إعراب القرآن - ج ٤

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

ليستعين به وأحوجنا الفقير إلى الغني لينال منه ، وكذا الزوجان كل واحد منهما محتاج إلى صاحبه فهذا معنى الاقتران وحاجة بعضهم إلى بعض. قيض الله جلّ وعزّ لهم ذلك ليتعاونوا على طاعته فزيّن بعضهم لبعض المعاصي قال جلّ وعزّ (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) فيه أقوال : يروى عن ابن عباس (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) التكذيب بالآخرة والبعث والجنة والنار ، (وَما خَلْفَهُمْ) الترغيب في الدنيا والتسويف بالمعاصي ، وقيل (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي ما تقدّمهم من المعاصي (وَما خَلْفَهُمْ) ما يعمل بعدهم أو بحضرتهم ، وقيل : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما هم فيه (وَما خَلْفَهُمْ) ما عزموا أن يعملوه ، وهذا من أبينها. (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) وهو أن الله جلّ وعزّ يعذّب من عمل مثل عملهم (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي هم داخلون في أمم قد حقّ عليهم هذا القول. فهذا قول بين ، وقد قيل : «في» بمعنى مع كما قال : [الطويل]

٣٩٦ ـ وهل ينعمن من كان أخر عهده

ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال(١)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢٦)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) وهذا من لغي يلغى ، وهي اللغة الفصيحة ، ويقال : لغى يلغى لأن فيه حرفا من حروف الحلق ، ولغا يلغو ، وعلى هذه اللغة قرأ ابن أبي إسحاق وعيسى (وَالْغَوْا فِيهِ) بضم الغين. قال محمد بن يزيد : اللغو في كلام العرب ما كان على غير وجهه ، ومنه (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) [القصص : ٥٥] إنما هو ما يصدّ عن الخير ويدعو إلى الشر أي هو مما ينبغي أن يطّرح ، ولا يعرّج عليه كما أن اللغو في الكلام ما لا يفيد معنى. ويروى عن عبد الله بن عباس في معنى (وَالْغَوْا فِيهِ) أن أبا جهل هو الذي قال هذا ، قال : فإذا رأيتم محمدا يصلّي فصيحوا في وجهه ، وشدّوا أصواتكم بما لا يفهم حتّى لا يدري ما يقول ، ويروى أنهم إنّما فعلوا هذا لما أعجزهم القرآن ، ورأوا من تدبّره آمن به لإعجازه بفصاحته وكثرة معانيه وحسنه ونظمه ورصفه فقالوا : إذا سمعتموه يقرأ فخلّطوا عليه القراءة بالهزء وما لا يحصل ، وذلك اللغو لعلكم تغلبونه.

(ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (٢٨)

(ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ) قال أبو إسحاق : النار بدل من جزاء قال : ويجوز أن يكون رفعها بإضمار مبتدأ أيضا تبيينا عن الجزاء.

__________________

(١) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ٢٧ ، وأدب الكاتب ص ٥١٨ ، وجمهرة اللغة ١٣١٥ ، وخزانة الأدب ١ / ٦٢ ، والجنى الداني ٢٥٢ ، وجواهر الأدب ص ٢٣٠ ، وتاج العروس (حول) و (في) ، والدرر ٤ / ١٤٩ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٨٦ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٣١٣ ، ورصف المباني ص ٣٩١ ، وشرح الأشموني ٢ / ٢٩٢ ، ولسان العرب (فيا) ومغني اللبيب ١ / ١٦٩ ، وهمع الهوامع ٢ / ٣٠.

٤١

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٣٠)

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) ويجوز في غير القرآن حذف إحدى التاءين ولا يجوز الإدغام للبعد. و «أن» في موضع نصب أي بأن لا تخافوا ولا تحزنوا. ويروى عن ابن عباس أن هذا في يوم القيامة. قال زيد بن أسلم : هذا عند الموت قال : والبشارة في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث.

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) (٣١)

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أي نحوطكم ونحفظكم بأمر الله عزوجل ، وفي الآخرة نطامنكم ونرشدكم. (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ). قال عكرمة عن ابن عباس قال : إذا أراد أحدهم الشيء واشتهاه في نفسه وجده حيث تناله يده.

(نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٣٢)

(نُزُلاً) قال الأخفش : هو منصوب من جهتين : إحداهما أن يكون مصدرا أي أنزلهم الله ذاك نزلا ، والأخرى أن يكون في موضع الحال أي منزلين نزلا.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٣)

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً) منصوب على البيان. وقد ذكرنا فيه أقوالا فمن أجمعها ما قاله الضحاك قال : هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ومن اتّبعهم إلى يوم القيامة إلّا أن الحديث عن عائشة رضي الله عنها فيه توقيف أنّ هذه الآية نزلت في المؤذنين ، وهي لا تقول إلّا ما تعلم أنّه كما قالت ؛ لأن مثل هذا لا يؤخذ بالتأويل إذا قيل نزل في كذا ، كما قرئ على أبي بكر محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف القطّان قال : حدّثنا عبيد الله بن الوليد عن محمد بن نافع عن عائشة قالت : نزلت في المؤذنين يعني قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ). وقرئ على أحمد بن محمد الحجاج عن يحيى بن سليمان عن وكيع قال : حدّثنا عبيد الله بن الوليد الوصّافي عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ومحمد بن نافع عن عائشة في هذه الآية قالت : نزلت في المؤذّنين (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قال يحيى بن سليمان : وحدّثنا حفص بن عمر قال : حدّثنا الحكم بن أبان عن عكرمة يرفعه قال : أول من يقضى له بالرحمة يوم القيامة المؤذّنون وأول المؤذّنين مؤذّنو مكّة ، قال : والمؤذّنون أطول الناس

٤٢

أعناقا يوم القيامة والمؤذّنون إذا خرجوا من قبورهم أذّنوا فنادوا بالأذان ، والمؤذنون لا يدوّدون في قبورهم. قال عكرمة : وقال عمر بن الخطاب رحمه‌الله قال : ما أبالي لو كنت مؤذّنا أن لا أحجّ ولا أعتمر ولا أجاهد في سبيل الله عزوجل ، قال : وقالت الملائكة عليهم‌السلام لو كنّا نزولا في الأرض ما سبقنا إلى الأذان أحد ، وبإسناده عن عكرمة في قوله جلّ وعزّ : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) يعني المؤذنين (وَعَمِلَ صالِحاً) قال : صلّى وصام. قال يحيى بن سليمان : وحدّثنا جرير عن فضيل بن أبي رفيدة قال : قال لي عاصم بن هبيرة وكان من أصحاب ابن مسعود ، وكنت مؤذنا : إذا فرغت من الأذان وقلت لا إله إلّا الله فقل وأنا من المسلمين ثم قرأ هذه الآية : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ). إنّني على الأصل ، ومن قال : «إنّي» حذف لاجتماع النونات ، والتقدير عند جماعة من أهل العربية : وقال إنني مسلم من المسلمين ، وكذا قال هشام في (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أي ناصح من الناصحين. وقال بعض أهل النظر : دلّ هذا من قوله جلّ وعزّ أنه حسن أن يقول أنا مسلم بلا استثناء أي قد استسلمت لله جلّ وعزّ وقبلت أمره فحكم لي بأنّي مسلم.

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (٣٤)

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) قال عطاء : الحسنة لا إله إلّا الله ، والسيئة الشّرك (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي بالحال التي هي أحسن (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). قال أبو زيد : «الحميم» عند العرب : القريب. وقال محمد بن يزيد : «الحميم» الخاص ومنه قول العرب عنده: الخاصة والعامة.

(وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٣٥)

(وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) الكناية عن الحال وعن هذه الكلمة.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) (٣٨)

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) في موضع جزم بالشرط ودخلت النون توكيدا. وقد ذكرنا (خَلَقَهُنَ) وعلى أي شيء يعود الضمير.

قال محمد بن يزيد : (يَسْأَمُونَ) يملّون ، وأنشد بيت زهير : [الطويل]

٤٣

٣٩٧ ـ ومن لا يزل يستحمل النّاس أمره

ولا يعفها يوما من الدّهر يسأم (١)

أي يملّ.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩)

(إِنَ) في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه : (٢) وإن كان لا يجيز أن يكون «أن» في أول الكلام ولكن لمّا كان قبلها شيء صلح الابتداء بها والرفع عند المازني بإضمار فعل فيما لا يجوز أن يبتدأ به كما تقول : كيف زيد؟ والتقدير عنده : كيف استقرّ زيد. «خاشعة» منصوبة على الحال : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) من ربا يربو فحذفت الألف لسكونها وسكون التاء بعدها ، ويقال : في تثنية ربا ربوان كذا قال سيبويه (٣) نصا ، والكوفيون يقولون : ربيان بالياء ، ويكتبون ربا بالياء. قال أبو جعفر : وسمعت أبا إسحاق يقول : ليس يكفيهم أن يغلطوا في الخطّ حتّى يتجاوزوا ذلك إلى التثنية. قال أبو جعفر : والقرآن يدلّ على ما قال البصريون قال الله جلّ وعزّ : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) [الروم : ٣٩] وقراءة أبي جعفر اهتزّت وربأت وهو مأخوذ من الربيئة ، يقال : ربأ يربأ فهو رابئ وربؤ يربؤ فهو ربيء وربيئة على المبالغة إذا ارتفع إلى موضع عال يرقب ، فمعنى وربأت ارتفعت. (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) حذفت الضمة من الياء لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين.

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤٠)

و (يُلْحِدُونَ) من ألحد وهي بالألف أكثر وأشهر.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) (٤١)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) في خبر «إنّ» هاهنا أقوال فمن مذاهب الكسائي أنه قد يقدم قبلها ما يدلّ على الخبر من قوله جلّ وعزّ : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ) وغيره ، وقيل الخبر (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وقيل المعنى : إنّ الّذين كفروا بالذكر لما جاءهم قد كفروا بمعجز ودلّ على هذا أنّ بعده (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) وهذا مذهب الفراء (٤) على معنى قوله ، وقيل الخبر محذوف فمعناه أهلكوا.

__________________

(١) الشاهد لزهير في ديوانه ٣٢ ، والكتاب ٣ / ٩٩ ، وخزانة الأدب ٩ / ٩٠ ، والدرر ٥ / ٩١ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٦٤ ، ولسان العرب (حمل) ، وهمع الهوامع ٢ / ٦٣ ، وبلا نسبة في المقتضب ٢ / ٦٥.

(٢) انظر الكتاب ٣ / ١٤١.

(٣) انظر الكتاب ٣ / ٤٢٨.

(٤) انظر معاني الفراء ٣ / ١٩.

٤٤

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤٢)

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) مذهب الضحاك وسعيد بن جبير أن معناه لا يأتيه كتاب من قبله فيبطله ولا من بعده. قال أبو جعفر : والتقدير على هذا لا يأتيه الأمر بالباطل من هاتين الجهتين أو لا يأتيه البطول ، ويكون فاعل بمعنى المصدر مثل عافاه الله جلّ وعزّ عافية ، وقيل : الباطل هاهنا الشيطان وقد ذكرنا هذا القول (تَنْزِيلٌ) نعت لكتاب أو بإضمار مبتدأ.

(ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) (٤٣)

(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) قال أبو صالح أي من الأذى.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٤٤)

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) جعلنا هاهنا متعدّية إلى مفعولين وقد ذكرنا هذه الآية (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) «هدى» في موضع رفع على أنه خبر هو «وشفاء» معطوف عليه (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى). حدّثنا محمد بن الوليد عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد عن حجاج عن شعبة عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قتّة عن ابن عباس رحمه‌الله ومعاوية وعمرو بن العاص رحمهم‌الله أنّهم قرءوا وهو عليهم عم (١) وقرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن أبي إسحاق قال : حدثنا علي بن عبد الله قال : حدثنا سفيان بن عيينة قال : سمعت عمرو بن دينار يحدث عن ابن عباس أنه قرأ وهو عليهم عم (٢) هذه القراءة مخالفة للمصحف فإن قال قائل : الإسناد صحيح ، قيل له : الإجماع أولى على أنّ الإسناد فيه شيء وذلك أنّ عمرو بن دينار لم يقل : سمعت ابن عباس فيخاف أن يكون مرسلا ، وسليمان بن قتّة ليس بنظير عمرو بن دينار على أن يعقوب القارئ على محله من الضبط قد قال في هذا الحديث : ما أدري أقرءوا وهو عليهم عم أو (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) على أنه فعل ماض. ومع إجماع الجمع سوى من ذكرناه. والذي في المصحف أنّ المعنى بعمى أشبه لأنه قال جلّ وعزّ : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) فالأشبه بهذا أعمى ، (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) «الذين» في موضع رفع بالابتداء وخبره في الجملة. ومن العرب من يقول : اللذون في موضع الرفع. والذين أكثر وقد ذكرنا

__________________

(١) و (٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٨١ ، ومعاني الفراء ٣ / ٢٠.

٤٥

العلة (١) فيه. (وَشِفاءٌ) في موضع رفع بالابتداء ، والجملة خبره (يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) على التمثيل أي لا يتفهّمون ما يقال لهم والعرب تقول لمن يتّفهم : هو يخاطب من قريب. قال مجاهد : (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي بعيد من قلوبهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (٤٥)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) مفعولان. (فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) «كلمة» مرفوعة بالابتداء عند سيبويه (٢) ، والخبر محذوف لا يظهر. وبعض الكوفيين يقول : لولا من الحروف الرافعة. فأما معنى كلمة : فقيل : إنّها تأخير عقوبتهم إلى يوم القيامة وترك أخذهم على المعصية لمّا علم الله عزوجل في ذلك من الصلاح ؛ لأنهم لو أخذوا بمعاصيهم في وقت العصيان لانتهوا ولم يكونوا مثابين ولا ممتحنين على ذلك وفي الحديث المسند «لولا أنكم تذنبون لأتى الله بقوم يذنبون فيغفر لهم» (٣) أي أنتم تمتحنون وتؤخّر عقوبتكم لتتوبوا.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (٤٦)

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) شرط وجوابه الفاء وما بعدها.

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) (٤٧)

(وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ) هذه قراءة أهل المدينة (٤) ، وقراءة أهل الكوفة من ثمرة (٥) وهو اختيار أبي عبيد ؛ لأنّ ثمرة تؤدّي عن ثمرات هذا احتجاجه فحمل ذلك على المجاز ، والحقيقة أولى وأمضى. فإنه في المصاحف بالتاء. فالقراءة بثمرات أولى. (مِنْ أَكْمامِها) قال محمد بن يزيد : وهو ما يغطيها ، قال : والواحد كمّ ومن قال في الجمع : أكمّة قال في الواحد : كمام. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) أي على قولكم (قالُوا آذَنَّاكَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس «آذنّاك» يقول أعلمناك. (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) «من» زائدة للتوكيد أي ما منا شاهد يشهد أنّ معك إلها.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٤٨)

__________________

(١) مرّ في إعراب الآية ٤٩ ـ غافر.

(٢) انظر الإنصاف مسألة (١٠).

(٣) أخرجه الترمذي في سننه ـ صفة الجنة ١٠ / ٤.

(٤) و (٥) انظر تيسير الداني ١٥٧ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٧٧.

٤٦

(وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) قال الأخفش : ظنّوا استيقنوا. قال : و «ما» حرف فلذلك لا تعمل فيه ظنوا فلذلك ألغي. قال أبو عبيدة (١) : حاص يحيص إذا حاد ، وقال غيره : المحيص المذهب الذي ترجى فيه النجاة.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٥٢)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) في الكلام حذف أي إن كان من عند الله ثم كفرتم به أمصيبون أنتم في ذلك؟

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٣)

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) في معناه ثلاثة أقوال : منها سنريهم ما خبّرهم به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سيكون من فتن وفساد وغلبة الروم وفارس وغير ذلك من إخباره حتّى يتبيّن لهم أن كل ما أخبر به هو الحق ، فذا قول ، وقيل : المعنى : سنريهم اثار صنعتنا في الآفاق الدالة على أنّ لها صانعا حكيما (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) من أنهم كانوا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى أن بلغوا وعقلوا وميّزوا حتّى يتبين لهم أن الله هو الحق لا ما يعبدونه من دونه. والقول الثالث رواه الثوري عن عمرو بن قيس عن المنهال وبعض المحدثين يقول عن المنهال عن سعيد بن جبير أو غيره في قول الله جلّ وعزّ : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) قال : ظهور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الناس «وفي أنفسهم» قال : ظهوره عليهم. قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب هذا ، ونسق الكلام يدلّ عليه ، والقول الأول لا يصح ؛ لأنه لم يتقدم للأخبار ذكر فيكنّى عنها أعني (أَنَّهُ الْحَقُ). وفي المضمر ثلاثة أقوال سوى من قال : إنه للخبر : أحدها : أن يكون يعود على اسم الله جلّ وعزّ ، والثاني : أن يكون يعود على القرآن فقد تقدّم ذكره في قوله جلّ وعز : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) والثالث : أن يعود على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا أشبهها بنسق الكلام. (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فيه ثلاثة أقوال : منها أن يكون المعنى : أو لم يكف بربك بما دلّ به من حكمته وخلقه ففي ذلك كفاية ، والثاني : أو لم يكف بربك في معاقبته هؤلاء الكفّار المعاندين ففي الله جلّ وعزّ كفاية منهم ، والثالث : أن المعنى : أو لم يكفك يا محمّد ربك أنه شاهد على أعمال هؤلاء عالم بما يخفون فهذا يكفيك ؛ وهذا أشبه الأقوال بنسق الآية ، والله جلّ وعزّ أعلم. وفي موضع «أنه» من الإعراب ثلاثة أقوال : يجوز أن يكون في موضعها رفعا

__________________

(١) انظر مجاز القرآن ٢ / ١٩٨.

٤٧

بمعنى أو لم يكف أنه على كلّ شيء شهيد على البدل من ربك على الموضع ، والموضع موضع رفع بإجماع النحويين ، ويجوز أن يكون موضعها خفضا على اللفظ ، ويجوز أن يكون موضعها نصبا بمعنى لأنه على كل شيء شهيد.

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤)

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي هم في شكّ من لقاء ما وعدوا به من العقاب «وألا» كلمة تنبيه يؤكد بها صحة ما بعدها (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي قد أحاط به علما مما يشاهد ويغيب. والتقدير محيط بكلّ شيء جلّ وعزّ.

قال في الأصل تمّ الجزء الحادي عشر من أجزاء إعراب القرآن الذي عني بجمعه وتبيينه وشرحه أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس رحمه‌الله والحمد لله رب العالمين.

٤٨

(٤٢)

شرح إعراب سورة حم عسق (الشورى)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٤)

(حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الكاف من «كذلك» في موضع نصب نعت لمصدر ، واسم الله عزوجل مرفوع بيوحي. وأصح ما قيل في المعنى أنه كوحينا إليك وإلى الذين من قبلك يوحى إليك ، وأبو عبيدة (١) يجيز أن يجعل ذلك بمعنى هذا ؛ ومن قرأ (يُوحِي إِلَيْكَ) (٢) جعل الكاف في موضع رفع بالابتداء ، والجملة الخبر ، واسم ما لم يسمّ فاعله مضمر في يوحى ، واسم الله عزوجل مرفوع بالابتداء أو بإضمار فعل أي يوحيه إليك الله جلّ وعزّ. ومن قرأ نوحي (٣) بالنون رفع اسم الله جلّ وعزّ بالابتداء و «العزيز الحكيم» خبره ، ويجوز أن يكون العزيز الحكيم نعتا والخبر (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥)

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) (٤) أصحّ ما قيل فيه أن المعنى من أعلاهن ، وقيل : من فوق الأرضين. وسمعت علي بن سليمان يقول : الضمير للكفار أي يتفطرن من فوق الكفار لكفرهن. قال أبو جعفر : ولا نعلم أحدا من النحويين أجاز في بني أدم رأيتهنّ إلّا أن يكون للمؤنث خاصة. فهذا يدلّ على فساد هذا القول ، وأيضا فلم

__________________

(١) انظر مجاز القرآن ١ / ٢٨.

(٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٨٦ ، وهذه قراءة مجاهد وابن كثير وعباس ومحبوب كلّهم عن أبي عمرو.

(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٨٦.

(٤) انظر تيسير الداني ١٥٧ ، والبحر المحيط ٧ / ٤٨٦.

٤٩

يتقدّم للكفار ذكر يكنى عنهم. (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) يراد به خاصّ ، ولفظه عامّ أي للمؤمنين ، ودلّ عليه (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (٦)

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) رفع بالابتداء (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) مبتدأ وخبره في موضع خبر «الذين».

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٧)

(لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) «من» في موضع نصب والمعنى لتنذر أهل أم القرى ومن حولها (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) أي يوم يجمع فيه الناس (لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ) على الابتداء. وأجاز الكسائي والفراء (١) نصب فريق بمعنى وتنذر فريقا في الجنة وفريقا في السعير يوم الجمع.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٨)

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي مؤمنين قيل : المعنى لو شاء الله لألجأهم إلى الإيمان فلم يكن لهم ثواب فيه فامتحنهم بأن رفع عنهم الإلجاء (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) وهم المؤمنون (وَالظَّالِمُونَ) مرفوعون بالابتداء ، وفي موضع أخر (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الإنسان : ٣١] والفرق بينهما أنّ ذاك بعده أعدّ وليس بعد هذا فعل أي لما أضمر لذاك فعل وواعد الظالمين.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٩)

(فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) تكون (هُوَ) زائدة لا موضع لها من الإعراب ، ويجوز أن تكون اسما مرفوعا بالابتداء و (الْوَلِيُ) خبرها.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (١٠)

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) أي مردود إلى الله إمّا بنصّ وإمّا بدليل.

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١)

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يكون مرفوعا بإضمار مبتدأ ويكون نعتا. قال الكسائي : ويجوز (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بالنصب على النداء ، وقال غيره : على المدح. ويجوز

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٢٢.

٥٠

الخفض على البدل من الهاء الّتي في عليه (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) قال شعبة عن منصور : «يذرؤكم» يخلقكم ، وقال أبو إسحاق : يذرؤكم يكثركم ، وجعل «فيه» بمعنى به أي يكثركم بأن جعلكم أزواجا ، وقال علي بن سليمان : «يذرؤكم» ينبتكم من حال إلى حال أي ينبتكم في الجعل. قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب الذي رواه شعبة عن منصور ؛ لأن أهل اللغة المتقدمين منهم أبو زيد وغيره رووا عن العرب : ذرأ الله عزوجل الخلق يذرؤهم أي خلقهم ، وقول أبي إسحاق وأبي الحسن على المجاز ، والحقيقة أولى ولا سيّما مع جلالة من قال به ، وإنه معروف في اللغة. ويكون فيه على بابها أولى من أن تجعل بمعنى به ، وإن كان يقال : فلان بمكة فيكون المعنى فالله جعل لكم من أنفسكم أزواجا يخلقكم في الأزواج ، وذكر على معنى الجمع. ويكون التقدير : وجعل لكم من الأنعام أزواجا أي ذكرانا وإناثا. (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي لا يقدر أحد على هذا غيره والكاف في (كَمِثْلِهِ) زائدة للتوكيد لا موضع لها من الإعراب لأنها حرف ، ولكن موضع (كَمِثْلِهِ) موضع نصب. والتقدير : ليس مثله شيء. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٢)

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (لَهُ مَقالِيدُ) يقول مفاتيح. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) خبر «إنّ» والتقدير : إنه عليم بكلّ شيء.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١٣)

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) «ما» في موضع نصب بشرع. (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) عطف عليها. (وَما وَصَّيْنا) في موضع نصب أيضا أي وشرع لكم. (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) «أن» في موضع نصب على البدل من «ما» أي شرع لكم أن أقيموا الدّين ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي هو وأن أقيموا الدّين ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من الهاء أي شرع لكم أن تقيموا لله الدّين الّذي ارتضاه ولا تتفرّقوا فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض فهذا الذي شرع لكم لجميع الأنبياء صلوات الله عليهم أن يقيموا الدّين الذي ارتضاه ، وهو الإسلام وأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم مقتدون بهم. وفي الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اقتدوا بالّذين من بعدي أبي بكر وعمر» (١) أي اعملوا كما يعملان من اتباع أمر الله جلّ وعزّ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في سننه ـ المناقب رقم الحديث ٣٦٦٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى (٩٧) ، وأحمد في مسنده ٥ / ٣٨٢ ، وأبو نعيم في الحلية ٩ / ١٠٩ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ٥٣ ، والمتقي في كنز العمال (٣٦٥٦).

٥١

وترك خلاف ما أمروا به ، وليس معناه في كلّ مسألة. (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) جاز أن يكون أقيموا وهو أمر داخلا في الصلة لأن معناه كمعنى الفعل المضارع. معناه أن تقيموا الدّين فلا تتفرّقوا فيه. ومذهب جماعة من أهل التفسير أنّ نوحا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول من جاء بالشريعة من تحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات ، وهذا القول داخل في معنى الأول. (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي من إقامة الدّين لله جلّ وعزّ وحده. (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) أي من يشاء أن يجتبيه ثم حذف هذا. (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) حذفت الضمّة من يهدي لثقلها ، وأناب رجع أي تاب.

(وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١٤)

(وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي من بعد ما جاءهم القرآن. (بَغْياً) مفعول من أجله ، وهو في الحقيقة مصدر.

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٥)

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) الفراء (١) يذهب إلى أنّ معنى اللام معنى «إلى» وإلى أن معنى «ذلك» هذا أي فإلى هذا فادع أي إلى أن تقيموا الدّين ولا تتفرقوا فيه.

قال أبو جعفر : واللام بمعنى إلى مثل قوله جلّ وعزّ : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة : ٥] قال العجاج : [الرجز]

٣٩٨ ـ وحى لها القرار فاستقرّت

(٢) قال أبو جعفر : وهو مجاز ، وقد خولف الفراء فيه ، وقيل : اللام على بابها. والمعنى : للذي أوحى إليك من إقامة الدّين وترك التفرّق فيه من أجل ذلك فادع فأما أن يكون ذلك بمعنى هذا فلا يجوز عند النحويين الحذّاق. قال محمد بن يزيد : هذا لمن

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٢٢.

(٢) الرجز للعجاج في ديوانه ٢ / ٤٠٨ ، ولسان العرب (وحى) وتهذيب اللغة ٥ / ٢٩٦ ، وجمهرة اللغة ص ٥٧٦ ، وكتاب العين ٣ / ٣٢٠ ، وتاج العروس (وحى) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٦ / ٩٣ ، ومجمل اللغة ٤ / ٥١٢. وعجزه :

«وشدّها بالرّاسيات الثّبّت»

٥٢

كان بالحضرة وذلك لمن تراخى ففي دخول أحدهما على الآخر بطلان البيان وذلك على بابه أي فإلى ذلك الذي تقدّم فادع ، (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) جمع هوى مبني على فعل إلّا أنه اعتلّ ؛ لأن الياء قلبت ألفا لتحركها وتحرّك ما قبلها فجمع على أصله كما يقال : جمل وأجمال (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) نصب على التبرئة وقد ذكرنا العلّة فيه. وأجاز سيبويه الرفع فجعل «لا» بمعنى ليس. والمعنى أنه قد تبين الحقّ وأنتم معاندون وإنما تثبت الحجّة على من لم يكن هكذا.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (١٦)

(وَالَّذِينَ) في موضع رفع بالابتداء و (حُجَّتُهُمْ) ابتداء ثان ، (داحِضَةٌ) خبر حجتهم والجملة خبر «الذين» ، ويجوز أن تكون حجّتهم بدلا من الذين على بدل الاشتمال وفي المعنى قولان : أحدهما أن المعنى : والذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتكون الهاء مكنيّة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي من بعد ما دعا على أهل بدر فاستجيب له ودعا على أهل مكة ومصر بالقحط فاستجيب له ودعا للمستضعفين أن ينجيهم الله عزوجل من قريش فاستجيب له في أشياء غير هذه ، والقول الآخر قول مجاهد ، قال : الّذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب له قوم من الكفار يجادلون المؤمنين في الله جلّ وعزّ أي في وحدانيته من بعد ما استجاب له المؤمنون فيجادلون ، وهم مقيمون على الكفر ينتظرون أن تجيء جاهليته. وهذا القول أولى من الذي قبله بالصواب ، وأشبه بنسق الآية لأنه لم يتقدم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر فيكنى عنه ولا لدعائه.

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (١٧)

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) اسم الله جلّ وعزّ مرفوع بالابتداء و (الَّذِي) خبره وليس نعت لأن الخبر لا بدّ منه والنعت يستغنى عنه (أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي ذكر فيه ما يحقّ على الناس أن يعملوه : (وَالْمِيزانَ) عطف على الكتاب أي وأنزل الميزان بالحق (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) تهديد لهم لأنهم حاجّوا في الله عزوجل من بعد ما استجيب له. وقال قريب والساعة مؤنّثة على النسب ، وقيل فرقا بينه وبين القرابة ، فأما أبو إسحاق فيقول : لأن التأنيث ليس بحقيقي. والمعنى : لعلّ البعث قريب ، وذكر وجها أخر قال : يكون لعلّ مجيء الساعة قريب.

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (١٨)

٥٣

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) وذلك نحو قولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) [يونس : ٤٨] (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) وهكذا وصف أهل الإيمان يخافون من التفريط لئلا يعاقبوا عليه. (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي لفي ضلال عن الحقّ وإنما صار بعيدا لأنهم كفروا معاندة ودفعا للحقّ ، ولو كان كفرهم جهلا لم يكن بعيدا ؛ لأنه كان يتبين لهم ويرون البراهين.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (٢٠)

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) شرط ومجازاة. قال أبو جعفر : قد ذكرنا في معناه أقوالا ، ونذكر ما لم نذكره. وهو أن يكون المعنى : من كان يريد بجهاده الآخرة وثوابها نعطه ذلك ونزده ، ومن كان يريد بغزوه الغنيمة ، وهو حرث الدّنيا على التمثيل ، نؤته منها ؛ لأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يمنع المنافقين من الغنيمة. وهذا قول بيّن إلّا أنه مخصوص وقول عامّ قاله طاوس قال : من كان همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه ولم ينل من الدنيا إلّا ما كتب له ، ومن كان يريد الآخرة جعل الله جلّ وعزّ غناه بين عينيه ونور قلبه ، وأتاه من الدنيا ما كتب له.

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٢٢)

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا الظَّالِمِينَ) نصب بترى و (مُشْفِقِينَ) نصب على الحال ، والتقدير : من عقاب ما كسبوا. قال جلّ وعزّ : (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي العقاب (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) قال مجاهد : الروضة المكان المونق الحسن. وحكى بعض أهل اللغة أنها لا تكون إلّا في موضع مرتفع ، كان أحسن لها وأشدّ ، وإذا كانت خشنة ولم تكن رخوة كان ثمرها أحسن وألذّ ، كما قال جلّ وعزّ : (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) [البقرة : ٢٦٥] أي مرتفعة. قال الأعشى : [البسيط]

٣٩٩ ـ ما روضة من رياض الحزن معشبة

خضراء جاد عليها مسبل هطل(١)

فوصف أنها من رياض الحزن ، والحزن : ما غلظ من الأرض ، ويقال : الحزم بالميم ، لما ذكرناه. (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي ذلك الذي تقدّم ذكره للذين آمنوا. و «ذلك» في موضع رفع بالابتداء و «هو» ابتداء ثان ، ويجوز أن يكون زائدا بمعنى التوكيد «الفضل» الخبر و «الكبير» من نعته.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٣٧).

٥٤

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (٢٣)

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ) مبتدأ وخبره وقراءة الكوفيين (يُبَشِّرُ) (١) وقد ذكرنا نظيره (٢) غير أن أبا عمرو بن العلاء قرأ هذا وحده (يُبَشِّرُ) (٣) وقرأ غيره «يبشّر» (٤) وأنكر هذا عليه قوم ، وقالوا : ليس بين هذا وبين غيره فرق ، والحجّة له ذلك أنه لم يقرأ بشيء شاذ ولا بعيد في العربية ولكن لما كانتا لغتين فصيحتين لم يقتصر على أحدهما فيتوهم السامع أنه لا يجوز غيرها فجاء بهما جميعا ، وهكذا يفعل الحذّاق. وفي القرآن نظيره مما قد اجتمع عليه ، وهو قوله جلّ وعزّ : (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) [البقرة : ٢٨٢] من أملّ يمل وفي موضع أخر (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥] من أملى يملي. (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). قال أبو جعفر : قد ذكرنا معناه مستقصى. فأما الإعراب فهذا موضع ذكره «المودّة» في موضع نصب لأنه استثناء ليس من الأول ، وسيبويه (٥) يمثله بمعنى «لكن» ، وكذا قال أبو إسحاق ، قال : «أجرا» تمام الكلام كما قال جلّ وعزّ : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) [الفرقان : ٥٧] ولو لم يكن استثناء ليس من الأول كانت المودة بدلا من أجر (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) شرط يقال : اقترف وقرف إذا كسب ، وجواب الشرط. (نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً).

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢٤)

اختلف العلماء في تفسير هذا فقال أبو إسحاق : معنى (يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) يربط على قلبك بالصبر على أذاهم. قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله لا يشبه ظاهر الآية.

وقال غيره : فإن يشأ الله يختم على قلبك لو اقترفت واختلفوا في معنى (يَخْتِمْ) فقال بعضهم : أي يمنعك من التمييز. وقال بعضهم : معنى : ختم الله على قلبه جعل عليه علامة من سواد أو غيره تعرف الملائكة بها أنه معاقب ، كما قال جلّ وعزّ : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [المطففين : ١٤] قال أبو جعفر : وفي التفسير أنه إذا عمل العبد خطيئة رين على قلبه فغطي منه شيء فإن زاد زيد في الرّين حتّى يسود قلبه فلا ينتفع بموعظة. (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) منقطع من الأول في موضع رفع. ويجب أن يكتب بالواو

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٥٧ ، والبحر المحيط ٧ / ٤٩٣.

(٢) انظر الآية ٩ ـ الإسراء والكهف ٢.

(٣) و (٤) انظر تيسير الداني ١٥٧ ، والبحر المحيط ٧ / ٤٩٣.

(٥) انظر الكتاب ٢ / ٣٤٦.

٥٥

إلّا أنه وقع في السواد بغير واو كتب على اللفظ في الإدراج وإنما حذفت الواو في الإدراج لسكونها وسكون اللام بعدها فإذا وقفت زالت العلّة في حذفها فعلى هذا لا ينبغي الوقوف عليه لأنه إن أثبت الواو خالف السواد وإن حذفها لحن ونظيره (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) [الإسراء : ١١] ، وكذا (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق : ١٨] فأما معنى و «يمح الله الباطل» ففيه احتجاج عليهم لنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن معناه أنّ الله جلّ وعزّ يزيل الباطل ولا يثبته ، فلو كان ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم باطلا لمحاه الله جلّ وعزّ وأنزل كتابا على غيره ، وهكذا جرت العادة في جميع المفترين أنّ الله سبحانه يمحو باطلهم بالحقّ والبراهين والحجج (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي يبيّن الحقّ.

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (٢٦)

يجوز أن يكون (الَّذِينَ) في موضع رفع بفعلهم أي ويجيب الذين آمنوا ربّهم فيما دعاهم إليه. ويجوز أن يكون الذين في موضع نصب أي ويستجيب الله الذين آمنوا ، وحذف اللام من هذا جائز كثير ، ومثله (وَإِذا كالُوهُمْ) [المطففين : ٣] أي كالوا لهم. قال أبو جعفر : هذا أشبه بنسق الكلام لأن الفعل الذي قبله والذي بعده لله جلّ وعزّ ، وثمّ حديث عن معاذ بن جبل يدل على هذا قال : إنكم تدعون لهؤلاء الصناع غفر الله لك رحمك وبارك عليك ، والله جلّ وعزّ يقول : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ). يكون على هذا «يزيدهم» على ما دعوا ، وتمّ الكلام. (وَالْكافِرُونَ) مبتدأ والجملة خبره.

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٢٧)

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) وأجاز الخليل رحمه‌الله في السين إذا كانت بعدها طاء أن تقلب صادا لقربها منها ، وزعم الفراء (١) : أن قوله جلّ وعزّ : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) أنه أراد جلّ وعزّ وما بثّ في الأرض دون السماء وأنّ مثله (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] وإنما يخرجان من الملح ، وزعم أن هكذا جاء في التفسير. قال أبو جعفر : والذي قاله لا يعرف في تفسير ولا لغة ولا معقول أي يخبر عن اثنين بخبر واحد ، وهذا بطلان البيان والتجاوز إلى ما يحظره الدّين. والعرب تقول : لكل ما تحرّك من شيء دبّ فهو دابّ ثم تدخل الهاء للمبالغة فتقول : دابّة. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : في دابّة لتأنيث الصيغة.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٢٤.

٥٦

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٣٠)

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) هذه قراءة الكوفيين والبصريين ، وكذا في مصاحفهم ، وقرأ المدنيون بما بغير فاء ، وكذا في مصاحفهم فالقراءة بالفاء بيّنة لأنه شرط وجوابه. والقراءة بغير فاء فيها للنحويين ثلاثة أقوال : أحدها : أن يكون «ما» بمعنى «الذي» فلا تحتاج إلى جواب بالفاء ، وهذا مذهب أبي إسحاق. والقول الثاني : أن يكون ما للشرط وتكون الفاء محذوفة كما قال : [البسيط]

٤٠٠ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان(١)

وهذا قول أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش ، وزعم أن هذا يدلّ على أن حذف الفاء في الشرط جائز حسن لجلال من قرأ به. والقول الثالث : أن «ما» هاهنا للشرط إلّا أنه جاز حذف الفاء لأنها لا تعمل في اللفظ شيئا وإنما وقعت على الماضي ، وهذا أولى الأقوال بالصواب. فأما أن يكون «ما» بمعنى الذي فبعيد لأنّه يقع مخصوصا للماضي ، وأما أن يشبّه هذا بالبيت الذي ذكرناه فبعيد أيضا لأن حذف الفاء مع الفعل المستقبل لا يجوز عند سيبويه إلّا في ضرورة الشعر ، ولا يحمل كتاب الله عزوجل إلّا على الأغلب الأشهر.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٣١)

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) قال محمد بن يزيد : أي بسابقين يقال : أعجز إذا عدا فسبق.

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (٣٢)

«الجواري» جمع جارية ، والجواري في موضع رفع حذفت الضمة من يائها لثقلها.

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٣٥)

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) شرط ومجازاة. (فَيَظْلَلْنَ) عطف ، وكذا (أَوْ يُوبِقْهُنَ) وكذا (وَيَعْفُ) وكذا عند سيبويه (٢) (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) هذا الاختيار عنده لأنه كلام معطوف بعضه على بعض ، ومثله (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٨٤] ، وكذا قول النابغة (٣) : [الوافر]

٤٠١ ـ فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع النّاس والبلد الحرام

ونمسك بعده بذناب عيس

أجبّ الظّهر ليس له سنام

فجزم «ونمسك» على العطف. ويجوز رفعه ونصبه إلّا أن الرفع عند سيبويه

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٤).

(٢) انظر إعراب الآية ٢٨٤ ـ البقرة.

(٣) مرّ الشاهد رقم (١٧٩).

٥٧

أجود ، وهي قراءة المدنيين (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ) (١) على أنه مقطوع مما قبله مرفوع ، والنصب عنده بعيد ، وهي قراءة الكوفيين ، والصحيحة من قراءة أبي عمرو ، وشبّهه سيبويه في البعد بقول الشاعر : [الوافر]

٤٠٢ ـ سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا(٢)

إلّا أن النصب في الآية أمثل لأنه شرط وهو غير واجب ، وأنشد (٣) : [الطويل]

٤٠٣ ـ ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى

مصارع أقوام مجرّا ومسحبا

وتدفن منه الصّالحات وإن يسيء

يكن ما أساء النّار في رأس كبكبا

فنصب «وتدفن» ولو رفع لكان أحسن. واختار أبو عبيد النصب وشبّهه بقوله جلّ وعزّ: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [ال عمران : ١٤٢].

وهما لا يتجانسان ولا يشتبهان لأن «ويعلم» جواب لما فيه النفي فالأولى به النصب وقوله جلّ وعزّ : (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ) ليس بجواب فيجب نصبه ، وموضع الذين في قوله «ويعلم النّاس» موضع رفع بعلم.

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٣٦)

(وَما عِنْدَ اللهِ) مبتدأ و (خَيْرٌ) خبره (وَأَبْقى) معطوف على خير (لِلَّذِينَ آمَنُوا) خفض باللام.

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (٣٧)

(وَالَّذِينَ) في موضع خفض معطوف على «للذين آمنوا» (يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي (كَبائِرَ الْإِثْمِ) (٤) والقراءة الأولى أبين لأنه إذا قرأ كبير توهّم أنه واحد أكبرها ، وليس المعنى على ذلك عند أحد من أهل التفسير إلّا شيئا قاله الفراء (٥) فعكس فيه قول

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٥٨ ، ومعاني الفراء ٣ / ٢٤.

(٢) الشاهد للمغيرة بن حبناء في خزانة الأدب ٨ / ٥٢٢ ، والدرر ١ / ٢٤٠ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٥١ ، وشرح شواهد المغني ٤٩٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٩٠ ، وبلا نسبة في الكتاب ٣ / ٣٩ ، والدرر ٥ / ١٣٠ ، والردّ على النحاة ص ١٢٥ ، ورصف المباني ص ٣٧٩ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٦٥ ، وشرح المفصّل ٧ / ٥٥ ، والمحتسب ١ / ١٩٧ ، ومغني اللبيب ١ / ١٧٥ ، والمقتضب ٢ / ٢٤ ، والمقرب ١ / ٢٦٣.

(٣) مرّ الشاهد رقم ٣١٧.

(٤) انظر تيسير الداني ١٥٨ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٨١.

(٥) انظر معاني الفراء ٣ / ٢٥.

٥٨

أهل التفسير ، قال : «كبير الإثم» الشرك قال : وكبائر يراد بها كبير ، وهذا معكوس إنما يقال : كبير يراد به كبائر. يكون واحدا يدلّ على جمع ، وزعم أنه يستحبّ لمن قرأ «كبائر الإثم» أن يقرأ «والفواحش» فيخفض ، والقراءة بهذا مخالفة بحجّة الإجماع وأعجب من هذا أنه زعم أنه يستحبّ القراءة به ثم قال : ولم أسمع أحدا قرأ به. والأحاديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكبائر معروفة كثيرة وعن الصحابة وعن التابعين. ونحن نذكر من ذلك ما فيه كفاية لتبيين هذا. ونبيّن معنى الكبائر والاختلاف فيه إذا كان مما لا يسع أحدا جهله. ونبدأ بما صحّ فيها عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم مما لا مطعن في إسناده وتوليه من قول الصحابة والتابعين وأهل النظر بما فيه كفاية إن شاء الله. فمن ذلك ما حدّثناه محمد بن إدريس بن أسود عن إبراهيم بن مرزوق قال : حدّثنا وهب بن جرير قال : حدّثنا شعبة عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أكبر الكبائر الإشراك بالله جلّ وعزّ وعقوق الوالدين المسلمين وقتل النفس وشهادة الزّور أو قول الزور» (١) وقرئ على أحمد بن شعيب عن عبدة بن عبد الرحيم قال أخبرنا ابن شميل قال : حدّثنا شعبة قال : حدّثنا فراس قال : سمعت الشّعبي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الكبائر الإشراك بالله جلّ وعزّ وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس» (٢) قال أحمد : وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم ثنا بقيّة حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معد أن أبا رهم السّماعي حدّثه عن أبي أيوب وهو خالد بن زيد الأنصاري بدريّ عقبيّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من جاء لا يشرك بالله شيئا ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان واجتنب الكبائر فإنه في الجنة» (٣) فسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكبائر قال : فقال : «الإشراك بالله جلّ وعزّ وقتل النفس المسلمة والفرار يوم الزحف» قال أحمد : أخبرنا عمرو بن علي قال : حدّثنا يحيى قال : حدّثنا سفيان عن الأعمش ومنصور عن أبي وائل عن أبي ميسرة عن عبد الله قال : قلت يا رسول الله أيّ الذنوب أعظم قال : «أن تجعل لله جلّ وعزّ ندّا وهو خلقك». قلت : ثمّ أيّ. قال : «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك». قلت : ثمّ أيّ. قال : «أن تزني بحليلة جارك» (٤) قال أبو جعفر : فهذه أسانيد مستقيمة وفي حديث أبي أمامة زيادة على ما فيها من الكبائر فيه: أكل مال اليتيم وقذف المحصنة والغلول والسحر وأكل الربا فهذا جميع ما نعلمه ، روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكبائر مفصلا مبينا فأما الحديث المجمل فالذي رواه أبو سعيد

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده ٣ / ٤٩٥ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٨ / ٢٠ ، وابن كثير في تفسيره ٢ / ٢٤١ ، والطبري في تفسيره ٥ / ٢٨.

(٢) أخرجه الترمذي في سننه ـ البر والصلة ٨ / ٩٧ ، والدارمي في سننه ـ الديات ٢ / ١٩١.

(٣) أخرجه أحمد في مسنده ٥ / ٤١٣ ، والمتقي في كنز العمال ٢٧٦.

(٤) أخرجه أحمد في مسنده ٥ / ٢١٧ ، وابن ماجة في سننه ـ الديات ـ الحديث رقم (٢٦١٨).

٥٩

وأبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها سبع فليس بناقض لهذا لأن قذف المحصنة واليمين الغموس والسحر داخلان في قول الزور وحديث ابن مسعود الذي فيه «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» داخل في قتل النفس المحرمة ولم يقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تكون الكبائر إلا هذه فيجب التسليم. وقد روى مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال : الكبائر من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية. (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١] فأولى ما قيل في الكبائر وأجمعه ما حدثناه علي بن الحسين قال : قال الحسين بن محمد الزعفراني قال : حدّثنا أبو قطن عن يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال : سئل ابن عباس عن الكبائر فقال : كلّ ما نهى الله جلّ وعزّ عنه ـ فهو من الكبائر حتّى ذكر الطرفة ، وحدّثناه بكر بن سهل قال : حدّثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : الكبائر كل ما ختمه الله جلّ وعزّ بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. قال أبو جعفر : فهذا قول حسن بيّن لأن الله جلّ وعزّ قال : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١] فعقل بهذا أن الصغائر لا يعذّب عليها من اجتنب الكبائر : فإذا أعلم الله جلّ وعزّ أنه يدخل على ذنب النار علم أنه كبيرة وكذا إذا أمر أن يعذّب صاحبه في الدنيا بالحد ، وكذا قال الضحاك : كل موجبة أوجب الله تعالى لأهلها العذاب فهي كبيرة وكلّ ما يقام عليه الحدّ فهو كبيرة. فهذا المعنى الذي بيّنا بعد ذكر الأحاديث المسندة فهو شرح أيضا قول الله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) وكل ما كان مثله.

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣٨)

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) في موضع خفض والمعنى وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا والذين استجابوا لربهم (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي أتمّوها بحدودها بركوعها وسجودها وخشوعها. (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) مبتدأ وخبره.

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (٣٩)

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) في موضع خفض كالأول. (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) وهذا مدح لهم وصفوا أنهم إذا بغى عليهم باغ أو ظلمهم ظالم لم يستسلموا له لأنهم لو استسلموا له لم ينهوا عن المنكر وفعله ذلك بهم منكر. وفي حديث حذيفة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يحلّ للمسلم أن يذلّ نفسه». قيل : كيف يذلّ نفسه؟ قال : «يتكلّف من البلاء ما لا يطيقه» (١).

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٤٠)

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) مبتدأ وخبره. والسيّئة الأولى سيّئة على الحقيقة والثانية

__________________

(١) الحديث في تنزيه الشرائع لابن عراق ٢ / ٣٦٣ ، والفوائد المجموعة للشوكاني ٣٧٨.

٦٠