إعراب القرآن - ج ٤

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (٦)

يقرأ فتثبّتوا وهما قراءتان (١) معروفتان إلّا أن «فتبيّنوا» أبلغ ؛ لأن الإنسان قد يثبّت ولا يتبيّن. (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا) عطفا على تصيبوا.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٨)

العلماء من أهل السنّة يقولون : معنى (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) وفّقكم له ، وفعل أفاعيل تحبّون معها الإيمان وتستحسنونه فلما أحبّوه واستحسنوه نسب الفعل إليه ، وكذا فعل أفاعيل كرهوا معها الكفر والفسق والعصيان. فأما أن يكون معنى «حبّب» أمركم أن تحبّوه فخطأ من كل جهة منها أنه إنما يقال : حبّب فلان إليك نفسه أي أنه فعل أفعالا أحببته من أجلها ، ومنها أنه قول مبتدع مخالف صاحبه لنصّ القرآن قال جلّ وعزّ : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) [هود : ٨٨] ومنه قوله : (اهْدِنَا) [الفاتحة : ٦] من هذا بعينه ، ومنها أنّ نص الآية يدلّ على خلاف ما قال جلّ وعزّ : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) فلا اختلاف في هذا أنه يرجع إلى الذين حبّب إليهم الإيمان وزيّنه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان. فلو كان معنى حبّب أمرهم أن يحبوه كان الكفار وأهل المعاصي داخلين في هذا. وهذا خارج من الملّة و «الراشدون» الذين رشدوا للإيمان وتركوا المعاصي ثم بيّن جلّ وعزّ أنّ ذلك فضل منه ونعمة فقال جلّ وعزّ : (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) قال أبو إسحاق : «فضلا» مفعول من أجله أي للفضل. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بمصالح عباده ومنافعهم ، حكيم في أفعاله.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٩)

(طائِفَتانِ) مرفوعتان بإضمار فعل أي وإن اقتتلت طائفتان ، ويجوز أن يكون المضمر كان ولا بدّ من إضمار لأن «إن» لا يليها إلا الفعل ؛ لأنها للشرط ، وجوابه (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) شرط أيضا ، والجواب (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) أي ترجع فإن قلت : تفي بغير همز فمعناه تكثر. (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ

__________________

(١) انظر تيسير الداني ص ٨٠.

١٤١

الْمُقْسِطِينَ) قال محمد بن يزيد : قسط إذا جار وأقسط إذا عدل ، مأخوذ منه أي أزال القسوط وفي الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كثيرا المقسطون الذين يعدلون في حكمهم وما ولّوا على منابر من نور على يمين الرحمن جلّ وعزّ» (١).

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٠)

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) مبتدأ وخبره لمّا اتّفقوا في الدّين رجعوا إلى أصلهم ؛ لأنهم جميعا من بني آدم. وقراءة عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن سيرين فأصلحوا بين إخوانكم (٢) ، وقراءة يعقوب فأصلحوا بين إخوتكم (٣) وأخ وإخوة لأقلّ العدد وإخوان للكثير و (بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (٤) بين كلّ مسلمين اقتتلا فقد صار عامّا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) جزم بالنهي. وروى الضّحاك عن ابن عباس أن بعضهم كان يقول لبعض : أنّك لغير رشيد ، وما أشبه ذلك ، يستهزئ به فنزل هذا ، وهو من بني تميم (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) نهي أيضا. قال عكرمة عن ابن عباس : أي لا يعب بعضكم بعضا. وسمعت علي بن سليمان يقول : اللّمز في اللغة أن يعيب بالحضرة ، والهمز في الغيبة. وقال أبو العباس محمد بن يزيد : اللّمز يكون باللسان والعين يعيبه ويحدّد إليه النظر وتشير إليه بالاستنقاص ، والهمز لا يكون إلّا باللسان في الحضرة والغيبة ، وأكثر ما يكون في الغيبة ، فهذا شرح بيّن ، وقد أنشد أبو العباس لزياد الأعجم : [البسيط]

٤٣١ ـ إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة

وإن تغيّبت كنت الهامز اللّمزه(٥)

قال محمد بن يزيد : واللّمز كالغيبة قال : والنبز اللّقب الثابت : قال : والمنابزة الإشاعة والإذاعة به. قال أبو جعفر : فأما اللّقب فقد جاء التوقيف فيه عمّن حضر التنزيل وعرف نزول الآية فيم نزلت ، كما قرئ على أحمد بن شعيب عن حميد بن مسعدة قال : أخبرنا بشر عن داود عن الشعبي قال : قال أبو جبيرة فينا نزلت هذه الآية

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده ٢ / ١٥٩ ، ١٦٠.

(٢) و (٣) و (٤) انظر البحر المحيط ٨ / ١١١.

(٥) الشاهد لزياد الأعجم في ديوانه ٧٨ ، وبهجة المجالس ١ / ٤٠٤ ، وبلا نسبة في لسان العرب (همز) ، وجمهرة اللغة ص ٧٢٧ ، ومقاييس اللغة ٦ / ٦٦ ، ومجمل اللغة ٤ / ٤٨٨ ، وديوان الأدب ١ / ٢٥٦ ، وأساس البلاغة (لمز) ، وإصلاح المنطق ٤٢٨ ، وتاج العروس (همز) ، وكتاب العين ٤ / ١٧.

١٤٢

في بني سلمة ، قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وللرجل منا اسمان وثلاثة فكان يدعى باسم منها فيقال : يا رسول الله إنه يغضب منه فنزلت (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) فأما حديث الضّحاك عن ابن عباس كان الرجل يقول للآخر : يا كافر يا فاسق ، فنزلت : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) فإسناد الأول أصحّ منه ، ولو صحّ هذا لم يكن ناقضا للأول ، لأن المعنى في اللّقب على ما قال محمد بن يزيد وغيره : أنه كلّما كان ذائعا يغضب الإنسان منه ويكره قائله أن يلقى صاحبه به ويكرهه المقول له به فمحظور التنابز به. (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ) رفع بالابتداء والتقدير الفسوق بعد أن امنتم بئس الاسم (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قال الضّحاك عن ابن عباس : من لم يتب من هذا القول.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (١٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) فسّر ابن عباس الإثم فيم هو؟ قال : إن تقول بعد أن تظنّ ، فإن أمسكت فلا إثم والبيّن في هذا أنّ الظنّ الذي هو إثم ، وهو حرام على فاعله ، أن يظنّ بالمسلم المستور شرا ، وأما الظن المندوب إليه فأن تظنّ به خيرا وجميلا ، كما قال جلّ وعزّ : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) [النور: ١٢] قال : (وَلا تَجَسَّسُوا) أي لا تبحث عن عيب أخيك بعد أن ستره الله جلّ وعزّ عنه : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) بيّن الله جلّ وعزّ الغيبة على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قرئ على أحمد بن شعيب عن علي بن حجر قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله جلّ وعزّ ورسوله أعلم قال: أن تذكر أخاك بما يكره ، قيل : أرأيت إن كان ذلك في أخي؟ قال : إن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهتّه» (١) فهذا حديث لا مطعن في سنده ثم جرت العلماء عليه ، فقال محمد بن سيرين : إن علمت أن أخاك يكره أن تقول ما أشدّ سواد شعره ، ثم قلته من ورائه فقد اغتبته. فقالت عائشة رضي الله عنها : قلت بحضرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في امرأة ما أطول درعها فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد اغتبتها فاستحلّي منها» (٢). وقال أبو نضرة عن جابر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الغيبة أشدّ من الزنا ، لأن الرجل يزني فيتوب فيتوب الله عليه والرجل يغتاب الرجل فيتوب فلا يتاب عليه حتّى يستحلّه» (٣). قال أبو جعفر : وفي الغيبة ما لا يقع فيه

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطّأ باب ٤ الحديث رقم (١٠) ، والترمذي في سننه ـ البر والصلة ٨ / ١٢٠ ، والدارمي في سننه ٢ / ٢٩٩ ، وأبو داود في سننه الحديث رقم (٤٨٧٤).

(٢) أخرجه أبو داود في سننه ـ الأدب ـ الحديث رقم (٤٨٧٥).

(٣) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ٩١ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ٥٣٣ ، والتبريزي في ـ

١٤٣

استحلال ، وهو أعظم ، كما روي أن رجلا قال لمحمد بن سيرين : إنّي قد اغتبتك فحلّلني فقال : إنّي لا أحلّ ما حرّم الله تعالى. وروى عقيل عن ابن شهاب أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلّما كرهت أن تقوله لأخيك في وجهه ثم قلته من ورائه فقد اغتبته» (١). (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) هذا الأصل ثم من خفّف قال : ميتا (فَكَرِهْتُمُوهُ) قال الكسائي : المعنى فكرهتموه فينبغي أن تكرهوا الغيبة. وقال محمد بن يزيد : أي فكرهتم أن تأكلوه فحمل على المعنى مثل : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) [الشرح : ١].

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (١٣)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) عامّ والذي بعده خاص لأن الشعوب والقبائل في العرب خاصّة (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) روى عبد الرحمن في العرب خاصة قيل: يا رسول الله من خير الناس؟ قال : «من طال عمره وحسن عمله»؟ (٢) وقالت درّة : سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من خير الناس؟ قال : «أمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرّحم وأتقاهم» (٣) قال ابن عباس : ترك الناس هذه الآية : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) وقالوا : بالنسب. وقال أبو هريرة : ينادي مناد يوم القيامة إني جعلت نسبا وجعلهم نسبا. (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ليقم المتّقون فلا يقوم إلّا من كان كذلك.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤)

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) قال محمد بن يزيد : هذا على تأنيث الجماعة أي قالت جماعة الأعراب (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) والإسلام في اللغة الخضوع والتذلّل لأمر الله جلّ وعزّ والتسليم له والإيمان والتصديق بكلّ ما جاء من عند الله جلّ وعزّ فإذا خضع لأمر الله سبحانه وتذلّل له فهو مصدّق ، وإذا كان مصدّقا فهو مؤمن ، ومن كان على هذه الصفة فهو مسلم مؤمن إلّا أن للإسلام موضعا أخر وهو الاستسلام خوف

__________________

ـ مشكاة المصابيح (٤٨٧٤) ، والسيوطي في الحاوي للفتاوى ١ / ١٧٢ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٣ / ٥١١ ، وابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث (٢٤٧٤).

(١) أخرجه مالك في الموطأ باب ٤ ـ الحديث (١٠).

(٢) أخرجه الترمذي في سننه (٢٣٢٩) ، وأحمد في مسنده ٤ / ١٨٨ ، و٥ / ٤٠ ، والدارمي في سننه ٢ / ٣٠٨ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٣ / ٣٧١.

(٣) أخرجه القرطبي في تفسيره ٤ / ٤٧.

١٤٤

القتل (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) هذه قراءة أكثر الناس ، وبها قامت الحجّة وقرأ أبو عمرو والأعرج لا يألتكم (١) وهي مخالفة للسواد إلا أن من قرأ بها يحتجّ بإجماع الجميع على (وَما أَلَتْناهُمْ) [الطور : ٢١] والقول في هذا : إنّهما لغتان معروفتان مشهورتان ، فإذا كان الأمر كذلك فاتباع السواد أولى.

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٦)

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) على التكثير من تعلمون.

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٧)

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) «أن» في موضع نصب بمعنى يمنون عليك إسلامهم ، ويجوز أن يكون التقدير بأن ثم حذفت الباء. (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ) أي بأن ولأن ثمّ حذف الحرف فتعدّى الفعل.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨)

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) مبتدأ وخبر أي عالم به ، وإذا علمه جازى عليه.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٤ ، والبحر المحيط ٨ / ١١٦.

١٤٥

(٥٠)

شرح إعراب سورة ق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (١)

(ق) غير معربة لأنها حرف تهجّ. قال أبو جعفر : قد ذكرنا معناها. (وَالْقُرْآنِ) خفض بواو القسم. (الْمَجِيدِ) من نعته. قال سعيد بن جبير : «المجيد» الكريم ، فأما جواب القسم ففيه أربعة أجوبة : قال الأخفش سعيد : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) [ق : ٤] وقال أبو إسحاق : الجواب محذوف أي والقرآن المجيد لتبعثنّ ، وقيل : بل المحذوف ما ذلّ عليه سياق الكلام لأنهم قالوا : إنّ هذا النبيّ عجيب تعجّبوا من أن يبعث إليهم رجل من بني أدم فوقع الوعيد على ذلك أي والقرآن المجيد لتعلمنّ عاقبة تكذيبكم يوم القيامة فقالوا : (أَإِذا مِتْنا). قال أبو جعفر : فهذان جوابان ، ومن قال : معنى قضي الأمر والله فليس يحتاج إلى جواب ، لأن القسم متوسّط ، كما تقول : قد كلّمتك والله اليوم. والجواب الرابع أن يكون «ق» اسما للجبل المحيط بالأرض. قال ذلك وهب بن منبّه. فيكون التقدير : هو قاف والله ، فقاف على هذا في موضع رفع. قال أبو جعفر : وأصحّ الأجوبة أن يكون الجواب محذوفا للدلالة لأن إذا متنا جواب فلا بدّ من أن يكون «إذا» متعلّقة بفعل أي أنبعث إذا ، فأما أن يكون الجواب قد علمنا فخطأ ؛ لأن «قد» ليست من جواب الأقسام ، وقاف إذا كان اسما للجبل فالوجه فيها الإعراب.

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) (٢)

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي لم يكذّبوك لأنّهم لا يعرفونك بالصدق بل عجبوا أن جاءهم برسالة رب العالمين. (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ).

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (٣)

(أَإِذا مِتْنا) أي أنبعث إذا متنا. (وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) ومعنى بعيد عند الفراء لا يكون. وذلك معروف في اللغة.

١٤٦

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (٤)

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي من لحومهم وأبدانهم (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) بمعنى حافظ لأنه لا يندرس ولا يتغير.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (٥)

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أي لم يكذّبوك لشيء ظهر عندهم. (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) روي عن ابن عباس : «مريج» منكر. وعنه : مريج في ضلالة ، وعنه : مريج مختلف ، وقال مجاهد وقتادة : مريج ملتبس ، وقال الضّحاك وابن زيد : مريج مختلط. قال أبو جعفر : وهذه الأقوال ، وإن كانت ألفاظها مختلفة فمعانيها متقاربة ؛ لأن الأمر إذا كان مختلفا فهو ملتبس منكر في ضلالة ؛ لأن الحقّ بيّن واضح.

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٦)

أي أفلم ينظر هؤلاء المشركون الذين أنكروا البعث وجحدوا قدرتنا على إحيائهم بعد البلى إلى قدرتنا على خلق السماء حتّى جعلناها سقفا محفوظا. (وَزَيَّنَّاها) أي بالكواكب. (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) يكون جمعا ويكون واحدا أي من فتوق وشقوق.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٧)

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي بسطناها ونصبت الأرض بإضمار فعل أي وبسطنا الأرض ، والرفع جائز إلّا أن النصب أحسن لتعطف الفعل على الفعل. (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي جبالا رست في الأرض أي ثبتت. (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي نوع. قال ابن عباس : (بَهِيجٍ) حسن.

(تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٨)

(تَبْصِرَةً) مصدرا ، ومفعول له أي فعلنا ذلك لنبصّركم قدرة الله سبحانه (وَذِكْرى) أي ولتذكروا عظمة الله وسلطانه فيعلموا أنه قادر على أن يحيي الموتى ويفعل ما يريد. (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي راجع إلى الإيمان وطاعة الله جلّ وعزّ.

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) (٩)

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) وهو المطر. (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) زعم الفراء (١) : أنّ الشيء أضيف إلى نفسه ؛ لأن الحب هو الحصيد عنده. قال أبو جعفر :

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٧٦.

١٤٧

سمعت علي بن سليمان يحكي عن البصريين منهم محمد بن يزيد أن إضافة الشيء إلى نفسه محال ، ولكن التقدير حبّ النبت الحصيد.

(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) (١٠)

(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) أي وأنبتنا النخل طوالا ، وهي حال مقدرة «باسقات» على الحال (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) رفعت طلعا بالابتداء وإنه كان نكرة لما فيه من الفائدة.

(رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (١١)

(رِزْقاً لِلْعِبادِ) قال أبو إسحاق : رزقا مصدر ، ويجوز أن يكون مفعولا من أجله. (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي مجدبة ، ليس فيها زرع ولا نبات (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) مبتدأ وخبره أي الخروج من قبوركم كذا يبعث الله جلّ وعزّ ماء فينبت به الناس كما ينبت الزّرع (١) ، وقال أبو إسحاق : المعنى كما خلقنا هذه الأشياء نبعثكم.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) (١٤)

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أي كذّبت قبل هؤلاء المشركين الذين كذّبوا محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم قوم نوح ، والتاء لتأنيث الجماعة (وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ) (١٣). (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) قال مجاهد : الرّسّ : بئر. وقال قتادة : الأيكة الشجر الملتفّ (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) عطف كلّه. قال أبو مجلز سأل عبد الله بن عباس كعبا عن تبّع فقال : كان رجلا صالحا أخذ فتية من الأحبار فاستبطنهم فأسلم فأنكر ذلك قومه عليه. وفي حديث سهل بن سعد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تلعنوا تبّعا فإنه كان أسلم» (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) التقدير عند سيبويه : كلّهم ثم حذف لدلالة كلّ ، وأجاز النحويون جميعا : كلّ منطلق ، بمعنى كلّهم. قال أبو جعفر سمعت محمد بن الوليد يجيز حذف التنوين فيقول : كلّ منطلق بمعنى كلّهم. يجعله غاية مثل قبل وبعد. قال علي بن سليمان : هذا كلام من لم يعرف لم بني قبل وبعد ، ونظير هذا من الألفاظ لأن النحويين قد خصّوا الظروف للعلّة التي فيها ليست في غيرها. قال أبو جعفر : وهذا كلام بين عند أهل العربية صحيح. وحذفت الياء من (وَعِيدِ) لأنه رأس آية لئلا يختلف الآيات ، فأما من أثبتها في الإدراج وحذفها في الوقف فحجّته أنّ الوقف موضع حذف ، الدليل على ذلك أنك تقول : لم يمض ، فإذا وصلت كسرت الضاد لا غير ومعنى (فَحَقَّ وَعِيدِ) فوجب الوعيد من الله جلّ وعزّ للكفار بالعذاب في الآخرة والنقمة.

__________________

(١) مرّ الحديث في الآية ١٠ ـ الزخرف.

١٤٨

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٥)

(أَفَعَيِينا) (١) (بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) يقال : عيينا بالأمر وعييّ به إذا لم يتجه ، ولم يحسنه ، وإذا قلت : عيينا لم يجز الإدغام ؛ لأن الحرف الثاني ساكن فلو أدغمته في الأول التقى ساكنان. فأما المعنى فإنه قيل لهؤلاء الذين أنكروا البعث فقالوا (ذلك رجع بعيد) أفعيينا بالابتداء الخلق فنعيا بإحيائكم بعد البلى. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أفعيينا بالخلق الأول ، قال : يقول لم نعي به. قال أبو جعفر : وهكذا الاستفهام الذي فيه معنى التقرير والتوبيخ يدخله معنى النفي أي لم يعي بالخلق الأول (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي من البعث.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١٦)

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) الضمير الذي في به يعود على «ما» ، وأجاز الفراء (٢) أن يعود على الإنسان أي ويعلم ما توسوس إليه نفسه. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) قال ابن عباس : الوريد حبل العنق ، وللنحويين فيه تقديران : قال الأخفش سعيد: ونحن أقرب إليه بالمقدرة من حبل الوريد ، وقال غيره : أي ونحن أقرب إليه في العلم بما توسوس به نفسه من حبل الوريد.

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (١٧)

ولم يقل : قعيدان ففيه أجوبة : فمذهب سيبويه والكسائي أن المعنى عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ثم حذف. ومذهب الأخفش والفراء أن «قعيد» واحد يؤدي عن اثنين ، وأكثر منهما ، كما قال جلّ وعزّ : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧]. وقال محمد بن يزيد : إنّ التقدير في (قَعِيدٌ) أن يكون ينوى به التقديم أي عن اليمين قعيد ثم عطف عليه وعن الشمال. قال أبو جعفر : وهذا بيّن حسن ومثله (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢]. وقول رابع أن يكون قعيد بمعنى الجماعة ، كما يستعمل العرب في فعيل ، قال جلّ وعزّ : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤].

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١٨)

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) الضمير الذي فيه يعود على الإنسان أي ما يلفظ الإنسان من قول فيتكلّم به إلّا عند لفظ به. (رَقِيبٌ) أي حافظ يحفظ عليه. (عَتِيدٌ) معدّ. يكون هذا من متصرّفات فعيل يكون بمعنى الجمع وبمعنى مفعل وبمعنى مفعول مثل قتيل ، وبمعنى فاعل ، مثل قدير بمعنى قادر.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ١٢٢.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٧٧.

١٤٩

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١٩)

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) أي شدّته وغلبته على فهم الإنسان حتّى يكون كالسكران من الشراب أو النوم. (بِالْحَقِ) أي بأمر الآخرة الذي هو حقّ حتّى يتبيّنه عيانا ، وقول أخر أن يكون الحقّ هو الموت أي وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت. وصحّ عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قرأ وجاءت سكرة الحقّ بالموت (١) وكذا عن عبد الله بن مسعود رحمة الله عليه. قال : وهذه قراءة على التفسير. وفي معناها قولان : يكون الحقّ هو الله جلّ وعزّ أي وجاءت سكرة الله بالموت ، والقول الآخر قول الفراء تكون السّكرة هي الحق ، وجاءت السكرة الحقّ أضيف الشّيء إلى نفسه. (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي تلك السكرة ما كنت منه تهرب. فأما التذكير فبمعنى ذلك السّكر.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) (٢٠)

أي ما وعد الله عزوجل الكفار وأصحاب المعاصي بالنار.

(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٢١)

محمول على المعنى ، ولو كان على اللفظ لكان وجاء كلّ نفس معه والتقدير ومعها حذفت الواو للعائد ؛ والجملة في موضع نصب على الحال.

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢٢)

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) اختلف أهل العلم في هذه المخاطبة لمن هي فقالوا فيها ثلاثة أقوال : قال زيد بن أسلم وعبد الرحمن بأنّ هذه المخاطبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحكى عبد الله بن وهب عن يعقوب عن عبد الرحمن قال : قلت لزيد بن أسلم وهذه المخاطبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما أنكرت من هذا وقد قال الله سبحانه : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى : ٦ ، ٧]. قال : فهذا قول ، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) قال : هذا مخاطبة للكفار ، وكذا قال مجاهد ، وقال الضحاك : مخاطبة للمشركين ؛ وقال صالح بن كيسان بعد أن أنكر على زيد بن أسلم ما قاله ، وقال : ليس عالما بكلام العرب ولا له وإنما هذه مخاطبة للكفار. فهذان قولان ، والقول الثالث ما قاله الحسن بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال : هذا مخاطبة للبرّ والفاجر ، وهو قول قتادة. قال أبو جعفر : أما قول زيد بن أسلم فتأويله على أن الكلام تم عنده عند قوله جلّ وعزّ : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٢١)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٧٨ ، والمحتسب ٢ / ٢٨٣.

١٥٠

ثم ابتدأ يا محمد لقد كنت في غفلة من هذا الدّين ومما أوحي إليك من قبل أن تبعث إذ كنت في الجاهلية (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) أي فبصّرناك (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي فعلمك نافذ. والبصر هاهنا بمعنى العلم. وأولى ما قيل في الآية أنها على العموم للبرّ والفاجر يدلّ على ذلك (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) فهذا عامّ لجميع الناس برّهم وفاجرهم ، فقد علم أنّ معنى (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) وجاءتك أيّها الإنسان سكرة الموت ثم جرى الخطاب على هذا في (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) أي لقد كنت أيّها الإنسان في غفلة مما عاينت فإن كان محسنا ندم إذ لم يزدد ، وإن كان مسيئا ندم إذ لم يقلع هذا لما كشف عنهما الغطاء ، فبصرك اليوم نافذ لما عاينت. وقال الضحاك : فبصرك لسان الميزان : قيل : فتأوّل بعض العلماء هذا على التمثيل بالعدل أي أنت أعرف خلق الله جلّ وعزّ بعملك ، فبصرك به كلسان الميزان الذي يعرف به الزيادة والنقصان.

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) (٢٣)

(وَقالَ قَرِينُهُ) قال عبد الرحمن بن زيد : «قرينه» سائقه الذي وكّل به (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) قال : هذا ما أخذه وجاء به ، (هذا) في موضع رفع بالابتداء و (ما) خبر الابتداء و (عَتِيدٌ) خبر ثان ، ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ ، ويجوز أن يكون بدلا من «ما» ، ويجوز أن يكون نعتا لما على أن تجعل «ما» نكرة ، ويجوز النصب في غير القرآن مثل (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢].

(أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) (٢٤)

اختلف النحويون في قوله ألقيا ، فقال قوم : هو مخاطبة للقرين أي يقال للقرين : ألقيا. فهذا قول الكسائي والفراء ، وزعم (١) : أنّ العرب تخاطب الواحد بمخاطبة الاثنين فيقول : يا رجل قوما ، وأنشد : [الطويل].

٤٣٢ ـ خليليّ مرّا بي على أمّ جندب

لنقضي حاجات الفؤاد المعذّب(٢)

وإنّما خاطب واحدا واستدلّ على ذلك قوله : [الطويل]

٤٣٣ ـ ألم تر أنّي كلما جئت طارقا

وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب

وقال قوم : «قرين» للجماعة والواحد والاثنين مثل (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤]. قال أبو جعفر : وحدّثنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد عن بكر بن محمد المازني ، قال : العرب تقول للواحد : قوما على شرط إذا أرادت تكرير الفعل أي

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٧٨.

(٢) هذا الشاهد والذي بعده لامرئ القيس في ديوانه ص ٤١ ، والأشباه والنظائر ٨ / ٨٥ ، ولسان العرب (ندل) و (محل).

١٥١

قم قم ، فجاؤوا بالألف لتدلّ على هذا المعنى ، وكذا «ألقيا» وقول أخر : يكون مخاطبة لاثنين. قال عبد الرحمن بن زيد : معه السائق والحافظ جميعا. قال مجاهد وعكرمة : العنيد المجانب للحقّ والمعاند لله جلّ وعزّ. قال محمد بن يزيد : عنيد بمعنى معاند مثل ضجيع وجليس.

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) (٢٥)

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي لما يجب عليه من زكاة وغيرها. والخير المال. و (مُعْتَدٍ) على الناس بلسانه ويده. قال قتادة : (مُرِيبٍ) شاك.

(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) (٢٦)

(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) يكون «الذي» في موضع نصب بدلا من كلّ وبمعنى أعني ، ويكون رفعا بإضمار مبتدأ ، وبالابتداء وخبره (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ).

(قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٢٧)

(قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) أي ما جعلته طاغيا أي متعدّيا إلى الكفر. (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي في طريق جائر عن الحق.

(قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) (٢٨)

(قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : اعتذروا بغير عذر فأبطل عليهم حجّتهم (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي بالوعيد الذي لا حيف فيه ، ولا خلف له فلا تختصموا لديّ.

(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (٢٩)

(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) قال مجاهد : أي قد قضيت ما أنا قاض. (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي لا أخذ أحدا بجرم أحد.

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) (٣٠)

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) والعامل في يوم ظلام (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) في معناه قولان : أحدهما أنّ المعنى : ما في مزيد ، ويحتج صاحب هذا القول بقوله جلّ وعزّ : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [السجدة : ١٣ ، ص : ٨٥]. وهذا قول عكرمة ، ونظيره الحديث حين قيل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا تنزل دارا من دورك؟ فقال : «وهل ترك لنا عقيل من دار» (١) أي ما

__________________

(١) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٦ / ٣٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٠٤٢٩) و (٣٠٦٨٥).

١٥٢

ترك لنا دارا حتّى باعها وقت الهجرة فهذا قول ، والقول الآخر فهل من مزيد على الاستدعاء للزيادة. وهذا قول أنس بن مالك ، ويدلّ عليه الحديث الصحيح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزال جهنّم تقول هل من مزيد فيقول ربّ العالمين سبحانه وتعالى فيجعل قدمه فيها فيقول قط قط» (١). قال أبو جعفر : فهذا الحديث صحيح الإسناد ، ويدلّ على خلاف القول الأول. والله جلّ وعزّ أعلم.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (٣١)

أي قريب للمتقين ، أي للمتقين معاصي الله جلّ وعزّ.

(هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) (٣٢)

(هذا ما تُوعَدُونَ) أي : هذا الذي وصفناه للمتّقين الذي توعدون (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) قال ابن زيد لكل تائب راجع إلى الله لطاعته : وعن ابن عباس (أَوَّابٍ) مسبّح ، وعنه (حَفِيظٍ) حفظ ذنوبه حتّى تاب منها. وقال قتادة : «حفيظ» حافظ لما ائتمنه الله جلّ وعزّ عليه ، ومعنى هذا أنه حفظ جوارحه عن معاصي الله تعالى.

(مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) (٣٤)

(مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) في موضع خفض على البدل من «كلّ» ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء و (خَشِيَ) في موضع جزم بالشرط ، والتقدير : (خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) فيقال لهم : (ادْخُلُوها) على معنى من ، وما قبله على لفظها و (مُنِيبٍ) تائب راجع إلى الله جلّ وعزّ (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) أي ذلك الذي وصفناه للمتقين يوم لا يزولون عنه.

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (٣٥)

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) أي لهم ما يريدون وزيادة في الكرامة وفسّر أنس بن مالك معنى (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) فلما لا يجوز أن يؤخذ باقتراح ولا يؤخذ إلّا عن النبيّ عليه‌السلام في (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) قال : قال : «يتجلّى لهم ربّ العالمين فيقول وعزّتي لأتجلّينّ لكم حتّى تنظروا إليّ فيقول : مرحبا بعبادي وجيراني وزواري ووفدي انظروا إليّ» (٢) فذلك نهاية العطاء وفضل المزيد.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في سننه (٣٢٧٢) ، وأحمد في مسنده ٣ / ١٣٤ ، وذكره ابن حجر في فتح الباري ١١ / ٥٤٥ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ٧ / ٢٠٤.

(٢) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (٤٦١٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير ٨ / ٢١.

١٥٣

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) (٣٦)

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي قبل مشركي قريش الذين كذّبوك. (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) المهلكون أشد من الذين كذّبوك. منصوب على البيان (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أثّروا وحقيقته في اللغة طوّفوا وتوغّلوا. (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) قال الفراء : أي فهل كان لهم من الموت من محيص ، وحذف كان للدلالة وقراءة يحيى بن يعمر (فَنَقَّبُوا) شاذّة خارجة عن الجماعة وهي على التهديد.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (٣٧)

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) أي إن في إهلاكنا القرون التي أهلكناها وقصصنا خبرها. (لَذِكْرى) يتذكّر بها من كان له قلب يعقل به (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي أصغى. (وَهُوَ شَهِيدٌ) متفهّم غير ساه ، والجملة في موضع نصب على الحال.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) (٣٨)

أثبت الهاء في ستة لأنه عدد لمذكر ، وفرقت بينه وبين المؤنث. ومعنى يوم : وقت فلذلك ذكر قبل خلق النهار (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) من لغب يلغب ويلغب إذا تعب.

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (٤٠)

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) فأنا لهم بالمرصاد (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) قال أهل التفسير : يعني به اليهود ؛ لأنهم قالوا استراح يوم السبت ، قال جلّ وعزّ : فاصبر على ما يقولون فأنا لهم بالمرصاد (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) حمله أهل التفسير على معنى الصلاة ، وكذا (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) قال ابن زيد : العتمة. وقال مجاهد : الليل كلّه. قيل : يعني المغرب والعشاء الآخرة. قال : وهذا أولى لعموم الليل في ظاهر الآية (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (١) فيه قولان : قال ابن زيد : النوافل. قال : وهذا قول بيّن ؛ لأن الآية عامة فهي على العموم إلّا أن يقع دليل غير أن حجّة الجماعة جاءت لأن معنى (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) ركعتان بعد المغرب. قال ذلك عمر وعلي والحسن بن عليّ وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ، ومن التابعين الحسن ومجاهد والشّعبيّ وقتادة والضحاك ، وبعض المحدثين يرفع حديث علي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وإدبار السجود) قال : «ركعتان بعد المغرب». وقرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٤ ، والبحر المحيط ٨ / ١٢٨.

١٥٤

(وَأَدْبارَ السُّجُودِ) بفتح الهمزة جعلوه جمع دبر ، ومن قال : إدبار جعله مصدرا من أدبر وأجمعوا جميعا على الكسر في (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) [الطور : ٤٩] فذكر أبو عبيد أنّ السجود لا ادبار له. وهذا مما أخذ عليه ، لأن معنى و (أَدْبارَ السُّجُودِ) وما بعده وما يعقبه فهذا للسجود ، والنجوم والإنسان واحد. وقد روى المحدّثون الجلّة تفسير (وَأَدْبارَ السُّجُودِ)(وَإِدْبارَ النُّجُومِ) فلا نعلم أحدا منهم فرّق ما بينهما.

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٤١)

وقرأ عاصم والأعمش وحمزة والكسائي (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (١) بغير ياء في الوصل والوقف ، وهو اختيار أبي عبيد اتباعا للخط. وقد عارضه قوم فقالوا : ليس في هذا تغيير للخط ؛ لأن الياء لام الفعل فقد علم أن حقّها الثبات. قال سيبويه : والجيّد في مثل هذا إثبات الياء في الوقف والوصل قال : ويجوز حذفها في الوقف. قال أبو جعفر : ذلك أنك تقول مناد ثم تأتي بالألف واللام فلا تغيّر الاسم عن حاله ، فأما معنى (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٤١).

فقيل فيه : أي حين يوم. قال كعب : المنادي ملك ينادي من مكان قريب ، من صخرة بيت المقدس بصوت عال يا أيّتها العظام البالية والأوصال المتقطعة اجتمعي لفصل القضاء.

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) (٤٢)

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) أي بالاجتماع للحساب (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) من قبورهم.

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) (٤٣)

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) حذف المفعول أي نحيي الموتى ونميت الأحياء (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) أي المرجع.

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) (٤٤)

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) العامل في «يوم» المصير أي وإلينا مصيرهم يوم تتشقّق و (تَشَقَّقُ) أدغمت التاء في الشين ، ومن قال : تشقّق حذف التاء ، (سِراعاً) على الحال ، قيل : من الهاء والميم ، وقيل لا يجوز الحال من الهاء والميم لأنه لا عامل فيها ، ولكن التقدير فيخرجون سراعا (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) أي سهل.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ١٢٩.

١٥٥

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٤٥)

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٤٥) (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) أي من الافتراء والتكذيب بالبعث (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي بمسلّط. قال الفراء : جعل جبّار في موضع سلطان ، ومن قال بجبّار معناه لست تجبرهم على ما تريد فمخطئ لأن فعّالا لا يكون من أفعل ، وإن كان الفراء (١) قد حكى أنه يقال : درّاك من أدرك فهذا شاذّ لا يعرف ، وحكى أيضا جبرت الرجل ، وهذا من الشذوذ ، وإن كان بعض الفقهاء مولعا بجبرت. (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) أي وعيدي لمن عصاني وخالف أمري.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٨١.

١٥٦

(٥١)

شرح إعراب سورة الذاريات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) (١)

(وَالذَّارِياتِ) خفض بواو القسم والواو بدل من الباء. (ذَرْواً) مصدر ، والتقدير والرّياح الذاريات. يقال : ذرت الريح الشيء : إذا فرّقته فهي ذارية وأذرت ، فهي مذريّة.

(فَالْحامِلاتِ وِقْراً) (٢)

(فَالْحامِلاتِ) عطف على الذّاريات ، والتقدير : فالسحاب الحاملات المطر هذا التفسير صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقيل الحاملات السفن ، وقيل الرياح ؛ لأنها تحمل السحاب (وِقْراً) كلّ ما حمل على الظهر فهو وقر.

(فَالْجارِياتِ يُسْراً) (٣)

(فَالْجارِياتِ) عطف أي فالسفن الجاريات. (يُسْراً) نعت لمصدر أي جريا يسرا.

(فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) (٤)

(فَالْمُقَسِّماتِ) عطف أيضا أي فالملئكة المقسّمات ما أمروا به أمرا.

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) (٥)

أي من الحساب والثواب والعقاب. وهذا جواب القسم.

(وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) (٦)

عطف. قال ابن زيد : «لواقع» لكائن.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) (٨)

(وَالسَّماءِ) خفض بالقسم. وقيل التقدير : وربّ السّماء ، وكذا لكلّ ما تقدّم (ذاتِ

١٥٧

الْحُبُكِ) (١) نعت. قال الأخفش : الواحد حباك. وقال الكسائي والفراء (٢) : حباك وحبيكة. وجواب القسم (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) (٨) قال قتادة : في معنى مختلف منكم مصدّق بالقرآن ومكذب به. وقال ابن زيد : يقول بعضهم : هذا سحر ، ويقول بعضهم : شيئا أخر قولا مختلفا ففي أي شيء الحقّ.

(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) (٩)

قال (٣) الحسن يصرف عن الإيمان والقرآن من صرف ، وقيل : يصرف عن القول أي من أجله لأنهم كانوا يتلقّون الرجل إذا أراد الإيمان فيقولون له : سحر وكهانة فيصرف عن الإيمان.

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) (١٠)

روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) (١٠) قال : يقول : لعن المرتابون ، وقال ابن زيد : يخترصون الكذب يقولون : شاعر وساحر وجاء بسحر ، وكاهن وكهانة وأساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا فيخترصون الكذب.

(الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) (١١)

(الَّذِينَ) في موضع رفع نعت للخراصين ، وهي مبتدأ ، و (ساهُونَ) خبره والجملة في الصلة وفي غير القرآن يجوز نصب ساهين على الحال. و (فِي غَمْرَةٍ) أي في تغطية الباطل والجهل: ومنه : فلان غمر وماء غمر يغطّي من دخله ، ومنه الغمرة. قال ابن زيد : ساهون عن ما أنزله الله وعن أمره ونهيه.

(يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) (١٢)

عن ابن عباس : يقولون : متى يوم الحساب. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي إيان (٤) بكسر الهمزة وهي لغة.

(يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١٣)

اختلف النحويون في نصب «يوم» فقال أبو إسحاق : موضعه نصب ، والمعنى يقع الجزاء يوم هم على النار يفتنون ، والنحويون غيره يقولون : يوم في موضع رفع على

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ١٣٣.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٨٢.

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ١٣٤.

(٤) انظر مختصر ابن خالويه ١٤٥.

١٥٨

البدل من قوله : (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) وتكلّموا في نصبه فقال الفراء (١) : لأنه أضيف إلى شيئين ، وأجاز الرفع فيه على أصله. وقال غيره : لأنها إضافة غير محضة. ومذهب الخليل وسيبويه أنّ ظروف الزمان غير متمكنة فإذا أضيف إلى غير معرب أو إلى جملة مثل هذه بنيت على الفتح ، وأجازا : مضى يوم قام ، وأنشد النحويون وأصحاب الغريب لامرئ القيس : [الطويل]

٤٣٤ ـ ويوم عقرت للعذارى مطيتي (٢)

بنصب «يوم» وموضعه رفع على من روى «ولا سيّما يوم» (٣) وخفض على من روى «ولا سيّما يوم». قال أبو جعفر : ولا نعلم أحدا رفعه ولا خفضه ، والقياس يوجب إجازة هذين. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١٣) قال : يعذّبون. وقال محمد بن يزيد : هو من قولهم : فتنت الذهب والفضة إذا أحرقتهما لتختبرهما وتخلصهما. وقال بعض المتأخرين : لما كانت الفتنة في اللغة هي الاختبار لم تخرج عن بابها والمعنى عليها صحيح ، والتقدير : يوم هم على النار يختبرون فيقال : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر : ٤٢].

(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (١٤)

الذين هم قال مجاهد وعكرمة وقتادة : أي عذابكم (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) مبتدأ وخبر لأنهم كانوا يستعجلون في الدنيا بالعذاب تهزّؤا وإنكارا.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (١٥)

أي إن الذين اتقوا الله تعالى بترك معاصيه وأداء طاعته في بساتين وأنهار فكذا المتّقي إذا كان مطلقا ، فإن كان متقيا للسّرق غير متّق للزنا لم يقل له متّق ، ولكن يقال له : متّق للسّرق فكذا هذا الباب كلّه.

(آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) (١٦)

(آخِذِينَ) نصب على الحال ، ويجوز رفعه في غير القرآن على خبر «إن». فأما معنى (ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) ففيه قولان : أحدهما في الجنّة ، والآخر أنّهم عاملون في الدنيا بطاعة الله سبحانه وبما افترضه عليهم فهم آخذون به غير متجاوزين له كما روي عن ابن

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٨٣.

(٢) مرّ الشاهد رقم (٢١٤).

(٣) إشارة إلى قول امرئ القيس في معلقته :

«ولا سيّما بدارة جلجل»

١٥٩

عباس في قوله جلّ وعزّ : (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) قال : الفرائض ، وعنه (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) قال : قبل أن يفرض عليهم الفرائض.

(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) (١٧)

تكون «ما» زائدة للتوكيد ، ويكون المعنى كانوا يهجعون قليلا أي هجوعا قليلا ويجوز أن يكون «ما» مع الفعل مصدرا ويكون «ما» في موضع رفع وينصب «قليلا» على أنه خبر «كان» أي كانوا قليلا من الليل هجوعهم قال محمد بن يزيد : إن جعلت «ما» اسما رفعت «قليلا». وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس يهجعون ينامون.

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (١٨)

تأوله جماعة على معنى يصلّون ؛ لأن الصلاة مسألة استغفار ، وتأوله بعضهم على أنهم يصلون من أول الليل ويستغفرون اخره واستحبّ هذا ؛ لأن الله سبحانه أنثى عليهم به. وقال عبد الرحمن بن زيد : السّحر : السدس الآخر من الليل.

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (١٩)

(حَقٌ) رفع بالابتداء (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قال أبو جعفر : وقد ذكرنا أقوال جماعة من العلماء في المحروم ثمّ. وحدثنا الزهري محمد بن مسلم أنّه قال : المحروم الذي لا يسأل ، وأكثر الصحابة على أنه المحارف. وليس هذا بمتناقض ، لأن المحروم في اللغة الممنوع من الشيء فهو مشتمل على كل ما قيل فيه.

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (٢٠)

أي عبر وعظات للموقنين تدلّ على بارئها ووحدانيته.

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٢١)

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ) قال ابن زيد : وفي خلقه إياكم ، قال : وفيها أيضا آيات للسان والعين والكلام ، والقلب فيه العقل هل يدري أحد ما العقل وما كيفيته؟ ففي ذلك كلّه آيات (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي أفلا تتفكّرون فتستدلّوا على عظمة الله جلّ وعزّ وقدرته.

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) (٢٢)

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) رفع بالابتداء. واختلف أهل التأويل في معنى قوله : (رِزْقُكُمْ) وفي الرزق ما هو هل هو الحلال والحرام أم الحلال خاصة؟ فقال الضحاك : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) أي المطر ، وقال سعيد بن جبير : الثلج وكلّ عين ذائبة ، وتأويل ذلك واصل

١٦٠