، ثم قال للملك : كيف ترى صنع ربّي؟ فقال الملك : إنما نحن لك تبع ، قال : فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر ورددت عليهم أملاكهم. وكان يوسف لا يشبع في تلك الأيام ، ويقول : إني أخاف أن أنسى الجائع.

(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧))

قوله تعالى : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) المعنى : ما نعطي يوسف في الآخرة ، خير ممّا أعطيناه في الدنيا ، وكذلك غيره من المؤمنين ممّن سلك طريقه في الصّبر.

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨))

قوله تعالى : (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) روى الضّحّاك عن ابن عباس قال : لمّا فوّض الملك إلى

____________________________________

(٨١٧) صحيح. أخرجه الترمذي ٣٦١٠ ، والدارمي ١ / ٢٦  ـ  ٢٧ ، والبغوي في «شرح السنة» ٣٥١٨ وفي تفسيره ١٣٢٤ ، من حديث أنس رضي الله عنه بأتم منه. وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب. قلت : إسناده ضعيف ، مداره على ليث وهو ابن أبي سليم ، ضعفه ابن معين والنسائي ، وقال أحمد : مضطرب الحديث. ثم هو مدلس ، وقد عنعن ، فالحديث بهذا اللفظ وبهذا الإسناد ضعيف ، والذي صح في ذلك «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» وهذا هو الصحيح ، وسيأتي.

__________________

(١) سورة النجم : ٣٢.

٤٥١

يوسف أمر مصر ، تلطّف يوسف للناس ، ولم يزل يدعوهم إلى الإسلام ، فآمنوا وأحبّوه ، فلمّا أصاب النّاس القحط ، نزل ذلك بأرض كنعان ، فأرسل يعقوب ولده للميرة ، وذاع أمر يوسف في الآفاق ، وانتشر عدله ورحمته ورأفته ، فقال يعقوب : يا بنيّ ، إنه قد بلغني أنّ بمصر ملكا صالحا ، فانطلقوا إليه وأقرئوه منّي السّلام ، وانتسبوا له لعلّه يعرفكم ، فانطلقوا فدخلوا عليه ، فعرفهم وأنكروه ، فقال : من أين أقبلتم؟ قالوا : من أرض كنعان ، ولنا شيخ يقال له : يعقوب ، وهو يقرئك السلام ، فبكى وعصر عينيه وقال : لعلّكم جواسيس جئتم تنظرون عورة بلدي ، فقالوا : لا والله ، ولكنّا من كنعان ، أصابنا الجهد ، فأمرنا أبونا أن نأتيك ، فقد بلغه عنك خير ، قال : فكم أنتم؟ قالوا : أحد عشر أخا ، وكنّا اثني عشر فأكل أحدنا الذئب ، قال : فمن يعلم صدقكم؟ ائتوني بأخيكم الذي من أبيكم. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : لمّا دخلوا عليه كلّموه بالعبرانيّة ، فأمر التّرجمان فكلّمهم ليشبّه عليهم ، فقال للتّرجمان : قل لهم : أنتم عيون ، بعثكم ملككم لتنظروا إلى أهل مصر فتخبرونه فيأتينا بالجنود ، فقالوا : لا ، ولكنّا قوم لنا أب شيخ كبير ، وكنّا اثني عشر ، فهلك منّا واحد في الغنم ، وقد خلّفنا عند أبينا أخا له من أمّه ، فقال : إن كنتم صادقين ، فخلّفوا عندي بعضكم رهنا ، وائتوني بأخيكم ، فحبس عنده شمعون.

واختلفوا بما ذا عرفهم يوسف على قولين : أحدهما : أنه عرفهم برؤيتهم ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه ما عرفهم حتى تعرّفوا إليه ، قاله الحسن.

قوله تعالى : (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) قال مقاتل : لا يعرفونه. وفي علّة كونهم لم يعرفوه قولان : أحدهما : أنهم جاءوه مقدّرين أنه ملك كافر ، فلم يتأمّلوا منه ما يزول به عنهم الشّك. والثاني : أنهم عاينوا من زيّه وحليته ما كان سببا لإنكارهم. وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان لابسا ثياب حرير ، وفي عنقه طوق من ذهب.

فإن قيل : كيف يخفى من قد أعطي نصف الحسن ، وكيف يشتبه بغيره؟ فالجواب : أنهم فارقوه طفلا ورأوه كبيرا ، والأحوال تتغيّر ، وما توهّموا أنه ينال هذه المرتبة.

وقال ابن قتيبة : معنى كونه أعطي نصف الحسن ، أنّ الله تعالى جعل للحسن غاية وحدّا ، وجعله لمن شاء من خلقه ، إمّا للملائكة ، أو للحور ، فجعل ليوسف نصف ذلك الحسن ، فكأنه كان حسنا مقاربا لتلك الوجوه الحسنة ، وليس كما يزعم الناس من أنه أعطي هذا الحسن ، وأعطي الناس كلّهم نصف الحسن.

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠))

قوله تعالى : (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) يقال : جهّزت القوم تجهيزا : إذا هيّأت لهم ما يصلحهم ، وجهاز البيت : متاعه. قال المفسّرون : حمّل لكلّ رجل منهم بعيرا ، وقال : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أي : أتمه ولا أبخسه ، (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) يعني : المضيفين ، وذلك أنه أحسن ضيافتهم. ثم أوعدهم على ترك الإتيان بأخيهم ، فقال : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) وفيه قولان : أحدهما : أنه يعني به : فيما بعد ، وهو قول الأكثرين. والثاني : أنه منعهم الكيل في الحال ، قاله وهب بن منبّه.

٤٥٢

(قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١))

قوله تعالى : (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي : نطلبه منه ، والمراودة : الاجتهاد في الطّلب. وفي قوله تعالى : (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ المعنى : وإنّا لجاءوك به ، وضامنون لك المجيء به ، هذا مذهب الكلبيّ. والثاني : أنه توكيد ، قاله الزّجّاج ، فعلى هذا يكون الفعل الذي ضمنوه عائدا إلى المراودة ، فيصحّ معنى التّوكيد. والثالث : وإنّا لمديمون المطالبة به لأبينا ، ومتابعون المشورة عليه بتوجيهه ، وهذا غير المراودة ، ذكره ابن الأنباري.

فإن قيل : كيف جاز ليوسف أن يطلب أخاه ، وهو يعلم ما في ذلك من إدخال الحزن على أبيه؟ فعنه خمسة أجوبة : أحدها : أنه يجوز أن يكون ذلك بأمر عن الله تعالى زيادة لبلاء يعقوب ليعظم ثوابه ، وهذا الأظهر. والثاني : أنه طلبه لا ليحبسه ، فلمّا عرفه قال : لا أفارقك يا يوسف ، قال : لا يمكنني حبسك إلّا أن أنسبك إلى أمر فظيع ، قال : افعل ما بدا لك ، قاله كعب. والثالث : أن يكون قصد تنبيه يعقوب بذلك على حال يوسف. والرابع : ليتضاعف سرور يعقوب برجوع ولديه. والخامس : ليعجّل سرور أخيه باجتماعه به قبل إخوته. وكلّ هذه الأجوبة مدخولة ، إلّا الأول ، فإنه الصّحيح. ويدلّ عليه ما روينا عن وهب بن منبّه ، قال : لمّا جمع الله بين يوسف ويعقوب ، قال له يعقوب : بيني وبينك هذه المسافة القريبة ، ولم تكتب إليّ تعرّفني؟! فقال : إنّ جبريل أمرني أن لا أعرّفك ، فقال له : سل جبريل ، فسأله ، فقال : إنّ الله أمرني بذلك ، فقال : سل ربّك ، فسأله ، فقال : قل ليعقوب : خفت عليه الذئب ، ولم تؤمنّي؟

(وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢))

قوله تعالى : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : «لفتيته». وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «لفتيانه». قال أبو عليّ : الفتية جمع فتّى في العدد القليل ، والفتيان في الكثير. والمعنى : قال لغلمانه : (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ) وهي التي اشتروا بها الطعام (فِي رِحالِهِمْ) ، والرّحل : كلّ شيء يعدّ للرّحيل. (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) أي : ليعرفوها (إِذَا انْقَلَبُوا) أي : رجعوا (إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي : لكي يرجعوا. وفي مقصوده بذلك خمسة أقوال : أحدها : أنه تخوّف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرّة أخرى ، فجعل دراهمهم في رحالهم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنه أراد أنهم إذا عرفوها ، لم يستحلّوا إمساكها حتى يردّوها ، قاله الضّحّاك. والثالث : أنه استقبح أخذ الثمن من والده وإخوته مع حاجتهم إليه ، فردّه عليهم من حيث لا يعلمون سبب ردّه تكرّما وتفضّلا ، ذكره ابن جرير الطّبري ، وأبو سليمان الدّمشقي. والرابع : ليعلموا أنّ طلبه لعودهم لم يكن طمعا في أموالهم ، ذكره الماوردي. والخامس : أنه أراهم كرمه وبرّه ليكون أدعى إلى عودهم.

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤))

٤٥٣

قوله تعالى : (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ) قال المفسّرون : لمّا عادوا إلى يعقوب ، قالوا : يا أبانا : قدمنا على خير رجل ، أنزلنا ، وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته.

وفي قوله تعالى : (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) قولان قد تقدّما في قوله : (فلا كيل لكم عندي). فإن قلنا : إنه لم يكل لهم ، فلفظ «منع» بيّن. وإن قلنا : إنه خوّفهم منع الكيل ، ففي المعنى قولان :

أحدهما : حكم علينا بمنع الكيل بعد هذا الوقت ، كما تقول للرجل : دخلت والله النار بما فعلت. والثاني : أنّ المعنى : يا أبانا يمنع منّا الكيل إن لم ترسله معنا ، فناب «منع» عن «يمنع» كقوله تعالى : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) (١) أي : يخلده ، وقوله : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ) (٢) ، (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى) (٣) أي : وإذ يقول ، ذكرهما ابن الأنباري.

قوله تعالى : (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر : «نكتل» بالنون. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «يكتل» بالياء. والمعنى : إن أرسلته معنا اكتلنا ، وإلّا فقد منعنا الكيل.

قوله تعالى : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ) أي لا آمنكم عليه إلّا كأمني على يوسف ، يريد أنه لم ينفعه ذلك الأمن إذ خانوه. (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «حفظا» ، والمعنى : خير حفظا من حفظكم ، وقرأ حمزة والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «خير حافظا» بألف. قال أبو عليّ : ونصبه على التّمييز دون الحال.

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨))

قوله تعالى : (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) يعني أوعية الطعام (وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ) التي حملوها ثمنا للطعام (رُدَّتْ) قال الزّجّاج : الأصل «رددت» ، فأدغمت الدال الأولى في الثانية ، وبقيت الراء مضمومة. ومن قرأ بكسر الراء جعل كسرتها منقولة من الدال ، كما فعل ذلك في : قيل ، وبيع ، ليدلّ على أنّ أصل الدال الكسر.

قوله تعالى : (ما نَبْغِي) في «ما» قولان : أحدهما : أنها استفهام ، المعنى : أيّ شيء نبغي وقد ردّت بضاعتنا إلينا؟ والثاني : أنها نافية ، المعنى : ما نبغي شيئا ، أي : لسنا نطلب منك دراهم نرجع بها

__________________

(١) سورة الهمزة : ٣.

(٢) سورة الأعراف : ٥٠.

(٣) سورة المائدة : ١١٦.

٤٥٤

إليه ، بل تكفينا هذه في الرّجوع إليه ، وأرادوا بذلك تطييب قلبه ليأذن لهم بالعود. وقرأ ابن مسعود ، وابن يعمر ، والجحدريّ ، وأبو حياة «ما تبغي» بالتاء ، على الخطاب ليعقوب.

قوله تعالى : (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي : نجلب لهم الطعام. قال ابن قتيبة : يقال : مار أهله يميرهم ميرا ، وهو مائر لأهله : إذا حمل إليهم أقواتهم من غير بلده. قوله تعالى : (وَنَحْفَظُ أَخانا) فيه قولان : أحدهما : نحفظ أخانا ابن يامين الذي ترسله معنا ، قاله الأكثرون. والثاني : ونحفظ أخانا شمعون الذي أخذ رهينة عنده ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. قوله تعالى : (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) أي : وقر بعير ، يعنون بذلك نصيب أخيهم ، لأنّ يوسف كان لا يعطي الواحد أكثر من حمل بعير.

قوله تعالى : (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : ذلك كيل سريع ، لا حبس فيه ، يعنون : إذا جاء معنا ، عجّل الملك لنا الكيل ، قاله مقاتل. والثاني : ذلك كيل سهل على الذي نمضي إليه ، قاله الزّجّاج. والثالث : ذلك الذي جئناك به كيل يسير لا يقنعنا ، قاله الماوردي.

قوله تعالى : (حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أي : تعطوني عهدا أثق به ، والمعنى : حتى تحلفوا لي بالله (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) أي : لتردّنّه إليّ. قال ابن الأنباري : وهذه اللام جواب لمضمر ، تلخيصه : وتقولوا : والله لتأتنّني به. قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) فيه قولان : أحدهما : أن يهلك جميعكم ، قاله مجاهد. والثاني : أن يحال بينكم وبينه فلا تقدرون على الإتيان به ، قاله الزّجّاج. قوله تعالى : (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) أي : أعطوه العهد ، وفيه قولان : أحدهما : أنهم حلفوا له بحقّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنزلته من ربّه ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أنهم حلفوا بالله تعالى ، قاله السّدّيّ. قوله تعالى : (قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه الشهيد. والثاني : كفيل بالوفاء ، رويا عن ابن عباس.

قوله تعالى : (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) قال المفسّرون : لمّا تجهّزوا للرّحيل ، قال لهم يعقوب : «لا تدخلوا» يعني مصر «من باب واحد». وفي المراد بهذا الباب قولان : أحدهما : أنه أراد بابا من أبواب مصر ، وكان لمصر أربعة أبواب ، قاله الجمهور. والثاني : أنه أراد الطرق لا الأبواب ، قاله السّدّيّ ، وروى نحوه أبو صالح عن ابن عباس. وفي ما أراد بذلك ثلاثة أقوال : أحدها : أنه خاف عليهم العين ، وكانوا أولي جمال وقوّة ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة. والثاني : أنه خاف أن يغتالوا لما ظهر لهم في أرض مصر من التّهمة ، قاله وهب بن منبّه. والثالث : أنه أحبّ أن يلقوا يوسف في خلوة ، قاله إبراهيم النّخعيّ.

قوله تعالى : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي : لن أدفع عنكم شيئا قضاه الله ، فإنه إن شاء أهلككم متفرّقين ، ومصداقه في الآية التي بعدها (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) وهي إرادته أن يكون دخولهم كذلك شفقة عليهم. قال الزّجّاج : «إلا حاجة» استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها. قال ابن عباس : «قضاها» أي : أبداها وتكلّم بها.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) فيه سبعة أقوال : أحدها : إنه حافظ لما علّمناه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : وإنه لذو علم أنّ دخولهم من أبواب متفرّقة لا يغني عنهم من الله شيئا ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : وإنه لعامل بما علّم ، قاله قتادة. وقال ابن الأنباري : سمّي العمل

٤٥٥

علما ، لأنّ العلم أول أسباب العمل. والرابع : وإنه لمتيقّن لوعدنا ، قاله الضّحّاك. والخامس : وإنه لحافظ لوصيّتنا ، قاله ابن السّائب. والسادس : وإنه لعالم بما علّمناه أنه لا يصيب بنيه إلّا ما قضاه الله ، قاله مقاتل. والسابع : وإنه لذو علم لتعليمنا إيّاه ، قاله الفرّاء.

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩))

قوله تعالى : (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) يعني إخوته (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) يعني بنيامين ، وكان أخاه لأبيه وأمّه ، قاله قتادة ، وضمّه إليه وأنزله معه. قال ابن قتيبة : يقال : آويت فلانا إليّ ، بمدّ الألف : إذا ضممته إليك ، وأويت إلى بني فلان ، بقصر الألف : إذا لجأت إليهم. وفي قوله : (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) قولان : أحدهما : أنهم لمّا دخلوا عليه حبسهم بالباب ، وأدخل أخاه ، فقال له : ما اسمك؟ فقال : بنيامين ، قال : فما اسم أمك؟ قال : راحيل بنت لاوى ، فوثب إليه فاعتنقه ، فقال : «إنّي أنا أخوك» ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وكذلك قال ابن إسحاق : أخبره أنه يوسف. والثاني : أنه لم يعترف له بذلك ، وإنما قال : أنا أخوك مكان أخيك الهالك ، قاله وهب بن منبّه. وقيل : إنه أجلسهم كلّ اثنين على مائدة ، فبقي بنيامين وحيدا يبكي ، وقال : لو كان أخي حيّا لأجلسني معه ، فضمّه يوسف إليه وقال : إنّي أرى هذا وحيدا ، فأجلسه معه على مائدته. فلما جاء الليل ، نام كلّ اثنين على منام ، فبقي وحيدا ، فقال يوسف : هذا ينام معي. فلمّا خلا به ، قال : هل لك أخ من أمّك؟ قال : كان لي أخ من أمي فهلك ، فقال ؛ أتحبّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ فقال : أيّها الملك ، ومن يجد أخا مثلك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف ، وقام إليه فاعتنقه ، وقال : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف (فَلا تَبْتَئِسْ) قال قتادة : لا تأس ولا تحزن ، وقال الزجاج : لا تحزن ولا تستكن. قال ابن الأنباري : «تبتئس» : تفتعل ، من البؤس ، وهو الضرّ والشدّة ، أي : لا يلحقنّك بؤس بالذي فعلوا.

قوله تعالى : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم كانوا يعيّرون يوسف وأخاه بعبادة جدّهما أبي أمّهما للأصنام ، فقال : لا تبتئس بما كانوا يعملون من التّعيير لنا ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : لا تحزن بما سيعملون بعد هذا الوقت حين يسرّقونك ، فتكون «كانوا» بمعنى «يكونون» قال الشاعر :

فأدركت من قد كان قبلي ولم أدع

لمن كان بعدي في القصائد مصنعا

وقال آخر :

وانضح جوانب قبره بدمائها

فلقد يكون أخا دم وذبائح

أراد : فقد كان ، وهذا مذهب مقاتل. والثالث : لا تحزن بما عملوا من حسدنا ، وحرصوا على صرف وجه أبينا عنّا ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن إسحاق.

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢))

٤٥٦

قوله تعالى : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) قال المفسّرون : أوفى لهم الكيل ، وحمّل بنيامين بعيرا باسمه كما حمّل لهم ، وجعل السّقاية في رحل أخيه ، وهي الصّواع ، فهما اسمان واقعان على شيء واحد ، كالبرّ والحنطة ، والمائدة والخوان. وقال بعضهم : الاسم الحقيقي : الصّواع ، والسّقاية وصف ، كما يقال : كوز ، وإناء ، فالاسم الخاصّ : الكوز. قال المفسّرون : جعل يوسف ذلك الصّاع مكيالا لئلّا يكال بغيره. وقيل : كال لإخوته بذلك ، إكراما لهم. قالوا : ولمّا ارتحل إخوة يوسف وأمعنوا ، أرسل الطّلب في أثرهم ، فأدركوا وحبسوا ، (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) قال الزّجّاج : أعلم معلم يقال : آذنته بالشيء فهو مؤذن به أي : أعلمته ، وآذنت : أكثرت الإعلام بالشيء ، يعني : أنه إعلام بعد إعلام. (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) يريد : أهل العير ، فأنّث لأنه جعلها للعير. قال الفرّاء : لا يقال : عير ، إلّا لأصحاب الإبل. وقال أبو عبيدة : العير : الإبل المرحولة المركوبة. وقال ابن قتيبة : العير : القوم على الإبل.

فإن قيل : كيف جاز ليوسف أن يسرق من لم يسرق؟ فعنه أربعة أجوبة : أحدها : أنّ المعنى : إنكم لسارقون يوسف حين قطعتموه عن أبيه وطرحتموه في الجبّ ، قاله الزّجّاج. والثاني : أنّ المنادي نادى وهو لا يعلم أنّ يوسف أمر بوضع السّقاية في رحل أخيه ، فكان غير كاذب في قوله ، قاله ابن جرير. والثالث : أنّ المنادي نادى بالتّسريق لهم بغير أمر يوسف. والرابع : أنّ المعنى : إنكم لسارقون فيما يظهر لمن لم يعلم حقيقة أخباركم ، كقوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (١) أي : عند نفسك ، لا عندنا. وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(٨١٨) «كذب إبراهيم ثلاث كذبات» أي : قال قولا يشبه الكذب ، وليس به.

قوله تعالى : (قالُوا) يعني : إخوة يوسف (وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) فيه قولان : أحدهما : على المؤذّن وأصحابه. والثاني : أقبل المنادي ومن معه على إخوة يوسف بالدّعوى. (ما ذا تَفْقِدُونَ) ما الذي ضلّ عنكم؟ (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ). قال الزّجّاج : الصّواع هو الصّاع بعينه ، وهو يذكّر ويؤنّث ، وكذلك الصّاع يذكّر ويؤنّث. وقد قرئ : «صياع» بياء ، وقرئ : «صوغ» بغين معجمة ، وقرئ : «صوع» بعين غير معجمة مع فتح الصاد ، وضمّها ، وقرأ أبو هريرة : «صاع الملك» وكلّ هذه لغات ترجع إلى معنى واحد ، إلّا أنّ الصوغ ، بالغين المعجمة ، مصدر صغت ، وصف الإناء به ، لأنه كان مصوغا من ذهب. واختلفوا في جنسه على خمسة أقوال : أحدها : أنه كان قدحا من زبرجد. والثاني : أنه كان من نحاس ، رويا عن ابن عباس. والثالث : أنه كان شربة من فضّة مرصّعة بالجوهر ، قاله عكرمة. والرابع : كان كأسا من ذهب ، قاله ابن زيد. والخامس : كان من مس (٢) ، حكاه الزّجّاج. وفي صفته قولان : أحدهما : أنه

____________________________________

(٨١٨) غريب بهذا اللفظ ، وقد ورد بسياق آخر وهو صدر حديث ، أخرجه البخاري ٢٦٣٥ و ٢٢١٧ والترمذي ٣١٦٦ ، وأحمد في «المسند» ٢ / ٤٠٣  ـ  ٤٠٤ ، والبيهقي ٧ / ٣٦٦ ، من حديث أبي هريرة. وأخرجه مسلم ٢٣٧١ ، والبيهقي ٧ / ٣٦٦ من حديث محمد بن سيرين به. وأخرجه أبو داود ٢٢١٢ من حديث هشام بن حسان به. ولفظه عند البخاري : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يكذب إبراهيم عليه‌السلام إلا ثلاث كذبات ثنتين منهنّ في ذات الله عزوجل : قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) ... إلخ».

__________________

(١) سورة الدخان : ٤٩.

(٢) في «اللسان» المسّ : النحاس ، قال ابن دريد : لا أدري أعربي هو أم لا.

٤٥٧

كان مستطيلا يشبه المكّوك. والثاني : أنه كان يشبه الطّاس. قوله تعالى : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ) يعني الصّواع (حِمْلُ بَعِيرٍ) من الطعام (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي : كفيل لمن ردّه بالحمل ، يقوله المؤذّن.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥))

قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ) قال الزّجّاج : «تالله» بمعنى : والله ، إلّا أنّ التاء لا يقسم بها إلّا في الله عزوجل. ولا يجوز : تالرّحمن لأفعلنّ ، ولا : تربّي لأفعلنّ. والتاء تبدل من الواو ، كما قالوا في وراث : تراث ، وقالوا : يتّزن ، وأصله : يوتزن ، من الوزن. قال ابن الأنباري : أبدلت التاء من الواو ، كما أبدلت في التّخمة والتّراث والتّجاه ، وأصلهنّ من الوخمة والوارث والوجاه ، لأنهنّ من الوخامة والوارثة والوجه. ولا تقول العرب : تالرّحمن ، كما قالوا : تالله ، لأنّ الاستعمال في الأقسام كثر بالله ، ولم يكن بالرّحمن ، فجاءت التاء بدلا من الواو في الموضع الذي يكثر استعماله.

قوله تعالى : (لَقَدْ عَلِمْتُمْ) يعنون يوسف (ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) أي : لنظلم أحدا أو نسرق. فإن قيل : كيف حلفوا على علم قوم لا يعرفونهم؟ فالجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنهم قالوا ذلك ، لأنهم ردّوا الدّراهم ولم يستحلّوها ، فالمعنى : لقد علمتم أنّا رددنا عليكم دراهمكم وهي أكثر من ثمن الصّاع ، فكيف نستحلّ صاعكم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل. والثاني : لأنهم لمّا دخلوا مصر كعموا (١) أفواه إبلهم وحميرهم حتى لا تتناول شيئا ، وكان غيرهم لا يفعل ذلك ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أنّ أهل مصر كانوا قد عرفوهم أنهم لا يظلمون أحدا.

قوله تعالى : (فَما جَزاؤُهُ) المعنى : قال المنادي وأصحابه : فما جزاؤه. قال الأخفش : إن شئت رددت الكناية إلى السّارق ، وإن شئت رددتها إلى السّرق. قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) أي : في قولكم ، (وَما كُنَّا سارِقِينَ). (قالُوا) يعني : إخوة يوسف (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) أي : يستعبد بذلك. قال ابن عباس : وهذه كانت سنّة آل يعقوب.

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦))

قوله تعالى : (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ) قال المفسّرون : انصرف بهم المؤذّن إلى يوسف ، وقال : لا بدّ من تفتيش أمتعتكم ، (فَبَدَأَ) يوسف (بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) لإزالة التّهمة ، فلما وصل إلى وعاء أخيه ، قال : ما أظنّ هذا أخذ شيئا ، فقالوا : والله لا نبرح حتى تنظر في رحله ، فهو أطيب لنفسك. فلمّا فتحوا متاعه وجدوا الصّاع ، فذلك قوله : (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها). وفي هاء الكناية ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى السّرقة ، قاله الفرّاء. والثاني : إلى السّقاية ، قاله الزّجّاج. والثالث : إلى الصّواع على لغة من

__________________

(١) كعم البعير يكعمه كعما فهو مكعوم وكعيم : شدّ فاه ، وقيل : شدّ فاه في هياجه لئلا يعض أو يأكل.

٤٥٨

يؤنّثه ، ذكره ابن الأنباري. قال المفسّرون : فأقبلوا على ابن يامين ، وقالوا : أيّ شيء صنعت؟! فضحتنا وأزريت بأبيك الصّدّيق ، فقال : وضع هذا في رحلي الذي وضع الدّراهم في رحالكم ، وقد كان يوسف أخبر أخاه بما يريد أن يصنع به.

قوله تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) فيه أربعة أقوال : أحدها : كذلك صنعنا له ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : احتلنا له ، والكيد : الحيلة ، قاله ابن قتيبة. والثالث : أردنا ليوسف ، ذكره ابن القاسم. والرابع : دبّرنا له بأن ألهمناه ما فعل بأخيه ليتوصّل إلى حبسه. قال ابن الأنباري : لمّا دبّر الله ليوسف ما دبّر من ارتفاع المنزلة وكمال النّعمة على غير ما ظنّ إخوته ، شبّه بالكيد من المخلوقين ، لأنهم يسترون ما يكيدون به عمّن يكيدونه.

قوله تعالى : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) في المراد بالدّين ها هنا قولان :

أحدهما : أنه السّلطان ، فالمعنى : في سلطان الملك ، رواه العوفيّ عن ابن عباس.

والثاني : أنه القضاء ، فالمعنى : في قضاء الملك ، لأنّ قضاء الملك أنّ من سرق إنّما يضرب ويغرّم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وبيانه أنه لو أجرى أخاه على حكم الملك ما أمكنه حبسه ، لأنّ حكم الملك الغرم والضّرب فحسب ، فأجرى الله على ألسنة إخوته أنّ جزاء السّارق الاسترقاق ، فكان ذلك ممّا كاد الله ليوسف لطفا حتى أظفره بمراده بمشيئة الله ، فذلك معنى قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ). وقيل : إلّا أن يشاء الله إظهار علّة يستحقّ بها أخاه.

قوله تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) وقرأ يعقوب «يرفع درجات من يشاء» بالياء فيهما. وقرأ أهل الكوفة «درجات» بالتنوين ، والمعنى : نرفع الدّرجات بصنوف العطاء ، وأنواع الكرامات ، وأبواب العلوم ، وقهر الهوى ، والتّوفيق للهدى ، كما رفعنا يوسف. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) أي : فوق كلّ ذي علم رفعه الله بالعلم من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى ، والكمال في العلم معدوم من غيره. وفي مقصود هذا الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ المعنى : يوسف أعلم من إخوته ، وفوقه من هو أعلم منه. والثاني : أنه نبّه على تعظيم العلم ، وبيّن أنه أكثر من أن يحاط به. والثالث : أنه تعليم للعالم التّواضع لئلّا يعجب.

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩))

قوله تعالى : (قالُوا) يعني : إخوة يوسف (إِنْ يَسْرِقْ) يعنون ابن يامين (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) يعنون يوسف. قال المفسّرون : عوقب يوسف ثلاث مرّات ، قال للسّاقي : «اذكرني عند ربّك» فلبث في السّجن بضع سنين ، وقال للعزيز : «ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب» ، فقال له جبريل : ولا حين هممت؟ فقال : «وما أبرّئ نفسي» ، وقال لإخوته : «إنّكم لسارقون» ، فقالوا : «إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل». وفي ما عنوا بهذه السّرقة سبعة أقوال : أحدها : أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه في سنيّ

٤٥٩

المجاعة ، فيطعمه للمساكين ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني : أنه سرق مكحلة لخالته ، رواه أبو مالك عن ابن عباس. والثالث : أنه سرق صنما لجدّه أبي أمّه ، فكسره وألقاه في الطريق ، فعيّره إخوته بذلك ، قاله سعيد بن جبير ، ووهب بن منبّه ، وقتادة. والرابع : أنّ عمّة يوسف  ـ  وكانت أكبر ولد إسحاق  ـ  كانت تحضن يوسف وتحبّه حبّا شديدا ، فلمّا ترعرع ، طلبه يعقوب ، فقالت : ما أقدر أن يغيب عني ، فقال : والله ما أنا بتاركه ، فعمدت إلى منطقة إسحاق ، فربطتها على يوسف تحت ثيابه ، ثم قالت : لقد فقدت منطقة إسحاق ، فانظروا من أخذها ، فوجدوها مع يوسف ، فأخبرت يعقوب بذلك ، وقالت : والله إنه لي أصنع فيه ما شئت ، فقال : أنت وذاك ، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت ، فذاك الذي عيّره به إخوته ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والخامس : أنه جاءه سائل يوما ، فسرق شيئا ، فأعطاه السّائل ، فعيّروه بذلك. وفي ذلك الشيء ثلاثة أقوال : أحدها : أنه كان بيضة ، قاله مجاهد. والثاني : أنه شاة ، قاله كعب. والثالث : دجاجة ، قاله سفيان بن عيينة. والسادس : أن بني يعقوب كانوا على طعام ، فنظر يوسف إلى عرق ، فخبأه ، فعيّروه بذلك ، قاله عطيّة العوفيّ ، وإدريس الأوديّ. قال ابن الأنباري : وليس في هذه الأفعال كلّها ما يوجب السّرقة ، لكنها تشبه السّرقة ، فعيّره إخوته بذلك عند الغضب. والسابع : أنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إليه ، قاله الحسن. وقرأ أبو رزين ، وابن أبي عبلة : «فقد سرّق» بضمّ السين وكسر الراء وتشديدها.

قوله تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) في هاء الكناية ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى الكلمة التي ذكرت بعد هذا ، وهي قوله تعالى : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) ، روى هذا المعنى العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنها ترجع إلى الكلمة التي قالوها في حقّه ، وهي قولهم : «فقد سرق أخ له من قبل» ، وهذا معنى قول أبي صالح عن ابن عباس ، فعلى هذا يكون المعنى : أسرّ جواب الكلمة فلم يجبهم عليها. والثالث : أنها ترجع إلى الحجّة ، المعنى : فأسرّ الاحتجاج عليهم في ادّعائهم عليه السّرقة ، ذكره ابن الأنباري.

قوله تعالى : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) فيه قولان : أحدهما : شرّ صنيعا من يوسف لما قدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم ، قاله ابن عباس. والثاني : شرّ منزلة عند الله ، ذكره الماوردي.

قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) فيه قولان : أحدهما : تقولون ، قاله مجاهد. والثاني : بما تكذبون ، قاله قتادة. قال الزّجّاج : المعنى : والله أعلم أسرق أخ له أم لا.

وذكر بعض المفسّرين ، أنه لما استخرج الصّواع من رحل أخيه ، نقر الصّواع ، ثم أدناه من أذنه ، فقال : إنّ صواعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلا ، وأنكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه ، فقال ابن يامين : أيّها الملك ، سل صواعك عن أخي ، أحيّ هو؟ فنقره ، ثم قال : هو حيّ ، وسوف تراه ، فقال : سل صواعك ، من جعله في رحلي؟ فنقره ، وقال : إنّ صواعي هذا غضبان ، وهو يقول : كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت؟ فغضب روبيل ، وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا ، فإذا مسّ أحدهم الآخر ذهب غضبه ، فقال : والله أيّها الملك لتتركنّا ، أو لأصيحنّ صيحة لا يبقى بمصر امرأة حامل إلّا ألقت ما في بطنها ، فقال يوسف لابنه : قم إلى جنب روبيل فامسسه ، ففعل الغلام ، فذهب غضبه ، فقال روبيل : ما هذا؟! إنّ في هذا البلد من ذريّة يعقوب؟ قال يوسف : ومن يعقوب؟ فقال : أيّها

٤٦٠