زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٥

وفي «لعل» قولان : أحدهما : أنها بمعنى التّرجّي ، المعنى : ليرجى منهم الانتهاء ، قاله الزّجّاج. والثاني : أنّها بمعنى : «كي» ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥))

قوله تعالى : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً) قال الزّجّاج : هذا على وجه التّوبيخ ، ومعناه الحضّ على قتالهم. قال المفسّرون : وهذا نزل في نقض قريش عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي عاهدهم بالحديبية حيث أعانوا على خزاعة.

وفي قوله تعالى : (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) قولان : أحدهما : أنهم أبو سفيان في جماعة من قريش ، كانوا فيمن همّ بإخراج الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكّة. والثاني : أنهم قوم من اليهود ، غدروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونقضوا عهده وهمّوا بمعاونة المنافقين على إخراجه من المدينة.

قوله تعالى : (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فيه قولان : أحدهما : بدءوكم بإعانتهم على حلفائكم ، قاله ابن عباس. والثاني : بالقتال يوم بدر ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (أَتَخْشَوْنَهُمْ) قال الزّجّاج : أتخشون أن ينالكم من قتالهم مكروه؟! فمكروه عذاب الله أحقّ أن يخشى إن كنتم مصدّقين بعذابه وثوابه.

قوله تعالى : (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) قال ابن عباس ، ومجاهد : يعني خزاعة.

قوله تعالى : (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) أي : كربها ووجدها بمعونة قريش بني بكر عليها.

قوله تعالى : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) قال الزّجّاج : هو مستأنف وليس بجواب «قاتلوهم».

وفيمن عني به قولان : أحدهما : بنو خزاعة ، والمعنى : ويتوب الله على من يشاء من بني خزاعة ، قاله عكرمة. والثاني : أنه عامّ في المشركين كما تاب على أبي سفيان ، وعكرمة ، وسهيل. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بنيّات المؤمنين ، (حَكِيمٌ) فيما قضى.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦))

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) في المخاطب بهذا قولان : أحدهما : أنهم المؤمنون ، خوطبوا بهذا حين شقّ على بعضهم القتال ، قاله الأكثرون. والثاني : أنهم قوم من المنافقين كانوا يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخروج معه إلى الجهاد تعذيرا ، قاله ابن عباس. وإنما دخلت الميم في الاستفهام ، لأنه استفهام معترض في وسط الكلام ، فدخلت لتفرّق بينه وبين الاستفهام المبتدأ. قال الفرّاء : ولو أريد به الابتداء ، لكان إمّا بالألف ، أو ب «هل» ، ومعنى الكلام : أن يتركوا بغير امتحان يبين به الصادق من

٢٤١

الكاذب. (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) أي : ولمّا تجاهدوا فيعلم الله وجود ذلك منكم ؛ وقد كان يعلم ذلك غيبا ، فأراد إظهار ما علم ليجازي على العمل. فأمّا الوليجة ، فقال ابن قتيبة : هي البطانة من غير المسلمين ، وهو أن يتّخذ الرجل من المسلمين دخيلا من المشركين وخليطا ووادّا ؛ وأصله من الولوج. قال أبو عبيدة : وكلّ شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة ، والرجل يكون في القوم وليس منهم فهو وليجة فيهم.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))

قوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «مسجد الله» على التّوحيد ، «إنما يعمر مساجد الله» على الجمع. وقرأ عاصم ، ونافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ على الجمع فيهما.

(٦٧١) وسبب نزولها أنّ جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر فيهم العبّاس بن عبد المطّلب ، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعيّروهم بالشّرك ، وجعل عليّ بن أبي طالب يوبّخ العبّاس بقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقطيعة الرّحم ، فقال العبّاس : ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقالوا : وهل لكم من محاسن؟ قالوا : نعم ، لنحن أفضل منكم أجرا ؛ إنّا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل في جماعة.

وفي المراد بالعمارة قولان : أحدهما : دخوله والجلوس فيه. والثاني البناء له وإصلاحه ؛ فكلاهما محظور على الكافر. والمراد من قوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ) أي : يجب على المسلمين منعهم من ذلك. قال الزّجّاج : وقوله تعالى : (شاهِدِينَ) حال. المعنى : ما كانت لهم عمارته في حال إقرارهم بالكفر ، (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) لأنّ كفرهم أذهب ثوابها.

فإن قيل : كيف يشهدون على أنفسهم بالكفر ، وهم يعتقدون أنّهم على الصّواب؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنه قول اليهوديّ : أنا يهوديّ ، وقول النّصراني : أنا نصرانيّ ، قاله السّدّيّ. والثاني : أنهم ثبّتوا على أنفسهم الكفر بعدولهم عن أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو حقّ لا يخفى على مميّز ، فكانوا بمنزلة من شهد على نفسه. والثالث : أنهم آمنوا بأنبياء شهدوا لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتّصديق ، وحرّضوا على اتّباعه ، فلمّا آمنوا بهم وكذّبوه ، دلّوا على كفرهم ، وجرى ذلك مجرى الشهادة على أنفسهم بالكفر ، لأنّ الشهادة هي تبيين وإظهار ، ذكرهما ابن الأنباري.

فإن قيل : ما وجه قوله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ولم يذكر الرّسول ، والإيمان لا يتمّ إلّا به؟ فالجواب : أنّ فيه دليلا على الرّسول ، لقوله تعالى : (وَأَقامَ الصَّلاةَ)

____________________________________

(٦٧١) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٩١ من غير غزو لأحد. وانظر ما يأتي.

٢٤٢

أي : الصّلاة التي جاء بها الرّسول ، قاله الزّجّاج. فإن قيل : (فَعَسى) ترجّ ، وفاعل هذه الخصال مهتد بلا شك. فالجواب ؛ أنّ «عسى» من الله واجبة ، قاله ابن عباس. فإن قيل : قد يعمر مساجد الله من ليس فيه هذه الصّفات. فالجواب : أنّ المراد أنه من كان على هذه الصّفات المذكورة ، كان من أهل عمارتها ؛ وليس المراد أنّ من عمرها كان بهذه الصّفة.

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))

قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) في سبب نزولها ستة أقوال :

(٦٧٢) أحدها : رواه مسلم في «صحيحه» من حديث النّعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رجل : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاجّ ، وقال الآخر : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام ، وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل ممّا قلتم ، فزجرهم عمر ، وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يوم الجمعة ، ولكنّي إذا صلّيت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما اختلفتم فيه ، فنزلت هذه الآية.

(٦٧٣) والثاني : أنّ العباس بن عبد المطّلب قال يوم بدر : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ، لقد كنّا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاجّ ونفكّ العاني (١) ، فنزلت هذه الآية ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.

(٦٧٤) والثالث : أنّ المشركين قالوا : عمارة البيت الحرام ، والقيام على السّقاية ، خير ممّن آمن وجاهد ، وكانوا يفتخرون بالحرم من أجل أنهم أهله ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطيّة العوفيّ عن ابن عباس.

(٦٧٥) والرابع : أنّ عليّا والعباس وطلحة  ـ  يعني سادن الكعبة  ـ  افتخروا ، فقال طلحة : أنا صاحب

__________________

(٦٧٢) صحيح أخرجه مسلم ١٨٧٩ وابن حبان ٤٥٩١ والطبري ١٦٥٥٧ عن النعمان بن بشير به.

(٦٧٣) ضعيف. أخرجه الطبري ١٦٥٧٢ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وفيه إرسال بينهما.

وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٩٣ من رواية الوالبي عن ابن عباس.

(٦٧٤) ضعيف جدا ، لكن يشهد لأصله ، ما بعده. أخرجه الطبري ١٦٥٧٣ بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي  ـ  وهو ضعيف  ـ  عن ابن عباس.

(٦٧٥) ورد من وجوه مرسلة متعددة. أخرجه الطبري ١٦٥٧٧ عن محمد بن كعب القرظي مرسلا. وأخرجه ١٦٥٧٨ عن الحسن. وبرقم ١٦٥٧٦ عن الشعبي ، وبرقم ١٦٥٧٩ عن السدي. وذكره الواحدي في «أسباب النزول»

__________________

(١) العاني : الأسير.

٢٤٣

البيت ، بيدي مفتاحه ، ولو أشاء بتّ فيه. وقال العباس : أنا صاحب السّقاية ، والقائم عليها ، ولو أشاء بتّ في المسجد. وقال عليّ : ما أدري ما تقولون ، لقد صلّيت ستة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد ، فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن ، والشّعبيّ ، والقرظي.

(٦٧٦) والخامس : أنهم لما أمروا بالهجرة قال العباس : أنا أسقي الحاجّ ، وقال طلحة : أنا صاحب الكعبة فلا نهاجر ، فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، قاله مجاهد.

(٦٧٧) والسادس : أنّ عليّا قال للعباس : ألا تلحق بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : ألست في أفضل من الهجرة ، ألست أسقي حاجّ بيت الله وأعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، قاله مرّة الهمداني ، وابن سيرين.

قال الزّجّاج : ومعنى الآية : أجعلتم أهل سقاية الحاجّ وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله؟ فحذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه. قال الحسن : كان ينبذ زبيب ، فيسقون الحاجّ في الموسم. وقال ابن عباس : عمارة المسجد : تجميره ، وتخليقه ، فأخبر الله أنّ أفعالهم تلك لا تنفعهم مع الشّرك ، وسمّاهم ظالمين لشركهم.

قوله تعالى : (أَعْظَمُ دَرَجَةً) قال الزّجّاج : هو منصوب على التّمييز. والمعنى : أعظم من غيرهم درجة. والفائز : الذي يظفر بأمنيته من الخير. فأمّا النّعيم ، فهو لين العيش. والمقيم : الدّائم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣))

قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) في سبب نزولها خمسة أقوال :

(٦٧٨) أحدها : أنه لمّا أمر المسلمون بالهجرة ، جعل الرجل يقول لأهله : إنّا قد أمرنا بالهجرة ، فمنهم من يسرع إلى ذلك ، ومنهم من يتعلّق به عياله وزوجته فيقولون : ننشدك الله أن تدعنا إلى غير شيء ، فيرقّ قلبه فيجلس معهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

(٦٧٩) والثاني : أنه لمّا أمر الله المؤمنين بالهجرة ، قال المسلمون : يا نبيّ الله ، إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدّين ، قطعنا آباءنا وعشائرنا ، وذهبت تجارتنا ، وخربت ديارنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس.

____________________________________

٤٩٤ عن الحسن والشعبي والقرظي ، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها وانظر ما يأتي. وانظر تفسير «ابن كثير» ٢ / ٤٢٤.

(٦٧٦) مرسل. أخرجه الطبري ١٦٥٨٢ عن مجاهد فهو ضعيف ويشهد لأصله ما قبله.

(٦٧٧) أخرجه الفريابي كما في «الدر» ٣ / ٣٩٥ عن ابن سيرين. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٩٥ عن ابن سيرين ومرّة بدون إسناد وانظر ما قبله.

(٦٧٨) عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح ، وهي رواية ساقطة لأن روايه عن أبي صالح هو الكلبي ، وقد كذبه غير واحد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٩٦ عن الكلبي مرسلا بدون إسناد.

(٦٧٩) عزاه المصنف لابن عباس من رواية الضحاك ، وهو لم يسمع من ابن عباس ، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك ، فالخبر لا شيء.

٢٤٤

(٦٨٠) والثالث : أنه لمّا قال العباس : أنا أسقي الحاجّ ، وقال طلحة : أنا أحجب الكعبة فلا نهاجر ، نزلت هذه الآية والتي قبلها ، هذا قول قتادة ، وقد ذكرناه عن مجاهد.

(٦٨١) والرابع : أنّ نفرا ارتدّوا عن الإسلام ولحقوا بمكّة ، فنهى الله عن ولايتهم ، وأنزل هذه الآية ، قاله مقاتل.

(٦٨٢) والخامس : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا أمر الناس بالجهاز لنصرة خزاعة على قريش ، قال أبو بكر الصّديق : يا رسول الله ، نعاونهم على قومنا؟ فنزلت هذه الآية ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي.

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤))

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) الآية ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(٦٨٣) أحدها : أنها نزلت في الذين تخلّفوا مع عيالهم بمكّة ولم يهاجروا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

(٦٨٤) والثاني : أنّ عليّ بن أبي طالب قدم مكّة ، فقال لقوم : ألا تهاجرون؟ فقالوا : نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن سيرين.

(٦٨٥) والثالث : أنه لمّا نزلت الآية التي قبلها ، قالوا : يا رسول الله ، إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدّين ، قطعنا آباءنا وعشيرتنا ، وذهبت تجارتنا ، وخربت ديارنا ، فنزلت هذه الآية ، ذكره بعض المفسّرين في هذه الآية ، وذكره بعضهم في الآية الأولى كما حكيناه عن ابن عباس.

فأمّا العشيرة ، فهم الأقارب الأدنون. وروى أبو بكر عن عاصم «وعشيراتكم» على الجمع. قال أبو عليّ : وجهه أنّ كلّ واحد من المخاطبين له عشيرة ، فإذا جمعت قلت : عشيراتكم ؛ وحجّة من أفرد : أنّ العشيرة واقعة على الجمع ، فاستغنى بذلك عن جمعها. وقال الأخفش : لا تكاد العرب تجمع عشيرة : عشيرات ، إنما يجمعونها على عشائر. والاقتراف بمعنى الاكتساب. والتّربّص : الانتظار.

وفي قوله تعالى : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) قولان : أحدهما : أنه فتح مكّة ، قاله مجاهد والأكثرون ، ومعنى الآية : إن كان المقام في أهاليكم ، وكانت الأموال التي اكتسبتموها (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) لفراقكم بلدكم (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) من الهجرة ، فأقيموا غير مثابين ، حتى

____________________________________

(٦٨٠) أثر قتادة لم أره ، وأثر مجاهد أخرجه الطبري ١٦٥٨٢.

(٦٨١) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو متهم بالكذب.

(٦٨٢) لم أقف عليه.

(٦٨٣) عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح ، وهي رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٩٦ عن الكلبي بدون إسناد. وهو يضع الحديث.

(٦٨٤) مرسل تقدم قبل أحاديث.

(٦٨٥) عزاه الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢ / ٢٥٧ للثعلبي عن مقاتل ، وهذا معضل ، ومقاتل متهم بالكذب.

٢٤٥

تفتح مكّة ، فيسقط فرض الهجرة. والثاني : أنه العقاب ، قاله الحسن.

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥))

قوله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) أي : في أماكن. قال الفرّاء : وكلّ جمع كانت فيه ألف قبلها حرفان وبعدها حرفان لم يجر ، مثل ، صوامع ، ومساجد : وجري «حنين» لأنه اسم لمذكّر ، وهو واد بين مكّة والطّائف ، وإذا سمّيت ماء أو واديا أو جبلا باسم مذكّر لا علّة فيه ، أجريته ، من ذلك : حنين ، وبدر ، وحراء ، وثبير ، ودابق. ومعنى الآية : أنّ الله عزوجل أعلمهم أنهم إنما يغلبون بنصر الله لا بكثرتهم. وفي عددهم يوم حنين أربعة أقوال : أحدها : أنهم كانوا ستّة عشر ألفا ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني : عشرة آلاف ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : كانوا اثني عشر ألفا ، قاله قتادة ، وابن زيد ، وابن إسحاق ، والواقدي. والرابع : أحد عشر ألفا وخمسمائة ، قاله مقاتل. قال ابن عباس :

(٦٨٦) فقال ذلك اليوم سلمة بن سلامة بن وقش ، وقد عجب لكثرة الناس : لن نغلب اليوم من قلّة ، فساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلامه ، ووكلوا إلى كلمة الرّجل ، فذلك قوله تعالى (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً). وقال سعيد بن المسيّب : القائل لذلك أبو بكر الصّديق. وحكى ابن جرير أنّ القائل لذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١). وقيل : بل العباس. وقيل : رجل من بني بكر.

قوله تعالى : (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي : برحبها. قال الفرّاء : والباء هاهنا بمنزلة «في» كما تقول : ضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها.

الإشارة إلى القصّة

قال أهل العلم بالسّيرة : لمّا فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكّة ، تآمر عليه أشراف هوازن وثقيف ، فجاؤوا حتى نزلوا أوطاس (٢) ، وأجمعوا المسير إليه ، فخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا التقوا أعجبتهم كثرتهم فهزموا.

(٦٨٧) وقال البراء بن عازب : لمّا حملنا عليهم انكشفوا ، فأكببنا على الغنائم ، فأقبلوا بالسّهام ، فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

____________________________________

(٦٨٦) عزاه البغوي في «التفسير» ٢ / ٣٢٨ للكلبي ، وهو متهم بالكذب. وورد من مرسل قتادة دون ذكر القائل ، أخرجه الطبري ١٦٥٨٨. وورد من مرسل السدي ١٦٥٩٠ وفيهما «أن رجلا ...».

(٦٨٧) صحيح. أخرجه البخاري ٢٠٤٢ ومسلم ١٧٧٦ والترمذي ١٦٨٨ والطيالسي ٢ / ١٠٨ وأحمد ٤ / ٢٨١ وأبي يعلى ١٧٢٧ والبيهقي في «السنن» ٩ / ١٥٥ والطبري ١٦٥٩٤ من حديث البراء.

__________________

(١) كذا ذكره المصنف رحمه‌الله ، ومثله الزمخشري في «الكشاف» ٢ / ٢٥٩. فقال الحافظ في تخريجه : لم أجده بهذا السياق ولم أجده من كلام أبي بكر.

(٢) أوطاس : واد في هوازن كانت وقعة حنين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٤٦

وبعضهم يقول : ثبت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ جماعة من أصحابه منهم أبو بكر ، وعمر ، وعليّ ، والعباس ، وأبو سفيان بن الحارث. وبعضهم يقول : لم يبق معه سوى العباس وأبي سفيان.

(٦٨٨) فجعل النبيّ يقول للعباس : «ناد : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب السمرة ، يا أصحاب سورة البقرة» فنادى ، وكان صيّتا ، فأقبلوا كأنّهم الإبل إذا حنّت إلى أولادها ، يقولون : يا لبّيك ، فنظر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قتالهم ، فقال : «الآن حمي الوطيس ، أنا النبيّ لا كذب ، أنا ابن عبد المطّلب» ثم قال للعباس : «ناولني حصيات» فناوله ، فقال : «شاهت الوجوه» ورمى بها ، وقال : «انهزموا وربّ الكعبة» ، فقذف الله في قلوبهم الرّعب فانهزموا.

(٦٨٩) وقيل : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفا من تراب ، فرماهم به فانهزموا. وكانوا يقولون : ما بقي منّا أحد إلّا امتلأت عيناه بالتّراب.

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧))

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أي : بعد الهزيمة. قال أبو عبيدة : هي فعيلة من السّكون ، وأنشد :

لله قبر غالها ما ذا يجنّ

لقد أجنّ سكينة ووقارا (١)

وكذلك قال المفسرون : الأمن والطمأنينة.

قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) قال ابن عباس : يعني الملائكة. وفي عددهم يومئذ ثلاثة أقوال : أحدها : ستة عشر ألفا ، قاله الحسن. والثاني : خمسة آلاف ، قاله سعيد بن جبير. والثالث : ثمانية ، قاله مجاهد ، يعني : ثمانية آلاف. وهل قاتلت الملائكة يومئذ ، أم لا؟ فيه قولان. وفي قوله تعالى : (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أربعة أقوال : أحدها : بالقتل ، قاله ابن عباس والسّدّيّ. والثاني : بالقتل والهزيمة ، قاله ابن أبزى ومقاتل. والثالث : بالخوف والحذر ، ذكره الماوردي. والرابع : بالقتل والأسر وسبي الأولاد وأخذ الأموال ، ذكره بعض ناقلي التّفسير.

قوله تعالى : (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي : يوفّقه للتّوبة من الشّرك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨))

____________________________________

(٦٨٨) صحيح. أخرجه مسلم ١٧٧٥ والنسائي في «الكبرى» ٨٦٥٣ وعبد الرزاق في «المصنف» ٩٧٤١ وأحمد ١ / ٢٠٧ وابن حبان ٧٠٤٩ والطبري ١٦٥٩١ وابن سعد في الطبقات ٤ / ١٨ و ١٩ والبغوي في «شرح السنة» ٣٧١٠ من حديث العباس.

(٦٨٩) صحيح. أخرجه الطبري ١٦٥٩٣ عن أبي عبد الرحمن الفهري به وأتم ... وأخرجه مسلم ١٧٧٧ وابن حبان ٦٥٢٠ من حديث سلمة بن الأكوع. وله شواهد.

__________________

(١) البيت لأبي عريف الكلبي «مجاز القرآن» ١ / ٢٥٥ و «اللسان» سكن.

٢٤٧

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) قال أبو عبيدة : معناه : قذر. قال الزّجّاج : يقال لكلّ شيء مستقذر : نجس. وقال الفرّاء : لا تكاد العرب تقول : نجس ، إلّا وقبلها رجس ، فإذا أفردوها قالوا : نجس. وفي المراد بكونهم نجسا ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنهم أنجاس الأبدان ، كالكلب والخنزير ، حكاه الماوردي عن الحسن ، وعمر بن عبد العزيز. وروى ابن جرير عن الحسن قال : من صافحهم فليتوضّأ. والثاني : أنّهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة ، وإن لم تكن أبدانهم أنجاسا ، قاله قتادة. والثالث : أنه لمّا كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاس ، صاروا بحكم الاجتناب كالأنجاس ، وهذا قول الأكثرين ، وهو الصّحيح.

قوله تعالى ؛ (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) قال أهل التّفسير : يريد جميع الحرم. (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) وهو سنة تسع من الهجرة ، وهي السّنة التي حجّ فيها أبو بكر الصّديق وقرئت (براءة). وقد أخذ أحمد رضي الله عنه بظاهر الآية ، وأنه يحرم عليهم دخول الحرم ، وهو قول مالك ، والشافعيّ. واختلفت الرواية عنه في دخولهم غير المسجد الحرام من المساجد ، فروي عنه المنع أيضا إلّا لحاجة ، كالحرم ، وهو قول مالك. وروي عنه جواز ذلك ، وهو قول الشّافعيّ. وقال أبو حنيفة : يجوز لهم دخول المسجد الحرام ، وسائر المساجد (٢).

قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) وقرأ سعد بن أبي وقّاص ، وابن مسعود ، والشّعبيّ ، وابن السّميفع : «عايلة».

(٦٩٠) قال سعيد بن جبير : لمّا نزلت (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ

____________________________________

(٦٩٠) أخرجه الطبري ١٦٦١٥ عن سعيد بن جبير مرسلا. وأخرجه من مرسل عكرمة ، برقم ١٦٦١٣ و ١٦٦١٤.

__________________

(١) قال الإمام المرغيناني الحنفي في «الهداية» ١ / ٢١٠ : النجاسة ضربان : مرئية ، وغير مرئية. فما كان منها مرئيا فطهارته زوال عينها لأن النجاسة حلت المحل باعتبار العين فتزول بزوالها ، إلا أن يبقى من أثرها ما تشق إزالته لأن الحرج مدفوع. وما ليس بمرئي : فطهارته أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أنه قد طهر اه. وانظر «مراقي الفلاح» ١ / ١٩١  ـ  ١٩٦ للعلامة الشرنبلالي الحنفي.

ـ  قلت : والحنيفة : يقولون بأن الكافر نجس حكما لا حقيقة.

(٢) قال الإمام القرطبي رحمه‌الله في «التفسير» ٨ / ١٠٤  ـ  ١٠٥  ـ  عند الحديث ٣٣٢٢ بترقيمي ما ملخصه : اختلف العلماء في دخول الكفار المساجد والمسجد الحرام على خمسة أقوال : فقال أهل المدينة : الآية عامة في سائر المشركين ، وسائر المساجد ، وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله ونزع بهذه الآية. وفي صحيح مسلم وغيره «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر» والكافر لا يخلو عن ذلك وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب» والكافر جنب. وقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) فسماه الله تعالى نجسا ، فلا يخلو أن يكون نجس العين أو مبعدا من طريق الحكم. وأي ذلك كان فمنعه من المسجد واجب ، لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيهم ، والحرمة موجودة في المسجد. وقال الشافعي رحمه‌الله : الآية عامة في سائر المشركين ، خاصة في المسجد الحرام ، ولا يمنعون من دخول غيره. وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره. وهذا قول يرده ما ذكرنا من الآية وغيره. وقال الكيا الطبري : ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة. وقال الشافعي تعتبر الحاجة ، ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام. وقال عطاء : الحرم كله قبلة ومسجد ، فينبغي أن يمنعوا الحرم. وقال قتادة : لا يقرب المسجد الحرام مشرك ، إلا أن يكون صاحب جزية أو عبدا كافرا لمسلم. وبهذا قال جابر.

٢٤٨

هذا) شقّ على المسلمين ، وقالوا : من يأتينا بطعامنا؟ وكانوا يقدمون عليهم بالتّجارة ، فنزلت (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) قال الأخفش : العيلة : الفقر. يقال : عال يعيل عيلة : إذا افتقر. وأعال إعالة فهو يعيل : إذا صار صاحب عيال. وقال أبو عبيدة : العيلة ها هنا مصدر عال فلان : إذا افتقر ، وأنشد :

وما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغنيّ متى يعيل (١)

وللمفسّرين في قوله : «وإن» قولان : أحدهما : أنها للشرط ، وهو الأظهر. والثاني : أنها بمعنى «وإذ» ، قاله عمرو بن فائد. قالوا : وإنّما خاف المسلمون الفقر ، لأنّ المشركين كانوا يحملون التّجارات إليهم ، ويجيئون بالطّعام وغيره. وفي قوله تعالى : (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنه أنزل عليهم المطر عند انقطاع المشركين عنهم ، فكثر خيرهم ، قاله عكرمة. والثاني : أنه أغناهم بالجزية المأخوذة من أهل الكتاب ، قاله قتادة ، والضّحّاك. والثالث : أنّ أهل نجد ، وجرش ، وأهل صنعاء أسلموا ، فحملوا الطعام إلى مكّة على الظّهر ، فأغناهم الله به ، قاله مقاتل. قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) قال ابن عباس : عليم بما يصلحكم (حَكِيمٌ) فيما حكم في المشركين.

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩))

قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) قال المفسّرون : نزلت في اليهود والنّصارى. قال الزّجّاج : ومعناها : لا يؤمنون بالله إيمان الموحّدين ، لأنّهم أقرّوا بأنّه خالقهم وأنّه له ولد ، وكذلك إيمانهم بالبعث لأنّهم لا يقرّون بأنّ أهل الجنّة يأكلون ويشربون. وقال الماوردي : إقرارهم باليوم الآخر يوجب الإقرار بحقوقه ، وهم لا يقرّون بها ، فكانوا كمن لا يقرّ به.

قوله تعالى : (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) قال سعيد بن جبير : يعني الخمر والخنزير. قوله تعالى : (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) في الحقّ قولان : أحدهما : أنه اسم الله ، فالمعنى : دين الله ، قاله قتادة. والثاني : أنه صفة للدّين ، والمعنى : ولا يدينون الدّين الحقّ ؛ فأضاف الاسم إلى الصّفة. وفي معنى «يدينون» قولان : أحدهما : أنه بمعنى الطّاعة ، والمعنى : لا يطيعون الله طاعة حقّ ، قاله أبو عبيدة. والثاني : أنه من : دان الرجل يدين كذا : إذا التزمه. ثم في جملة الكلام قولان : أحدهما : أنّ المعنى : لا يدخلون في دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه ناسخ لما قبله. والثاني : لا يعملون بما في التّوراة من اتّباع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) قال ابن الأنباري : الجزية : الخراج المجعول عليهم ؛ سمّيت جزية ، لأنها قضاء لما عليهم ؛ أخذ من قولهم : جزى يجزي : إذا قضى ؛ ومنه قوله تعالى : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) (٢).

____________________________________

وأخرجه برقم ١٦٦٢ و ١٦٦٢١ عن الضحاك. أخرجه ١٦٦٢٢ عن مجاهد. وأخرجه ١٦٦١٧ عن عطية العوفي. والخلاصة : هذه الروايات وإن كانت مراسيل فإنها تتأيد بمجموعها ، والله أعلم.

__________________

(١) البيت لأحيحة بن الجلاح. «مجاز القرآن» ١ / ٢٥٥ ، «اللسان» عيل.

(٢) سورة البقرة : ٤٨.

٢٤٩

(٦٩١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا تجزي عن أحد بعدك».

وفي قوله تعالى : (عَنْ يَدٍ) ستة أقوال : أحدها : عن قهر ، قاله قتادة ، والسّدّيّ. وقال الزّجّاج : عن قهر وذلّ. والثاني : أنه النّقد العاجل ، قاله شريك ، وعثمان بن مقسم. والثالث : أنه إعطاء المبتدئ بالعطاء ، لا إعطاء المكافئ ، قاله ابن قتيبة. والرابع : أنّ المعنى : عن اعتراف للمسلمين بأنّ أيديهم فوق أيديهم. والخامس : عن إنعام عليهم بذلك لأنّ قبول الجزية منهم إنعام عليهم ، حكاهما الزّجّاج. والسادس : يؤدّونها بأيديهم ، ولا ينفذونها مع رسلهم ، ذكره الماوردي.

قوله تعالى : (وَهُمْ صاغِرُونَ) الصّاغر : الذّليل الحقير. وفي ما يكلّفونه من الفعل الذي يوجب صغارهم خمسة أقوال : أحدها : أن يمشوا بها ملبّيين ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أن لا يحمدوا على إعطائهم ، قاله سلمان الفارسيّ. والثالث : أن يكونوا قياما والآخذ جالسا ، قاله عكرمة. والرابع : أنّ دفع الجزية هو الصّغار. والخامس : أنّ إجراء أحكام الإسلام عليهم هو الصّغار.

فصل : واختلف في الذين تؤخذ منهم الجزية من الكفّار ، فالمشهور عن أحمد : أنها لا تقبل إلّا من اليهود والنّصارى والمجوس ، وبه قال الشّافعيّ. ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد : أنه من سبي من أهل الأديان من العرب والعجم ، فالعرب إن أسلموا ، وإلّا السيف ، وأولئك إن أسلموا ، وإلّا الجزية ؛ فظاهر هذا أنّ الجزية تؤخذ من الكلّ ، إلّا من عابدي الأوثان من العرب فقط ، وهو قول أبي حنيفة ، ومالك (١).

فصل : فأمّا صفّة الذين تؤخذ منهم الجزية ، فهم أهل القتال. فأمّا الزّمن ، والأعمى ، والمفلوج ، والشيخ الفاني ، والنساء ، والصّبيان ، والرّاهب الذي لا يخالط الناس ، فلا تؤخذ منهم.

فصل : فأمّا مقدارها ، فقال أصحابنا : على الموسر : ثمانية وأربعون درهما ، وعلى المتوسّط : أربعة وعشرون ، وعلى الفقير المعتمل : اثنا عشر ، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك : على أهل الذّهب أربعة دنانير ، وعلى أهل الورق أربعون درهما ، وسواء في ذلك الغنيّ والفقير. وقال الشّافعيّ : على الغنيّ والفقير دينار. وهل تجوز الزيادة والنّقصان ممّا يؤخذ منهم؟ نقل الأثرم عن أحمد : أنها تزاد وتنقص على قدر طاقتهم ، فظاهر هذا : أنها على اجتهاد الإمام ورأيه. ونقل يعقوب بن بختان : أنه

____________________________________

(٦٩١) صحيح. أخرجه البخاري ٩٧٦ ومسلم ١٩٦١ والطبراني في «الأوسط» ٣٠٣٦. كلهم من حديث البراء رضي الله عنه قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ، ثم نرجع فننحر ، من فعله فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء». فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال : إن عندي جذعة فقال : «اذبحها ولن تجزي عن أحد بعدك». لفظ البخاري.

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٢ / ٤٣٠ : استدل بهذه الآية الكريمة من يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ، أو من أشبههم كالمجوس ، لما صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخذها من مجوس هجر ، وهذا مذهب الشافعي ، وأحمد  ـ  في المشهور عنه  ـ. وقال أبو حنيفة رحمه‌الله : بل يؤخذ من جميع الأعاجم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين ، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب وقال الإمام مالك : بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابي ، ومجوسي ووثني وغير ذلك.

٢٥٠

لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك ، وله أن يزيد.

فصل : ووقت وجوب الجزية : آخر الحول ، وبه قال الشّافعيّ. وقال أبو حنيفة : تجب في أول الحول. فأما إذا دخلت سنة في سنة ، فهل تسقط جزية السّنة الماضية؟ عندنا لا تسقط ، وقال أبو حنيفة : تسقط. فأما إذا أسلم ، فإنها تسقط بالإسلام. فأمّا إن مات ؛ فكان ابن حامد يقول : لا تسقط. وقال القاضي أبو يعلى : يحتمل أن تسقط.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١))

قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة : «عزير ابن الله» بغير تنوين. وقرأ عاصم ، والكسائيّ ، ويعقوب ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : منوّنا. قال مكّي بن أبي طالب : من نوّن عزيرا رفعه على الابتداء ، و «ابن» خبره. ولا يحسن حذف التّنوين على هذا من «عزير» لالتقاء السّاكنين. ولا تحذف ألف «ابن» من الخطّ ، ويكسر التنوين لالتقاء السّاكنين. ومن لم ينوّن «عزيرا» جعله أيضا مبتدأ ، و «ابن» صفة له ؛ فيحذف التّنوين على هذا استخفافا لالتقاء السّاكنين ، ولأنّ الصّفة مع الموصوف الشيء الواحد ، وتحذف ألف «ابن» من الخطّ ، والخبر مضمر تقديره : عزير بن الله نبيّنا وصاحبنا.

(٦٩٢) وسبب نزولها أن سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصّيف ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أنّ عزير ابن الله؟ فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس. وقال ابن عمر ، وابن جريج : إنّ القائل لذلك فنحاص.

فأما عزير ، فقال شيخنا أبو منصور اللغوي : هو اسم أعجميّ معرب ، وإن وافق لفظ العربية ، فهو عبرانيّ ؛ كذا قرأته عليه. وقال مكّيّ بن أبي طالب : العزير عند كلّ النّحويين : عربيّ مشتق من قوله : يعزّروه. وقال ابن عباس : إنّما قالوا ذلك ، لأنهم لمّا عملوا بغير الحقّ ، أنساهم الله التّوراة ، ونسخها من صدورهم ، فدعا عزير الله تعالى ؛ فعاد إليه الذي نسخ من صدورهم ، ونزل نور من السماء فدخل جوفه ، فأذّن في قومه فقال : قد آتاني الله التّوراة ؛ فقالوا : ما أوتيها إلّا لأنه ابن الله. وفي رواية أخرى عن ابن عباس : أنّ بختنصّر لمّا ظهر على بني إسرائيل ، وهدم بيت المقدس ، وقتل من قرأ التّوراة ، كان عزير غلاما ، فتركه. فلما توفّي عزير ببابل ، ومكث مائة عام ، ثم بعثه الله تعالى إلى بني إسرائيل ، فقال : أنا عزير ؛ فكذّبوه وقالوا : قد حدّثنا آباؤنا أنّ عزيرا مات ببابل ، فإن كنت عزيرا فأملل علينا التّوراة ؛ فكتبها لهم ؛ فقالوا : هذا ابن الله. وفي الذين قالوا هذا عن عزير ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم

____________________________________

(٦٩٢) ضعيف. أخرجه الطبري ١٦٦٣٥ عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف فيه محمد بن أبي محمد ، وهو مجهول.

وانظر «تفسير البغوي» ١٠٥٧ بتخريجنا.

٢٥١

جميع بني إسرائيل ، روي عن ابن عباس. والثاني : طائفة من سلفهم ، قاله الماوردي. والثالث : جماعة كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيهم قولان : أحدهما : فنحاص وحده ، وقد ذكرناه عن ابن عمر ، وابن جريج. والثاني : الذين ذكرناهم في أول الآية عن ابن عباس.

فإن قيل : إن كان قول بعضهم ، فلم أضيف إلى جميعهم؟ فعنه جوابان :

أحدهما : أنّ إيقاع اسم الجماعة على الواحد معروف في اللغة ، تقول العرب : جئت من البصرة على البغال ، وإن كان لم يركب إلّا بغلا واحدا. والثاني : أنّ من لم يقله ، لم ينكره.

قوله تعالى : (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) في سبب قولهم هذا قولان :

أحدهما : لكونه ولد من غير ذكر.

والثاني : لأنه أحيى الموتى ، وأبرأ الكمه والبرص ؛ وقد شرحنا هذا المعنى في (المائدة).

قوله تعالى : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) إن قال قائل : هذا معلوم ، فما فائدته؟ فالجواب : أنّ معنى إنه قول بالفم ، لا بيان فيه ولا برهان ولا تحته معنى صحيح ، قاله الزّجّاج.

قوله تعالى : (يُضاهِؤُنَ) قرأ الجمهور : من غير همز. وقرأ عاصم : «يضاهئون». قال ثعلب : لم يتابع عاصما أحد على الهمز. قال الفرّاء : وهي لغة. قال الزّجّاج : يضاهون : يشابهون قول من تقدّمهم من كفرتهم ، فإنّما قالوه اتّباعا لمتقدّميهم. وأصل المضاهاة في اللغة : المشابهة ؛ والأكثر ترك الهمز ؛ واشتقاقه من قولهم : امرأة ضهياء ، وهي التي لا ينبت لها ثدي. وقيل : هي التي لا تحيض ، والمعنى : أنها قد أشبهت الرّجال. قال ابن الأنباري : يقال : ضاهيت ، وضاهأت : إذا شبّهت. وفي (الَّذِينَ كَفَرُوا) ها هنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم عبدة الأوثان ، والمعنى : أنّ أولئك قالوا : الملائكة بنات الله ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم اليهود ، فالمعنى : أنّ النّصارى في قولهم : المسيح ابن الله ، شابهوا اليهود في قولهم : عزير ابن الله ، قاله قتادة ، والسّدّيّ. والثالث : أنهم أسلافهم ، تابعوهم في أقوالهم تقليدا ، قاله الزّجّاج ، وابن قتيبة. وفي قوله تعالى : (قاتَلَهُمُ اللهُ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ معناه : لعنهم الله ، قاله ابن عباس : والثاني : قتلهم الله ، قاله أبو عبيدة. والثالث : عاداهم الله ، ذكره ابن الأنباري.

قوله تعالى : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي : من أين يصرفون عن الحقّ.

قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ) قد سبق في (المائدة) معنى الأحبار والرّهبان.

(٦٩٣) وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : «أما إنّهم لم يكونوا يعبدونهم ،

____________________________________

(٦٩٣) يشبه الحسن ، أخرجه الترمذي ٣٠٩٥ والطبري ١٦٦٤٦ و ١٦٦٤٧ و ١٦٦٤٨ والطبراني ١٧ / ٩٢ / ٢١٨ والبيهقي ١٠ / ١١٦ والسهمي في «تاريخ جرجان» ١١٦٢ من طرق متعددة عن عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين الجزري عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم به ، وإسناده ضعيف ، مداره على غطيف بن أعين الجزري ، وهو ضعيف كما في «التقريب». وقال الذهبي في «الميزان» : ضعفه الدارقطني.

ـ  وضعفه الترمذي بقوله : غريب ، وغطيف ليس بمعروف في الحديث. وذكر الحافظ في «التهذيب» ٢٢٥١٨ كلام الترمذي ، وقال : ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الدارقطني : ضعيف.

ـ  قلت : حسنه الألباني في «صحيح الترمذي» ٢٤٧١ ، ولم يعز الكلام عليه إلى موضع آخر ، ولم يذكر مستنده

٢٥٢

ولكنّهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئا استحلّوه ، وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه» (١). فعلى هذا المعنى : إنّهم جعلوهم كالأرباب وإن لم يقولوا : إنّهم أرباب.

قوله تعالى : (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) قال ابن عباس : اتخذوه ربّا.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢))

قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) قال ابن عباس : يخمدوا دين الله بتكذيبهم ، يعني : أنّهم يكذّبون به ويعرضون عنه يريدون إبطاله بذلك. وقال الحسن وقتادة : نور الله : القرآن والإسلام. فأمّا تخصيص ذلك بالأفواه ، فلما ذكرنا في الآية قبلها. وقيل : إنّ الله تعالى لم يذكر قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلّا وهو زور. قوله تعالى : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) قال الفرّاء : إنّما دخلت «إلا» ها هنا ، لأنّ في الإباء طرفا من الجحد ، ألا ترى أنّ «أبيت» كقولك : «لم أفعل» ، فكأنه بمنزلة قولك : ما ذهب إلّا زيد ، قال الشاعر :

فهل لي أمّ غيرها إن تركتها

أبى الله إلّا أن أكون لها ابنما (٢)

وقال الزّجّاج : المعنى : ويأبى الله كلّ شيء إلّا إتمام نوره. قال مقاتل : «يتم نوره» أي : يظهر دينه.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣))

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالْهُدى) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها :

____________________________________

في تحسينه إياه! إلا أن يكون أخذ بقول ابن كثير في «التفسير» ٢ / ٣٦٢ وفي نسخة ٢ / ٤٣٢ حيث قال : روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم. فذكر ابن كثير حديثا طويلا ، وذكر فيه لفظ المصنف. وبحثت في مسند أحمد ومعجم الطبراني حديثا حديثا ، فلم أجد في خبر إسلام عدي المطول ، ما رواه غطيف هذا. فالصواب أن هذا اللفظ لم يرد من طرق ، وليس له إلا هذا الطريق. والذي ورد من طرق إنما هو قصة إسلامه بغير هذا اللفظ. فهذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف. والله أعلم.

ـ  وورد تفسير الآية الكريمة بمثل الحديث المرفوع عن حذيفة بن اليمان من قوله. أخرجه الطبري ١٦٦٤٩ و ١٦٦٥٠ و ١٦٦٥١ و ١٦٦٥٣ من طرق عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري عن حذيفة ، وإسناده ضعيف ، حبيب كثير الإرسال والتدليس ، ولم يصرح في هذه الروايات بالتحديث. ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي ١٠ / ١١٦. لكن تابعه عطاء بن السائب برقم ١٦٦٥٨ وهو ضعيف لكن يصلح للاعتبار بحديثه.

وله شاهد عن ابن عباس قوله ، أخرجه الطبري ١٦٦٥٦ وهو منقطع ، السدي لم يلق ابن عباس. فلعل من حسنه لأجل هذه الروايات الموقوفة. والله أعلم ، والأشبه أنه بين الضعيف والحسن ، والله أعلم.

__________________

(١) بهذه الآية الكريمة ، وبهذا الحديث ، وبما ورد عن أئمة التفسير ، استدل العلامة الآلوسي رحمه‌الله وغيره من الأئمة : بأن الشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده ، ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته. واستدلوا بأن العبادة هي الاتباع في الشرائع ، سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة ، ثم إن الإسلام لا يقوم إلا باتباع الله وحده في الشريعة بعد الاعتقاد بألوهيته وحده ، فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة الله صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى ، نسأل الله تعالى أن يرحمنا ويهدينا إلى سواء الصراط.

(٢) البيت منسوب إلى المتلمس «معاني القرآن» ١ / ٤٣٣ وقوله ابنما ، أراد ابنا ، فزاد ميما.

٢٥٣

أنه التّوحيد. والثاني : القرآن. والثالث : تبيان الفرائض. فأمّا دين الحق ، فهو الإسلام. وفي قوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ) قولان : أحدهما : أنّ الهاء عائدة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمعنى : ليعلّمه شرائع الدّين كلّها ، فلا يخفى عليه منها شيء ، قاله ابن عباس. والثاني : أنها راجعة إلى الدّين. ثمّ في معنى الكلام قولان : أحدهما : ليظهر هذا الدّين على سائر الملل. ومتى يكون ذلك؟ فيه قولان : أحدهما : عند نزول عيسى عليه‌السلام ، فإنّه يتبعه أهل كلّ دين ، وتصير الملل واحدة ، فلا يبقى أهل دين إلّا دخلوا في الإسلام أو أدّوا الجزية ، قاله أبو هريرة ، والضّحّاك. والثاني : أنه عند خروج المهديّ. قاله السّدّيّ. والقول الثاني : أنّ إظهار الدّين إنّما هو بالحجج الواضحة ، وإن لم يدخل الناس فيه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤))

قوله تعالى : (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ) الأحبار من اليهود ، والرّهبان من النّصارى. وفي الباطل أربعة أقوال : أحدها : أنه الظّلم ، قاله ابن عباس. والثاني : الرّشا في الحكم ، قاله الحسن. والثالث : الكذب ، قاله أبو سليمان. والرابع : أخذه من الجهة المحظورة ، قاله القاضي أبو يعلى : والمراد : أخذ الأموال ، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم المقصود من المال. وفي المراد بسبيل الله ها هنا قولان : أحدهما : الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ. والثاني : أنه الحقّ في الحكم. قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنها نزلت عامّة في أهل الكتاب والمسلمين ، قاله أبو ذرّ ، والضّحّاك. والثاني : أنها خاصّة في أهل الكتاب ، قاله معاوية بن أبي سفيان. والثالث : أنها في المسلمين ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ. وفي الكنز المستحقّ عليه هذا الوعيد ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ما لم تؤدّ زكاته.

(٦٩٤) قال ابن عمر : كلّ مال أدّيت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز ، وكلّ مال لا

____________________________________

(٦٩٤) موقوف صحيح. وورد مرفوعا وهو ضعيف جدا. أخرجه البيهقي ٤ / ٨٢ بإسناد صحيح عن ابن عمر موقوفا ، وقال هذا هو الصحيح موقوف ، وقد روى سويد بن عبد العزيز وليس بالقوي مرفوعا ، ثم ساق إسناده اه.

وسويد هذا ضعيف متروك الحديث. وتوبع فقد أخرجه البيهقي ٤ / ٨٣ من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا وقال : ليس هذا بمحفوظ ، والمشهور عن ابن عمر موقوفا. اه. وفي إسناده محمد بن كثير المصيصي الثقفي وهو ضعيف ، فالراجح الوقف عليه ، كما قال البيهقي رحمه‌الله. وأخرجه الطبري ١٦٦٦٨ عن ابن عمر وكرره ١٦٦٦٦ بنحوه. انظر «تفسير ابن كثير» بتخريجنا عند هذه الآية.

__________________

(١) قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ٨ / ١١٣ : اختلفت الصحابة في المراد بهذه الآية ، فذهب معاوية إلى أن المراد بها أهل الكتاب ، وإليه ذهب الأصم ، لأن قوله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) مذكور بعد قوله (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ ...). وقال أبو ذر وغيره : المراد بها أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين وهو الصحيح ، لأنه لو أراد أهل الكتاب خاصة لقال : ويكنزون ، بغير «والذين» فلما قال «والذين» فقد استأنف معنى آخر يبين أنه عطف جملة على جملة ، فالذين يكنزون كلام مستأنف وهو رفع على الابتداء.

٢٥٤

تؤدّى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا على وجه الأرض ، وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور. فعلى هذا ، معنى الإنفاق : إخراج الزّكاة. والثاني : أنه ما زاد على أربعة آلاف ، روي عن عليّ بن أبي طالب أنه قال : أربعة آلاف نفقة ، وما فوقها كنز. والثالث : ما فضل عن الحاجة ، وكان يجب عليهم إخراج ذلك في أول الإسلام ثم نسخ بالزّكاة.

فإن قيل : كيف قال : «ينفقونها» وقد ذكر شيئين؟ فعنه جوابان :

أحدهما : أنّ المعنى : يرجع إلى الكنوز والأموال.

والثاني : أنه يرجع إلى الفضّة ، وحذف الذّهب ، لأنه داخل في الفضّة ، قال الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأي مختلف (١)

يريد : نحن بما عندنا راضون ، وأنت بما عندك راض ، ذكر القولين الزّجّاج. وقال الفرّاء : إن شئت اكتفيت بأحد المذكورين ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) (٢) ، وقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) (٣) ، وأنشد :

إنّي ضمنت لمن أتاني ما جنى

وأبى وكان وكنت غير غدور (٤)

ولم يقل : غدورين ، وإنما اكتفى بالواحد لاتّفاق المعنى. قال أبو عبيدة : والعرب إذا أشركوا بين اثنين قصروا ، فخبّروا عن أحدهما استغناء بذلك ، وتحقيقا ؛ لمعرفة السّامع بأنّ الآخر قد شاركه ، ودخل معه في ذلك الخبر ، وأنشد :

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني وقيّار بها لغريب (٥)

والنّصب في «قيّار» أجود ، وقد يكون الرّفع. وقال حسّان بن ثابت :

إنّ شرخ الشّباب والشّعر الأس

ود ما لم يعاص كان جنونا (٦)

ولم يقل : يعاصيا.

(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥))

قوله تعالى : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها) أي : على الأموال.

(٦٩٥) قال ابن مسعود : والله ما من رجل يكوى بكنز ، فيوضع دينار على دينار ولا درهم على

____________________________________

(٦٩٥) موقوف صحيح. أخرجه الطبري ١٦٦٩٧ و ١٦٦٩٨ والطبراني ٨٧٥٤ عن ابن مسعود موقوفا وهو صحيح.

__________________

(١) البيت قائله عمرو بن امرئ القيس «معاني القرآن» ١ / ٤٣٤.

(٢) سورة النساء : ١١٢.

(٣) سورة الجمعة : ١١.

(٤) البيت غير منسوب في «معاني القرآن» ١ / ٤٣٤.

(٥) البيت منسوب إلى ضابئ بن الحارث البرجمي وهو في «الأصمعيات» ١٦. «اللسان» قير.

(٦) البيت منسوب إلى حسان بن ثابت ديوان ٣١٢ «اللسان» شرخ.

الشرخ : الحد. أي غاية ارتفاعه ، يعني بذلك أقصى قوته ونضارته وعنفوان.

٢٥٥

درهم ، ولكن يوسّع جلده ، فيوضع كلّ دينار. ودرهم على حدته. وقال ابن عباس : هي حيّة تنطوي على جنبيه وجبهته ، فتقول : أنا مالك الذي بخلت به (١).

قوله تعالى : (هذا ما كَنَزْتُمْ) فيه محذوف تقديره : ويقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي : عذاب ذلك. فإن قيل : لم خصّ الجباه والجنوب والظّهور من بقيّة البدن؟ فالجواب : أنّ هذه المواضع مجوّفة ، فيصل الحرّ إلى أجوافها ، بخلاف اليد والرّجل.

(٦٩٦) وكان أبو ذرّ يقول : بشّر الكنّازين بكيّ في الجباه وكيّ في الجنوب وكيّ في الظّهور ، حتى يلتقي الحرّ في أجوافهم. وجواب آخر : وهو أنّ الغنيّ إذا رأى الفقير ، انقبض ؛ وإذا ضمّه وإيّاه مجلس ، ازورّ عنه وولّاه ظهره ، قاله أبو بكر الورّاق.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦))

قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ) قال المفسّرون : نزلت هذه الآية من أجل النّسيء الذي كانت العرب تفعله ، فربّما وقع حجّهم في رمضان ، وربّما وقع في شوّال ، إلى غير ذلك ؛ وكانوا يستحلّون المحرّم عاما ، ويحرّمون مكانه صفر ، وتارة يحرّمون المحرّم ويستحلّون صفر. قال الزّجّاج : أعلم الله عزوجل أنّ عدد شهور المسلمين التي تعبدوا بأن يجعلوه لسنتهم : اثنا عشر شهرا على منازل القمر ؛ فجعل حجّهم وأعيادهم على هذا العدد ، فتارة يكون الحجّ والصّوم في الشتاء ، وتارة في الصّيف ، بخلاف ما يعتمده أهل الكتاب ، فإنّهم يعملون على أنّ السّنة ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوما وبعض يوم. وجمهور القرّاء على فتح عين «اثنا عشر». وقرأ أبو جعفر : اثنا عشر ، وأحد عشر ، وتسعة عشر ، بسكون العين فيهن.

قوله تعالى : (فِي كِتابِ اللهِ) أي : في اللوح المحفوظ. قال ابن عباس : في الإمام الذي عند الله ، كتبه (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) وفيها قولان : أحدهما : أنها رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، قاله الأكثرون. وقال القاضي أبو يعلى : إنما سمّاها حرما لمعنيين. أحدهما : تحريم القتال فيها ، وقد كان أهل الجاهليّة يعتقدون ذلك أيضا. والثاني : لتعظيم انتهاك المحارم فيها أشدّ من تعظيمه في غيرها ، وكذلك تعظيم الطّاعات فيها. والثاني : أنها الأشهر التي أجّل المشركون فيها للسّياحة ، ذكره ابن قتيبة.

____________________________________

(٦٩٦) هو بعض حديث أخرجه البخاري ١٤٠٧ ومسلم ٩٩٢ وأحمد ٥ / ١٦٠ وابن حبان ٣٢٦٠ من حديث أبي ذر وسياقه الوقف لكن أشار أبو ذر عقبة لرفعه ، والله أعلم.

__________________

(١) أثر ابن عباس لا يصح في تفسير هذه الآية ، وإنما ينبغي ذكره في سورة آل عمران عند قوله (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

٢٥٦

قوله تعالى : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) فيه قولان : أحدهما : ذلك القضاء المستقيم ، قاله ابن عباس. والثاني : ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي ، قاله ابن قتيبة.

قوله تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) اختلفوا في كناية «فيهنّ» على قولين : أحدهما : أنّها تعود على الاثني عشر شهرا ، قاله ابن عباس. فعلى هذا يكون المعنى : لا تجعلوا حرامها حلالا ، ولا حلالها حراما ، كفعل أهل النّسيء. والثاني : أنها ترجع إلى الأربعة الحرم ، وهو قول قتادة ، والفرّاء ؛ واحتجّ بأنّ العرب تقول لما بين الثلاثة إلى العشرة : لثلاث ليال خلون ، وأيام خلون ؛ فإذا جزت العشرة قالوا : خلت ومضت ؛ ويقولون لما بين الثّلاثة إلى العشرة : هنّ ، وهؤلاء ؛ فإذا جزت العشرة ، قالوا : هي ، وهذه : إرادة أن تعرف سمة القليل من الكثير. وقال ابن الأنباري : العرب تعيد الهاء والنّون على القليل من العدد ، والهاء والألف على الكثير منه ؛ والقلّة : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، والكثرة : ما جاوز العشرة. يقولون : وجّهت إليك أكبشا فاذبحهنّ ، وكباشا فاذبحها ؛ فلهذا قال : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) ؛ وقال : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَ) لأنه يعني بقوله تعالى : «فيهن» الأربعة. ومن قال من المفسّرين : إنه يعني بقوله تعالى «فيهن» الاثني عشر ، فإنه ممكن ؛ لأنّ العرب ربّما جعلت علامة القليل للكثير ، وعلامة الكثير للقليل. وعلى قول من قال : ترجع «فيهن» إلى الأربعة ؛ يخرّج في معنى الظّلم فيهنّ أربعة أقوال : أحدها : أنه المعاصي ؛ فتكون فائدة تخصيص النّهي عنه بهذه الأشهر ، أنّ شأن المعاصي يعظم فيها أشدّ من تعظيمه في غيرها ، وذلك لفضلها على ما سواها ، كقوله تعالى : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (١) وإن كانا قد دخلا في جملة الملائكة ، وقوله : (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) (٢) وإن كانا قد دخلا في جملة الفاكهة ، وقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) (٣) وإن كان منهيا عنه في غير الحجّ ، وكما أمر بالمحافظة على الصّلاة الوسطى وإن كان مأمورا بالمحافظة على غيرها ، هذا قول الأكثرين. والثاني : أنّ المراد بالظّلم فيهنّ فعل النّسيء ، وهو تحليل شهر محرّم ، وتحريم شهر حلال ، قاله ابن إسحاق. والثالث : أنه البداية بالقتال فيهن ؛ فيكون المعنى : فلا تظلموا أنفسكم بالقتال فيهنّ إلّا أن تبدؤوا بالقتال ، قاله مقاتل. والرابع : أنه ترك القتال فيهنّ ؛ فيكون المعنى : فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم بترك المحاربة لعدوّكم ، قاله ابن بحر ، وهو عكس قول مقاتل. والسّرّ في أنّ الله تعالى عظّم بعض الشّهور على بعض ، ليكون الكفّ عن الهوى فيها ذريعة إلى استدامة الكفّ في غيرها تدريجا للنّفس إلى فراق مألوفها المكروه شرعا.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧))

قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) الجمهور على همز النّسيء ومدّه وكسر سينه. وروى شبل عن ابن كثير : «النّسء» على وزن النسع. وفي رواية أخرى عن شبل : «النّسيّ» مشدّدة الياء من غير همز ، وهي قراءة أبي جعفر ؛ والمراد بالكلمة التّأخير. قال اللغويون : النّسيء : تأخير الشّيء.

__________________

(١) سورة البقرة : ٩٨.

(٢) سورة الرحمن : ٦٨.

(٣) سورة البقرة : ١٩٧.

٢٥٧

وكانت العرب تحرّم الأشهر الأربعة ، وكان هذا ممّا تمسّكت به من ملّة إبراهيم ؛ فربّما احتاجوا إلى تحليل المحرّم للحرب تكون بينهم ، فيؤخرون تحريم المحرّم إلى صفر ، ثم يحتاجون إلى تأخير صفر أيضا إلى الشهر الذي بعده ؛ ثم تتدافع الشّهور شهرا بعد شهر حتى يستدير التحريم على السنّة كلّها ، فكأنهم يستنسئون الشهر الحرام ويستقرضونه ، فأعلم الله تعالى أنّ ذلك زيادة في كفرهم لأنّهم أحلّوا الحرام وحرّموا الحلال (لِيُواطِؤُا) أي ليوافقوا (عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) فلا يخرجون من تحريم أربعة ، ويقولون : هذه بمنزلة الأربعة الحرم ، ولا يبالون بتحليل الحرام وتحريم الحلال. وكان القوم لا يفعلون ذلك إلّا في ذي الحجّة إذا اجتمعت العرب للموسم ، قال الفرّاء : كانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا الصّدر عن منى قام رجل من بني كنانة يقال له : نعيم بن ثعلبة ، وكان رئيس الموسم ، فيقول : أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يردّ لي قضاء ؛ فيقولون : أنسئنا شهرا ؛ يريدون : أخّر عنّا حرمة المحرّم ، واجعلها في صفر ، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذلك توالي ثلاثة أشهر حرم لا يغيرون فيها ، وإنّما كان معاشهم من الإغارة ، فتستدير الشّهور كما بيّنّا. وقيل : إنّما كانوا يستحلّون المحرّم عاما ، فإذا كان من قابل ردّوه إلى تحريمه. قال أبو عبيد : والتّفسير الأول أحبّ إليّ ، لأنّ هذا القول ليس فيه استدارة.

(٦٩٧) وقال مجاهد : كان أول من أظهر النّسيء جنادة بن عوف الكناني ، فوافقت حجّة أبي بكر ذا القعدة. ثم حجّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العام المقابل في ذي الحجّة ، فذلك حين قال : «ألا إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض». وقال الكلبيّ : أوّل من فعل ذلك نعيم بن ثعلبة.

قوله تعالى : (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «يضل» بفتح الياء وكسر الضاد ، والمعنى : أنهم يكتسبون الضّلال به. وقرأ حمزة والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «يضلّ» بضمّ الياء وفتح الضاد على ما لم يسمّ فاعله. وقرأ الحسن البصريّ ، ويعقوب إلّا الوليد : «يضلّ» بضمّ الياء وكسر الضاد ؛ وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : يضلّ الله به. والثاني : يضلّ الشيطان به ، ذكرهما ابن القاسم. والثالث : يضلّ به الذين كفروا الناس ، لأنهم الذين سنّوه لهم. قال أبو عليّ : التقدير : يضلّ به الذين كفروا تابعيهم. وقال ابن القاسم : الهاء في «به» راجعة إلى النّسيء ، وأصل النّسيء : المنسوء ، أي : المؤخّر ، فينصرف عن «مفعول» إلى «فعيل» كما قيل : مطبوخ وطبيخ ، ومقدور وقدير ، قال : وقيل : الهاء راجعة إلى الظّلم ، لأنّ النّسيء كشف تأويل الظّلم ، فجرى مجرى المظهر ؛ والأوّل اختيارنا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨))

قوله تعالى : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا).

____________________________________

(٦٩٧) مرسل. أخرجه الطبري ١٦٧٢٨ عن مجاهد مرسلا. والمرفوع منه أخرجه البخاري ٦٧ و ١٠٥ و ١٧٤١ و ٣١٩٧ و ٤٤٠٦ و ٤٦٦٢ و ٥٥٥٠ و ٧٤٤٧ ومسلم ١٦٧٩ وأبو داود ١٩٤٨ وابن ماجة ٢٣٣ وابن حبان ٤٨٤٨ وأحمد ٥ / ٣٩ من حديث أبي بكرة ، وله شواهد كثيرة.

٢٥٨

(٦٩٨) قال المفسّرون : لمّا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغزوة تبوك ، وكان في زمن عسرة وجدب وحرّ شديد ، وقد طابت الثّمار ، عظم ذلك على الناس وأحبّوا المقام ، فنزلت هذه الآية.

وقوله تعالى : (ما لَكُمْ) استفهام معناه التّوبيخ. وقوله تعالى : (انْفِرُوا) معناه : اخرجوا ، وأصل النّفر : مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج إلى ذلك. وقوله تعالى : (اثَّاقَلْتُمْ) قال ابن قتيبة : أراد : تثاقلتم ، فأدغم التاء في الثاء ، وأحدثت الألف ليسكّن ما بعدها ، وأراد : قعدتم. وفي قراءة ابن مسعود ، والأعمش : «تثاقلتم». وفي معنى (إِلَى الْأَرْضِ) ثلاثة أقوال : أحدها : تثاقلتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمرها ، قاله مجاهد. والثاني : اطمأننتم إلى الدنيا ، قاله الضّحّاك. والثالث : تثاقلتم إلى الإقامة بأرضكم ، قاله الزّجّاج.

قوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي : بنعيمها من نعيم الآخرة ، فما يتمتّع به في الدنيا قليل بالإضافة إلى ما يتمتّع به الأولياء في الجنّة.

(إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))

قوله تعالى : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ).

(٦٩٩) سبب نزولها أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا حثّهم على غزو الرّوم تثاقلوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس. وقال قوم : هذه خاصّة فيمن استنفره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم ينفر.

(٧٠٠) قال ابن عباس : استنفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيّا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه ، فأمسك عنهم المطر فكان عذابهم.

وفي قوله تعالى : (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) وعيد شديد في التّخلّف عن الجهاد ، وإعلام بأنه يستبدل لنصر نبيّه قوما غير متثاقلين. ثم أعلمهم أنهم إن تركوا نصره لم يضرّوه ، كما لم يضرره ذلك إذ كان بمكّة. وفي هاء «تضرّوه» قولان :

أحدهما : أنها ترجع إلى الله ، والمعنى : لا تضرّوا الله بترك النّفير ، قاله الحسن.

والثاني : أنها ترجع إلى رسول الله. فالمعنى : لا تضرّوه بترك نصره ، قاله الزّجّاج.

فصل : وقد روي عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، قالوا : نسخ قوله تعالى : (إِلَّا تَنْفِرُوا

____________________________________

(٦٩٨) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٠٢ بدون إسناد.

وأخرجه الطبري ١٦٧٣٤ و ١٦٧٣٥ عن مجاهد مرسلا بنحوه.

(٦٩٩) هو معنى المتقدم ، لأن غزوة تبوك كان المراد بها الروم.

(٧٠٠) باطل. أخرجه أبو داود ٢٥٠٦ والحاكم ٢ : ١١٨ والطبري ١٦٧٣٦ والبيهقي ٩ : ٤٨ من رواية عبد المؤمن عن نجدة بن نفيع عن ابن عباس ، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! ومداره على نجدة ، وهو مجهول ، والمتن باطل ، إذ لم يحصل ذلك ، ثم إن العذاب الأليم ليس بحبس المطر ، لأنهم يمكنهم الانتقال إلى موضع آخر ، والمراد عذاب مهلك ، أو عذاب النار.

٢٥٩

يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) بقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) (١). وقال أبو سليمان الدّمشقي : ليس هذا من المنسوخ ، إذ لا تنافي بين الآيتين ، وإنّما حكم كلّ آية قائم في موضعها. وذكر القاضي أبو يعلى عن بعض العلماء أنهم قالوا : ليس ها هنا نسخ ، ومتى لم يقاوم أهل الثّغور العدوّ ، ففرض على الناس النّفير إليهم ، ومتى استغنوا عن إعانة من وراءهم ، عذر القاعدون عنهم. وقال قوم : هذا في غزوة تبوك ، ففرض على الناس النّفير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠))

قوله تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) أي : بالنّفير معه (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) إعانة على أعدائه ، (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) حين قصدوا إهلاكه على ما شرحنا في قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٢) ؛ فأعلمهم أنّ نصره ليس بهم.

قوله تعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ) العرب تقول : هو ثاني اثنين ، أي : أحد الاثنين ، وثالث ثلاثة ، أي : أحد الثلاثة ، قال الزّجّاج : وقوله تعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ) منصوب على الحال ؛ المعنى : فقد نصره الله أحد اثنين ، أي : نصره منفردا إلّا من أبي بكر ، وهذا معنى قول الشّعبيّ : عاتب الله أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر. وقال ابن جرير : المعنى : أخرجوه وهو أحد الاثنين ، وهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر. فأمّا الغار ، فهو ثقب في الجبل ، وقال ابن فارس : الغار : الكهف ، والغار : نبت طيّب الرّيح ، والغار : الجماعة من الناس ، والغاران : البطن والفرج ، وهما الأجوفان ، يقال : إنما هو عبد غاريه قال الشاعر :

ألم تر أنّ الدّهر يوم وليلة

وأنّ الفتى يسعى لغاريه دائبا (٣)

قال قتادة : وهذا الغار في جبل بمكّة يقال له : ثور. قال مجاهد : مكثا فيه ثلاثا. وقد ذكرت حديث الهجرة في كتاب «الحدائق».

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ٣٧٤ : ولا خبر بالذي قاله عكرمة والحسن من نسخ حكم هذه الآية التي ذكرا ، يجب التسليم له. ولا حجة ناف لصحة ذلك. وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عدد من الصحابة والتابعين سنذكرهم بعد ، وجائز أن يكون قوله : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً). الخاص من الناس ، ويكون المراد به من استنفره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم ينفر ، على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس. وإذ كان ذلك كذلك ، كان قوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة : ١٢٢] نهيا من الله المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمن مقيم فيها. وإعلاما من الله لهم أن الواجب النفر على بعضهم دون بعض ، وذلك على من استنفر منهم دون من لم يستنفر. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن في إحدى الآيتين نسخ للأخرى ، وكان حكم كل واحدة منهما ماضيا فيما عنيت به ا. ه.

(٢) سورة الأنفال : ٣.

(٣) البيت في «اللسان» غور ، غير منسوب.

٢٦٠