زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٥

هذه الآية أنّ الله تعالى هو المقلّب للقلوب ، المتصرّف فيها.

قوله تعالى : (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي : للجزاء على أعمالكم.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥))

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :

(٦٢٦) أحدها : أنها نزلت في أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك.

(٦٢٧) وقال الزّبير بن العوّام : لقد قرأناها زمانا ، وما نرى أنّا من أهلها ، فإذا نحن المعنيّون بها.

(٦٢٨) والثاني : أنّها نزلت في رجلين من قريش ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، ولم يسمّهما.

(٦٢٩) والثالث : أنّها عامّة. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : في هذه الآية ، أمر الله المؤمنين أن لا يقرّوا المنكر بين أظهرهم ، فيعمّهم الله بالعذاب. وقال مجاهد : هذه الآية لكم أيضا.

(٦٣٠) والرابع : أنها نزلت في عليّ ، وعمّار ، وطلحة ، والزّبير ، قاله الحسن. وقال السّدّيّ : نزلت في أهل بدر خاصّة ، فأصابتهم يوم الجمل.

وفي الفتنة ها هنا سبعة أقوال : أحدها : القتال. والثاني : الضّلالة. والثالث : السّكوت عن إنكار المنكر. والرابع : الاختبار. والخامس : الفتنة بالأموال والأولاد. والسادس : البلاء. والسابع : ظهور البدع.

فأمّا قوله تعالى : (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) فقال الفرّاء : أمرهم ، ثم نهاهم ، وفيه طرف من الجزاء ، وإن كان نهيا ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ) (١) أمرهم ، ثم نهاهم ؛ وفيه تأويل الجزاء. وقال الأخفش : «لا تصيبن» ليس بجواب ، وإنما هو نهي بعد نهي ؛ ولو كان جوابا ما دخلت النّون. وذكر ابن الأنباري فيها قولين :

أحدهما : أنّ الكلام تأويله تأويل الخبر ، إذ كان المعنى : إنّ لا يتّقوها ، تصب الذين ظلموا ، أي : لا تقع بالظّالمين دون غيرهم ، لكنّها تقع بالصّالحين والطّالحين ؛ فلمّا ظهر الفعل ظهور النّهي ، والنّهي راجع إلى معنى الأمر ، إذ القائل يقول : لا تقم ، يريد : دع القيام ، ووقع مع هذا جوابا للأمر ، أو كالجواب له ، فأكّد له شبه النّهي ، فدخلت النون المعروف دخولها في النّهي وما يضارعه. والثاني : أنّها

____________________________________

(٦٢٦) لم أره عن ابن عباس. وأخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» ٣ / ٣٢١ عن الضحاك قوله.

(٦٢٧) أخرجه الطبري ١٥٩١٨ عن قتادة عن الزبير ، وهذا منقطع. وأخرجه ١٥٩١٩ عن الحسن عن الزبير ، وهو منقطع أيضا. وأخرجه ١٥٩٢٠ عن ابن صهبان عن الزبير. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها ، والله أعلم.

(٦٢٨) عزاه المصنف لابن عباس من طريق أبي صالح ، وهي رواية ساقطة.

(٦٢٩) عزاه المصنف لابن عباس من طريق أبي صالح ، وهي رواية ساقطة كما مر سابقا.

(٦٣٠) مرسل. أخرجه الطبري ١٥٩١٧ عن الحسن مرسلا ، وهو شاهد لما تقدم قبل حديث.

__________________

(١) النمل : ١٨.

٢٠١

نهي محض ، معناه : لا يقصدنّ الظّالمون هذه الفتنة ، فيهلكوا ؛ فدخلت النون لتوكيد الاستقبال ، كقوله تعالى : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ).

وللمفسّرين في معنى الكلام قولان : أحدهما : لا تصيبنّ الفتنة الذين ظلموا. والثاني : لا يصيبنّ عقاب الفتنة. فإن قيل : فما ذنب من لم يظلم؟ فالجواب : أنه بموافقته للأشرار ، أو بسكوته عن الإنكار ، أو بتركه للفرار ، استحقّ العقوبة. وقد قرأ عليّ ، وابن مسعود ، وأبيّ بن كعب «لتصيبنّ الذين ظلموا» بغير ألف.

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦))

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) قال ابن عباس : نزلت في المهاجرين خاصّة ، كانت عدّتهم قليلة ، وهم مقهورون في أرض مكّة ، يخافون أن يستلبهم المشركون. وفي المراد بالناس ثلاثة أقوال (١) : أحدهما : أنهم أهل مكة ، قاله ابن عباس. والثاني : فارس والرّوم ، قاله وهب بن منبّه. والثالث : أنهم المشركون الذين حضروا بدرا ، والمسلمون قليلون يومئذ ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (فَآواكُمْ) فيه قولان : أحدهما : فآواكم إلى المدينة بالهجرة ، قاله ابن عباس ، والأكثرون. والثاني : جعل لكم مأوى تسكنون فيه آمنين ، ذكره الماوردي.

وفي قوله تعالى : (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) قولان : أحدهما : قوّاكم بالملائكة يوم بدر ، قاله الجمهور. والثاني : عضدكم بنصره في بدر وغيرها ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.

وفي قوله تعالى : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) قولان : أحدهما : أنّها الغنائم التي أحلّها لهم ، قاله السّدّيّ. والثاني : أنها الخيرات التي مكّنهم منها ، ذكره الماوردي.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧))

قوله تعالى : (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال (٢) :

(٦٣١) أحدها : أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر ؛ وذاك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما حاصر قريظة سألوه أن يصالحهم على ما صالح عليه بني النّضير ، على أن يسيروا إلى أرض الشّام ، فأبى أن يعطيهم

____________________________________

(٦٣١) أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» ٣ / ٣٢٣ عن الكلبي ، والكلبي ممن يضع الحديث ، فخبره لا شيء.

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ٢١٩ : وأولى القولين ذلك عندي بالصواب قول من قال : «عني بذلك مشركو قريش» لأن المسلمين لم يكونوا يخافون على أنفسهم قبل الهجرة من غيرهم. لأنهم كانوا أدنى الكفار منهم إليهم. وأشدهم عليهم يومئذ مع كثرة عددهم ، وقلة عدد المسلمين. اه.

(٢) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢ / ٣٧٦ : والصحيح أن الآية عامة ، وإن صح أنها وردت على سبب خاص فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند جمهور من العلماء ، والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار واللازمة والمتعدية ا. ه.

٢٠٢

ذلك إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فأبوا ، وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة ، وكان مناصحا لهم ، لأنّ ولده وأهله كانوا عندهم ، فبعثه إليهم ، فقالوا : ما ترى ، أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه : إنه الذّبح فلا تفعلوا ، فأطاعوه ، فكانت تلك خيانته ؛ قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله ، ونزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، والأكثرين.

(٦٣٢) وروي أنّ أبا لبابة ربط نفسه بعد نزول هذه الآية إلى سارية من سواري المسجد ، وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ ، فمكث سبعة أيام كذلك ، ثم تاب الله عليه ، فقال : والله لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يحلّني ، فجاء فحلّه بيده ، فقال أبو لبابة : إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذّنب ، وأن أنخلع من مالي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يجزئك الثّلث».

(٦٣٣) والثاني : أنّ جبريل أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «اخرجوا إليه واكتموا» ، فكتب إليه رجل من المنافقين : إنّ محمدا يريدكم ، فخذوا حذركم ، فنزلت هذه الآية ، قاله جابر بن عبد الله.

والثالث : أنها نزلت في قتل عثمان بن عفّان ، قاله المغيرة بن شعبة (١).

(٦٣٤) والرابع : أنّ قوما كانوا يسمعون الحديث من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيفشونه حتى يبلغ المشركين ، فنزلت هذه الآية ، قاله السّدّيّ.

وفي خيانة الله قولان : أحدهما : ترك فرائضه. والثاني : معصية رسوله. وفي خيانة الرّسول قولان : أحدهما : مخالفته في السّرّ بعد طاعته في الظّاهر. والثاني : ترك سنّته. وفي المراد بالأمانات ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : أنها الفرائض ، قاله ابن عباس. وفي خيانتها قولان. أحدهما : تنقيصها. والثاني : تركها. والثاني : أنها الدّين ، قاله ابن زيد ؛ فيكون المعنى : لا تظهروا الإيمان وتبطنوا الكفر. والثالث : أنها عامّة في خيانة كلّ مؤتمن ، ويؤكّده نزولها في ما جرى لأبي لبابة.

____________________________________

(٦٣٢) أخرجه الطبري ١٥٩٣٧ عن الزهري مرسلا ، فهو ضعيف. وانظر «تفسير ابن كثير» ٢ / ٣٧٦.

(٦٣٣) باطل. أخرجه الطبري ١٥٩٣٦ من حديث جابر بن عبد الله. وإسناده ضعيف فيه محمد المحرم مجهول.

وذكره السيوطي في «أسباب النزول» ٥٢٢ وقال : غريب جدا في سنده وسياقه. قلت : المتن باطل ، فالآية الكريمة تخاطب المؤمنين لا المنافقين ، وإخبار جبريل أيضا لا يصح. والصحيح عموم الآية ، وكذا اختاره الطبري وابن كثير وغيرهما.

(٦٣٤) مرسل. أخرجه الطبري ١٥٩٤١ عن السدي مرسلا.

__________________

(١) أخرجه الطبري ١٥٩٣٩ وفيه يونس بن الحارث ضعيف. وعده الذهبي في «الميزان» ٩٩٠٢ من مناكيره.

(٢) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ٢٢٢ الآية (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) : فتأويل الكلام إذا : يا أيها الذين آمنوا ، لا تنقصوا الله حقوقه عليكم من فرائضه ولا رسوله من واجب طاعته عليكم ، ولكن أطيعوهما فيما أمراكم به ونهياكم عنه ، لا تنقصوهما (وتخونوا أماناتكم) وتنقصوا أديانكم وواجب أعمالكم ولازمها لكم (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، أنها لازمة عليكم واجبة بالحجج التي قد ثبتت لله عليكم ا. ه.

٢٠٣

(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) قال ابن عباس : هذا خطاب لأبي لبابة ، لأنه كانت له أموال وأولاد عند بني قريظة. فأما الفتنة ، فالمراد بها : الابتلاء والامتحان الذي يظهر ما في النّفس من اتّباع الهوى أو تجنّبه (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) خير من الأموال والأولاد. قوله تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) أي : بترك معصيته ، واجتناب الخيانة لله ورسوله.

قوله تعالى : (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) فيه أربعة أقوال (١) : أحدها : أنه المخرج ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والضّحّاك ، وابن قتيبة ، والمعنى : يجعل لكم مخرجا في الدّين من الضّلال. والثاني : أنه النّجاة ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والسّدّيّ. والثالث : أنه النّصر ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال الفرّاء. والرابع : أنه هدى في قلوبهم يفرّقون به بين الحقّ والباطل ، قاله ابن زيد ، وابن إسحاق.

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠))

قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هذه الآية متعلّقة بقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) (٢) ؛ فالمعنى : أذكر المؤمنين ما منّ الله به عليهم ، واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا.

لإشارة إلى كيفية مكرهم

(٦٣٥) قال أهل التّفسير : لمّا بويع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة ، وأمر أصحابه أن يلحقوا بالمدينة ، أشفقت قريش أن يعلو أمره ، وقالوا : والله لكأنّكم به قد كرّ عليكم بالرّجال ، فاجتمع جماعة من أشرافهم ليدخلوا دار النّدوة فيتشاوروا في أمره ، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ كبير ، فقالوا : من أنت؟ قال : أنا شيخ من أهل نجد ، سمعت ما اجتمعتم له ، فأردت أن أحضركم ، ولن تعدموا من رأيي نصحا ، فقالوا : أدخل ، فدخل معهم ، فقالوا : انظروا في أمر هذا الرّجل ، فقال بعضهم : احبسوه في

____________________________________

(٦٣٥) أخرجه الطبري ١٥٩٧٩ دون عجزه عن ابن عباس بسند ضعيف لانقطاعه بين ابن إسحاق وعبد الله بن أبي نجيح ، وعجزه أخرجه الطبري ١٥٩٨٢ وإسناده ضعيف ، وورد هذا الخبر من مرسل السدي أخرجه الطبري ١٥٩٨٣ ، ولبعضه شواهد ، وبعضه الآخر منكر. وانظر «السيرة» لابن هشام ٢ / ٩٥ و ٩٦ و «مجمع الزوائد» ٧ / ٢٧ و «دلائل النبوة» ٢ / ٤٦٦ ، ٤٧٠ للبيهقي.

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٢ / ٣٧٧ : (فُرْقاناً) أي فصلا بين الحق والباطل. وهذا التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم وقد يستلزم ذلك كله ، فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره ، وفّق لمعرفة الحق من الباطل فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا ، وسعادته يوم القيامة.

(٢) سورة الأعراف : ٨٦.

٢٠٤

وثاق ، وتربّصوا به ريب المنون. فقال إبليس : ما هذا برأي ، يوشك أن يثب أصحابه فيأخذوه من أيديكم. فقال قائل : أخرجوه من بين أظهركم. فقال : ما هذا برأي ، يوشك أن يجمع عليكم ثم يسير إليكم. فقال أبو جهل : نأخذ من كلّ قبيلة غلاما ، ثم نعطي كلّ غلام سيفا فيضربوه به ضربة رجل واحد ، فيفرّق دمه في القبائل ، فلا أظنّ هذا الحيّ من قريش يقوى على حرب قريش كلّها ، فيقبلون العقل ونستريح. فقال إبليس : هذا والله الرّأي. فتفرّقوا عن ذلك. وأتى جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه ، وأخبره بمكر القوم ، فلم يبت في مضجعه تلك الليلة ، وأمر عليّا فبات في مكانه ، وبات المشركون يحرسونه ، فلمّا أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أذن له الله في الخروج إلى المدينة ، وجاء المشركون لما أصبحوا ، فرأوا عليّا ، فقالوا : أين صاحبك؟ قال : لا أدري ، فاقتصّوا أثره حتى بلغوا الجبل ، فمرّوا بالغار ، فرأوا نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخله لم يكن عليه نسج العنكبوت.

فأما قوله تعالى : (لِيُثْبِتُوكَ) فقال ابن قتيبة : معنا : ليحبسوك. يقال : فلان مثبت وجعا : إذا لم يقدر على الحركة. وللمفسّرين فيه قولان : أحدهما : ليثبتوك في الوثاق ، قاله ابن عباس والحسن في آخرين. والثاني : ليثبتوك في الحبس ، قاله عطاء والسّدّيّ في آخرين. وكان القوم أرادوا أن يحبسوه في بيت ويسدوا عليه بابه ويلقوا إليه الطعام والشراب ، وقد سبق بيان المكر في (آل عمران) (١).

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١))

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا).

(٦٣٦) ذكر أهل التفسير أنّ هذه الآية نزلت في النّضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة ، وأنه لمّا سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر قصص القرون الماضية ، قال : لو شئت لقلت مثل هذا.

وفي قوله تعالى : (قَدْ سَمِعْنا) قولان : أحدهما : قد سمعنا منك ولا نطيعك. والثاني : قد سمعنا قبل هذا مثله ، وكان النّضر يختلف إلى فارس تاجرا فيسمع العبّاد يقرءون الإنجيل. وقد بيّن التحدّي كذب من قال (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا). وقد سبق معنى الأساطير في (الأنعام) (٢).

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢))

قوله تعالى : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :

(٦٣٧) أحدها : أنها نزلت في النّضر أيضا ، رواه جماعة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ،

____________________________________

(٦٣٦) ورد من وجوه متعددة. أخرجه الطبري ١٥٩٩١ عن ابن جريج مرسلا بنحوه. وكرره ١٥٩٩٢ عن السدي مرسلا بنحوه. وله شواهد مرسلة.

(٦٣٧) أخرجه الطبري ١٥٩٩٨ عن مجاهد. وأخرجه برقم ١٥٩٩٩ عن عطاء. وأخرجه برقم ١٦٠٠٠ عن السدي.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٥٤.

(٢) سورة الأنعام : ٥٦.

٢٠٥

ومجاهد ، وعطاء ، والسّدّيّ.

(٦٣٨) والثاني : أنها نزلت في أبي جهل ، فهو القائل لهذا ؛ قاله أنس بن مالك ، وهو مخرّج في «الصحيحين».

والثالث : أنّها نزلت في قريش ، قالوا هذا ثم ندموا فقالوا : غفرانك اللهمّ ، فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) رواه أبو معشر عن يزيد بن رومان ، ومحمد بن قيس.

وفي المشار إليه بقوله تعالى : (إِنْ كانَ هذا) ثلاثة أقوال : أحدها : أنه القرآن. والثاني : كل ما يقوله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأمر بالتّوحيد وغيره. والثالث : أنه إكرام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنّبوة من بين قريش.

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣))

قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) في المشار إليه قولان : أحدهما : أهل مكّة. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : وما كان الله ليعذّبهم وأنت مقيم بين أظهرهم. قال ابن عباس : لم تعذّب قرية حتى يخرج نبيّها والمؤمنون معه. والثاني : وما كان الله ليعذّبهم وأنت حيّ ؛ قاله أبو سليمان. والثاني : أنّ المشار إليهم المؤمنون ، والمعنى : وما كان الله ليعذّب المؤمنين بضرب من العذاب الذي أهلك به من قبلهم وأنت حيّ ؛ ذكره أبو سليمان الدّمشقي.

فصل : قال الحسن ، وعكرمة : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) ، وفيه بعد ، لأنّ النّسخ لا يدخل على الأخبار.

(٦٣٩) وقال ابن أبزى : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكّة ، فأنزل الله عزوجل : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) فخرج إلى المدينة ، فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). وكان أولئك البقيّة من المسلمين بمكّة يستغفرون! فلمّا خرجوا أنزل الله : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ). وجميع أقوال المفسّرين تدلّ على أنّ قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، كلام مبتدأ من إخبار الله عزوجل. وقد روي عن محمّد بن إسحاق أنّه قال : هذه الآية من قول المشركين ، قالوا : والله إنّ الله لا يعذّبنا ونحن نستغفر ، فردّ الله تعالى عليهم ذلك بقوله : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ).

قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) وفي معنى هذا الكلام خمسة أقوال (١) :

____________________________________

(٦٣٨) صحيح أخرجه البخاري ٤٦٤٩ ومسلم ٢٧٩٦ والواحدي ٤٧٩ والبغوي ٩٩٧ كلهم من حديث أنس.

(٦٣٩) ضعيف. أخرجه الطبري ١٦٠٠٤ مرسلا عن ابن أبزى وهذا مرسل ، فهو ضعيف ، والمتن غريب.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٦ / ٢٣٦ : وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب ، قول من قال : تأويله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) يا محمد ، وبين أظهرهم تقيم ، حتى أخرجك من بين أظهرهم ، لأني لا أهلك قرية وفيها نبيها ، (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) من ذنوبهم وكفرهم ، لكنهم لا يستغفرون من ذلك بل هم مصرون عليه ، فهم للعذاب مستحقون ، كما يقال : «ما كنت لأحسن إليك وأنت تسيء إليّ» يراد بذلك لا أحسن إليك ، إذا أسأت إلي ، ولو أسأت إلي لم أحسن إليك ولكن أحسن إليك لأنك لا تسيء إلي.

وكذلك ذلك ثم قيل (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام) بمعنى وما شأنهم ، وما يمنعهم.

٢٠٦

أحدها : وما كان الله معذّب المشركين ، وفيهم من قد سبق له أن يؤمن ؛ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، واختاره الزّجّاج. والثاني : وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون الله ، فإنهم كانوا يلبّون ويقولون : غفرانك ؛ وهذا مرويّ عن ابن عباس أيضا ، وفيه ضعف ، لأنّ استغفار المشرك لا أثر له في القبول. والثالث : وما كان الله معذّبهم ، يعني المشركين ، وهم  ـ  يعني المؤمنين الذين بينهم  ـ  يستغفرون ؛ روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال الضّحّاك ، وابن مالك. قال ابن الأنباري : وصفوا بصفة بعضهم ، لأنّ المؤمنين بين أظهرهم ، فأوقع العموم على الخصوص ، كما يقال : قتل أهل المسجد رجلا ، وأخذ أهل البصرة فلانا ، ولعلّه لم يفعل ذلك إلّا رجل واحد. والرابع : وما كان الله معذّبهم وفي أصلابهم من يستغفر الله ، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري : فيكون معنى تعذيبهم : إهلاكهم ؛ فالمعنى : وما كان الله مهلكهم ، وقد سبق في علمه أنّه يكون لهم أولاد يؤمنون به ويستغفرونه ؛ فوصفهم بصفة ذراريهم ، وغلّبوا عليهم كما غلّب بعضهم على كلّهم في الجواب الذي قبله. والخامس : أنّ المعنى لو استغفروا لما عذّبهم الله ، ولكنهم لم يستغفروا فاستحقّوا العذاب ؛ وهذا كما تقول العرب : ما كنت لأهينك وأنت تكرمني ؛ يريدون : ما كنت لأهينك لو أكرمتني ، فأمّا إذ لست تكرمني ، فإنك مستحق لإهانتي ، وإلى هذا القول ذهب قتادة والسّدّيّ. قال ابن الأنباري : وهو اختيار اللغويين. وذكر المفسّرون في معنى هذا الاستغفار ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الاستغفار المعروف ؛ وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني : أنه بمعنى الصّلاة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، ومنصور عن مجاهد ، وبه قال الضّحّاك. والثالث : إنه بمعنى الإسلام رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال عكرمة.

(وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤))

قوله تعالى : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) هذه الآية أجازت تعذيبهم ، والأولى نفت ذلك. وهل المراد بهذا : العذاب الأوّل ، أم لا؟ فيه قولان : أحدهما : أنه هو الأوّل ، إلّا أنّ الأوّل امتنع بشيئين : أحدهما : كون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم. والثاني : كون المؤمنين المستغفرين بينهم ؛ فلمّا وقع التّمييز بالهجرة ، وقع العذاب بالباقين يوم بدر ، وقيل : بل وقع بفتح مكّة. والثاني : أنهما مختلفان ، وفي ذلك قولان :

__________________

أن يعذبهم الله وهم لا يستغفرون الله من كفرهم فيؤمنوا به ، وهم يصدون المؤمنين بالله ورسوله عن المسجد الحرام!. وإنما قلنا : «هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب» لأن القوم  ـ  أعني «مشركي مكة»  ـ  كانوا استعجلوا العذاب ، فقالوا : اللهم إن كان ما جاء به محمد هو الحق ، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم). فقال الله لنبيه «ما كنت لأعذبهم وأنت فيهم ، وما كنت لأعذبهم لو استغفروا وكيف لا أعذبهم بعد إخراجك منهم ، وهم يصدون عن المسجد الحرام؟ فأعلمه جل ثناؤه أن الذي استعجلوا من العذاب حائق بهم ونازل ، وأعلمهم حال نزوله بهم ، وذلك بعد إخراجه إياه من بين أظهرهم ، ولا وجه لإيعادهم العذاب في الآخرة وهم مستعجلوه في العاجل ، ولا شك أنهم في الآخرة إلى العذاب صائرون بل في تعجيل الله لهم ذلك يوم بدر. الدليل الواضح على أن القول في ذلك ما قلنا وكذلك لا وجه لقول من وجّه قوله : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) إلى أنه عني به المؤمنين ، وهو في سياق الخبر عنهم وعما الله فاعل بهم ، ولا دليل على أن الخبر عنهم قد تقضّى وعلى ذلك كني به عنهم وأن لا خلاف في تأويله من أجله موجود اه.

٢٠٧

أحدهما : أنّ العذاب الثاني قتل بعضهم يوم بدر ، والأول استئصال الكلّ ، فلم يقع الأوّل لما قد علم من إيمان بعضهم ، وإسلام بعض ذراريهم ، ووقع الثاني. والثاني : أنّ العذاب الأوّل عذاب الدنيا. والثاني : عذاب الآخرة ، قاله ابن عباس ، فيكون المعنى : وما كان الله معذّب المشركين لاستغفارهم في الدنيا ، وما لهم ألّا يعذّبهم الله في الآخرة.

قوله تعالى : (وَهُمْ يَصُدُّونَ) قال الزّجّاج : المعنى وهم يصدّون (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أولياءه. وفي هاء الكناية في قوله تعالى : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) قولان : أحدهما : أنّها ترجع إلى «المسجد الحرام» ، وهو قول الجمهور. قال الحسن : إنّ المشركين قالوا : نحن أولياء المسجد الحرام ، فردّ الله عليهم بهذا. والثاني : أنّها تعود إلى الله عزوجل ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي.

قوله تعالى : (إِنْ أَوْلِياؤُهُ) أي : ما أولياؤه (إِلَّا الْمُتَّقُونَ) للشّرك والمعاصي ، ولكنّ أكثر أهل مكّة لا يعلمون من الأولى ببيت الله.

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥))

قوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ).

(٦٤٠) سبب نزولها أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويصفّقون ويصفرون ويضعون خدودهم بالأرض ، فنزلت هذه الآية ؛ قاله ابن عمر.

فأما المكاء ، ففيه قولان : أحدهما : أنه الصّفير ، قاله ابن عمر وابن عباس وابن جبير وقتادة وأبو عبيدة والزّجّاج وابن قتيبة. قال ابن فارس : يقال : مكا الطّائر يمكو مكاء : إذا صفر ، ويقال : مكيت يده تمكى مكي ، مقصور ، أي : غلظت وخشنت ، ويقال : تمكّى : إذا توضّأ. وأنشدوا :

كالمتمكّي بدم القتيل (١)

وسئل أبو سلمة بن عبد الرّحمن عن المكاء ، فجمع كفّيه ، وجعل يصفر فيهما. والثاني : أنه إدخال أصابعهم في أفواههم يخلطون به وبالتّصدية على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاته ، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري : أهل اللغة ينكرون أن يكون المكاء إدخال الأصابع في الأفواه ، وقالوا : لا يكون إلّا الصّفير. وفي التّصدية قولان : أحدهما : أنّها التّصفيق ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور. قال ابن قتيبة : يقال صدّى : إذا صفّق بيديه. قال الراجز :

ضنّت بخدّ وجلت عن خدّ

وأنا من غرو الهوى أصدّي (٢)

الغرو : العجب ، يقال : لا غرو من كذا ، أي : لا عجب. والثاني : أنّ التّصدية : صدّهم الناس عن البيت الحرام ، قاله سعيد بن جبير : وقال ابن زيد : وهو صدّهم عن سبيل الله ودينه.

____________________________________

(٦٤٠) أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٤٨٠ من طريق عطية العوفي عن ابن عمر ، وعطية ضعيف ، لكن للخبر شواهد.

__________________

(١) البيت منسوب إلى عنترة الطائي وصدر البيت [إنك والجور على سبيل] اللسان : مطا.

(٢) البيت غير منسوب في «غريب القرآن» ١٧٩.

٢٠٨

(٦٤١) وزعم مقاتل أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا صلّى في المسجد الحرام ، قام رجلان من المشركين من بني عبد الدّار عن يمينه فيصفران ، ورجلان عن يساره فيصفّقان ، فتختلط على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاته وقراءته ، فقتلهم الله ببدر ، فذلك قوله تعالى : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بتوحيد الله.

فإن قيل : كيف سمّى المكاء والتّصدية صلاة؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري :

أحدهما : أنهم جعلوا ذلك مكان الصّلاة ، ومشهور في كلام العرب أن يقول الرجل : زرت عبد الله ، فجعل جفائي صلتي ، أي : أقام الجفاء مقام الصّلة ، قال الشاعر :

قلت أطعمني عميم تمرا

فكان تمري كهرة وزبرا

أي : أقام الصّياح عليّ مقام التّمر. والثاني : أنّ من كان المكاء والتّصدية صلاته فلا صلاة له ، كما تقول العرب : ما لفلان عيب إلا السّخاء ، يريدون : من السّخاء عيبه فلا عيب له ، قال الشاعر :

فتى كملت خيراته غير أنّه

جواد فلا يبقي من المال باقيا (١)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال (٢) :

(٦٤٢) أحدها : أنها نزلت في المطعمين ببدر ، وكانوا اثني عشر رجلا يطعمون الناس الطعام ، كلّ رجل يطعم يوما ، وهم : عتبة وشيبة ، ومنبه ونبيه ابنا الحجّاج ، وأبو البختري ، والنّضر بن الحارث ، وأبو جهل ؛ وأخوه الحارث ، وحكيم بن حزام وأبيّ بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، والحارث بن عامر بن نوفل ، هذا قول أبي صالح عن ابن عباس.

(٦٤٣) والثاني : أنّها نزلت في أبي سفيان بن حرب ، استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش لقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى من استجاش من العرب ، قاله سعيد بن جبير.

____________________________________

(٦٤١) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، فالخبر لا شيء.

(٦٤٢) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وراوية أبي صالح هو الكلبي ، وقد كذبه غير واحد.

وذكره الواحدي في أسباب النزول ٤٨١ ، عن مقاتل والكلبي ، وكلاهما يضع الحديث.

(٦٤٣) ورد من وجوه متعددة مرسلة. أخرجه الطبري ١٦٠٧٠ عن سعيد بن جبير مرسلا. وكرره ١٦٠٧١ عن ابن أبزى مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٨٢ عن سعيد بن جبير وابن أبزى مرسلا.

__________________

(١) البيت منسوب للنابغة الجعدي : ديوانه ١٧٣. «الحماسة» ٢ / ٩٦٩.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٦ / ٢٤٣ : والصواب من القول في ذلك عندي ، هو أن يقال : إن الله أخبر عن الذين كفروا به من مشركي قريش ، أنهم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله لم يخبرنا بأي أولئك عنى غير أنه عم بالخبر (الذين كفروا). وجائز أن يكون عنى المنافقين أموالهم لقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بأحد ، وجائز أن يكون عنى المنافقين منهم يوم بدر ، وجائز أن يكون عنى الفريقين ، وإذا كان ذلك كذلك. فالصواب في ذلك أن يعم كما عم جل ثناؤه الذين كفروا من قريش.

٢٠٩

(٦٤٤) وقال مجاهد : نزلت في نفقة أبي سفيان على الكفّار يوم أحد.

(٦٤٥) والثالث : أنها نزلت في أهل بدر ، وبه قال الضّحّاك. فأمّا سبيل الله ، فهو دين الله.

قوله تعالى : (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أي تكون عاقبة نفقتهم ندامة لأنهم لم يظفروا.

(لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧))

قوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر «ليميز» خفيفة. وقرأ حمزة ، والكسائيّ «ليميّز» بالتّشديد وهما لغتان : مزته وميّزته. وفي لام «ليميز» قولان : أحدهما : أنّها متعلّقة بقوله تعالى : (فَسَيُنْفِقُونَها) ، قاله ابن الأنباري. والثاني : أنّها متعلّقة بقوله : (إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) ، قاله ابن جرير الطّبري.

وفي معنى الآية ثلاثة أقوال : أحدها : ليميّز أهل السّعادة من أهل الشّقاء ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال السّدّيّ ، ومقاتل : يميز المؤمن من الكافر. والثاني : ليميّز العمل الطّيّب من العمل الخبيث ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : ليميّز الإنفاق الطّيّب في سبيله ، من الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان ، قاله ابن زيد ، والزّجّاج.

قوله تعالى : (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) أي : يجمع بعضه فوق بعض ، وهو قوله تعالى : (فَيَرْكُمَهُ). قال الزّجّاج : الرّكم : أن يجعل بعض الشيء على بعض ، يقال : ركمت الشيء أركمه ركما ؛ والرّكام : الاسم ؛ فمن قال : المراد بالخبيث : الكفّار ، فإنهم في النّار بعضهم على بعض ؛ ومن قال : أموالهم ، فله في ذلك قولان : أحدهما : أنها ألقيت في النار ليعذّب بها أربابها ، كما قال تعالى : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ). والثاني : أنهم لمّا عظّموها في الدنيا ، أراهم هوانها بإلقائها في النار كما تلقى الشمس والقمر في النار ، ليرى من عبدهما ذلّهما.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨))

قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) نزلت في أبي سفيان وأصحابه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وفي معنى الآية قولان : أحدهما : إن ينتهوا عن المحاربة يغفر لهم ما قد سلف من حربهم ، فلا يؤاخذون به ، وإن يعودوا إلى المحاربة ، فقد مضت سنّة الأوّلين في نصر الله أولياءه ، وقيل : في قتل من قتل يوم بدر وأسر. والثاني : إن ينتهوا عن الكفر يغفر لهم ما قد سلف من الإثم ؛ وإن يعودوا إليه ، فقد مضت سنّة الأوّلين من الأمم السّالفة حين أخذوا بالعذاب المستأصل. قال يحيى بن معاذ في هذه الآية : إنّ توحيدا لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر ، لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.

____________________________________

(٦٤٤) مرسل. أخرجه الطبري ١٦٠٧٥ و ١٦٠٧٦ عن مجاهد مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٨٢  ـ  ٤٨٣ بنحوه.

(٦٤٥) مرسل. أخرجه الطبري ١٦٠٨٠ عن الضحاك مرسلا.

٢١٠

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩))

قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي : شرك. وقال الزّجّاج : حتى لا يفتن الناس فتنة كفر ؛ ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).

قوله تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي : عن الكفر والقتال (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وقرأ يعقوب إلّا روحا «بما تعملون» بالتاء.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠))

قوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : أعرضوا عن الإيمان وعادوا إلى القتال (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) أي وليّكم وناصركم. قال ابن قتيبة : (نِعْمَ الْمَوْلى) أي نعم الوليّ (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي : النّاصر ، مثل قدير وقادر ، وسميع وسامع.

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١))

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) اختلفوا ، هل الغنيمة والفيء بمعنى واحد ، أم يختلفان؟ على قولين : أحدهما : أنّهما يختلفان ، ثمّ في ذلك قولان : أحدهما : أنّ الغنيمة : ما ظهر عليه من أموال المشركين ، والفيء : ما ظهر عليه من الأرضين ، قاله عطاء بن السّائب. والثاني : أنّ الغنيمة : ما أخذ عنوة ، والفيء : ما أخذ عن صلح ، قاله سفيان الثّوريّ. وقيل : بل الفيء : ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، كالعشور والجزية ، وأموال المهادنة والصّلح ، وما هربوا عنه. والثاني : أنّهما واحد ، وهما كلّ ما نيل من المشركين ، ذكره الماوردي : وقال الزّجّاج : الأموال ثلاثة أصناف ؛ فما صار إلى المسلمين من المشركين في حال الحرب ، فقد سمّاه الله تعالى : أنفالا وغنائم ؛ وما صار من المشركين من خراج أو جزية ممّا لم يؤخذ في الحرب ، فقد سمّاه : فيئا ، وما خرج من أموال المسلمين ، كالزّكاة ، والنّذر ، والقرب ، سمّاه : صدقة. وأمّا قوله تعالى : (مِنْ شَيْءٍ) فالمراد به : كلّ ما وقع عليه اسم شيء. قال مجاهد : المخيط من الشّيء.

قوله تعالى : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) وروى عبد الوارث : «خمسه» بسكون الميم. وفي المراد بالكلام قولان : أحدهما : أنّ نصيب الله مستحقّ يصرف إلى بيته.

(٦٤٦) قال أبو العالية : كان يجاء بالغنيمة فيقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خمسة أسهم ، فيقسم أربعة

____________________________________

(٦٤٦) ضعيف جدا بذكر الكعبة. أخرجه الطبري ١٦١١٧ من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية ، وهذا مرسل فهذه علة ، وأبو جعفر الرازي ضعفه غير واحد ، وقد روى مناكير كثيرة. وتفرد بذكر الكعبة. ولم يتابع عليه ، ولأصل الحديث شواهد ، والمنكر فيه ذكر الكعبة ، فتنبه ، والله أعلم.

٢١١

بين الناس ثم يجعل من السّهم الخامس للكعبة ؛ وهذا مما انفرد به أبو العالية فيما يقال.

والثاني : أنّ ذكر الله ها هنا لأحد وجهين : أحدهما : لأنّه المتحكّم فيه ، والمالك له ، والمعنى : فإنّ للرّسول خمسه ولذي القربى ؛ كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ). والثاني : أن يكون المعنى : إنّ الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله تعالى ، وهذا قول الجمهور. فعلى هذا تكون الواو زائدة ، كقوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ) ، المعنى : ناديناه ؛ ومثله كثير.

فصل : أجمع العلماء على أنّ أربعة أخماس الغنيمة لأهل الحرب خاصّة ؛ فأمّا الخمس الخامس ، فكيف يقسم؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها : يقسم منه لله وللرّسول ولمن ذكر في الآية. وقد ذكرنا أنّ هذا ممّا انفرد به أبو العالية ، وهو يقتضي أن يقسم على ستة أسهم. والثاني : أنه مقسوم على خمسة أسهم : سهم للرّسول ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى وسهم للمساكين ، وسهم لأبناء السّبيل ، على ظاهر الآية ، وبه قال الجمهور. والثالث : أنه يقسم على أربعة أسهم. فسهم الله عزوجل وسهم رسوله عائد على ذوي القربى.

(٦٤٧) لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يأخذ منه شيئا ، وهذا المعنى رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

فصل : فأمّا سهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه كان يصنع فيه ما بيّنّا. وهل سقط بموته ، أم لا؟ فيه قولان : أحدهما : لم يسقط بموته ، وبه قال أحمد والشّافعيّ في آخرين. وفيما يصنع به قولان : أحدهما : أنه للخليفة بعده ، قاله قتادة. والثاني : أنه يصرف في المصالح ، وبه قال أحمد والشّافعيّ. والثاني : أنه يسقط بموته كما يسقط الصّفيّ ، فيرجع إلى جملة الغنيمة ، وبه قال أبو حنيفة. وأما ذوو القربى ، ففيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم جميع قريش. قال ابن عباس : كنّا نقول : نحن هم ؛ فأبى علينا قومنا ، وقالوا : قريش كلّها ذوو قربى. والثاني : بنو هاشم وبنو المطّلب ، وبه قال أحمد والشّافعيّ. والثالث : أنّهم بنو هاشم فقط ، قاله أبو حنيفة. وبما ذا يستحقّون؟ فيه قولان : أحدهما : بالقرابة وإن كانوا أغنياء ، وبه قال أحمد والشّافعيّ. والثاني : بالفقر لا بالاسم ، وبه قال أبو حنيفة. وقد سبق في البقرة (١) معنى اليتامى والمساكين وابن السّبيل. وينبغي أن تعتبر في اليتيم أربعة أوصاف : موت الأب وإن كانت الأمّ باقية. والصغر. لقوله عليه‌السلام :

(٦٤٨) «لا يتم بعد حلم» ، والإسلام لأنه مال للمسلمين. والحاجة لأنه معدّ للمصالح.

____________________________________

(٦٤٧) ضعيف. أخرجه الطبري ١٦١١٨ من حديث ابن عباس قال : كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس ، فأربعة منها لمن قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربعة : فربع لله والرسول ولذي القربى يعني قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما كان لله والرسول فهو لقرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخمس شيئا. والربع الثاني لليتامى والربع الثالث للمساكين ، والربع الرابع لابن السبيل. وفيه علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس.

(٦٤٨) حسن بشواهده. أخرجه أبو داود ٢٨٧٣ والطيالسي ١٧٦٧ والطحاوي في المشكل ١ / ٢٨٠ والبيهقي ٧ / ٣٢٠ والخطيب ٥ / ٢٩٩ من ثلاثة طرق عن علي مرفوعا وفي هذه الوجوه مقال ، لكن أخرجه الطبراني في الصغير

__________________

(١) سورة البقرة : ١٧٧.

٢١٢

قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) هو يوم بدر ، فرق فيه بين الحقّ والباطل بنصر المؤمنين. والذي أنزل عليه يومئذ قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) نزلت حين اختلفوا فيها. فالمعنى : إن كنتم آمنتم بذلك ، فاصدروا عن أمر الرّسول في هذا أيضا.

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢))

قوله تعالى : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «بالعدوة» و «العدوة» العين فيهما مكسورة. وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : بضمّ العين فيهما. قال الأخفش : لم يسمع من العرب إلّا الكسر. وقال ثعلب : بل الضمّ أكثر اللغتين. قال ابن السّكّيت : عدوة الوادي وعدوته : جانبه ؛ والجمع : عدى وعدى. والدّنيا : تأنيث الأدنى ؛ وضدّها : القصوى ؛ وهي تأنيث الأقصى ؛ وما كان من النّعوت على «فعلى» من ذوات الواو ، فإنّ العرب تحوّله إلى الياء ، نحو : الدّنيا ، من : دنوت ؛ والعليا ، من : علوت ؛ لأنهم يستثقلون الواو مع ضمّ الأوّل ، وليس في هذا اختلاف ، إلّا أنّ أهل الحجاز قالوا : القصوى ، فأظهروا الواو ، وهو نادر ؛ وغيرهم يقول : القصيا. قال المفسّرون : إذ أنتم بشفير الوادي الأدنى من المدينة ، وعدوّكم بشفيره الأقصى إلى مكّة ، وكان الجمعان قد نزلا وادي بدر على هذه الصّفة ، والرّكب : أبو سفيان وأصحابه. قال الزّجّاج : من نصب «أسفل» أراد : والرّكب مكانا أسفل منكم ، ويجوز الرّفع على معنى : والرّكب أشدّ تسفّلا منكم. قال قتادة كان المسلمون أعلى الوادي ، والمشركون أسفله.

وفي قوله : (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) قولان : أحدهما : لو تواعدتم ، ثم بلغكم كثرتهم ، لتأخّرتم عن الميعاد ، قاله ابن إسحاق. والثاني : لو تواعدتم على الاجتماع في المكان الذي اجتمعتم فيه من عدوتي وادي بدر لاختلفتم في الميعاد ، قاله أبو سليمان. وقال الماوردي : كانت تقع الزّيادة والنّقصان ، أو التّقدّم والتّأخّر من غير قصد لذلك. قوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) وهو إعزاز الإسلام وإذلال الشّرك.

قوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ). وروى خلف عن يحيى : «ليهلك» بضمّ الياء وفتح اللام. قوله تعالى : (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) قرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «من حيّ» بياء واحدة مشدّدة ، وهذه رواية حفص عن عاصم ، وقنبل عن ابن كثير. وروى شبل عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم : «حيي» بياءين الأولى مكسورة ، والثانية مفتوحة ، وهي قراءة نافع. فمن قرأ

____________________________________

من طريق آخر بأتم منه ، قال الهيثمي في المجمع ٤ / ٣٣٤ : ورجاله ثقات. وورد من حديث جابر عند عبد الرزاق ١٣٨٩٩ وإسناده ضعيف لضعف حرام بن عثمان ، لكنه شاهد لما قبله. وله شاهد آخر من حديث أنس أخرجه البزار ١٣٠٢ و ١٣٧٦ وفيه يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي ، وهو ضعيف جدا قاله الهيثمي في المجمع ٤ / ٢٢٦. وأخرجه الطبراني في الكبير ٣٥٠٢ من حديث حنظلة ، ورجاله ثقات كما في المجمع ٢٢٦٧٤.

٢١٣

بياءين ، بيّن ولم يدغم. ومن أدغم ياء «حيي» فلاجتماع حرفين من جنس واحد. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : ليقتل من قتل من المشركين عن حجّة ، ويبقى من بقي منهم عن حجّة. والثاني : ليكفر من كفر بعد حجّة ، ويؤمن من آمن عن حجّة.

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣))

قوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) فيه قولان :

(٦٤٩) أحدهما : أنّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى عسكر المشركين في المنام قبل لقائهم في قلّة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال مجاهد : لمّا أخبر أصحابه بأنه رآهم في المنام قليلا ، كان ذلك تثبيتا لهم. قال أبو سليمان الدّمشقي : والكلام متعلّق بما قبله ، فالمعنى : وإنّ الله لسميع لما يقوله أصحابك ، عليم بما يضمرونه ، إذ حدثتهم بما رأيت في منامك.

والثاني : إذ يريكهم الله بعينك التي تنام بها ، قاله الحسن (١). قال الزّجّاج : وكثير من النّحويين يذهبون إلى هذا المذهب. ومعناه عندهم : إذ يريكهم الله في موضع منامك ، أي : بعينك ؛ ثمّ حذف الموضع ، وأقام المنام مقامه.

قوله تعالى : (لَفَشِلْتُمْ) أي : لجبنتم وتأخّرتم عن حربهم. وقال مجاهد : لفشل أصحابك ، ولرأوا ذلك في وجهك. قوله تعالى : (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي : لاختلفتم في حربهم ، فكان ذلك من دواعي هزيمتكم ، (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) من المخالفة والفشل.

(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤))

قوله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) قال مقاتل : صدق الله رؤيا رسوله التي أخبر بها المؤمنين عن قلّة عدوّهم قبل لقائهم ، بأن قلّلهم وقت اللقاء في أعينهم. وقال ابن مسعود : لقد قلّوا في أعيننا ، حتى قلت لرجل إلى جانبي : أتراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة ؛ حتى أخذنا رجلا منهم ، فسألناه ، فقال : كنّا ألفا. قال أبو صالح عن ابن عباس : استقلّ المسلمون المشركين ، والمشركون المسلمين ، فاجترأ بعضهم على بعض. فإن قيل : ما فائدة تكرير الرّؤية ها هنا. وقد ذكرت في قوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ)؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنّ الأولى كانت في المنام ، والثانية في اليقظة. والثاني : أنّ الأولى للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة ، والثانية له ولأصحابه. فإن قيل : تكثير المؤمنين في أعين الكافرين

____________________________________

(٦٤٩) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس وهي رواية واهية كما تقدم مرارا.

ـ  وأخرجه الطبري ١٦١٦٥ عن مجاهد بنحوه.

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢ / ٣٩٣ : عن الحسن في قوله : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) قال : بعينك ؛ وهذا القول غريب ، وقد صرح بالمنام هاهنا ، فلا حاجة إلى التأويل الذي لا دليل عليه.

٢١٤

أولى ، لمكان إعزازهم. فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنّهم لو كثّروا في أعينهم ، لم يقدموا عليهم ، فلم يكن قتال ، والقتال سبب النّصر ، فقلّلهم لذلك. والثاني : أنه قلّلهم لئلّا يتأهّب المشركون كلّ التّأهّب ؛ فإذا تحقّق القتال ، وجدهم المسلمون غير مستعدّين ، فظفروا بهم. والثالث : أنه قلّلهم ليحمل الأعداء عليهم في كثرتهم ، فيغلبهم المسلمون ، فيكون ذلك آية للمشركين ومنبّها على نصرة الحقّ.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦))

قوله تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) الفئة : الجماعة. (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) فيه قولان : أحدهما : أنه الدّعاء والنّصر. والثاني : ذكر الله على الإطلاق.

قوله تعالى : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) قد سبق ذكر التّنازع والفشل آنفا.

قوله تعالى : (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) وروى أبان : «ويذهب» بالياء والجزم. وفيه أربعة أقوال :

أحدها : تذهب شدّتكم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال السّدّيّ : حدّتكم وجدّكم. وقال الزّجّاج : صولتكم وقوتكم. والثاني : يذهب نصركم ، قاله مجاهد ، وقتادة. والثالث : تتقطّع دولتكم ، قاله أبو عبيدة. وقال ابن قتيبة : يقال : هبّت له ريح النّصر : إذا كانت له الدّولة. ويقال : له الرّيح اليوم : أي الدّولة. والرابع : أنّها ريح حقيقة ، ولم يكن نصر قطّ إلّا بريح يبعثها الله فتضرب وجوه العدوّ ؛ ومنه قوله عليه‌السلام :

(٦٥٠) «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور» ؛ وهذا قول ابن زيد ، ومقاتل.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧))

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً).

(٦٥١) قال المفسّرون : هم أبو جهل ومن خرج معه من مكّة ، خرجوا ليدفعوا عن عيرهم التي كانت مع أبي سفيان ، ومعهم القيان والمعازف ، وهم يشربون الخمور. فلمّا رأى أبو سفيان أنه قد أحرز ما معه ، كتب إليهم : إنّي قد أحرزت أموالكم فارجعوا. فقال أبو جهل : والله لا نفعل حتى نرد بدرا فنقيم ثلاثا ، وننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمور ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابونا.

____________________________________

(٦٥٠) صحيح. أخرجه البخاري ١٠٣٥ و ٣٢٠٥ و ٣٣٤٣ و ٤١٠٥ ومسلم ٩٠٠ والطيالسي ٢٦٤١ وأحمد ١ / ٣٢٤ و ٣٤١ و ٣٥٥ و ٢٢٨ وابن حبان ٤٢١ والبيهقي ٣ / ٣٦٤ والبغوي ١١٤٤ من طرق عن شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا وأخرجه ابن أبي شيبة ١١ / ٤٣٣ و ٤٣٤ ومسلم ٩٠٠ وأحمد ١ / ٢٢٣ و ٣٧٣ وأبو يعلى ٢٥٦٣ و ٢٦٨٠ والبيهقي ٣ / ٣٦٤ والقضاعي ٥٧٢ من طرق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا.

(٦٥١) صحيح. أخرجه الطبري ١٦١٩٤ عن قتادة مرسلا بنحوه. وأخرجه أيضا الطبري ١٦١٨٧ عن ابن عباس دون ذكر الآية واللفظ المرفوع ، وورد عن عروة أخرجه الطبري ١٦١٨٦. وورد بنحوه عن ابن إسحاق أخرجه الطبري ١٦١٨٨.

٢١٥

فساروا إلى بدر ، فكانت الوقعة ؛ فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النّوائح مكان القيان. فأما البطر فهو الطّغيان في النّعم ، وترك شكرها. والرّياء : العمل من أجل رؤية الناس. وسبيل الله هاهنا : دينه.

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨))

قوله تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ).

(٦٥٢) قال عروة بن الزّبير : لما أجمعت قريش المسير إلى بدر ، ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب ، فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجيّ ، وكان من أشراف بني كنانة ، فقال لهم : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه ، فخرجوا سراعا. وفي المراد بأعمالهم ها هنا ثلاثة أقوال :

أحدها : شركهم. والثاني : مسيرهم إلى بدر. والثالث : قتالهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي : صارتا بحيث رأت إحداهما الأخرى. وفي المراد بالفئتين قولان : أحدهما : فئة المسلمين ، وفئة المشركين ، وهو قول الجمهور. والثاني : فئة المسلمين ، وفئة الملائكة ، ذكره الماوردي. قوله تعالى : (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) قال أبو عبيدة : رجع من حيث جاء. وقال ابن قتيبة : رجع القهقرى. قال ابن السّائب : كان إبليس في صفّ المشركين على صورة سراقة ، آخذا بيد الحارث بن هشام ؛ فرأى الملائكة فنكص على عقبيه ، فقال له الحارث : أفرارا من غير قتال؟ فقال : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) ، فلمّا هزم المشركون ، قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغه ذلك ، فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم. قال قتادة : صدق عدوّ الله في قوله : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) ، ذكر لنا أنه رأى جبريل ومعه الملائكة ، فعلم أنه لا يد له بالملائكة ، وكذب عدوّ الله في قوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) ، والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوّة له بهم. وقال عطاء : معناه : إنّي أخاف الله أن يهلكني. وقال ابن الأنباري : لمّا رأى نزول الملائكة ، خاف أن تكون القيامة فيكون انتهاء إنظاره فيقع به العذاب. ومعنى «نكص» رجع هاربا بخزي وذلّ. واختلفوا في قوله تعالى : (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) هل هو ابتداء كلام أو تمام الحكاية عن إبليس ، على قولين.

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩))

قوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) قال ابن عباس : هم قوم من أهل المدينة من الأوس

____________________________________

(٦٥٢) ورد من وجوه ضعيفه ، لا تقوم بها حجة. أخرجه الطبري ١٦٢٠٠ عن عروة بن الزبير مرسلا. وأخرجه الطبري ١٦١٩٨ عن ابن عباس ، وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وانظر تفسير «ابن كثير» ٢ / ٣٩٧. وانظر ما يأتي.

٢١٦

والخزرج. فأمّا الذين في قلوبهم مرض ، ففيهم ثلاثة أقوال :

(٦٥٣) أحدها : أنّهم قوم كانوا قد تكلّموا بالإسلام بمكّة فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر كرها ؛ فلمّا رأوا قلّة المسلمين وكثرة المشركين ارتابوا ونافقوا وقالوا : (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وإليه ذهب الشّعبيّ في آخرين. وعدّهم مقاتل فقال : كانوا سبعة : قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن زمعة وعليّ بن أميّة بن خلف والعاص بن منبه بن الحجّاج والوليد بن الوليد بن المغيرة والوليد بن عتبة بن ربيعة.

والثاني : أنهم المشركون ، لمّا رأوا قلّة المسلمين ، قالوا : (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن. والثالث : أنهم قوم مرتابون ، لم يظهروا عداوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكره الماوردي. والمرض ها هنا : الشّكّ ، والإشارة بقوله تعالى : «هؤلاء» إلى المسلمين ؛ وإنّما قالوا هذا ، لأنّهم رأوا قلّة المسلمين ، فلم يشكّوا في أنّ قريشا تغلبهم.

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠))

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) قرأ الجمهور «يتوفّى» بالياء. وقرأ ابن عامر «تتوفّى» بتاءين. قال المفسّرون : نزلت في الرّهط الذين قالوا : «غرّ هؤلاء دينهم». وفي المراد بالملائكة ثلاثة أقوال : أحدها : ملك الموت وحده ، قاله مقاتل. والثاني : ملائكة العذاب ، قاله أبو سليمان الدّمشقي. والثالث : الملائكة الذين قاتلوا يوم بدر ، ذكره الماوردي. وفي قوله تعالى : (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أربعة أقوال : أحدها : يضربون وجوههم ببدر لمّا قاتلوا ، وأدبارهم لمّا انهزموا. والثاني : أنّهم جاءوهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، فالذين أمامهم ضربوا وجوههم ، والذين وراءهم ضربوا أدبارهم. والثالث : يضربون وجوههم يوم القيامة إذ لقوهم ، وأدبارهم إذا ساقوهم إلى النار. والرابع : أنهم يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت بسياط من نار. وهل المراد نفس الوجوه والأدبار ، أم المراد ما أقبل من أبدانهم وأدبر؟ فيه قولان.

وفي قوله تعالى (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) قولان :

أحدهما : أنّه في الدنيا ؛ وفيه إضمار «يقولون» ، فالمعنى : يضربون ويقولون ، كقوله تعالى. (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا) (١) أي : ويقولان. قال النّابغة :

كأنّك من جمال بني أقيش

يقعقع خلف رجليه بشنّ (٢)

____________________________________

(٦٥٣) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وهي رواية واهية. وأخرجه الطبري ١٦٢٠٨ و ١٦٢٠٩ عن عامر مرسلا بنحوه. وكرره ١٦٢١٠ عن مجاهد مرسلا بنحوه. وكرره ١٦٢١١ عن الحسن مرسلا بنحوه. وانظر «تفسير ابن كثير» ٢ / ٣٩٧.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٧.

(٢) البيت منسوب للنابغة «اللسان» و «التاج» قعقع. وقعقع الشيء : صوت. ويقولون فلان يقعقع له بالشنان وهو مثل يضرب لمن يروعه ما لا حقيقة له. بنو أقيش : فخذ من أشجع الشن : الجلد البالي.

٢١٧

والمعنى : كأنّك جمل من جمال بني أقيش ، هذا قول الفرّاء وأبي عبيدة.

والثاني : أنّ الضّرب لهم في الدنيا ، فإذا وردوا يوم القيامة إلى النّار ، قال خزنتها : ذوقوا عذاب الحريق ، هذا قول مقاتل.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١))

قوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي : بما كسبتم من قبائح أعمالكم. (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) لا يظلم عباده بعقوبتهم على الكفر ، وإن كان كفرهم بقضائه ، لأنّه مالك ، فله التّصرّف في ملكه كما شاء فيستحيل نسبة الظّلم إليه.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢))

قوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي : كعادتهم : والمعنى : كذّب هؤلاء كما كذّب أولئك ، فنزل بهم العذاب كما نزل بأولئك. قال ابن عباس : أيقن آل فرعون أنّ موسى نبيّ الله وكذّبوه ، فكذلك هؤلاء في حقّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣))

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ) أي : ذلك الأخذ والعقاب بأنّ الله (لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا) بالكفران وترك الشّكر. قال مقاتل : والمراد بالقوم ها هنا أهل مكّة ، أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ثمّ بعث فيهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يعرفوا المنعم عليهم ، فغيّر الله ما بهم. وقال السّدّيّ : كذّبوا بمحمد فنقله الله إلى الأنصار. قال أبو سليمان الخطّابي : والقويّ يكون بمعنى القادر ، فمن قوي على شيء فقد قدر عليه ، وقد يكون معناه : التّامّ القوّة الذي لا يستولي عليه العجز في حال ، والمخلوق وإن وصف بالقوّة فقوّته متناهية وعن بعض الأمور قاصرة.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤))

قوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : كذّب أهل مكّة بمحمد والقرآن ، كما كذّب آل فرعون بموسى والتوراة ، وكذّب من قبلهم بأنبيائهم. قال مكّيّ بن أبي طالب : الكاف من «كدأب» في موضع نصب ، نعت لمحذوف تقديره : غيّرنا بهم لمّا غيّروا تغييرا مثل عادتنا في آل فرعون ، ومثلها الآية الأولى ، إلّا أنّ الأولى للعادة في العذاب ؛ تقديره : فعلنا بهم ذلك فعلا مثل عادتنا في آل فرعون.

قوله تعالى : (فَأَهْلَكْناهُمْ) يعني الأمم المتقدّمة ، بعضهم بالرّجفة ، وبعضهم بالرّيح ، فكذلك أهلكنا كفّار مكّة ببدر. وقال بعضهم : يعني بقوله : «فأهلكناهم» الذين أهلكوا ببدر.

٢١٨

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥))

قوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال أبو صالح عن ابن عباس : نزلت في بني قريظة من اليهود ، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه.

(الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦))

قوله تعالى : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) في «من» أربعة أقوال : أحدها : أنّها صلة ؛ والمعنى : الذين عاهدتهم. والثاني : أنّها للتّبعيض ، فالمعنى : إنّ شرّ الدّواب الكفّار. وشرّهم الذين عاهدت ونقضوا. والثالث : أنّها بمعنى «مع» ؛ والمعنى : عاهدت معهم. والرابع : أنّها دخلت ، لأنّ العهد أخذ منهم. قوله تعالى : (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) أي : كلّما عاهدتهم نقضوا.

وفي قوله تعالى : (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) قولان : أحدهما : لا يتّقون نقض العهد. والثاني : لا يتّقون الله في نقض العهد. قال المفسّرون :

(٦٥٤) كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عاهد يهود قريظة أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه ، فنقضوا العهد وأعانوا عليه مشركي مكّة بالسّلاح ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا ؛ ثمّ عاهدوه الثانية ، فنقضوا ومالؤوا الكفّار يوم الخندق ، وكتب كعب بن الأشرف إلى مكّة يوافقهم على مخالفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧))

قوله تعالى : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) قال أبو عبيدة : مجازه : فإن تثقفنّهم. فعلى قوله ، تكون «ما» زائدة. وقد سبق بيان «فإما» في (البقرة) (١). قال ابن قتيبة : فمعنى «تثقفنّهم» تظفر بهم. (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي : افعل بهم فعلا من العقوبة والتّنكيل يتفرّق به من وراءهم من أعدائك. قال : ويقال : شرّد بهم ، أي : سمّع بهم ، بلغة قريش. قال الشاعر :

أطوّف في الأباطح كلّ يوم

مخافة أن يشرّد بي حكيم (٢)

وقال ابن عباس : نكّل بهم تنكيلا يشرّد غيرهم من ناقضي العهد ، لعلّهم يذكرون النّكال فلا ينقضون العهد.

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨))

قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) قال المفسّرون : الخوف ها هنا بمعنى العلم ، والمعنى : إن علمت من قوم قد عاهدتهم خيانة ، وهي نقض عهد. وقال مجاهد : نزلت في بني قريظة.

____________________________________

(٦٥٤) لم أره بهذا اللفظ. وأخرجه الطبري ١٦٢٢٥ عن مجاهد مرسلا بنحوه.

__________________

(١) سورة البقرة : ٣٨.

(٢) البيت غير منسوب في «اللسان» شرد. وحكيم رجل من بني سليم كانت قريش ولته الأخذ على أيدي السفهاء.

٢١٩

وفي قوله تعالى : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أربعة أقوال (١) : أحدها : فألق إليهم نقضك العهد لتكون وإيّاهم في العلم بالنّقض سواء ، وهذا قول الأكثرين ، واختاره الفرّاء ، وابن قتيبة ، وأبو عبيدة. والثاني : فانبذ إليهم جهرا غير سرّ ، ذكره الفرّاء أيضا في آخرين. والثالث : فانبذ إليهم على مهل ، قاله الوليد بن مسلم. والرابع : فانبذ إليهم على عدل من غير حيف ، وأنشدوا :

فاضرب وجوه الغدر الأعداء

حتّى يجيبوك إلى السّواء (٢)

ذكره أبو سليمان الدّمشقي.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩))

قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم «ولا تحسبن» بالتاء وكسر السين ؛ إلّا أنّ عاصما فتح السين. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : بالياء وفتح السين. وفي الكافرين ها هنا قولان : أحدهما : جميع الكفّار ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنّهم الذين انهزموا يوم بدر ، ذكره محمّد بن القاسم النّحوي وغيره. و «سبقوا» بمعنى فاتوا. قال ابن الأنباري : وذلك أنهم أشفقوا من هلكة تنزل بهم في بعض الأوقات ؛ فلمّا سلموا منها ، قيل : لا تحسبنّ أنهم فاتونا بسلامتهم الآن ، فإنّهم لا يعجزونا ، أي : لا يفوتونا فيما يستقبلون من الأوقات.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) قرأ الجمهور : بكسر الألف. وقرأ ابن عامر : بفتحها ؛ وعلى قراءته اعتراض. لقائل أن يقول : إذا كان قد قرأ «يحسبن» بالياء ، وقرأ «أنهم» بالفتح ، فقد أقرّهم على أنهم لا يعجزون ؛ ومتى علموا أنهم لا يعجزون ، لم يلاموا. فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال : المعنى : «لا يحسبن الذين كفروا سبقوا» لا يحسبنّ أنهم يعجزون ؛ و «لا» زائدة مؤكّدة. وقال أبو عليّ : المعنى : لا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم سبقوا وآباءهم سبقوا ، لأنّهم لا يفوتون ، فهم يجزون على كفرهم.

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠))

__________________

(١) قال الطبري في «تفسير» ٦ / ٢٧٢ : فإن قال قائل : وكيف يجوز نقض العهد بخوف الخيانة و «الخوف» ظنّ لا يقين؟ قيل : إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبت ، وإنما معناه : إذا ظهرت أمار الخيانة من عدوك وخفت وقوعهم بك ، فألق إليهم مقاليد السلم وآذنهم بالحرب. وذلك الذي كان من بني قريظة إذ أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت إجابتهم إياه إلى ذلك ، موجبا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خوف الغدر به وبأصحابه منهم ، فكذلك حكم كل قوم أهل موادعة للمؤمنين ، ظهر لإمام المسلمين منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من قريظة منها ، فحقّ على إمام المسلمين أن ينبذ إليهم على سواء.

ويؤذنهم بالحرب.

(٢) البيت غير منسوب في «الطبري» ٦ / ٢٧٢. والغدر ، جمع غدور. وهو القادر المستمرئ للغدر.

٢٢٠