زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٥

فقالوا : إنّا نستنجي بالماء. فعلى هذا ، المراد به الطّهارة بالماء. وقال أبو العالية : أن يتطهّروا من الذّنوب.

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩))

قوله تعالى : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائيّ «أسس» بفتح الألف في الحرفين جميعا وفتح النّون فيهما. وقرأ نافع وابن عامر «أسس» بضمّ الألف «بنيانه» برفع النون. والبنيان مصدر يراد به المبنيّ. والتّأسيس : إحكام أسّ البناء ، وهو أصله ، والمعنى : المؤسّس بنيانه متّقيا يخاف الله ويرجو رضوانه خير ، أم المؤسّس بنيانه غير متّق؟ قال الزّجّاج : وشفا الشيء : حرفه وحدّه. والشفا مقصور ، يكتب بالألف ويثنى شفوان. قوله تعالى : (جُرُفٍ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائيّ «جرف» مثقّلا. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : «جرف» ساكنة الراء. قال أبو عليّ : فالضمّ الأصل ، والإسكان تخفيف ، ومثله : الشّغل والشّغل. قال ابن قتيبة : المعنى : على حرف جرف هائر. والجرف : ما يتجرّف بالسّيول من الأودية. والهائر : السّاقط. ومنه : تهوّر البناء وانهار : إذا سقط. وقرأ ابن كثير : وحمزة «هار» بفتح الهاء. وأمال الهاء نافع وأبو عمرو. وعن عاصم كالقراءتين. قوله تعالى : (فَانْهارَ بِهِ) أي : بالباني (فِي نارِ جَهَنَّمَ). قال الزّجّاج : وهذا مثل ، والمعنى : أنّ بناء هذا المسجد كبناء على جرف جهنّم يتهوّر بأهله فيها. وقال قتادة : ذكر لنا أنّهم حفروا فيه حفرة فرؤي فيها الدّخان. قال جابر : رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدّخان.

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

قوله تعالى : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ) يعني : مسجد الضّرار (الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) وفيها ثلاثة أقوال : أحدها : شكّا ونفاقا ، لأنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه ، قاله ابن عباس ، وابن زيد. والثاني : حسرة وندامة ، لأنهم ندموا على بنائه ، قاله ابن السّائب ومقاتل. والثالث : أن المعنى : لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظا في قلوبهم ، قاله السّدّيّ ، والمبرّد.

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) قرأ الأكثرون : «إلا» وهو حرف استثناء. وقرأ يعقوب «إلى أن» فجعله حرف جرّ. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «تقطّع» بضم التاء. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : «تقطّع» بفتح التاء. ثم في المعنى قولان :

____________________________________

وللحديث شواهد مراسيل تقدم بعضها ، ومنها : مرسل الشعبي ، أخرجه الطبري ١٧٢٤٧ و ١٧٢٤٩ من طريقين أحدهما قوي. مرسل موسى بن أبي كثير ، أخرجه الطبري ١٧٢٥١. مرسل عبد الرحمن بن زيد ، أخرجه الطبري ١٧٢٥٦. مرسل الحسن ، أخرجه البلاذري في «فتوح البلدان» ١  ـ  ٢  ـ  ٣ والإسناد إلى الحسن حسن. وفي الباب روايات موصولة ومرسلة ، ذكرها في «الدر المنثور» ٣ / ٤٩٧  ـ  ٤٩٩.

الخلاصة : هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده الموصولة والمرسلة وقد صححه الحاكم والذهبي ، وحسن الزيلعي إحدى رواياته وتقدم بما فيه كفاية ، والله أعلم.

٣٠١

أحدهما : إلّا أن يموتوا ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين. والثاني : إلّا أن يتوبوا توبة تتقطّع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم ، ذكره الزّجّاج.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ).

(٧٦٠) سبب نزولها أنّ الأنصار لمّا بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة وكانوا سبعين رجلا ، قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله اشترط لربّك ولنفسك ما شئت ، فقال «أشترط لربّي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم» ، قالوا : فإذا فعلنا ذلك ، فما لنا؟ قال : «الجنّة» قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل ، فنزلت (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية ، قاله محمّد بن كعب القرظيّ.

فأما اشتراء النّفس فبالجهاد. وفي اشتراء الأموال وجهان : أحدهما : بالإنفاق في الجهاد. والثاني : بالصّدقات. وذكر الشّراء ها هنا مجاز لأنّ المشتري حقيقة هو الذي لا يملك المشترى ، فهو كقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) (١) والمراد من الكلام أنّ الله أمرهم بالجهاد بأنفسهم وأموالهم ليجازيهم عن ذلك بالجنّة فعبّر عنه بالشّراء لما تضمّن من عوض ومعوّض. وكان الحسن يقول : لا والله ، إن في الدنيا مؤمن إلّا وقد أخذت بيعته. وقال قتادة : ثامنهم والله فأغلى لهم. قوله تعالى : (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم «فيقتلون ويقتلون» فاعل ومفعول. وقرأ حمزة ، والكسائيّ «فيقتلون ويقتلون» مفعول وفاعل. قال أبو عليّ : القراءة الأولى بمعنى أنهم يقتلون أوّلا ويقتلون ، والأخرى يجوز أن تكون في المعنى كالأولى ، لأنّ المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التّقديم ؛ فإن لم يقدّر فيه التّقديم ، فالمعنى : يقتل من بقي منهم بعد قتل من قتل ، كما أنّ قوله تعالى : (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ) (٢) ما وهن من بقي بقتل من قتل. ومعنى الكلام : إنّ الجنّة عوض عن جهادهم ، قتلوا أو قتلوا. (وَعْداً عَلَيْهِ) قال الزّجّاج : نصب «وعدا» بالمعنى ، لأنّ معنى قوله : (بِأَنَ

____________________________________

(٧٦٠) ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٢٨٤ عن محمد بن كعب وغيره مرسلا ومع إرساله فإن في إسناده نجيح بن عبد الرحمن أبو معشر واه وهو مرسل ، والوهن في نزول الآية ، لأن البيعة كانت في أول الإسلام.

وفي الباب من حديث عبادة بن الصامت «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشترط في بيعة العقبة على من بايعه من الأنصار : «أن يشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة والسمع والطاعة ، ولا ينازعوا في الأمر أهله ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم ، قالوا : نعم : قال قائل من الأنصار : نعم ، هذا لك يا رسول! فما لنا؟ قال : الجنة». أخرجه ابن سعد في «الطبقات ٣ / ٤٥٧ ، وفيه علي بن زيد بن جدعان ، وهو ضعيف الحديث. وليس فيه ذكر نزول الآية.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٤٥.

(٢) سورة آل عمران : ١٤٦.

٣٠٢

لَهُمُ الْجَنَّةَ) : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) ، قال : وقوله تعالى : (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) يدلّ على أنّ أهل كلّ ملّة أمروا بالقتال ووعدوا عليه الجنّة. قوله تعالى : (وَمَنْ أَوْفى) أي : لا أحد أوفى بما وعد (مِنَ اللهِ). (فَاسْتَبْشِرُوا) أي : فافرحوا بهذا البيع.

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))

قوله تعالى : (التَّائِبُونَ).

(٧٦١) سبب نزولها : أنه لمّا نزلت التي قبلها ، قال رجل : يا رسول الله ، وإن سرق وإن زنى وإن شرب الخمر؟ فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

قال الزّجّاج : يصلح الرفع هاهنا على وجوه أحدها : المدح ، كأنه قال : هؤلاء التّائبون ، أو هم التّائبون. ويجوز أن يكون على البدل ، والمعنى : يقاتل التّائبون ؛ فهذا مذهب أهل اللغة ، والذي عندي أنه رفع بالابتداء ، وخبره مضمر ، المعنى : التّائبون ومن ذكر معهم لهم الجنّة أيضا وإن لم يجاهدوا إذا لم يقصدوا ترك الجهاد ولا العناد ، لأنّ بعض المسلمين يجزئ عن بعض في الجهاد. وللمفسرين في قوله تعالى : (التَّائِبُونَ) قولان : أحدهما : الرّاجعون عن الشّرك والنّفاق والمعاصي. والثاني : الرّاجعون إلى الله في فعل ما أمر واجتناب ما حظّر. وفي قوله تعالى : (الْعابِدُونَ) ثلاثة أقوال : أحدها : المطيعون لله بالعبادة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : المقيمون الصّلاة ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : الموحّدون ، قاله سعيد بن جبير.

قوله تعالى : (الْحامِدُونَ) قال قتادة : يحمدون الله تعالى على كلّ حال. وفي السّائحين أربعة أقوال : أحدها : الصّائمون ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة في آخرين. قال الفرّاء : ويرى أهل النّظر أنّ الصائم إنما سمّي سائحا تشبيها بالسّائح ، لأنّ السّائح لا زاد معه ؛ والعرب تقول للفرس إذا كان قائما لا علف بين يديه : صائم ، وذلك أنّ له قوتين ، غدوة وعشيّة ، فشبّه به صيام الآدميّ لتسحّره وإفطاره. والثاني : أنهم الغزاة ، قاله عطاء. والثالث : طلّاب العلم ، قاله عكرمة. والرابع : المهاجرون ، قاله ابن زيد.

قوله تعالى : (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) يعني في الصلاة (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وهو طاعة الله (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو معصية الله. فإن قيل : ما وجه دخول الواو في قوله تعالى : (وَالنَّاهُونَ)؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنّ الواو إنما دخلت هاهنا لأنها الصّفة الثّامنة ، والعرب تعطف بالواو على السّبعة ، كقوله تعالى : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) (١) وقوله في صفة الجنّة : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) (٢) ، ذكره جماعة من المفسّرين. والثاني : أنّ الواو إنما دخلت على النّاهين لأنّ الآمر بالمعروف ناه عن

____________________________________

(٧٦١) لم أقف عليه ، وأمارة الوضع لائحة عليه ، حيث لا ذكر له في كتب الحديث والأثر بهذا اللفظ والسياق.

__________________

(١) سورة الكهف : ٢٢.

(٢) سورة الزمر : ٧٣.

٣٠٣

المنكر في حال أمره ، فكان دخول الواو دلالة على أنّ الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النّهي عن المنكر كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السّائحين ، والسّائحون بالسّياحة دون الحامدين في بعض الأحوال والأوقات.

قوله تعالى : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) قال الحسن : القائمون بأمر الله.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤))

قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) في سبب نزولها أربعة أقوال :

(٧٦٢) أحدها : أنّ أبا طالب لمّا حضرته الوفاة ، دخل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أميّة ، فقال : «أي عمّ ، قل معي : لا إله إلّا الله ، أحاجّ لك بها عند الله» ، فقال أبو جهل وابن أبي أميّة : يا أبا طالب ، أترغب عن ملّة عبد المطّلب؟! فلم يزالا يكلّمانه ، حتى قال آخر شيء كلّمهم به : أنا على ملّة عبد المطّلب. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك» ، فنزلت (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، ونزلت : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (١) ؛ أخرجه البخاريّ ومسلم في «الصّحيحين» من حديث سعيد بن المسيّب عن أبيه.

(٧٦٣) وقيل : إنه لمّا مات أبو طالب ، جعل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستغفر له ، فقال المسلمون : ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا ، وقد استغفر إبراهيم لأبيه ، وهذا محمّد يستغفر لعمّه؟ فاستغفروا للمشركين ، فنزلت هذه الآية. قال أبو الحسين بن المنادي : هذا لا يصحّ ، إنما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمّه «لأستغفرنّ لك ما لم أُنهَ عنك» قبل أن يموت ، وهو في السّياق ، فأمّا أن يكون استغفر له بعد الموت ، فلا ، فانقلب ذلك على الرّواة ، وبقي على انقلابه.

(٧٦٤) والثاني : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بقبر أمّه آمنة ، فتوضّأ وصلّى ركعتين ، ثمّ بكى فبكى الناس

____________________________________

(٧٦٢) صحيح. أخرجه البخاري ١٣٦٠ و ٤٧٧٢ و ٤٧٧٦ و ٣٨٨٤ و ٦٦٨١ ومسلم ٢٤ والنسائي ٤ / ٦٠ وفي «التفسير» ٢٥٠ وأحمد ٥ / ٤٣٣ وعبد الرزاق في «التفسير» ١١٣٢ وابن حبان ٩٨٢ والواحدي في «الوسيط» ٢ / ٥٢٧ و «الأسباب» ٥٣٠ والبيهقي في «الصفات ١٧١ و ١٩٥ و «الدلائل» ٢ / ٣٤٢ و ٣٤٣ ، والبغوي في «التفسير» ١١٢٣ بترقيمي. من طرق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه به.

(٧٦٣) أخرجه الطبري ١٧٣٤١ عن عمرو بن دينار مرسلا. وله شاهد من مرسل محمد بن كعب ، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» ٣ / ٥٠٥. فهذان مرسلان لا تقوم بهما حجة. انظر «أحكام القرآن» ١٢٢٢ بتخريجنا.

(٧٦٤) عزاه السيوطي في «الدر» ٣ / ٥٠٧ لابن مردويه عن بريدة به. ولم أقف على إسناده. وورد بنحوه أخرجه الطبري ١٧٣٤٤ من حديث بريدة ورجاله ثقات. وورد من وجه آخر أخرجه الحاكم ١ / ٣٧٦ وصححه على

__________________

(١) سورة القصص : ٥٦.

٣٠٤

لبكائه ، ثم انصرف إليهم ، فقالوا : ما الذي أبكاك؟ فقال : «مررت بقبر أمّي فصلّيت ركعتين ، ثم استأذنت ربّي أن أستغفر لها ، فنهيت ، فبكيت ، ثم عدت فصلّيت ركعتين ، واستأذنت ربّي أن أستغفر لها ، فزجرت زجرا ، فأبكاني» ، ثمّ دعا براحلته فركبها ؛ فما سار هنيّة ، حتى قامت النّاقة لثقل الوحي ؛ فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) والآية التي بعدها ، رواه بريدة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٧٦٥) والثالث : أنّ رجلا استغفر لأبويه ، وكانا مشركين ، فقال له عليّ بن أبي طالب : أتستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكر ذلك عليّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، رواه أبو الخليل عن عليّ عليه‌السلام.

(٧٦٦) والرابع : أنّ رجالا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : يا نبيّ الله ؛ إنّ من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الرّحم ، ويفكّ العاني ، ويوفي بالذّمم ، أفلا نستغفر لهم؟ فقال : «بلى ، والله لأستغفرنّ لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» ، فنزلت هذه الآية ، وبيّن عذر إبراهيم ، قاله قتادة.

ومعنى قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي : من بعد ما بان أنهم ماتوا كفّارا.

قوله تعالى : (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) فيه قولان : أحدهما : أنّ إبراهيم وعد أباه الاستغفار ، وذلك قوله تعالى : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) (١) ، وما كان يعلم أنّ الاستغفار للمشركين محظور حتى أخبره الله تعالى بذلك. والثاني : أنّ أباه وعده أنه إن استغفر له آمن ؛ فلمّا تبيّن لإبراهيم عداوة أبيه لله تعالى بموته على الكفر ، ترك الدّعاء له. فعلى الأول ، تكون هاء الكناية في «إيّاه» عائدة على آزر ، وعلى الثاني ، تعود على إبراهيم. وقرأ ابن السّميفع ، ومعاذ القارئ ، وأبو نهيك : «وعدها أباه» بالباء.

____________________________________

شرطهما! ووافقه الذهبي! وهو كما قال. وله شاهد صحيح من حديث أبي هريرة ، أخرجه الترمذي ٩٧٦ وأبو داود ٣٢٣٤ والنسائي ٤ / ٩٠ وابن ماجة ١٥٧٢ وابن أبي شيبة ٣ / ٣٤٣ وأحمد ٢ / ٤٤١ وابن حبان ٣١٦٩ واستدركه الحاكم ١ / ٣٧٥ والبيهقي ٤ / ٧٦ والبغوي ١٥٥٤ من طرق عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة ، قال : زار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبر أمه ، فبكى وأبكى من حوله ، فقال : استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور ، «فإنها تذكر الموت». قال النووي رحمه‌الله في «شرح مسلم» ٧ / ٤٥ : فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة ، لأنه إذا جازت زيارتهم بعد ، ففي الحياة أولى ، وقد قال الله تعالى (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) وفيه النهي عن الاستغفار للكفار. ففي هذا الحديث وحديث بريدة المتقدم وكلام النووي هذا دليل على رد قول بعض المتأخرين ومنهم السيوطي بأن الله عزوجل قد أحيا أبوي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فآمنا به. وليس على ما ذكر هؤلاء دليل سوى أحاديث موضوعة ، وأقوال واهية ، وقصص عجيبة. نسأل الله السلامة.

(٧٦٥) أخرجه الترمذي ٣١٠١ والنسائي ٤ / ٩١ وأحمد ١ / ٩٩ و ١٣٠ و ١٣١ وأبو يعلى ٣٣٥ و ٦١٩ والطبري ١٧٣٤٨ و ١٧٣٤٩ من طرق عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الخليل عبد الله بن الخليل عن علي به ، وإسناده لين أبو الخليل ، مقبول ، وقد توبع على معنى هذا الحديث كما تقدم دون لفظه. والله أعلم.

(٧٦٦) ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٣٤٧ عن قتادة مرسلا بأتم منه ، وهذا ضعيف لإرساله.

__________________

(١) سورة مريم : ٤٧.

٣٠٥

وفي الأوّاه ثمانية أقوال (١) :

(٧٦٧) أحدها : أنه الخاشع الدّعّاء المتضرّع ، رواه عبد الله بن شدّاد بن الهاد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني : أنه الدّعّاء ، رواه زرّ عن عبد الله ، وبه قال عبيد بن عمير. والثالث : الرّحيم ، رواه أبو العبيد بن العامري عن ابن مسعود ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، وأبو ميسرة. والرابع : أنه الموقن ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والضّحّاك. والخامس : أنه المؤمن ، رواه العوفيّ ، ومجاهد ، وابن أبي طلحة عن ابن عباس. والسادس : أنه المسبّح ، رواه أبو إسحاق عن أبي ميسرة ، وبه قال سعيد بن المسيّب ، وابن جبير. والسابع : أنه المتأوّه لذكر عذاب الله ، قاله الشّعبيّ. قال أبو عبيدة : مجاز أوّاه مجاز فعّال من التّأوّه ، ومعناه : متضرّع شفقا وفرقا ولزوما لطاعة ربّه ، قال المثقّب :

إذا ما قمت أرحلها بليل

تأوّه آهة الرّجل الحزين (٢)

والثامن : أنه الفقيه ، رواه ابن جريج عن مجاهد. فأما الحليم ، فهو الصّفوح عن الذّنوب.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦))

قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) الآية.

(٧٦٨) سبب نزولها : أنه لمّا نزلت آية الفرائض ، وجاء النّسخ ، وقد غاب قوم وهم يعلمون بالأمر الأوّل مثل أمر القبلة والخمر ، ومات أقوام على ذلك ، سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

وقال قوم : المعنى : أنه بيّن أنه لم يكن ليأخذهم بالاستغفار للمشركين قبل تحريمه ، فإذا حرّمه ولم يمتنعوا عنه ، فقد ضلّوا. وقال ابن الأنباري : في الآية حذف واختصار ، والتّأويل : حتى يتبيّن لهم ما يتّقون ، فلا يتّقونه ، فعند ذلك يستحقّون الضّلال ؛ فحذف ما حذف لبيان معناه ، كما تقول العرب : أمرتك بالتّجارة فكسبت الأموال ؛ يريدون : فتجرت فكسبت.

____________________________________

(٧٦٧) أخرجه الطبري ١٧٤٣٠ و ١٧٤٣١ عن عبد الله بن شداد ، وفيه شهر بن حوشب فيه كلام ، وهو مدلس ، وقد عنعنه. وإسناده ضعيف.

(٧٦٨) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وراوية أبي صالح هو الكلبي ، وهو ممن يضع الحديث.

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٢ / ٤٨٨ : وأولى الأقوال قول من قال : إنه الدعاء وهو المناسب للسياق ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم عليه‌السلام إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه ، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه وأناله مكروها ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه في قوله : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا). فحلم عنه مع أذاه له ، ودعا له واستغفر ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) اه.

(٢) البيت منسوب إلى المثقب : مجاز القرآن ١ / ٢٧٠ «اللسان» أوه.

٣٠٦

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧))

قوله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) قال المفسّرون : تاب عليه من إذنه للمنافقين في التّخلّف. وقال أهل المعاني : هو مفتاح كلام ، وذلك أنه لمّا كان سبب توبة التّائبين ، ذكر معهم ، كقوله تعالى : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) (١). قوله تعالى : (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) قال الزّجّاج : هم الذين اتّبعوه في غزوة تبوك ، والمراد بساعة العسرة : وقت العسرة ، لأنّ الساعة تقع على كلّ الزّمان ، وكان في ذلك الوقت حرّ شديد ، والقوم في ضيقة شديدة ، كان الجمل بين جماعة يعتقبون عليه ، وكانوا في فقر ، فربّما اقتسم التّمرة اثنان ، وربّما مصّ التّمرة الجماعة ليشربوا عليها الماء ، وربّما نحروا الإبل فشربوا من ماء كروشها من الحرّ.

(٧٦٩) وقيل لعمر بن الخطّاب : حدّثنا عن ساعة العسرة ؛ فقال : خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننّا أنّ رقابنا ستتقطّع ، حتى إنّ الرجل ليذهب يلتمس الماء ، فلا يرجع حتى يظنّ أنّ رقبته ستنقطع ، وحتى إنّ الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ، ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إنّ الله تعالى قد عوّدك في الدّعاء خيرا ، فادع لنا. قال : «تحبّ ذلك»؟ قال : نعم. فرفع يديه ، فلم يرجعهما حتى قالت السّماء ، فملؤوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر ، فلم نجدها جاوزت العسكر.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) قرأ حمزة ، وحفص عن عاصم : «كاد يزيغ» بالياء. وقرأ الباقون بالتاء. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : تميل إلى التّخلّف عنه ، وهم ناس من المسلمين همّوا بذلك ، ثم لحقوه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنّ القلوب مالت إلى الرّجوع للشدّة التي لقوها ، ولم تزغ عن الإيمان ، قاله الزّجّاج. والثالث : أنّ القلوب كادت تزيغ تلفا بالجهد والشّدّة ، ذكره الماوردي.

قوله تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) كرّر ذكر التّوبة ، لأنّه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم ، فقدّم ذكر التّوبة فضلا منه ، ثم ذكر ذنبهم ، ثم أعاد ذكر التّوبة.

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨))

قوله تعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) وقرأ أبو رزين ، وأبو مجلز ، والشّعبيّ ، وابن يعمر :

____________________________________

(٧٦٩) أخرجه ابن خزيمة ١ / ٥٢ والحاكم ١ / ٥٩ وابن حبان ١٣٨٣ والبزار ١٨٤١ «كشف» من حديث ابن عمر ، وصححه الحاكم على شرطهما ، ووافقه الذهبي ، والصواب أنه على شرط مسلم وحده ، حرملة بن يحيى تفرد عنه مسلم.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٤١.

٣٠٧

«خالفوا» بألف. وقرأ معاذ القارئ ، وعكرمة ، وحميد : «خلفوا» بفتح الخاء واللام المخفّفة. وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو العالية : «خلّفوا» بفتح الخاء واللام مع تشديدها. وهؤلاء هم المرادون بقوله تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) وقد تقدّمت أسماؤهم. وفي معنى «خلّفوا» قولان : أحدهما : خلّفوا عن التّوبة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. فيكون المعنى : خلّفوا عن توبة الله على أبي لبابة وأصحابه إذ لم يخضعوا كما خضع أولئك. والثاني : خلّفوا عن غزوة تبوك ، قاله قتادة. وحديثهم مندرج في توبة كعب بن مالك (١) ، وقد رويتها في كتاب «الحدائق».

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي : ضاقت مع سعتها.

(٧٧٠) وذلك أنّ المسلمين منعوا من معاملتهم وكلامهم ، وأمروا باعتزال أزواجهم ، وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم معرضا عنهم. (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) بالهمّ والغمّ. (وَظَنُّوا) أي : أيقنوا (أَنْ لا مَلْجَأَ) أي : لا معتصم من الله ومن عذابه إلّا هو. (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أعاد التّوبة تأكيدا ، (لِيَتُوبُوا) قال ابن عباس : ليستقيموا. وقال غيره : وفّقهم للتوبة ليدوموا عليها ولا يرجعوا إلى ما يبطلها. وسئل بعضهم عن التّوبة النّصوح ، فقال : أن تضيق على التّائب الأرض ، وتضيق عليه نفسه ، كتوبة كعب وصاحبيه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) في سبب نزولها قولان : أحدهما : أنها نزلت في قصّة الثلاثة المتخلّفين. والثاني : أنها في أهل الكتاب. والمعنى : يا أيّها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتّقوا الله في إيمانكم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكونوا مع الصّادقين.

وفي المراد بالصّادقين خمسة أقوال : أحدها : أنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، قاله ابن عمر. والثاني : أبو بكر وعمر ، قاله سعيد بن جبير ، والضّحّاك. وقد قرأ ابن السّميفع ، وأبو المتوكّل ، ومعاذ القارئ : «مع الصّادقين» بفتح القاف وكسر النون على التّثنية. والثالث : أنهم الثلاثة الذين خلّفوا ، صدقوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تأخّرهم ، قاله السّدّيّ. والرابع : أنهم المهاجرون ، لأنهم لم يتخلّفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجهاد ، قاله ابن جريج. قال أبو سليمان الدّمشقي. وقيل : إنّ أبا بكر الصّديق احتجّ بهذه الآية يوم السّقيفة ، فقال : يا معشر الأنصار ، إنّ الله يقول في كتابه : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا) إلى قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) من هم؟ قالت الأنصار : أنتم هم. قال : فإنّ الله تعالى يقول : (اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) فأمركم أن تكونوا معنا ، ولم يأمرنا أن نكون معكم ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء. والخامس : أنه عامّ ، قاله قتادة. و «مع» بمعنى : «من» ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود : «وكونوا من الصادقين».

____________________________________

(٧٧٠) صحيح. أخرجه البخاري ٤٤١٨ ومسلم ٢٧٦٩ والترمذي ٣١٠٢ والنسائي في «التفسير» ٢٥٢ وعبد الرزاق ٩٧٤٤ وأحمد ٥ / ٣٨٧ وابن أبي شيبة ١٤ / ٥٤٠ وابن حبان ٣٣٧٠ والواحدي في «الوسيط» ٢ / ٥٣٠ و ٥٣٢ ١١ والطبري ١٧٤٦١ والبيهقي في «الدلائل» ٥ / ٢٧٣ والبغوي ١١٣٤ من حديث كعب بن مالك.

__________________

(١) هو الآتي.

٣٠٨

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١))

قوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) قال ابن عباس : يعني : مزينة ، وجهينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار ، (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) في غزوة غزاها ، (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدّعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحرّ والمشقّة. يقال : رغبت بنفسي عن الشيء : إذا ترفّعت عنه.

قوله تعالى : (ذلِكَ) أي : ذلك النّهي عن التّخلّف (بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) وهو العطش ، (وَلا نَصَبٌ) وهو التّعب ، (وَلا مَخْمَصَةٌ) وهي المجاعة ، (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) أسرا أو قتلا أو هزيمة ، فأعلمهم الله أنه يجازيهم على جميع ذلك.

قوله تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً) قال ابن عباس : تمرة فما فوقها ، (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) مقبلين أو مدبرين (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أي : أثبت لهم أجر ذلك ، (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ) أي : بأحسن (ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

فصل : قال شيخنا عليّ بن عبيد الله : اختلف المفسّرون في هذه الآية ، فقالت طائفة : كان في أوّل الأمر لا يجوز التّخلّف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث كان الجهاد يلزم الكلّ ؛ ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) ؛ وقالت طائفة : فرض الله تعالى على جميع المؤمنين في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممّن لا عذر له الخروج معه لشيئين : أحدهما : أنه من الواجب عليهم أن يقوه بأنفسهم. والثاني : أنه إذا خرج الرّسول فقد خرج الدّين كلّه ، فأمروا بالتّظاهر لئلّا يقلّ العدد ، وهذا الحكم باق إلى وقتنا ؛ فلو خرج أمير المؤمنين إلى الجهاد ، وجب على عامّة المسلمين متابعته لما ذكرنا. فعلى هذا ، الآية محكمة. قال أبو سليمان : لكلّ آية وجهها ، وليس للنّسخ على إحدى الآيتين طريق.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢))

قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) في سبب نزولها أربعة أقوال (١) :

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ٥١٦ : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال : تأويله : وما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا رسول الله وحده ، وأن الله نهى بهذه الآية المؤمنين أن يخرجوا في غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم ، ويدعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحيدا. ولكن عليهم إذا سرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن ينفر معه من كل قبيلة من قبائل العرب (طائِفَةٌ) وهي الفرقة  ـ  وذلك من الواحد إلى ما بلغ من العدد ، كما قال الله جل.

٣٠٩

(٧٧١) أحدها : أنه لمّا أنزل الله عزوجل عيوب المنافقين في غزوة تبوك ، قال المؤمنون : والله لا نتخلّف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا سريّة أبدا. فلما أرسل السّرايا بعد تبوك ، نفر المسلمون جميعا ، وتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

(٧٧٢) والثاني : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا دعا على مضر ، أجدبت بلادهم ؛ فكانت القبيلة منهم تقبل

____________________________________

(٧٧١) باطل لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٣٣ من رواية الكلبي عن ابن عباس ، والكلبي ممن يضع الحديث ، والمتن باطل ، فإن المسلمين كانوا ينفرون بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٧٧٢) ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٤٨٨ عن ابن عباس ، ورجاله ثقات ، لكنه منقطع بين ابن عباس وعلي بن أبي طلحة ، والآية تخاطب المؤمنين لا الكافرين كما هو سياق الحديث.

__________________

ثناؤه : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) يقول : فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة وهذا إلى ها هنا. على أحد الأقوال التي رويت عن ابن عباس وهو قول قتادة والضحاك وإنما قلنا : هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب. لأن الله تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المؤمنين به من أهل المدينة مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن الأعراب ، لغير عذر يعذرون به ، إذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغزو وجهاد عدو قبل هذه الآية بقوله : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) [التوبة : ١٢٠]. ثم عقب ذلك جل ثناؤه (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) فكان معلوما بذلك إذ كان قد عرفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر ، والمباح لهم من تركه حال غزو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشخوصه عن مدينته لجهاد عدو ، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم. أن يكون عقيب تعريفهم ذلك ، تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمدينته ، وإشخاص غيره عنها ، كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم.

وأما قوله : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به ، فيفقه بذلك معاينته حقيقة علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان من لم يكن فقهه ، ولينذر قومهم فيحذرهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم. (لَعَلَّهُمْ) يحذرون يقول : لعل قومهم ، إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك ، يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله ، حذارا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب ، وهو قول الحسن البصري لأن «النفر» قد بينا فيما مضى ، أنه إذا كان مطلقا بغير صلة بشيء ، أن الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو ، فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه ، وكان جل ثناؤه قال : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ). علم أن قوله (لِيَتَفَقَّهُوا) إنما هو شرط للنفر لا لغيره. إذ كان يليه دون غيره من الكلام. فإن قال قائل وما تنكر أن يكون معناه : ليتفقه المتخلفون في الدنيا.

قيل : ننكر ذلك لاستحالته. وذلك أن نفر الطائفة النافرة لو كان سببا لتفقه المتخلفة ، وجب أن يكون مقامهم معهم سببا لجهلهم وترك التفقه ، وقد علمنا أن مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سببا لمنعهم من التفقه.

وبعد ، فإنه قال جل ثناؤه : (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) عطفا به على قوله : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ، ولا شك أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والإنذار قد تقدم من الله إليها ، وللإنذار وخوف الوعيد نفرت ، فما وجه إنذار الطائفة المتخلفة الطائفة النافرة ، وقد تساوتا في المعرفة بإنذار الله إياهما؟ ولو كانت إحداهما جائز أن توصف بإنذار الأخرى ، لكان أحقهما بأن يوصف به ، الطائفة النافرة ، لأنها قد عاينت من قدرة الله ونصرة المؤمنين على أهل الكفر به. ما لم تعاين المقيمة. ولكن ذلك إن شاء الله كما قلنا. في أنها تنذر من حيّها وقبيلتها من لم يؤمن بالله إذا رجعت إليه : أن ينزل به ما أنزل بمن عاينته ممن أظفر الله به المؤمنين من نظرائه من أهل الشرك. اه.

٣١٠

بأسرها إلى المدينة من الجهد ويظهرون الإسلام وهم كاذبون ؛ فضيّقوا على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

(٧٧٣) والثالث : أنّ ناسا أسلموا ، وخرجوا إلى البوادي يعلمون قومهم ، فنزلت : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ) (١) ، فقال ناس من المنافقين : هلك من لم ينفر من أهل البوادي ، فنزلت هذه الآية ، قاله عكرمة.

(٧٧٤) والرابع : أنّ ناسا خرجوا إلى البوادي يعلمون الناس ويهدونهم ، ويصيبون من الحطب ما ينتفعون به ؛ فقال لهم الناس : ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا ؛ فأقبلوا من البادية كلهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد.

قال الزّجّاج : ولفظ الآية لفظ الخبر ، ومعناها الأمر ، كقوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) (٢) ، والمعنى : ينبغي أن ينفر بعضهم ، ويبقى البعض. قال الفرّاء : ينفر وينفر ، بكسر الفاء وضمّها ، لغتان. واختلف المفسّرون في المراد بهذا النّفير على قولين : أحدهما : أنه النّفير إلى العدو ، فالمعنى : ما كان لهم أن ينفروا بأجمعهم ، بل تنفر طائفة ، وتبقى مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم طائفة. (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) يعني الفرقة القاعدين. فإذا رجعت السّرايا ، وقد نزل بعدهم قرآن أو تجدّد أمر ، أعلموهم به وأنذروهم به إذا رجعوا إليهم ، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس. والثاني : أنه النّفير إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل تنفر منهم طائفة ليتفقّه هؤلاء الذين ينفرون ، ولينذروا قومهم المتخلّفين ، هذا قول الحسن ، وهو أشبه بظاهر الآية. فعلى القول الأول ، يكون نفير هذه الطّائفة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن خرج إلى غزاة أو مع سراياه. وعلى القول الثاني ، يكون نفير الطّائفة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاقتباس العلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦))

قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) قد أمر بقتال الكفّار على العموم ، وإنّما يبتدأ بالأقرب فالأقرب. وفي المراد بمن يليهم خمسة أقوال : أحدها : أنهم الرّوم ، قاله ابن عمر. والثاني : قريظة والنّضير وخيبر وفدك ، قاله ابن عباس. والثالث : الدّيلم ، قاله الحسن. والرابع : العرب ، قاله ابن زيد. والخامس : أنه عامّ في قتال الأقرب فالأقرب ، قاله قتادة. وقال الزّجّاج : وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي أن يقاتل أهل كلّ ثغر الذين يلونهم. قال : وقيل : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربّما تخطّى في حربه الذين

____________________________________

(٧٧٣) مرسل. أخرجه الطبري ١٧٤٩١ عن عكرمة مرسلا.

(٧٧٤) مرسل. أخرجه الطبري ١٧٤٨٠ عن مجاهد مرسلا.

__________________

(١) سورة التوبة : ٣٩.

(٢) سورة التوبة : ١١٣.

٣١١

يلونه من الأعداء ليكون ذلك أهيب له ، فأمر بقتال من يليه ليستنّ بذلك. وفي الغلظة ثلاث لغات : غلظة ، بكسر الغين ؛ وبها قرأ الأكثرون. وغلظة ، بفتح الغين ، رواها جبلة عن عاصم ، وغلظة ، بضمّ الغين ، رواها المفضّل عن عاصم ، ومثلها : جذوة وجذوة وجذوة ، ووجنة ووجنة ووجنة ، ورغوة ورغوة ورغوة ، وربوة وربوة وربوة ، وقسوة وقسوة وقسوة ، وإلوة وألوة وألوة ، في اليمين. وشاة لجبة ولجبة ولجبة : قد ولّى لبنها. قال ابن عباس في قوله «غلظة» : شجاعة. وقال مجاهد : شدّة.

قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) هذا قول المنافقين بعضهم لبعض استهزاء بقول الله تعالى. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) لأنهم إذا صدّقوا بها وعملوا بما فيها ، زادتهم إيمانا (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي : يفرحون بنزولها (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : شكّ ونفاق. وفي المراد بالرّجس ثلاثة أقوال : أحدها : الشّكّ ، قاله ابن عباس. والثاني : الإثم ، قاله مقاتل. والثالث : الكفر ، لأنهم كلّما كفروا بسورة زاد كفرهم ، قاله الزّجّاج. قوله تعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ) يعني المنافقين. وقرأ حمزة : «أولا ترون» بالتاء على الخطاب للمؤمنين. وفي معنى (يُفْتَنُونَ) ثمانية أقوال (١). أحدها : يكذبون كذبة أو كذبتين يضلّون بها ، قاله حذيفة بن اليمان. والثاني : ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : يبتلون بالغزو في سبيل الله ، قاله الحسن ، وقتادة. والرابع : يفتنون بالسّنة والجوع ، قاله مجاهد. والخامس : بالأوجاع والأمراض ، قاله عطيّة. والسادس : ينقضون عهدهم مرّة أو مرّتين ، قاله يمان. والسابع : يكافرون ، وذلك أنهم كانوا إذا أخبرهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما تكلّموا به إذ خلوا ، علموا أنّه نبيّ ، ثم يأتيهم الشّيطان فيقول : إنّما بلغه هذا عنكم ، فيشركون ، قاله مقاتل بن سليمان. والثامن : يفضحون بإظهار نفاقهم ، قاله مقاتل بن حيّان.

قوله تعالى : (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) أي من نفاقهم (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي يعتبرون ويتّعظون.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧))

قوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ).

(٧٧٥) قال ابن عباس : كانت إذا أنزلت سورة فيها عيب المنافقين ، وخطبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرّض بهم في خطبته ، شقّ ذلك عليهم ونظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب يقولون : (هَلْ

____________________________________

(٧٧٥) عزاه المصنف لابن عباس ، ولم أقف عليه.

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ٥٢٠  ـ  ٥٢١ : وأولى الأقوال في كذلك بالصحة أن يقال : إن الله عجب عباده المؤمنين من هؤلاء المنافقين ، ووبّخ المنافقين في أنفسهم بقلة تذكرهم. وسوء تنبههم لمواعظ الله التي يعظهم بها ، وجائز أن تكون تلك المواعظ الشدائد التي ينزلها بهم من الجوع والقحط ، وجائز أن تكون ما يريهم من نصرة رسوله على أهل الكفر به ، ويرزقه من إظهار كلمته على كلمتهم ، وجائز أن تكون ما يظهر للمسلمين من نفاقهم وخبث سرائرهم بركونهم إلى ما يسمعون من أراجيف المشركين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ولا خبر يوجب صحة بعض ذلك دون بعض من الوجه الذي يجب التسليم له ، ولا قول في ذلك أولى بالصواب من التسليم لظاهر قول الله وهو : أو لا يرون أنهم يختبرون في كل عام مرة أو مرتين ، بما يكون زاجرا لهم ، ثم لا ينزجرون ولا يتعظون؟

٣١٢

يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) من المؤمنين إن قمتم؟ فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد.

قال الزّجّاج : كأنّهم يقولون ذلك إيماء لئلّا يعلم بهم أحد ، (ثُمَّ انْصَرَفُوا) عن المكان ، وجائز عن العمل بما يسمعون. وقال الحسن : ثم انصرفوا على عزم التّكذيب بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به. قوله تعالى : (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) قال ابن عباس : عن الإيمان. وقال الزّجّاج : أضلّهم مجازاة على فعلهم.

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨))

قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) قرأ الجمهور بضمّ الفاء. وقرأ ابن عباس ، وأبو العالية ، والضّحّاك ، وابن محيصن. ومحبوب عن أبي عمرو : بفتحها. وفي المضمومة أربعة أقوال : أحدها : من جميع العرب ، قاله ابن عباس ؛ وقال : ليس في العرب قبيلة إلّا وقد ولدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثاني : ممّن تعرفون ، قاله قتادة. والثالث : من نكاح لم يصبه شيء من ولادة الجاهليّة ، قاله جعفر الصّادق. والرابع : بشر مثلكم ، فهو آكد للحجّة ، لأنّكم تفقهون عمّن هو مثلكم ، قاله الزّجّاج. وفي المفتوحة ثلاثة أقوال : أحدها : أفضلكم خلقا. والثاني : أشرفكم نسبا. والثالث : أكثركم طاعة لله عزوجل. قوله تعالى : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) فيه قولان : أحدهما : شديد عليه ما شقّ عليكم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. قال الزّجّاج : شديد عليه عنتكم. والعنت : لقاء الشّدّة. والثاني : شديد عليه ما آثمكم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قوله تعالى : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) قال ابن عباس : سمّاه باسمين من أسمائه. وقال أبو عبيدة : «رؤوف» فعول ، من الرّأفة ، وهي أرقّ من الرّحمة ؛ ويقال : «رؤف» ، وأنشد :

ترى للمؤمنين عليك حقّا

كفعل الوالد الرّؤف الرّحيم (١)

وقيل : رؤوف بالمطيعين ، رحيم بالمذنبين.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : أعرضوا عن الإيمان (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) أي : يكفيني (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ). وقرأ ابن محيصن : «العظيم» برفع الميم. وإنّما خصّ العرش بالذّكر ، لأنّه الأعظم ، فيدخل فيه الأصغر.

(٧٧٦) قال أبيّ بن كعب : آخر آية أنزلت : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ) إلى آخر السّورة.

____________________________________

(٧٧٦) أخرجه أحمد ٥ / ١١٧ والطبري ١٧٥٢٩ و ١٧٥٣٠ ورواه الطبراني في الكبير ٥٣٣ عن أبي بن كعب ، وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٣٦. وقال : رواه عبد الله بن أحمد والطبراني ، وفيه علي بن زيد بن جدعان ، وهو ثقة سيء الحفظ وبقية رجاله ثقات.

__________________

(١) البيت منسوب لجرير : ديوانه : ٥٠٨ ، و «اللسان» رأف.

٣١٣

سورة يونس

فصل في نزولها : روى عطيّة ، وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكيّة ، وبه قال الحسن ، وعكرمة. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنّ فيها من المدني قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) (١) الآية. وفي رواية عن ابن عباس : فيها ثلاث آيات من المدنيّ ، أوّلها قوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) (٢) إلى رأس ثلاث آيات ، وبه قال قتادة. وقال مقاتل : هي مكيّة ، غير آيتين ، قوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) والتي تليها. وقال بعضهم : هي مكيّة إلا آيتين ، وهي قوله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) (٣) والتي تليها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١))

فأمّا قوله تعالى : (الر) : قرأ ابن كثير : «الر» بفتح الرّاء ، وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «الر» على الهجاء مكسورة. وقد ذكرنا في أوّل سورة «البقرة» ما يشتمل على بيان هذا الجنس. وقد خصّت هذه الكلمة بستة أقوال (٤) : أحدها : أنّ معناها : أنا الله أرى ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس (٥). والثاني : أنا الله الرّحمن ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث : أنه بعض اسم من أسماء الله. روى عكرمة عن ابن عباس قال : «الر» و «حم» و «نون» حروف الرّحمن. والرابع : أنه قسم أقسم الله به ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والخامس : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله مجاهد ، وقتادة. والسادس : أنه اسم للسّورة ، قاله ابن زيد.

وفي قوله تعالى : (تِلْكَ) قولان : أحدهما : أنه بمعنى «هذه» ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره أبو عبيدة. والثاني : أنه على أصله. ثم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الإشارة إلى الكتاب المتقدّمة من التّوراة والإنجيل. قاله مجاهد ، وقتادة ؛ فيكون المعنى : هذه الأقاصيص التي تسمعونها ، تلك

__________________

(١) سورة يونس : ٤٠.

(٢) سورة يونس : ٩٤.

(٣) سورة يونس : ٥٨.

(٤) تقدم الكلام على الأحرف المقطعة في سورة البقرة ، والصحيح في ذلك أن يقال : الله أعلم بمراده.

(٥) أخرجه الطبري ١٧٥٣٣ عن الضحاك ، وأخرجه ١٧٥٣٤ عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس.

وعطاء اختلط ، فالخبر واه عن ابن عباس ، وحسبه أن يكون عن الضحاك.

٣١٤

الآيات التي وصفت في التّوراة والإنجيل. والثاني : أنّ الإشارة إلى الآيات التي جرى ذكرها ، من القرآن ، قاله الزّجّاج. والثالث : أنّ «تلك» إشارة إلى «الر» وأخواتها من حروف المعجم ، أي : تلك الحروف المفتتحة بها السّور هي (آياتُ الْكِتابِ) لأنّ الكتاب بها يتلى ، وألفاظه إليها ترجع ، ذكره ابن الأنباري. قال أبو عبيدة : (الْحَكِيمِ) بمعنى المحكم المبيّن الموضّح. والعرب قد تضع فعيلا في معنى مفعل ؛ قال الله تعالى : (ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) (١) أي : معدّ.

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣))

قوله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) : سبب نزولها : أنّ الله تعالى لمّا بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنكرت الكفار ذلك ، وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمّد. فنزلت هذه الآية (٢). والمراد بالناس هاهنا : أهل مكّة ، والمراد بالرّجل : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومعنى (منهم) : يعرفون نسبه ، قاله ابن عباس. فأما الألف فهي للتّوبيخ والإنكار. قال ابن الأنباري : والاحتجاج عليهم في كونهم عجبوا من إرسال محمّد ، محذوف هاهنا ، وهو مبيّن في قوله : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) (٣) أي : فكما وضح لكم هذا التّفاضل بالمشاهدة فلا تنكروا تفضيل الله من شاء بالنّبوة. وإنما حذفه هاهنا اعتمادا على ما بيّنه في موضع آخر. قال : وقيل : إنما عجبوا من ذكر البعث والنّشور لأنّ الإنذار والتبشير يتّصلان بهما ، فكان جوابهم في مواضع كثيرة يدل على كون ذلك مثل قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٤) ، وقوله : (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٥).

وفي المراد بقوله : (قَدَمَ صِدْقٍ) سبعة أقوال : أحدها : أنّه الثّواب الحسن بما قدّموا من أعمالهم. رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وروى عنه أبو صالح قال : عمل صالح يقدمون عليه. والثاني : أنه ما سبق لهم من السّعادة في الذّكر الأوّل ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. قال أبو عبيدة : سابقة صدق. والثالث : شفيع صدق ، وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشفع لهم يوم القيامة. قاله الحسن. والرابع : سلف صدق تقدّموهم بالإيمان ، قاله مجاهد ، وقتادة. والخامس : مقام صدق لا زوال عنه ، قاله عطاء. والسادس : أنّ قدم الصّدق : المنزلة الرّفيعة. قاله الزّجّاج. والسابع : أنّ القدم هاهنا : مصيبة المسلمين بنبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يلحقهم من ثواب الله عند أسفهم على فقده ومحبّتهم لمشاهدته (٦) ، ذكره ابن الأنباري.

__________________

(١) سورة ق : ٢٣.

(٢) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١٧٥٤٢ عن طريق بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس.

وإسناده ضعيف جدا ، بشر ضعيف ، والضحاك لم يلق ابن عباس.

وذكره الواحدي في «أسباب النزول» رقم ٥٣٤ عن ابن عباس بدون إسناد.

(٣) سورة الزخرف : ٣٢.

(٤) سورة الروم : ٢٧.

(٥) سورة يس : ٧٩.

(٦) قال الطبري رحمه‌الله ٦ / ٥٢٩ ، وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : معناه أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستوجبون بها منة الثواب.

٣١٥

فإن قيل : لم آثر القدم هاهنا على اليد ، والعرب تستعمل اليد في موضع الإحسان؟

فالجواب : أنّ القدم ذكرت هاهنا للتّقدّم ، لأن العادة جارية بتقدّم السّاعي على قدميه ، والعرب تجعلها كناية عن العمل الذي يتقدّم فيه ولا يقع فيه تأخّر ، قال ذو الرّمّة :

لكم قدم لا ينكر النّاس أنّها

مع الحسب العاديّ طمّت على البحر (١)

فإن قيل : ما وجه إضافة القدم إلى الصّدق؟

فالجواب : أنّ ذلك مدح للقدم ، وكلّ شيء أضفته إلى الصّدق ، فقد مدحته ؛ ومثله : (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) (٢) وقوله : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) (٣).

وفي الكلام محذوف تقديره : أن أوحينا إلى رجل منهم ، فلمّا أتاهم الوحي (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «لساحر» بألف. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «لسحر» بغير ألف (٤). قال أبو عليّ : قد تقدّم قوله تعالى : (أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) فمن قال : «ساحر» ، أراد الرّجل ، ومن قال : «سحر» أراد الذي أوحي سحر ، أي : الذين تقولون أنتم فيه : إنه وحي : سحر. قال الزّجّاج : لمّا أنذرهم بالبعث والنّشور ، فقالوا : هذا سحر ، أخبرهم أنّ الذي خلق السماوات والأرض قادر على بعثهم بقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) وقد سبق تفسيره في سورة الأعراف (٥).

قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) قال مجاهد : يقضيه. وقال غيره : يأمر به ويمضيه.

قوله تعالى : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) فيه قولان :

أحدهما : لا يشفع أحد إلّا أن يأذن له ، قاله ابن عباس. قال الزّجّاج : لم يجر للشّفيع ذكر قبل هذا ، ولكنّ الذين خوطبوا كانوا يقولون : الأصنام شفعاؤنا. والثاني : أنّ المعنى : لا ثاني معه ، مأخوذ من الشّفع (٦) ، لأنه لم يكن معه أحد ، ثم خلق الأشياء. فقوله تعالى : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي : من بعد أمره أن يكون الخلق فكان. ذكره الماوردي.

قوله تعالى : (فَاعْبُدُوهُ) : قال مقاتل : وحّدوه. وقال الزّجّاج : المعنى : فاعبدوه وحده.

وقوله تعالى : (تَذَكَّرُونَ) معناه : تتّعظون.

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤))

__________________

(١) في «القاموس» طمّ الماء طمّا وطموما : غمر الإناء وملأه ، والشيء كثر حتى علا وغلب.

(٢) سورة الإسراء : ٨٠.

(٣) سورة القمر : ٥٥.

(٤) قال الطبري رحمه‌الله ٦ / ٥٢٩ : اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) بمعنى : إن هذا الذي جئتنا به  ـ  يعنون القرآن  ـ  لسحر مبين ، وقرأ مسروق وسعيد بن جبير وجماعة من قراء الكوفيين (إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ).

(٥) الآية : ٥٤.

(٦) في «القاموس» الشفع : خلاف الوتر ، وهو الزوج ، وقد شفعه كمنعه.

٣١٦

قوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أي : مصيركم يوم القيامة. (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) قال الزّجّاج : «وعد الله» منصوب على معنى : وعدكم الله وعدا ، لأنّ قوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) معناه : الوعد بالرّجوع ، و «حقا» منصوب على : أحقّ ذلك حقّا. قوله تعالى : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) قرأه الأكثرون بكسر الألف. وقرأت عائشة ، وأبو رزين ، وعكرمة ، وأبو العالية ، والأعمش «أنه» بفتحها. قال الزّجّاج : من كسر ، فعلى الاستئناف ، ومن فتح ، فالمعنى : إليه مرجعكم ، لأنه يبدأ الخلق. قال مقاتل : يبدأ الخلق ولم يكن شيئا ، ثم يعيده بعد الموت. فأمّا «القسط» فهو العدل.

فإن قيل : كيف خصّ جزاء المؤمنين بالعدل ، وهو في جزاء الكافرين عادل أيضا؟

فالجواب : أنه لو جمع الفريقين في القسط ، لم يتبيّن في حال اجتماعهما ما يقع بالكافرين من العذاب الأليم والشّرب من الحميم ، ففصلهم من المؤمنين ليبيّن ما يجزيهم به ممّا هو عدل أيضا. ذكره ابن الأنباري.

فأمّا الحميم : فهو الماء الحارّ ، وقال أبو عبيدة : كلّ حارّ فهو حميم.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠))

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) قرأ الأكثرون : «ضياء» بهمزة واحدة ، وقرأ ابن كثير : «ضئاء» بهمزتين في كلّ القرآن ، أي : ذات ضياء. (وَالْقَمَرَ نُوراً) أي : ذا نور. (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) أي : قدّر له ، فحذف الجارّ ، والمعنى : هيّأ ويسّر له منازل. قال الزّجّاج : الهاء ترجع إلى «القمر» : لأنه المقدّر لعلم السّنين والحساب. وقد يجوز أن يعود إلى الشّمس والقمر ، فحذف أحدهما اختصارا. وقال الفرّاء : إن شئت جعلت تقدير المنازل للقمر خاصة ، لأنّ به تعلم الشّهور ، وإن شئت جعلت التّقدير لهما ، فاكتفي بذكر أحدهما من صاحبه ، كقوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (١). قال ابن قتيبة : منازل القمر ثمانية وعشرون منزلا من أوّل الشّهر إلى ثماني وعشرين ليلة ، ثم يستسرّ. وهذه المنازل ، هي النّجوم التي كانت العرب تنسب إليها الأنواء ، وأسماؤها عندهم : الشّرطان ، والبطين ، والثّريّا ، والدّبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذّراع ، والنّثرة ، والطّرف ، والجبهة ، والزّبرة ، والصّرفة ، والعوّاء ، والسّماك ، والغفر ، والزّبانى ، والإكليل ، والقلب ، والشّولة ، والنّعائم ، والبلدة ، وسعد الذّابح ، وسعد بلع ، وسعد السّعود ، وسعد الأخبية ، وفرغ الدّلو المقدّم ، وفرغ الدّلو المؤخّر ، والرّشاء وهو الحوت.

__________________

(١) سورة التوبة : ٦٢.

٣١٧

قوله تعالى : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي : للحقّ ، من إظهار صنعه وقدرته والدّليل على وحدانيّته. (يُفَصِّلُ الْآياتِ) : قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : «يفصّل» بالياء. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم : «نفصّل الآيات» بالنّون ، والمعنى : نبيّنها. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) : يستدلّون بالأمارات على قدرته.

قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) فيه قولان : أحدهما : يتّقون الشّرك. والثاني : عقوبة الله تعالى. فيكون المعنى : إنّ الآيات لمن لم يحمله هواه على خلاف ما وضح له من الحقّ.

قوله تعالى : (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) قال ابن عباس : لا يخافون البعث. (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) : اختاروا ما فيها على الآخرة (وَاطْمَأَنُّوا بِها) : آثروها. وقال غيره : ركنوا إليها ، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) فيها قولان : أحدهما : أنها آيات القرآن ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس. والثاني : ما ذكره في أوّل السّورة من صنعه ، قاله مقاتل. فأمّا قوله تعالى : (غافِلُونَ) فقال ابن عباس : مكذّبون. وقال غيره : معرضون. قال ابن زيد : وهؤلاء هم الكفّار.

قوله تعالى : (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) قال مقاتل : من الكفر والتّكذيب.

قوله تعالى : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) فيه أربعة أقوال : أحدها : يهديهم إلى الجنّة ثوابا بإيمانهم.

والثاني : يجعل لهم نورا يمشون به بإيمانهم. والثالث : يزيدهم هدى بإيمانهم. والرابع : يثيبهم بإيمانهم ، فأمّا الهداية فقد سبقت لهم.

قوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي : تجري بين أيديهم وهم يرونها من علو.

قوله تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها) أي : دعاؤهم. وقد شرحنا ذلك في أوّل الأعراف (١). وفي المراد بهذا الدّعاء قولان : أحدهما : أنه استدعاؤهم ما يشتهون. قال ابن عباس : كلّما اشتهى أهل الجنّة شيئا ، قالوا : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) فيأتيهم ما يشتهون ، فإذا طعموا ، قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فذلك آخر دعواهم. وقال ابن جريج : إذا مرّ بهم الطّير يشتهونه قالوا : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) فيأتيهم الملك بما اشتهوا ، فيسلم عليهم فيردّون عليه : فذلك قوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ). فإذا أكلوا حمدوا ربّهم فذلك قوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). والثاني : أنهم إذا أرادوا الرّغبة إلى الله تعالى في دعاء يدعونه به قالوا : (سبحانك اللهمّ) ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنها تحيّة بعضهم لبعض وتحيّة الملائكة لهم ، قاله ابن عباس. والثاني : أنّ الله تعالى يحيّيهم بالسّلام. والثالث : أنّ التّحية : الملك ، فالمعنى : ملكهم فيها سالم ، ذكرهما الماوردي.

قوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) أي : دعاؤهم. وقولهم : (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قرأ أبو مجلز ، وعكرمة ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وقتادة ، ويعقوب : «أنّ الحمد لله» بتشديد النون ونصب الدّال. قال الزّجّاج : أعلم الله أنهم يبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه ، ويختمون بشكره والثناء عليه. وقال ابن كيسان : يفتتحون كلامهم بالتّوحيد ، ويختمونه بالتّوحيد (٢).

__________________

(١) في الأعراف : ٥.

(٢) قال القرطبي رحمه‌الله في «الجامع لأحكام القرآن» ٨ / ٢٨٥ : يستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال

٣١٨

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١))

قوله تعالى : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) : ذكر بعضهم أنّها نزلت في النّضر بن الحارث حيث قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) (١) والتّعجيل : تقديم الشيء قبل وقته. وفي المراد بالآية قولان : أحدهما : ولو يعجّل الله للنّاس الشّرّ إذا دعوا على أنفسهم عند الغضب وعلى أهليهم ، واستعجلوا به ، كما يعجّل لهم الخير ، لهلكوا. هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة. والثاني : ولو يعجّل الله للكافرين العذاب على كفرهم كما عجّل لهم خير الدنيا من المال والولد ، لعجّل لهم قضاء آجالهم ليتعجّلوا عذاب الآخرة. حكاه الماوردي. ويقوّي هذا تمام الآية وسبب نزولها. وقد قرأ الجمهور : «لقضي إليهم» بضمّ القاف «أجلهم» بضمّ اللام. وقرأ ابن عامر : «لقضى» بفتح القاف «أجلهم» بنصب اللام. وقد ذكرنا في أوّل سورة البقرة (٢) معنى الطّغيان والعمه.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢))

قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) : اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنّها نزلت في أبي حذيفة ، واسمه هاشم بن المغيرة بن عبد الله المخزومي. قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : أنّها نزلت في عتبة بن ربيعة ، والوليد بن المغيرة. قاله عطاء.

و (الضُّرُّ) : الجهد والشدّة. واللام في قوله : (لِجَنْبِهِ) بمعنى «على».

وفي معنى الآية قولان : أحدهما : إذا مسّه الضّر دعا على جنبه ، أو دعا قاعدا ، أو دعا قائما ، قاله ابن عباس. والثاني : إذا مسّه الضّرّ في هذه الأحوال ، دعا ، ذكره الماوردي (٣).

قوله تعالى : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أعرض عن ادّعاء ، قاله مقاتل. والثاني : مرّ في العافية على ما كان عليه قبل أن يبتلى ، ولم يتّعظ بما يناله ، قاله الزّجّاج. والثالث : مرّ طاغيا على ترك الشّكر. قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) قال الزّجّاج : «كأن» هذه مخفّفة من الثقيلة ، المعنى : كأنه لم يدعنا ، قالت الخنساء :

كأن لم يكونوا حمى يتّقى

إذ النّاس إذ ذاك من عزّ بزّا (٤)

قوله تعالى : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ) المعنى : كما زيّن لهذا الكافر الدّعاء عند البلاء والإعراض عند الرّخاء ، كذلك زيّن للمسرفين ، وهم المجاوزون الحدّ في الكفر والمعصية ، عملهم.

__________________

أهل الجنة : وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. وحسن أن يقرأ آخر «الصافات» فإنها جمعت تنزيه الباري تعالى عما نسب إليه والتسليم على المرسلين ، والختم بالحمد لله رب العالمين.

(١) سورة الأنفال : ٣٢.

(٢) سورة البقرة : ١٥.

(٣) انظر «تفسير الماوردي» ٢ / ٤٢٦.

(٤) في «اللسان» البز : السلب ، ومنه قولهم في المثل : من عزّ بزّ ، معناه : من غلب سلب.

٣١٩

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ) : قال مقاتل : هذا تخويف لكفّار مكّة. والظّلم هاهنا بمعنى الشّرك. وفي قوله : (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) : قولان : أحدهما : أنه عائد على أهل مكّة ، قاله مقاتل. والثاني : على القرون المتقدّمة ، قاله أبو سليمان. قال ابن الأنباري : ألزمهم الله ترك الإيمان لمعاندتهم الحقّ وإيثارهم الباطل. وقال الزّجّاج : جائز أن يكون جعل جزاءهم الطّبع على قلوبهم ، وجائز أن يكون أعلم ما قد علم منهم. قوله تعالى : (كَذلِكَ نَجْزِي) أي : نعاقب ونهلك ، (الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) : يعني المشركين من قومك.

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤))

قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ) : قال ابن عباس : جعلناكم يا أمّة محمّد خلائف ، أي : استخلفناكم في الأرض. وقال قتادة : ما جعلنا الله خلائف إلّا لينظر إلى أعمالنا ، فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنّهار.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥))

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) : اختلفوا فيمن نزلت على قولين :

أحدهما : أنها نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكّة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني : أنها نزلت في مشركي مكّة ، قاله مجاهد ، وقتادة.

والمراد «بالآيات» : القرآن. و «يرجون» بمعنى : يخافون. وفي علّة طلبهم سوى هذا القرآن أو تبديله قولان : أحدهما : أنّهم أرادوا تغيير آية العذاب بالرّحمة ، وآية الرّحمة بالعذاب ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم كرهوا منه ذكر البعث والنّشور ، لأنهم لا يؤمنون به ، وكرهوا عيب آلهتهم ، فطلبوا ما يخلو من ذلك ، قاله الزّجّاج. والفرق بين تبديله والإتيان بغيره ، أنّ تبديله لا يجوز أن يكون معه ، والإتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه.

قوله تعالى : (ما يَكُونُ لِي) حرّك هذه الياء ابن كثير ونافع وأبو عمرو ، وأسكنها الباقون. (مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) حرّكها نافع ، وأبو عمرو ، وأسكنها الباقون. والمعنى : من عند نفسي ، فالمعنى : أنّ الذي أتيت به من عند الله لا من عندي فأبدّله. (إِنِّي أَخافُ) فتح هذه الياء ابن كثير ونافع وأبو عمرو. (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) أي : في تبديله أو تغييره ، (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يعني في القيامة.

فصل : وقد تكلّم علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية على ما بيّنّا في نظيرتها في الأنعام (١) ،

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٥.

٣٢٠