زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٢

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٥

ولفظه لفظ المستقبل ، كما قال : (أَنْ لَوْ نَشاءُ) ، والمعنى : لو شئنا. وقال ابن الأنباري : يجوز أن يكون معطوفا على : أصبنا ، إذ كان بمعنى نصيب ؛ فوضع الماضي في موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال ، كما قال : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) (١) أي : إن يشأ ، يدلّ عليه قوله : (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) ، قال الشاعر :

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا

منّي ، وما سمعوا من صالح دفنوا (٢)

أي : يدفنوا :

قوله تعالى : (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا يقبلون ، ومنه : «سمع الله لمن حمده» ، قال الشاعر :

دعوت الله حتّى خفت أن لا

يكون الله يسمع ما أقول (٣)

قوله تعالى : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) فيه خمسة أقوال (٤) : أحدها : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرّسل بما سبق في علم الله أنهم يكذّبون به يوم أقرّوا له بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم ، هذا قول أبيّ بن كعب. والثاني : فما كانوا ليؤمنوا عند إرسال الرّسل بما كذّبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من صلب آدم ، فآمنوا كرها حيث أقرّوا بالألسن ، وأضمروا التّكذيب ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ. والثالث : فما كانوا لو رددناهم إلى الدنيا بعد موتهم ليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل هلاكهم ، هذا قول مجاهد. والرابع : فما كانوا ليؤمنوا بما كذّب به أوائلهم من الأمم الخالية ، بل شاركوهم في التّكذيب ، قاله يمان بن رباب. والخامس : فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذّبوا قبل رؤيتها.

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢))

قوله تعالى : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ) قال مجاهد : يعني : القرون الماضية. (مِنْ عَهْدٍ) قال أبو عبيدة : أي : وفاء. قال ابن عباس : يريد الوفاء بالعهد الذي عاهدهم حين أخرجهم من صلب آدم. وقال الحسن : العهد ها هنا : ما عهده إليهم مع الأنبياء أن لا يشركوا به شيئا.

__________________

(١) سورة الفرقان : ١٠.

(٢) البيت منسوب لقعنب بن أم صاحب وهو في «الحماسة» ٤ / ١٢.

(٣) البيت غير منسوب في «اللسان» : سمع.

(٤) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ١٣ : وأشبه هذه الأقوال بتأويل الآية وأولاها بالصواب ، القول الذي ذكر عن أبي ابن كعب والربيع وذلك أن من سبق علم الله تبارك وتعالى أنه لا يؤمن به ، فلن يؤمن أبدا وقد كان سبق في علم الله تبارك وتعالى لمن هلك من الأمم التي قص نبأهم في هذه السورة ، أنه لا يؤمن أبدا ، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذبون في سابق علمه. قبل مجيء الرسل عند مجيئهم إليهم. ولو قيل : تأويله : فما كان هؤلاء الذين ورثوا الأرض ، يا محمد ، من مشركي قومك من بعد أهلها الذين كانوا بها من عاد وثمود ، ليؤمنوا بما كذب به الذين ورثوا عنهم من توحيد الله ووعده ووعيده ، كان وجها ومذهبا غير أني لا أعلم قائلا قاله ممن يعتمد على علمه بتأويل القرآن. وأما الذي قاله مجاهد من أن معناه : لو ردوا ما كانوا ليؤمنوا ، فتأويل لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل ، ولا من خبر عن الرسول صحيح ، وإذا كان ذلك كذلك فأولى منه بالصواب ما كان عليه التنزيل دليل. اه.

١٤١

قوله تعالى : (وَإِنْ وَجَدْنا) قال أبو عبيدة : وما وجدنا أكثرهم إلّا الفاسقين.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧))

قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني : الأنبياء المذكورين.

قوله تعالى : (فَظَلَمُوا بِها) قال ابن عباس : فكذّبوا بها. وقال غيره : فجحدوا بها.

قوله تعالى : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) «على» بمعنى الباء. قال الفرّاء : العرب تجعل الباء في موضع «على» ؛ تقول : رميت بالقوس ، وعلى القوس ، وجئت بحال حسنة ، وعلى حال حسنة. وقال أبو عبيدة : «حقيق» بمعنى : حريص. وقرأ نافع ، وأبان عن عاصم : «حقيق عليّ» بتشديد الياء وفتحها ، على الإضافة. والمعنى : واجب عليّ.

قوله تعالى : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ) قال ابن عباس : يعنى : العصا. (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : أطلق عنهم ؛ وكان قد استخدمهم في الأعمال الشّاقّة. (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) قال أبو عبيدة : أي : حيّة ظاهرة. قال الفرّاء : الثعبان : أعظم الحيّات ، وهو الذّكر. وكذلك روى الضّحّاك عن ابن عباس : الثّعبان : الحيّة الذّكر.

(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢))

قوله تعالى : (وَنَزَعَ يَدَهُ) قال ابن عباس : أدخل يده في جيبه ، ثم أخرجها ، فإذا هي تبرق مثل البرق ، لها شعاع غلب نور الشّمس ، فخرّوا على وجوههم ؛ ثم أدخلها جيبه فصارت كما كانت. قال مجاهد : بيضاء من غير برص.

قوله تعالى : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) قال ابن عباس : ما الذي تشيرون به عليّ؟ وهذا يدلّ على أنه من قول فرعون ، وأنّ كلام الملأ انقطع عند قوله : (مِنْ أَرْضِكُمْ). قال الزّجّاج : يجوز أن يكون من قول الملأ ، كأنّهم خاطبوا فرعون ومن يخصّه ، أو خاطبوه وحده ؛ لأنه قد يقال للرّئيس المطاع : ما ذا ترون؟

١٤٢

قوله تعالى : (أَرْجِهْ) قرأ ابن كثير «أرجئهو» مهموز بواو بعد الهاء في اللفظ. وقرأ ابن عمرو مثله ، غير أنه يضمّ الهاء ضمّة ، من غير أن يبلغ بها الواو ؛ وكانا يهمزان : «مرجئون» و «ترجئ» وقرأ قالون والمسيّبي عن نافع «أرجه» بكسر الهاء ، ولا يبلغ بها الياء ، ولا يهمز. وروى عنه ورش : «أرجهي» يصلها بياء ، ولا يهمز بين الجيم والهاء. وكذلك قال إسماعيل بن جعفر عن نافع ، وهي قراءة الكسائيّ. وقرأ حمزة : «أرجه» ساكنة الهاء غير مهموز ، وكذلك قرأ عاصم في غير رواية المفضّل ، وقد روى عنه المفضّل كسر الهاء من غير إشباع ولا همز ، وهي قراءة أبي جعفر ، وكذلك اختلافهم في سورة (الشّعراء) (١). قال ابن قتيبة : أرجه : أخّره ؛ وقد يهمز ، يقال : أرجأت الشيء ، وأرجيته. ومنه قوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) (٢). قال الفرّاء : بنو أسد تقول : أرجيت الأمر ، بغير همز ، وكذلك عامّة قيس ؛ وبعض بني تميم يقولون : أرجأت الأمر ، بالهمز ، والقرّاء مولعون بهمزها ، وترك الهمز أجود.

قوله تعالى : (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ) يعني مدائن مصر ، (حاشِرِينَ) أي : من يحشر السّحرة إليك ويجمعهم. وقال ابن عباس : هم الشّرط. قوله تعالى : (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ) قرأ ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «ساحر» ؛ وفي (يونس) : (بِكُلِّ سَحَّارٍ) (٣) ؛ وقرأ حمزة ؛ والكسائيّ : «سحّار» في الموضعين ؛ ولا خلاف في (الشّعراء) أنّها : (سَحَّارٍ) (٤).

قوله تعالى : (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وحفص عن عاصم (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) مكسورة الألف على الخبر ، وفي (الشّعراء) : «آينّ» ممدودة مفتوحة الألف ، غير أنّ حفصا روى عن عاصم في (الشّعراء) : «أإن» (٥) بهمزتين. وقرأ أبو عمرو : «آين لنا» ممدودة في السّورتين. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : بهمزتين في الموضعين. قال أبو عليّ : الاستفهام أشبه بهذا الموضع ، لأنّهم لم يقطعوا على أنّ لهم الأجر ، وإنّما استفهموا عنه.

قوله تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي : ولكم مع الأجر المنزلة الرّفيعة عندي.

قوله تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) قال أبو عبيدة : عشّوا أعين الناس وأخذوها. (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أي : خوّفوهم. وقال الزّجّاج : استدعوا رهبتهم حتى رهبهم الناس.

قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) وقرأ كعاصم : (تَلْقَفُ) ساكنة اللام ، خفيفة القاف هاهنا وفي (طه) ، و (الشّعراء). وروى البزّيّ. وابن فليح عن ابن كثير : «تلقّف» بتشديد التاء. قال الفرّاء : يقال : لقفت الشيء ، فأنا ألقفه لقفا ولقفانا ؛ والمعنى : تبتلع.

قوله تعالى : (ما يَأْفِكُونَ) أي : يكذبون ، لأنّهم زعموا أنّها حيّات.

قوله تعالى : (فَوَقَعَ الْحَقُ) قال ابن عباس : استبان. (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من السّحر.

الإشارة إلى قصّتهم

اختلفوا في عدد السّحرة على ثلاثة عشر قولا. أحدها : اثنان وسبعون ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : اثنان وسبعون ألفا ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال مقاتل. والثالث : سبعون ،

__________________

(١) سورة الشعراء : ٣٦.

(٢) سورة الأحزاب : ٥١.

(٣) سورة يونس : ٧٩.

(٤) سورة الشعراء : ٣٧.

(٥) سورة الشعراء : ٤١.

١٤٣

روي عن ابن عباس أيضا. والرابع : اثنا عشر ألفا ، قاله كعب. والخامس : سبعون ألفا ، قاله عطاء ، وكذلك قال وهب في رواية ، إلّا أنه قال : فاختار منهم سبعة آلاف. والسادس : سبعمائة. وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب أنه قال : كان عدد السّحرة الذين عارضوا موسى سبعين ألفا متخيّرين من سبعمائة ألف ، ثم إنّ فرعون اختار من السّبعين الألف سبعمائة. والسابع : خمسة وعشرون ألفا ، قاله الحسن. والثامن : تسعمائة ، قاله عكرمة. والتاسع : ثمانون ألفا ، قاله محمّد بن المنكدر. والعاشر : بضعة وثلاثون ألفا ، قاله السّدّيّ. والحادي عشر : خمسة عشر ألفا ، قاله ابن إسحاق. والثاني عشر : تسعة عشر ألفا ، رواه أبو سليمان الدّمشقي. والثالث عشر : أربع مائة ، حكاه الثّعلبيّ. فأمّا أسماء رؤسائهم ، فقال ابن إسحاق : رؤوس السّحرة ساتور ، وعاذور ، وحطحط ، ومصفّى ، وهم الذين آمنوا ، كذا حكاه ابن ماكولا. ورأيت عن غير ابن إسحاق : سابورا ، وعازورا. وقال مقاتل : اسم أكبرهم. شمعون. قال ابن عباس : ألقوا حبالا غلاظا ، وخشبا طوالا ، فكانت ميلا في ميل ، فألقى موسى عصاه ، فإذا هي أعظم من حبالهم وعصيّهم ، قد سدّت الأفق ، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا ، فابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيّهم ، وجعلت تأكل جميع ما قدرت عليه من صخرة أو شجرة ، والناس ينظرون ، وفرعون يضحك تجلّدا ، فأقبلت الحيّة نحو فرعون ، فصاح : يا موسى ، يا موسى ؛ فأخذها موسى ، وعرفت السّحرة أنّ هذا من السماء ، وليس هذا بسحر ، فخرّوا سجّدا ، وقالوا آمنّا بربّ العالمين ، فقال فرعون : إيّاي تعنون؟ فقالوا : ربّ موسى وهارون ، فأصبحوا سحرة ، وأمسوا شهداء. وقال وهب بن منبّه. لمّا صارت ثعبانا حملت على الناس فانهزموا منها ، فقتل بعضهم بعضا ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا. وقال السّدّيّ : لقي موسى أمير السّحرة ، فقال : أرأيت إن غلبتك غدا ، أتؤمن بي؟ فقال السّاحر : لآتينّ غدا بسحر لا يغلبه السّحر ، فو الله لئن غلبتني لأومنّن بك.

فإن قيل : كيف جاز أن يأمرهم موسى بالإلقاء ، وفعل السّحر كفر؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنّ مضمون أمره : إن كنتم محقّين فألقوا. والثاني : ألقوا على ما يصحّ ، لا على ما يفسد ويستحيل ، ذكرهما الماوردي. والثالث : إنّما أمرهم بالإلقاء لتكون معجزته أظهر ، لأنّهم إذا ألقوا ، ألقى عصاه فابتلعت ذلك ، ذكره الواحديّ.

فإن قيل : كيف قال : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) ، وإنّما سجدوا باختيارهم؟ فالجواب : أنه لمّا زالت كلّ شبهة بما أظهر الله تعالى من أمره ، اضطرّهم عظيم ما عاينوا إلى مبادرة السّجود ، فصاروا مفعولين في الإلقاء تصحيحا وتعظيما لشأن ما رأوا من الآيات ، ذكره ابن الأنباري. قال ابن عباس : لما آمنت السّحرة ، اتّبع موسى ستّمائة ألف من بني إسرائيل.

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥))

قوله تعالى : (آمَنْتُمْ بِهِ) قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو عمرو : «أآمنتم به» بهمزة ومدّة على الاستفهام. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «أآمنتم به» فاستفهموا بهمزتين ، الثانية ممدودة. وقرأ حفص عن عاصم : «آمنتم به» على الخبر. وروى ابن الإخريط عن ابن كثير : «قال

١٤٤

فرعون وامنتم به» فقلب همزة الاستفهام واوا ، وجعل الثانية مليّنة بين بين. وروى قنبل عن القوّاس مثل رواية ابن الإخريط ، غير أنّه كان يهمز بعد الواو. وقال أبو عليّ : همز بعد الواو ، لأنّ هذه الواو منقلبة عن همزة الاستفهام ، وبعد همزة الاستفهام همزة «أفعلتم» فحقّقها ولم يخفّفها.

قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ) قال ابن السّائب : لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة ما صنعتم ، (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) وهو قطع اليد اليمنى ، والرّجل اليسرى. قال ابن عباس : أوّل من فعل ذلك ، وأوّل من صلب ، فرعون.

(وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨))

قوله تعالى : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا) أي : وما تكره منّا شيئا ، ولا تطعن علينا إلّا لأنّا آمنّا. (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) قال مجاهد : على القطع والصّلب حتى لا نرجع كفارا (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) أي : مخلصين على دين موسى.

قوله تعالى : (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ) هذا إغراء من الملإ لفرعون. وفيما أرادوا بالفساد في الأرض قولان : أحدهما : قتل أبناء القبط ، واستحياء نسائهم ، كما فعلوا ببني إسرائيل ، قاله مقاتل. والثاني : دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون وترك عبادته. قوله تعالى : (وَيَذَرَكَ) جمهور القرّاء على نصب الراء ؛ وقرأ الحسن برفعها. قال الزّجّاج : من نصب «ويذرك» نصبه على جواب الاستفهام بالواو ؛ والمعنى : أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك؟ ومن رفعه جعله مستأنفا ، فيكون المعنى : أتذر موسى وقومه ، وهو يذرك وآلهتك ، والأجود أن يكون معطوفا على «أتذر» فيكون المعنى : أتذر موسى ، وأ يذرك موسى؟ أي : أتطلق له هذا؟ قوله تعالى : (وَآلِهَتَكَ) قال ابن عباس : كان فرعون قد صنع لقومه أصناما صغارا ، وأمرهم بعبادتها ، وقال أنا ربّكم وربّ هذه الأصنام ، فذلك قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى). وقال غيره : كان قومه يتعبّدون تلك الأصنام تقرّبا إليه. وقال الحسن : كان يعبد تيسا في السّرّ. وقيل : كان يعبد البقر سرّا. وقيل : كان يجعل في عنقه شيئا يعبده. وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وابن محيصن : «وإلاهتك» بكسر الهمزة وقصرها وفتح اللام وبألف بعدها. قال الزّجّاج : المعنى : ويذرك وربوبيّتك وقال ابن الأنباري : قال اللغويون : الإلاهة : العبادة ؛ فالمعنى : ويذرك وعبادة الناس إيّاك. قال ابن قتيبة : من قرأ : «وإلاهتك» أراد : ويذرك والشمس التي تعبد ، وقد كان في العرب قوم يعبدون الشمس ويسمّونها إلهة. قال الأعشى :

فما أذكر الرّهب حتّى انقلبت

قبيل الإلهة منها قريبا

يعني الشمس ، والرّهب : ناقته. يقول : اشتغلت بهذه المرأة عن ناقتي إلى هذا الوقت.

قوله تعالى : (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) قرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «سنقتل»

١٤٥

و «يقتلون أبناءكم» بالتشديد ، وخفّفهما نافع. وقرأ ابن كثير : «سنقتل» خفيفة ، و «يقتّلون» مشددة ، وإنّما عدل عن قتل موسى إلى قتل الأبناء لعلمه أنه لا يقدر عليه. (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) أي : عالون بالملك والسّلطان. فشكا بنو إسرائيل إعادة القتل على أبنائهم ، فقال موسى : (اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) على ما يفعل بكم (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). وقرأ الحسن ، وهبيرة عن حفص عن عاصم : «يورثها» بالتّشديد. فأطمعهم موسى أن يعطيهم الله أرض فرعون وقومه بعد إهلاكهم.

قوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) فيها قولان : أحدهما : الجنّة. والثاني : النّصر والظّفر.

(قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠))

قوله تعالى : (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) في هذا الأذى ستة أقوال :

أحدها : أنّ الأذى الأوّل والثاني أخذ الجزية ، قاله الحسن. والثاني : أنّ الأوّل ذبح الأبناء ، والثاني إدراك فرعون يوم طلبهم ، قاله السّدّيّ. والثالث : أنّ الأوّل أنهم كانوا يسخّرون في الأعمال إلى نصف النّهار ، ويرسلون في بقيّته يكتسبون. والثاني تسخيرهم جميع النهار بلا طعام ولا شراب ، قاله جويبر. والرابع : أنّ الأول تسخيرهم في ضرب اللّبن ، وكانوا يعطونهم التّبن الذي يخلط به الطّين ؛ والثاني أنهم كلفوا ضرب اللّبن وجعل التّبن عليهم ، قاله ابن السّائب. والخامس : أنّ الأوّل قتل الأبناء ، واستحياء البنات ، والثاني تكليف فرعون إيّاهم ما لا يطيقون ، قاله مقاتل. والسادس : أنّ الأول استخدامهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم ، والثاني إعادة ذلك العذاب.

وفي قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) قولان : أحدهما : تأتينا بالرّسالة ومن بعد جئتنا بها قاله ابن عباس. والثاني : تأتينا بعهد الله أنه سيخلصنا ومن بعد ما جئتنا به ، ذكره الماوردي.

قوله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) قال الزّجّاج : عسى : طمع وإشفاق ، إلّا أنّ ما يطمع الله فيه فهو واجب.

قوله تعالى : (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) في هذا الاستخلاف قولان : أحدهما : أنه استخلاف من فرعون وقومه. والثاني : استخلاف عن الله تعالى ، لأنّ المؤمنين خلفاء الله في أرضه ، وفي الأرض قولان : أحدهما : أرض مصر ، قاله ابن عباس. والثاني : أرض الشّام ، ذكره الماوردي.

قوله تعالى : (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) قال الزّجّاج : أي : يراه بوقوعه منكم ، لأنه إنّما يجازيهم على ما وقع منهم ، لا على ما علم أنه سيقع منهم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) قال أبو عبيدة : مجازه : ابتليناهم بالجدوب. وآل فرعون : أهل دينه وقومه. وقال مقاتل : هم أهل مصر. قال الفرّاء : «بالسنين» أي : بالقحط والجدوب عاما بعد عام. وقال الزّجّاج : السّنون في كلام العرب : الجدوب ، يقال : مسّتهم السّنة ، ومعناه : جدب السّنة ، وشدّة السّنة. وإنما أخذهم بالضّرّاء ، لأنّ أحوال الشّدة ترقّ القلوب ، وترغّب فيما عند الله وفي الرّجوع إليه. قال قتادة : أما السّنون ، فكانت في بواديهم ومواشيهم ، وأما نقص الثّمرات ، فكان في

١٤٦

أمصارهم وقراهم. وروى الضّحّاك عن ابن عباس قال : يبّس لهم كلّ شيء ، وذهبت مواشيهم ، حتى يبس نيل مصر ، فاجتمعوا إلى فرعون فقالوا له : إن كنت ربّا كما تزعم ، فاملأ لنا نيل مصر ، فقال غدوة يصبّحكم الماء ، فلما خرجوا من عنده ، قال : أيّ شيء صنعت؟ أنا أقدر أن أجيء بالماء في نيل مصر؟ غدوة أصبح ، فيكذّبوني. فلما كان جوف الليل ، اغتسل ، ثم لبس مدرعة من صوف ، ثم خرج حافيا حتى أتى بطن نيل مصر فقام في بطنه ، فقال : اللهمّ إنّك تعلم أني أعلم أنّك تقدر أن تملأ نيل مصر ماء ، فاملأه ، فما علم إلّا بخرير الماء لما أراد الله به من الهلكة. قلت : وهذا الحديث بعيد الصّحة ؛ لأنّ الرجل كان دهريّا لا يثبت إلها. ولو صحّ ، كان إقراره بذلك كإقرار إبليس ، وتبقى مخالفته عنادا.

(فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١))

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) وهي الغيث والخصب وسعة الرّزق والسّلامة (قالُوا لَنا هذِهِ) أي : نحن مستحقّوها على ما جرى لنا من العادة في سعة الرّزق ، ولم يعلموا أنّه من الله فيشكروا عليه. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) وهي القحط والجدب والبلاء (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) أي : يتشاءموا بهم. وكانت العرب تزجر الطّير ، فتتشاءم بالبارح ، وهو الذي يأتي من جهة الشّمال ، وتتبرّك بالسّانح ، وهو الذي يأتي من جهة اليمين. قوله تعالى : (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) قال أبو عبيدة : «ألا» تنبيه وتوكيد ومجاز. «طائرهم» حظّهم ونصيبهم ، وقال ابن عباس «ألا إنّما طائرهم عند الله» أي : إنّ الذي أصابهم من الله. وقال الزّجّاج : المعنى : ألا إنّ الشّؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في الآخرة ، لا ما ينالهم في الدّنيا.

(وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣))

قوله تعالى : (وَقالُوا مَهْما) قال الزّجّاج : زعم النّحويون أنّ أصل «مهما» ماما ، ولكن أبدل من الألف الأولى الهاء ليختلف اللفظ ؛ ف «ما» الأولى هي «ما» الجزاء ، و «ما» الثانية هي التي تزاد تأكيدا للجزاء ، ودليل النّحويين على ذلك أنه ليس شيء من حروف الجزاء إلّا و «ما» تزاد فيه ، قال الله عزوجل (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) (١) كقولك : إن تثقفنّهم ، وقال : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) (٢) ، وتكون «ما» الثانية للشّرط والجزاء ، والتفسير الأول هو الكلام ، وعليه استعمال الناس. قال ابن الأنباري : فعلى قول من قال : إنّ معنى «مه» الكفّ ، يحسن الوقف على «مه» ، والاختيار عندي أن لا يوقف على «مه» دون «ما» لأنّهما في المصحف حرف واحد. وفي الطّوفان ثلاثة أقوال (٣) :

__________________

(١) سورة الأنفال : ٥٧.

(٢) سورة الإسراء : ٢٨.

(٣) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ٣٣ : والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه أبو ظبيان. أنه أمر من الله طاف بهم ، وأنه مصدر من قول القائل : «طاف بهم أمر الله يطوف طوفانا». كما يقال : «نقص هذا الشيء ينقص نقصانا». وإذا كان ذلك كذلك جاز أن يكون الذي طاف بهم المطر الشديد ، وجاز أن يكون الموت الذريع.

١٤٧

أحدها : أنّه الماء. قال ابن عباس : أرسل عليهم مطر دائم الليل والنهار ثمانية أيام ، وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير وقتادة والضّحاك وأبو مالك ومقاتل واختاره الفرّاء وابن قتيبة.

(٥٨٨) والثاني : أنه الموت ، روته عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبه قال مجاهد ، وعطاء ، ووهب بن منبّه ، وابن كثير.

والثالث : أنه الطّاعون ، نقل عن مجاهد ، ووهب ؛ أيضا.

وفي القمّل سبعة أقوال : أحدها : أنه السّوس الذي يقع في الحنطة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقال به. والثاني : أنه الدّبى ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعطاء. وقال قتادة : القمّل : أولاد الجراد. وقال ابن فارس : الدّبى : الجراد إذا تحرّك قبل أن تنبت أجنحته. والثالث : أنه دوابّ سود صغار ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير. وقيل : هذه الدّواب هي السّوس. والرابع : أنه الجعلان ، قاله حبيب بن ثابت. والخامس : أنه القمل ، ذكره عطاء الخراسانيّ ، وزيد بن أسلم. والسادس : أنه البراغيث ، حكاه ابن زيد. والسابع : أنه الحمنان ، واحدتها : حمنانة ، وهي ضرب من القردان ، قاله أبو عبيدة. وقرأ الحسن ، وعكرمة ، وابن يعمر : «القمل» برفع القاف وسكون الميم. وفي الدّم قولان : أحدهما : أنّ ماءهم صار دما ، قاله الجمهور. والثاني : أنه رعاف أصابهم ، قاله زيد بن أسلم.

الإشارة إلى شرح القصة

قال ابن عباس : جاءهم الطّوفان ، فكان الرجل لا يقدر أن يخرج إلى ضيعته ، حتى خافوا الغرق ، فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشفه عنّا ، ونؤمن بك ، ونرسل معك بني إسرائيل ؛ فدعا لهم ، فكشفه الله عنهم ، وأنبت لهم شيئا لم ينبته قبل ذلك ، فقالوا : هذا ما كنّا نتمنّى ، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل ما أنبتت الأرض ، فقالوا : ادع لنا ربّك ، فدعا ، فكشف الله عنهم ، فأحرزوا زروعهم في البيوت ، فأرسل الله عليهم القمّل ، فكان الرجل يخرج بطحين عشرة أجربة إلى الرّحى ، فلا يرى منها ثلاثة أقفزة ، فسألوه ، فدعا لهم ، فلم يؤمنوا ، فأرسل الله عليهم الضّفادع ، ولم يكن شيء أشدّ منها ، كانت تجيء إلى القدور وهي تغلي وتفور ، فتلقي أنفسها فيها ، فتفسد طعامهم وتطفئ نيرانهم ، وكانت الضّفادع برّية ، فأورثها الله عزوجل برد الماء والثّرى إلى يوم القيامة ، فسألوه ، فدعا لهم ، فلم يؤمنوا ، فأرسل الله عليهم الدّم ، فجرت أنهارهم وقلبهم دما ، فلم يقدروا على الماء العذب ، وبنو إسرائيل في الماء العذب ، فإذا دخل الرّجل منهم يستقي من أنهار بني إسرائيل صار ما دخل فيه دما ، والماء من بين يديه ومن خلفه صاف عذب لا يقدر عليه ، فقال فرعون : أقسم بإلهي يا موسى لئن كشفت عنا الرّجز

____________________________________

(٥٨٨) ضعيف جدا ، أخرجه الطبري ١٥٠٠٥ ، وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير». ٢ / ٣٠٣ من طريق يحيى بن يمان عن منهال بن خليفة عن حجاج بن أرطأة عن الحكم بن ميناء عن عائشة مرفوعا به. وإسناده ضعيف جدا ، فهو مسلسل بالضعفاء ، يحيى ، ومنهال ، وحجاج ثلاثتهم ضعفاء. أخرجه الطبري ١٥٠٠٩ من طريق ابن يمان عن المنهال عن حجاج عن رجل عن عائشة وهو كسابقه بل فيه أيضا راو لم يسمّ.

والصحيح كونه من قول مجاهد ، وكذا أخرجه الطبري عنه من طرق ١٥٠٠٧ و ١٥٠٠٨ واستغربه ابن كثير ٢ / ٣٠٣ وهو شبه موضوع.

١٤٨

لنؤمننّ بك ، ولنرسلنّ معك بني إسرائيل ، فدعا موسى ، فذهب الدّم وعذب ماؤهم ، فقالوا : والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل.

قوله تعالى : (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) قال ابن قتيبة : بين الآية والآية فصل. قال المفسّرون : كانت الآية تمكث من السّبت إلى السّبت ، ثم يبقون عقيب رفعها شهرا في عافية ، ثمّ تأتي الآية الأخرى. وقال وهب بن منبّه : بين كلّ آيتين أربعون يوما. وروى عكرمة عن ابن عباس قال : مكث موسى في آل فرعون بعد ما غلب السّحرة عشرين سنة يريهم الآيات ، الجراد والقمّل والضّفادع والدّم.

وفي قوله تعالى : «فاستكبروا» قولان : أحدهما : عن الإيمان. والثاني : عن الانزجار.

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦))

قوله تعالى : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) أي : نزل بهم العذاب. وفي هذا العذاب قولان (١) :

أحدهما : أنه طاعون أهلك منهم سبعين ألفا ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير.

والثاني : أنه العذاب الذي سلّطه الله عليهم من الجراد والقمّل وغير ذلك ، قاله ابن زيد.

قال الزّجّاج : «الرّجز» : العذاب ، أو العمل الذي يؤدّي إلى العذاب. ومعنى الرّجز في العذاب : أنه المقلقل لشدّته قلقلة شديدة متتابعة. وأصل الرّجز في اللغة : تتابع الحركات ، فمن ذلك قولهم : ناقة رجزاء ، إذا كانت ترتعد قوائمها عند قيامها. ومنه رجز الشّعر ، لأنه أقصر أبيات الشعر ، والانتقال من بيت إلى بيت ، سريع ، نحو قوله :

يا ليتني فيها جذع

أخبّ فيها وأضع

وزعم الخليل أنّ الرّجز ليس بشعر ، وإنّما هو أنصاف أبيات وأثلاث.

قوله تعالى : (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أنّ معناه : بما أوصاك أن تدعوه به. والثاني : بما تقدّم به إليك أن تدعوه فيجيبك. والثالث : بما عهد عندك في كشف العذاب عمّن آمن. والرابع : أنّ ذلك منهم على معنى القسم ، كأنهم أقسموا عليه بما عهد عنده أن يدعو لهم.

قوله تعالى : (إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) أي : إلى وقت غرقهم. (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي : ينقضون العهد. قوله تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) قال أبو سليمان الدّمشقي : انتصرنا منهم بإحلال نقمتنا بهم ، وتلك

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ٤٢ : وأولى القولين بالصواب في هذا الموضع أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن فرعون وقومه أنهم لما وقع عليهم الرجز ، وهو العذاب والسخط من الله عليهم ، فزعوا إلى موسى بمسألته ربه كشف ذلك عنهم وجائز أن يكون ذلك (الرِّجْزُ) كان الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، لأن كل ذلك كان عذابا عليهم وجائز أن يكون ذلك (الرِّجْزُ) كان طاعونا ، ولم يخبرنا الله أي ذلك كان ، ولا صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأي ذلك كان خبر ، فنسلم له. فالصواب أن نقول فيه كما قال جل ثناؤه (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) ، ولا نتعداه إلا بالبيان الذي لا تمانع فيه بين أهل التأويل ، وهو : لما حل بهم عذاب الله وسخطه.

١٤٩

النّقمة تغريقنا إيّاهم في اليمّ. قال ابن قتيبة : اليمّ : البحر بالسّريانيّة. قوله تعالى : (وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) فيه قولان : أحدهما : عن الآيات ، وغفلتهم : تركهم الاعتبار بها. والثاني : عن النّقمة.

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨))

قوله تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ) يعني بني إسرائيل. (الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) أي : يستذلّون بذبح الأبناء ، واستخدام النساء ، وتسخير الرجال. (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : مشارق الشّام ومغاربها ، قاله الحسن. والثاني : مشارق أرض الشّام ومصر. والثالث : أنه على إطلاق في شرق الأرض وغربها.

قوله تعالى : (الَّتِي بارَكْنا فِيها) قال ابن عباس : بالماء والشّجر.

قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) وهي وعد الله لبني إسرائيل بإهلاك عدوّهم ؛ واستخلافهم في الأرض ، وذلك في قوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) (١) ، وقد بيّنا علّة تسمية ذلك كلّه في (آل عمران). وقوله تعالى : (بِما صَبَرُوا) فيه قولان : أحدهما : على طاعة الله تعالى. والثاني : على أذى فرعون.

قوله تعالى : (وَدَمَّرْنا) أي : أهلكنا (ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) من العمارات والمزارع ، والدّمار : الهلاك. (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) أي : يبنون. قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «يعرشون» بكسر الراء ها هنا وفي (النّحل). وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : بضمّ الراء فيهما. وقرأ ابن أبي عبلة : «يعرشون» بالتشديد ، قال الزّجّاج : يقال : عرش يعرش ويعرش : إذا بنى.

قوله تعالى : (يَعْكُفُونَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، : «يعكفون» بضمّ الكاف. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، والمفضّل : بكسر الكاف. وقرأ ابن أبي عبلة : بضمّ الياء وتشديد الكاف. قال الزّجّاج : ومعنى (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) : يواظبون عليها ويلازمونها ، يقال لكلّ من لزم شيئا وواظب عليه : عكف يعكف ويعكف. قال قتادة : كان أولئك القوم نزولا بالرّقّة ، وكانوا من لخم. وقال غيره : كانت أصنامهم تماثيل البقر. وهذا إخبار عن عظيم جهلهم حيث توهموا جواز عبادة غير الله بعد ما رأوا الآيات.

(إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩))

قوله تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) قال ابن قتيبة : مهلك. والتّبار : الهلاك.

__________________

(١) سورة القصص : ٥.

١٥٠

(قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠))

قوله تعالى : (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) أي : أطلب لكم ، وهذا استفهام إنكار. قال المفسّرون ، منهم ابن عباس ، ومجاهد : والعالمون ها هنا : عالمو زمانهم.

(وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١))

قوله تعالى : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ) قرأ ابن عامر : «وإذ أنجاكم» على لفظ الغائب المفرد.

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢))

قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) المعنى : وعدناه انقضاء ثلاثين ليلة. قال ابن عباس : قال موسى لقومه : إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة ، فلما فصل إلى ربّه زاده عشرا ، فكانت فتنتهم في ذلك العشر. فإن قيل : لم زيد هذا العشر؟ فالجواب : أنّ ابن عباس قال : صام تلك الثلاثين ليلهنّ ونهارهنّ ، فلما انسلخ الشهر ، كره أن يكلّم ربّه وريح فمه ريح فم الصّائم ، فتناول شيئا من نبات الأرض فمضغه ، فأوحى الله تعالى إليه : لا كلّمتك حتى يعود فوك على ما كان عليه ، أما علمت أنّ رائحة فم الصّائم أحبّ إليّ من ريح المسك؟ وأمره بصيام عشرة أيام. وقال أبو العالية : مكث موسى على الطّور أربعين ليلة ، فبلغنا أنه لم يحدث حتى هبط منه.

فإن قيل : ما معنى (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) وقد علم ذلك عند انضمام العشر إلى الثلاثين. فالجواب من وجوه : أحدها : أنه للتّأكيد. والثاني : ليدلّ أنّ العشر ، ليال لا ساعات. والثالث : لينفي تمام الثلاثين بالعشر أن تكون من جملة الثلاثين ، لأنّه يجوز أن يسبق إلى الوهم أنها كانت عشرين ليلة فأتمّت بعشر. وقد بيّنّا في سورة (البقرة) لما ذا كان هذا الوعد.

قوله تعالى : (وَأَصْلِحْ) قال ابن عباس : مرهم بالإصلاح. وقال مقاتل : ارفق.

(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤))

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) قال الزّجّاج ، أي : للوقت الذي وقّتنا له. (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) أسمعه كلامه ، ولم يكن بينه وبين الله عزوجل فيما سمع أحد. (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أي : أرني نفسك. قوله تعالى : (قالَ لَنْ تَرانِي) تعلّق بهذا نفاة الرّؤية وقالوا : «لن» لنفي الأبد (١) ، وذلك غلط ،

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٢ / ٣٠٨ : وقد أشكل حرف «لن» هاهنا على كثير من العلماء لأنها

١٥١

لأنها قد وردت وليس المراد بها الأبد في قوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) (١) ثم أخبر عنهم بتمنيه في النار بقوله تعالى : (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) (٢) ، ولأنّ ابن عباس قال في تفسيرها : لن تراني في الدنيا. وقال غيره : هذا جواب لقول موسى : «أرني» ، ولم يرد : أرني في الآخرة ، وإنّما أراد في الدنيا ، فأجيب عمّا سأل. وقال بعضهم : لن تراني بسؤالك. وفي هذه الآية دلالة على جواز الرّؤية ، لأنّ موسى مع علمه بالله تعالى ، سألها ، ولو كانت مما يستحيل لما جاز لموسى أن يسألها ، ولا يجوز أن يجهل موسى مثل ذلك ، لأنّ معرفة الأنبياء لله ليس فيها نقص ، ولأنّ الله تعالى لم ينكر عليه المسألة وإنما منعه من الرّؤية ، ولو استحالت عليه لقال : «لا أرى» ؛ ألا ترى أن نوحا لمّا قال : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) أنكر عليه بقوله : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) (٣) ، وممّا يدلّ على جواز الرّؤية أنه علّقها باستقرار الجبل ، وذلك جائز غير مستحيل ، فدلّ على أنها جائزة ، ألا ترى أنّ دخول الكفار الجنّة لمّا استحال علّقه بمستحيل فقال : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (٤).

قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) أي : ثبت ولم يتضعضع.

قوله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ) قال الزّجّاج : ظهر ، وبان. (جَعَلَهُ دَكًّا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «دكّا» منوّنة مقصورة ها هنا وفي (الكهف). وقرأ عاصم : «دكّا» ها هنا منوّنة مقصورة ، وفي (الكهف) : «دكاء» ممدودة غير منوّنة. وقرأ حمزة ؛ والكسائيّ : «دكاء» ممدودة غير منوّنة في الموضعين. قال أبو عبيدة : «جعله دكّا» أي : مندكّا والمندكّ : المستوي ؛ والمعنى : مستويا مع وجه الأرض ، يقال : ناقة دكاء ، أي : ذاهبة السّنام مستو ظهرها. قال ابن قتيبة : كأنّ سنامها دكّ ، أي : التصق ، قال : ويقال : إنّ أصل دككت : دققت ، فأبدلت القاف كافا لتقارب المخرجين. وقال أنس بن مالك في قوله : «جعله دكا» : ساخ الجبل. قال ابن عباس : واسم الجبل : زبير ، وهو أعظم جبل بمدين ، وإنّ الجبال تطاولت ليتجلّى لها ، وتواضع زبير فتجلّى له. قوله تعالى : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) فيه قولان : أحدهما : مغشيّا عليه ، قاله ابن عباس والحسن وابن زيد. والثاني : ميتا ، قاله قتادة ومقاتل. والأول أصح ، لقوله تعالى : (فَلَمَّا أَفاقَ) وذلك لا يقال للميّت. وقيل : بقي في غشيته يوما وليلة.

قوله تعالى : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) فيما تاب منه ثلاثة أقوال : أحدها : سؤال الرّؤية ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. والثاني : الإقدام على المسألة قبل الإذن فيها. والثالث : اعتقاد جواز رؤيته في الدنيا. وفي قوله تعالى : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) قولان (٥) : أحدهما : أنّك لن ترى في الدنيا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أوّل المؤمنين من بني إسرائيل ، رواه عكرمة عن ابن عباس.

__________________

موضوعة لنفي التأبيد ، فاستدل المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة. وهذا أضعف الأقوال ، لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة. اه.

(١) سورة البقرة : ٩٥.

(٢) سورة الزخرف : ٧٧.

(٣) سورة هود : ٤٥ و ٤٦.

(٤) سورة الأعراف : ٤٠.

(٥) قال ابن كثير في «تفسيره» ٢ / ٣١٠ : قال ابن عباس ومجاهد : من بني إسرائيل ، واختاره ابن جرير. وفي رواية أخرى عن ابن عباس (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أنه لا يراك أحد. وكذا قال أبو العالية : قد كان قبله ، ولكن يقول : أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة وهذا قول حسن له اتجاه.

١٥٢

قوله تعالى : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) فتح ياء «إني» ابن كثير ، وأبو عمرو. وقرأ ابن كثير ، ونافع «برسالتي» قال الزّجّاج : المعنى : اتّخذتك صفوة على الناس برسالاتي وبكلامي ، ولو كان إنّما سمع كلام غير الله لمّا قال : «برسالاتي وبكلامي» لأنّ الملائكة تنزل إلى الأنبياء بكلام الله.

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥))

قوله تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) في ماهيّة الألواح سبعة أقوال :

أحدها : أنّها زبرجد ، قاله ابن عباس. والثاني : ياقوت ، قاله سعيد بن جبير. والثالث : زمرّد أخضر ، قاله مجاهد. والرابع : برد ، قاله أبو العالية. والخامس : خشب ، قاله الحسن. والسادس : صخر ، قاله وهب بن منبّه. والسابع : زمرّد وياقوت ، قاله مقاتل. وفي عددها أربعة أقوال : أحدها : سبعة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : لوحان ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره الفرّاء. قال : وإنّما سماها الله تعالى ألواحا ، على مذهب العرب في إيقاع الجمع على التّثنية ، كقوله تعالى : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (١) يريد داود؟؟؟؟ ، وسليمان ، وقوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (٢). والثالث : عشرة ، قاله وهب. والرابع : تسعة ، قاله مقاتل.

وفي قوله تعالى : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) قولان : أحدهما : من كلّ شيء يحتاج إليه في دينه من الحلال والحرام والواجب وغيره. والثاني : من الحكم والعبر.

قوله تعالى : (مَوْعِظَةً) أي : نهيا عن الجهل. (وَتَفْصِيلاً) أي : تبيينا لكلّ شيء من الأمر والنّهي والحدود والأحكام. قوله تعالى : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : بجدّ وحزم ، قاله ابن عباس. والثاني : بطاعة ، قاله أبو العالية. والثالث : بشكر ، قاله جويبر.

قوله تعالى : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) إن قيل : كأنّ فيها ما ليس بحسن؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنّ المعنى : يأخذوا بحسنها ، وكلّها حسن ، قاله قطرب ، وقال ابن الأنباري : ناب «أحسن» عن «حسن» كما قال الفرزدق :

إنّ الذي سمك السّماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول (٣)

أي : عزيزة طويلة. وقال غيره : «الأحسن» ها هنا صلة ، والمعنى أن يأخذوا بها.

والثاني : أنّ بعض ما فيها أحسن من بعض. ثم في ذلك خمسة أقوال : أحدها : أنهم أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشرّ ، ففعل الخير هو الأحسن. والثاني : أنها اشتملت على أشياء حسنة بعضها أحسن من بعض ، كالقصاص والعفو والانتصار والصّبر ، فأمروا أن يأخذوا بالأحسن ، ذكر القولين الزّجّاج. فعلى هذا القول ، يكون المعنى : أنّهم يتّبعون العزائم والفضائل ، وعلى الذي قبله ، يكون المعنى : أنّهم يتّبعون الموصوف بالحسن وهو الطّاعة ، ويجتنبون الموصوف بالقبح وهو المعصية. والثالث : أحسنها :

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٧٨.

(٢) سورة التحريم : ٤.

(٣) البيت منسوب إلى الفرزدق ، ديوانه ٢ / ١٥٥.

١٥٣

الفرائض والنّوافل ، وأدونها في الحسن : المباح. والرابع : أن يكون للكلمة معنيان أو ثلاثة ، فتصرف إلى الأشبه بالحقّ. والخامس : أنّ أحسنها : الجمع بين الفرائض والنّوافل.

قوله تعالى : (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) فيها أربعة أقوال (١) : أحدها : أنها جهنّم ، قاله الحسن ، ومجاهد. والثاني : أنها دار فرعون وقومه ، وهي مصر ، قاله عطيّة العوفيّ. والثالث : أنها منازل من هلك من الجبابرة والعمالقة ، يريهم إيّاها عند دخولهم الشّام ، قاله قتادة. والرابع : أنها مصارع الفاسقين ، قاله السّدّيّ. ومعنى الكلام : سأريكم عاقبة من خالف أمري ، وهذا تهديد للمخالف ، وتحذير للموافق.

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧))

قوله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) في هذه الآية قولان : أحدهما : أنها خاصّة لأهل مصر فيما رأوا من الآيات. والثاني : أنها عامّة ، وهو أصحّ. وفي الآيات قولان : أحدهما : أنها آيات الكتاب المتلوّة. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : أمنعهم فهمها. والثاني : أمنعهم من الإيمان بها. والثالث : أصرفهم عن الاعتراض عليها بالإبطال. والثاني : أنها آيات المخلوقات كالسماء والأرض والشّمس والقمر وغيرها ، فيكون المعنى : أصرفهم عن التّفكّر والاعتبار بما خلقت. وفي معنى يتكبّرون قولان : أحدهما : يتكبّرون عن الإيمان واتّباع الرّسول. والثاني : يحقرون الناس ويرون لهم الفضل عليهم.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : «سبيل الرّشد» بضمّ الراء خفيفة. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «سبيل الرّشد» بفتح الراء والشين مثقلة. قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) قال الزّجّاج : فعل الله بهم ذلك بأنّهم (كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) ،

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٢ / ٣١١ : قوله (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) أي سترون عاقبة من خالف أمري ، وخرج عن طاعتي ، كيف يصير إلى الهلاك والدمار والشتات. قال ابن جرير : وإنما قال (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) كما يقول القائل لمن يخاطبه. سأريك غدا إلام ، يصير إليه حال من خالف أمري؟

على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد ، والحسن البصري. وقيل (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) أي من أهل الشام وأعطيكم إياها ، وقيل منازل قوم «فرعون» والأول أولى ، لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر. وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه والله أعلم.

(٢) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢ / ٣١٢ قوله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ) وقال بعض السلف : لا ينال العلم حيي ولا مستكبر ، وقال آخر : من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا. وقال سفيان بن عيينة : أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي. قال ابن جرير وهذا يدل على أن هذا خطاب لهذه الأمة. قلت : ليس هذا بلازم ؛ لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة ، ولا فرق بين أحد وأحد في هذا والله أعلم. ا. ه.

١٥٤

أي : كانوا في تركهم الإيمان بها والتّدبّر لها بمنزلة الغافلين. ويجوز أن يكون المعنى : وكانوا عن جزائها غافلين.

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨))

قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد انطلاقه إلى الجبل للميقات. (مِنْ حُلِيِّهِمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «من حليّهم» بضمّ الحاء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «حليّهم» بكسر الحاء. وقرأ يعقوب : بفتحها وسكون اللام وتخفيف الياء. والحليّ : جمع حلي ، مثل ثدي وثديّ ، وهو اسم لما يتحسّن به من الذّهب والفضّة. قال الزّجّاج : ومن كسر الحاء من «حليّهم» أتبع الحاء كسر اللام. والجسد : هو الذي لا يعقل ولا يميّز ، إنّما هو بمعنى الجثّة فقط. قال ابن الأنباري : ذكر الجسد دلالة على عدم الرّوح منه ، وأنّ شخصه شخص مثال وصورة ، غير منضمّ إليهما روح ولا نفس. فأمّا الخوار ، فهو صوت البقرة ، يقال : خارت البقرة تخور ، وجأرت تجأر ؛ وقد نقل عن العرب أنهم يقولون في مثل صوت الإنسان من البهائم : رغا البعير ، وجرجر وهدر وقبقب ، وصهل الفرس وحمحم ، وشهق الحمار ونهق ، وشحج البغل ، وثغت الشّاة ويعرت ، وثأجت النّعجة ، وبغم الظّبي ونزب ، وزأر الأسد ونأت ، ووعوع الذئب ، ونهم الفيل ، وزقح القرد ، وضبح الثّعلب ، وعوى الكلب ونبح ، وماءت السّنّور ، وصأت الفأرة ، ونغق الغراب معجمة الغين ، وزقأ الدّيك وسقع ، وصفر النسر ، وهدر الحمام وهدل ، ونقضت الضّفادع ونقّت ، وعزفت الجنّ. قال ابن عباس ؛ كان العجل إذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا رؤوسهم. وفي رواية أبي صالح عنه : أنه خار خورة واحدة ولم يتبعها مثلها ، وبهذا قال وهب ، ومقاتل. وكان مجاهد يقول : خواره حفيف الرّيح فيه ؛ وهذا يدل على أنّه لم يكن فيه روح. وقرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو مجلز : «له جوار» بجيم مرفوعة.

قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) أي : لا يستطيع كلامهم. (وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) أي : لا يبين لهم طريقا إلى حجّة. (اتَّخَذُوهُ) يعني اتّخذوه إلها. (وَكانُوا ظالِمِينَ) قال ابن عباس : مشركين.

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢))

قوله تعالى : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أي : ندموا. قال الزّجّاج : يقال للرجل النادم على ما فعل ، المتحسّر على ما فرّط : قد سقط في يده وأسقط في يده. وقرأ ابن السّميفع ، وأبو عمران الجونيّ :

١٥٥

«سقط» بفتح السين. قال الزّجّاج : والمعنى : ولما سقط النّدم في أيديهم ، يشبّه ما في القلب وفي النّفس بما يرى بالعين. قال المفسّرون : هذا النّدم منهم إنّما كان بعد رجوع موسى.

قوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : «يرحمنا ربّنا» «ويغفر لنا» بالياء والرّفع. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «ترحمنا» «وتغفر لنا» بالتاء ، «ربّنا» بالنّصب.

قوله تعالى : (غَضْبانَ أَسِفاً) في الأسف ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الحزين ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والسّدّي. والثاني : الجزع ، قاله مجاهد. والثالث : أنه الشّديد الغضب ، قاله ابن قتيبة ، والزّجّاج. وقال أبو الدّرداء : الأسف : منزلة وراء الغضب أشدّ منه.

قوله تعالى : (قالَ) أي : لقومه (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) فتح ياء «بعدي» أهل الحجاز ، وأبو عمرو ؛ والمعنى : بئس ما عملتم بعد فراقي من عبادة العجل. (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) قال الفراء : يقال : عجلت الأمر والشيء : سبقته ، ومنه هذه الآية. وأعجلته : استحثثته. قال ابن عباس : أعجلتم ميعاد ربّكم فلم تصبروا له؟! قال الحسن : يعني وعد الأربعين ليلة.

قوله تعالى : (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) التي فيها التّوراة. وفي سبب إلقائه إيّاها قولان :

أحدهما : أنه الغضب حين رآهم قد عبدوا العجل ، قاله ابن عباس.

(٥٨٩) والثاني : أنه لمّا رأى فضائل غير أمّته من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتدّ عليه ، فألقاها ، قاله قتادة (١) ، وفيه بعد.

قال ابن عباس : لمّا رمى بالألواح فتحطّمت ، رفع منها ستة أسباع ، وبقي سبع.

قوله تعالى : (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) في ما أخذ به من رأسه ثلاثة أقوال : أحدها : لحيته وذؤابته. والثاني : شعر رأسه. والثالث : أذنه. وقيل : إنّما فعل به ذلك ، لأنه توهّم أنه عصى الله بمقامه بينهم وترك اللحوق به ، وتعريفه ما أحدثوا بعده ليرجع إليهم فيتلافاهم ويردّهم إلى الحقّ ، وذلك قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِ) (٢).

قوله تعالى : (ابْنَ أُمَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : «قال ابن أمّ» نصبا. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : بكسر الميم ، وكذلك في (طه) (٣) قال

____________________________________

(٥٨٩) باطل لا أصل له. أخرجه الطبري ١٥١٤٢ و ١٥١٤٣ عن قتادة قوله : وهذا رأي لقتادة. وهو ليس بشيء ، بل هو من بدع التأويل ، ورده ابن كثير وغيره كما في الهامش.

__________________

(١) وقال الحافظ ابن كثير في «التفسير» ٢ / ٣١٣ الآية (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) : ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضبا على قومه وهذا قول جمهور العلماء سلفا وخلفا وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولا غريبا لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة ، وقد رده ابن عطية وغير واحد من العلماء ، وهو جدير بالرد ، وكأنه تلقاه عن بعض أهل الكتاب وفيهم كذابون ووضاعون وأفاكون وزنادقة ا. ه.

(٢) سورة طه : ٩٢  ـ  ٩٣.

(٣) سورة طه : ٩٤.

١٥٦

الزّجّاج : من فتح الميم فلكثرة استعمال هذا الاسم ، ومن كسر أضافه إلى نفسه بعد أن جعله اسما واحدا ، ومن العرب من يقول : «يا ابن أمّي» بإثبات الياء. قال الشاعر :

يا ابن أمّي ويا شقيق نفسي

أنت خلّفتني لدهر شديد (١)

وقال أبو علي : يحتمل أن يريد من فتح : «يا ابن أمّ» أمّا ، ويحذف الألف ، ومن كسر : «ابن أمي» فيحذف الياء. فإن قيل : لم قال : «يا ابن أمّ» ولم يقل : «يا ابن أب»؟ فالجواب أنّ ابن عباس قال : كان أخاه لأبيه وأمّه ، وإنّما قال له ذلك ليرقّقه عليه. قال أبو سليمان الدّمشقي : والإنسان عند ذكر الوالدة أرقّ منه عند ذكر الوالد. وقيل : كان لأمّه دون أبيه ، حكاه الثّعلبيّ.

قوله تعالى : (إِنَّ الْقَوْمَ) يعني عبدة العجل. (اسْتَضْعَفُونِي) أي : استذلّوني (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) قرأ ابن عباس ، وابن محيصن وحميد : «فلا تشمت» بتاء مفتوحة مع فتح الميم ، «الأعداء» بالرفع ، وقرأ مجاهد ، وأبو العالية ، والضّحّاك ، وأبو رجاء : «فلا تشمت» بفتح التاء وكسر الميم ، «الأعداء» بالنّصب. وقرأ أبو الجوزاء ، وابن أبي عبلة مثل ذلك ، إلّا أنهما رفعا «الأعداء». ويعني بالأعداء : عبدة العجل. (وَلا تَجْعَلْنِي) في موجدتك وعقوبتك لي (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وهم عبدة العجل. فلمّا تبيّن له عذر أخيه (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي).

قوله تعالى : (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فيها قولان : أحدهما : أنها الجزية ، قاله ابن عباس. والثاني : ما أمروا به من قتل أنفسهم ، قاله الزّجّاج. فعلى الأول يكون ما أضيف إليهم من الجزية في حقّ أولادهم ، لأنّ أولئك قتلوا ولم يؤدّوا جزية. قال عطيّة : وهذه الآية فيما أصاب بني قريظة والنّضير من القتل والجلاء لتولّيهم متّخذي العجل ورضاهم به.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) قال ابن عباس : كذلك أعاقب من اتّخذ إلها دوني ، وقال مالك بن أنس : ما من مبتدع إلّا وهو يجد فوق رأسه ذلّة ، وقرأ هذه الآية. وقال سفيان بن عيينة : ليس في الأرض صاحب بدعة إلّا وهو يجد ذلّة تغشاه ، قال : وهي في كتاب الله تعالى : قالوا : وأين هي؟ قال : أو ما سمعتم قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قالوا : يا أبا محمّد ، هذه لأصحاب العجل خاصّة ، قال : كلا ، أتلو ما بعدها. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) فهي لكلّ مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة.

(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) فيها قولان : أحدهما : أنها الشّرك. والثاني : الشّرك وغيره من الذّنوب. (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها) يعني السيئات. وفي قوله تعالى : (وَآمَنُوا) قولان : أحدهما : آمنوا بالله ؛ وهو يخرّج على قول من قال : هي الشّرك. والثاني : آمنوا بأنّ الله تعالى يقبل التّوبة. (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) يعني السّيئات.

__________________

(١) البيت منسوب إلى أبي زبيد حرملة بن المنذر الطائي «اللسان» شقق.

١٥٧

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤))

قوله تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) وقرأ ابن عباس ، وأبو عمران «سكّت» بفتح السين وتشديد الكاف وبتاء بعدها ، «الغضب» بالنّصب. وقرأ سعيد بن جبير ، وابن يعمر ، والجحدريّ «سكت» بضمّ السين وتشديد الكاف مع كسرها. وقرأ ابن مسعود ، وعكرمة ، وطلحة «سكن» بنون. قال الزّجّاج «سكت» بمعنى سكن ، يقال : سكت يسكت سكتا : إذا سكن ، وسكت يسكت سكتا وسكوتا : إذا قطع الكلام. قال : وقال بعضهم : المعنى : ولمّا سكت موسى عن الغضب ، على القلب ، كما قالوا : أدخلت القلنسوة في رأسي. والمعنى : أدخلت رأسي في القلنسوة ، والأول هو قول أهل العربية.

قوله تعالى : (أَخَذَ الْأَلْواحَ) يعني التي كان ألقاها. وفي قوله تعالى : (وَفِي نُسْخَتِها) قولان : أحدهما : وفيما بقي منها ؛ قاله ابن عباس. والثاني : وفيما نسخ فيها ؛ قاله ابن قتيبة.

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) فيهم قولان : أحدهما : أنه عامّ في الذين يخافون الله ، وهو معنى قول قتادة. والثاني : أنّهم أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة ، وهو معنى قول قتادة.

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥))

قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) المعنى : اختار من قومه ، فحذف «من» ، تقول العرب : اخترتك القوم ، أي : اخترتك من القوم ، وأنشدوا :

منّا الذي اختير الرّجال سماحة

وجودا إذا هبّ الرّياح الزّعازع (١)

هذا قول ابن قتيبة ، والفرّاء ، والزّجّاج.

وفي هذا الميقات أربعة أقوال : أحدها : أنه الميقات الذي وقّته الله لموسى ليأخذ التّوراة ، أمر أن يأتي معه بسبعين ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال نوف البكاليّ. والثاني : أنه ميقات وقّته الله تعالى لموسى ، وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلا ليدعوا ربّهم ، فدعوا فقالوا : اللهمّ أعطنا ما لم تعط أحدا قبلنا ، ولا تعطيه أحدا بعدنا ، فكره الله ذلك ، وأخذتهم الرّجفة ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : أنه ميقات وقّته الله لموسى ، لأنّ بني إسرائيل قالوا له : إنّ طائفة تزعم أنّ الله لا يكلّمك ، فخذ معك طائفة منّا ليسمعوا كلامه فيؤمنوا فتذهب التّهمة ، فأوحى الله إليه أن اختر من خيارهم سبعين ، ثم ارتق بهم على الجبل أنت وهارون ، واستخلف يوشع بن نون ، ففعل ذلك ؛ قاله وهب بن منبّه. والرابع : أنه ميقات وقّته الله لموسى ليلقاه في ناس من بني إسرائيل ، فيعتذر إليه من فعل عبدة العجل ، قاله السّدّيّ. وقال ابن السّائب : كان موسى لا يأتي ربّه إلّا بإذن منه.

فأمّا الرّجفة فهي الحركة الشّديدة. وفي سبب أخذها إيّاهم أربعة أقوال : أحدها : أنه ادّعاؤهم على موسى قتل هارون ، قاله عليّ بن أبي طالب. والثاني : اعتداؤهم في الدّعاء ، وقد ذكرناه في رواية ابن

__________________

(١) البيت منسوب إلى الفرزدق : ديوانه : ٥١٦ «اللسان» خير.

١٥٨

أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : أنهم لم ينهوا عبدة العجل ولم يرضوا ؛ نقل عن ابن عباس أيضا ، وقال قتادة ، وابن جريج : لم يأمروهم بالمعروف ، ولم ينهوهم عن المنكر ، ولم يزايلوهم. والرابع : أنّهم طلبوا سماع الكلام من الله تعالى ، فلمّا سمعوه قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) (١) ؛ قاله السّدّيّ وابن إسحاق.

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) قال السّدّيّ : قام موسى يبكي ويقول : ربّ ما ذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ). وقال الزّجّاج : لو شئت أمتّهم قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرّجفة. وقيل : لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا وإيّاي ، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتّهمونني.

قوله تعالى : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) قال المبرّد : هذا استفهام استعطاف ، أي : لا تهلكنا. وقال ابن الأنباري : هذا استفهام على تأويل الجحد ، إذ أراد لست تفعل ذلك. و «السّفهاء» ها هنا : عبدة العجل. وقال الفرّاء : ظنّ موسى أنهم أهلكوا باتّخاذ أصحابهم العجل. وإنما أهلكوا بقولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً).

قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) فيها قولان : أحدهما : أنّها الابتلاء ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وأبو العالية. والثاني : العذاب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة. قوله تعالى : (أَنْتَ وَلِيُّنا) أي : ناصرنا وحافظنا.

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨))

قوله تعالى : (وَاكْتُبْ لَنا) أي : حقّق لنا وأوجب (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) وهي الأعمال الصّالحة (وَفِي الْآخِرَةِ) المغفرة والجنّة (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي : تبنا ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وقتادة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ. وقال ابن قتيبة : ومنه (الَّذِينَ هادُوا) (٢) كأنّهم رجعوا من شيء إلى شيء. وقرأ أبو وجزة السّعدي : «إنا هدنا» بكسر الهاء. قال ابن الأنباري : المعنى : لا نتغيّر ؛ يقال : هاد يهود ويهيد.

__________________

(١) سورة البقرة : ٥٥.

(٢) سورة البقرة : ٦٢.

١٥٩

قوله تعالى : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ). وقرأ الحسن البصريّ ، والأعمش ، وأبو العالية : «من أساء» بسين غير معجمة مع النّصب.

قوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) في هذا الكلام أربعة أقوال : أحدها : أنّ مخرجه عامّ ومعناه خاصّ ، وتأويله : ورحمتي وسعت المؤمنين من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقوله تعالى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، قاله ابن عباس. والثاني : أنّ هذه الرّحمة على العموم في الدنيا ، والخصوص في الآخرة ؛ وتأويلها : ورحمتي وسعت كلّ شيء في الدنيا ، البرّ والفاجر ، وفي الآخرة هي للمتّقين خاصّة ، قاله الحسن ، وقتادة. فعلى هذا ، معنى الرّحمة في الدنيا للكافر أنه يرزق ويدفع عنه ، كقوله في حقّ قارون : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) (١). والثالث : أنّ الرّحمة : التّوبة ، فهي على العموم ، قاله ابن زيد. والرابع : أنّ الرّحمة تسع كلّ الخلق إلّا أنّ أهل الكفر خارجون منها ، فلو قدّر دخولهم فيها لوسعتهم ، قاله ابن الأنباري. قال الزّجّاج : وسعت كلّ شيء في الدنيا. (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) في الآخرة. قال المفسّرون : معنى «فسأكتبها» : فسأوجبها. وفي الذين يتّقون قولان : أحدهما : أنهم المتّقون للشّرك ، قاله ابن عباس. والثاني : للمعاصي ، قاله قتادة. وفي قوله تعالى. (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) قولان : أحدهما : أنها زكاة الأموال ، قاله الجمهور. والثاني : أنّ المراد بها طاعة الله ورسوله ، قاله ابن عباس والحسن ، ذهبا إلى أنها العمل بما يزكّي النّفس ويطهّرها.

وقال ابن عباس ، وقتادة : لمّا نزلت (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) قال إبليس : أنا من ذلك الشّيء ، فنزعها الله من إبليس ، فقال : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) ، فقالت اليهود والنّصارى : نحن نتّقي ، ونؤتي الزّكاة ، ونؤمن بآيات ربّنا ، فنزعها الله منهم ، وجعلها لهذه الأمة ، فقال : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ). وقال نوف : قال الله تعالى لموسى : أجعل لكم الأرض طهورا ومسجدا ، وأجعل السّكينة معكم في بيوتكم ، وأجعلكم تقرؤون التّوراة عن ظهور قلوبكم ، يقرؤها الرّجل منكم والمرأة والحرّ والعبد والصغير والكبير. فأخبر موسى قومه بذلك ، فقالوا : لا نريد أن نصلّي إلّا في الكنائس ولا أن تكون السّكينة إلّا في التّابوت ، ولا أن نقرأ التّوراة إلّا نظرا ، فقال الله تعالى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) إلى قوله : (الْمُفْلِحُونَ). وفي هؤلاء المذكورين في قوله : (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) إلى قوله : (الْمُفْلِحُونَ) قولان : أحدهما : أنهم كلّ من آمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتبعه ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله السّدّيّ ، وقتادة. وفي تسميته بالأمّيّ قولان : أحدهما : لأنه لا يكتب. والثاني : لأنه من أمّ القرى.

قوله تعالى : (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ) أي : يجدون نعته ونبوّته.

قوله تعالى : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) قال الزّجّاج : يجوز أن يكون مستأنفا ، ويجوز أن يكون «يجدونه مكتوبا عندهم» أنه يأمرهم بالمعروف. قال ابن عباس : المعروف : مكارم الأخلاق ، وصلة الأرحام. والمنكر : عبادة الأوثان ، وقطع الأرحام. وقال مقاتل : المعروف : الإيمان ، والمنكر : الشّرك. وقال غيره : المعروف : الحقّ ، لأنّ العقول تعرف صحّته ، والمنكر : الباطل ، لأنّ العقول تنكر صحّته. وفي الطّيبات أربعة أقوال : أحدها : أنها الحلال ، والمعنى : يحلّ لهم الحلال. والثاني : أنها ما

__________________

(١) سورة القصص : ٧٧.

١٦٠