إعراب القرآن - ج ٤

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

الفراء : جاء في التفسير فلم يكن لهم ناصر حتّى أهلكناهم ، قال : فيكون «فلا ناصر لهم» اليوم من العذاب.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٤)

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) على اللفظ ولو كان على المعنى لقيل : كانوا على بيّنة من ربهم ، وكذا (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) ولم يقل : لهم سوء أعمالهم ، وبعده (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) على المعنى ، ولو كان على اللفظ لكان واتّبع هواه.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (١٥)

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) وفي معناه أربعة أقوال : قال محمد بن يزيد : قال سيبويه (١) : أي فيما يتلى عليكم ويقصّ عليكم مثل الجنة ، وقال يونس : مثل بمعنى صفة ومثله فيما ذكرناه (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) [إبراهيم : ١٨] قال محمد بن يزيد : وكلا القولين حسن جميل وقال الكسائي : مثل الجنّة كذا وفيها كذا ولهم فيها كذا (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) أي مثل هؤلاء في الخير كمثل هؤلاء في الشرّ أي هؤلاء كهؤلاء. والقول الرابع عن أبي إسحاق قال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) تفسير لقوله جلّ وعزّ : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [الحج : ١٤] ثم فسّر تلك الأنهار فالمعنى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) مما قد عرفتموه في الدنيا من الجنات والأنهار جنّة (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) وفي قراءة أهل مكة فيما ذكره أبو حاتم (غَيْرِ آسِنٍ) (٢) على فعل يقال : أسن الماء يأسن ويأسن أسنا وأسونا فهو آسن وأسن يأسن أسنا فهو أسن ، وتحذف الكسرة لثقلها ، فيقال : أسن ، إذا أنتن. فإن تغيّر قالوا أجن الماء يأجن ويأجن (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) نعت خمر بمعنى ذات لذة ويجوز لذّة نعت لأنهار ، ويجوز النصب على المصدر ، كما تقول : هو لك هبة. (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) الكاف في موضع رفع وهي مرافعة كمثل عند الكسائي كما بيّنّا ، وأما الفراء (٣) فالتقدير عنده : أمن هو في هذه الجنات كمن هو خالد في النار (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) جمع معى وهو يذكّر ويؤنّث. وروى أبو أمامة الباهلي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله جلّ وعزّ : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) قال : «إذا قرّب منه تكرّهه ، وإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ولحم وجهه فيه ، فإذا شربه قطّع أمعاءه وخرج من دبره» (٤).

__________________

(١) انظر الكتاب ١ / ١٩٦.

(٢) انظر تيسير الداني ١٦٢.

(٣) انظر معاني الفراء ٣ / ٦٠.

(٤) انظر البحر المحيط ٨ / ٧٩.

١٢١

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٦)

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) على لفظ «من» (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) على المعنى. قال عبد الله بن بريدة : قالوا ذلك لعبد الله بن مسعود (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) على المعنى أيضا.

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١٧)

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) أي قبلوا الهدى وعملوا به. (زادَهُمْ هُدىً) قال أبو جعفر : قد ذكرناه. ومن حسن ما قيل في الضمير أن المعنى زادهم الله جلّ وعزّ هدى بما ينزل من الآيات والبراهين والدلائل والحجج على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيزداد المؤمنون بها بصيرة ومعرفة.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) (١٨)

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) هذه القراءة التي عليها حجّة الجماعة. وقد حكى أبو عبيد : أنّ في بعض مصاحف الكوفيين أن تأتيهم وقرئ على إبراهيم بن محمد بن عرفة عن محمد بن الجهم قال : حدّثنا الفراء قال : حدّثني أبو جعفر الرؤاسي قال : قلت لأبي عمرو بن العلاء ما هذه الفاء في قوله : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) قال : هي جواب للجزاء. قلت إنما هي (أَنْ تَأْتِيَهُمْ) فقال : معاذ الله إنما هي «إن تأتهم» (١). قال الفراء : فظننته أخذها عن أهل مكة لأنه عليهم قرأ. قال : وهي في بعض مصاحف الكوفيين «إن تأتهم» بسنة واحدة ولم يقرأ بها أحد منهم. قال أبو جعفر : ولا يعرف هذا عن أبي عمرو إلّا من هذه الطريق. والمعروف عنه أنه قرأ «أن تأتيهم» وتلك ال مع شذوذها مخالفة للسواد ، والخروج عن حجّة الجماعة. ومن جهة المعنى ما هو أكثر ، وذلك أنه لو كان «إن تأتهم بغتة» لكان المعنى يمكن أن تأتي بغتة وغير بغتة ، وقد قال الله جلّ وعزّ : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف : ١٨٧]. (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) جمع شرط أي علاماتها. قال الحسن : موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من علاماتها ، وقال غيره : بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من علاماتها ؛ لأنه لا نبيّ بعده إلى قيام الساعة. وقال قال عليه‌السلام «أنا والسّاعة كهاتين» (٢) قال محمد بن يزيد : وإنما قيل : شرط لأن لهم علامات وهيئات ليست للعامة. (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) قال الأخفش : أي فإنّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٨٠ ، قال : «بعثت أنا والساعة كهاتين وكفرسي رهان».

(٢) انظر تيسير الداني ٦٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٨١.

١٢٢

الساعة «ذكراهم» في موضع رفع بالابتداء على مذهب سيبويه ، وبالصفة على قول الكوفيين.

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ(١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ) (٢٠)

(فَاعْلَمْ) قال أبو إسحاق : الفاء جواب للمجازاة أي قد بيّنّا أن الله جلّ وعزّ واحد فاعلم ذلك. فأما مخاطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا ، وهو عالم به ففي ذلك غير جواب. قال أبو إسحاق : مخاطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطبة لأمته ، وعلى مذهب بعض النحويين أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور أن يخاطب بهذا غيره مثل (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) [يونس : ٩٤] وقيل : فاعلم علما زائدا على علمك لأن الإنسان قد يعلم الشيء من جهات وجواب رابع أنّ المعنى تحذير له من المعاصي أي فاعلم أنه لا إله إلّا الله وحده لا يعاقب على العصيان غيره. ويدلّ على هذا أنّ بعده واستغفر لذنبك كما تقول للرجل تحذّره من المعصية : اعلم أنّك ميّت فلست تأمره أن يفعل العلم وإنما تحذّره من المعاصي. قال أبو إسحاق : (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) أي متصرّفكم. (وَمَثْواكُمْ) أي مقامكم في الدنيا والآخرة. قال : (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي فرض (فَأَوْلى لَهُمْ).

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) (٢١)

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) فيه أجوبة فقال الخليل وسيبويه جوابان : أحدهما أن تكون (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) مرفوعين بالابتداء أي طاعة وقول معروف أمثل والثاني على خبر المبتدأ أي أمرنا طاعة وقول معروف. وقال غيرهما : التقدير منّا طاعة. وقول رابع أن يكون «طاعة» نعتا لسورة بمعنى ذات طاعة (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي جدّ الأمر. وقيل : هو مجاز أي أصحاب الأمر أي فإذا عزم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الحرب. (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) في القتال. (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) من التعلّل والهرب ، وقال أبو إسحاق : أي لكان صدقهم الله وإيمانهم به خيرا لهم.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (٢٢)

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ) (١) (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) هذه القراءة التي عليها الجماعة. قال أبو إسحاق : ولو جاز عسيتم لجاز عسى ربّكم فهي عنده لا تجوز البتة. ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عنه أنه قرأ (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي تولّاكم النّاس على ما لم

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ١٤٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٨٢.

١٢٣

يسمّ فاعله. (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) (أن) في موضع نصب خبر عسيتم. وهذه اللغة الفصيحة ، ومن العرب من يحذف «أن» من الخبر ، كما قال : [الوافر]

٤٢٧ ـ عسى الهمّ الّذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب (١)

ومن العرب من يأتي بالاسم في خبرها فينصبه فيقول : عسى زيد قائما.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٢٤)

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (٢٣) ثم قال جلّ وعزّ بعد (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وقد تقدّم وصفهم بالصّمم والعمى ، فمن أصحّ ما قيل في هذا وأحسنه أن المعنى : أولئك الذين لعنهم الله فلم ينلهم ثوابا فهم بمنزلة الصمّ لا يسمعون ثناء حسنا عليهم ولا يبصرون ما يسرّون به من الثواب ، فهذا جواب بيّن. وقد قيل : إنه دعاء ، وقد قيل : إنهم لا يسمعون أي لا يعلمون. وقد تأوّل بعض العلماء حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ الميّت ليسمع خفق نعالهم» (٢) أي ليعلم. وتأويل حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أهل القليب الذين قتلوا يوم بدر حين خاطبهم فقال : «هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا» (٣) ثمّ أخبر أنّهم يسمعون ذلك فتأول صاحب ذلك التأويل على أنّهم يعلمونه ، واحتج بقول الله عزوجل : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) [النمل : ٨٠] وهذا التأويل قد ردّه جماعة من العلماء على متأوليه ؛ لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المبين عن الله عزوجل ، وهو القائل «إنّ الميّت ليسمع خفق نعالهم» والمخبر بعذاب القبر ومساءلة الميّت وكذا أكثر أصحابه على ذلك يخبرون بتأدية الأعمال إلى الموتى فالصواب من ذلك أن يقال : إنّ الله جلّ وعزّ يؤدّي إلى الموتى من بني أدم ما شاء على ما شاء ويعذب من شاء ممن يستحقّ بما يشاء فأما قوله جلّ وعزّ : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر : ٢٢] و (إِنَّكَ لا

__________________

(١) الشاهد لهدبة بن خشرم في الكتاب ٣ / ١٨١ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٢٨ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٤٢ ، والدرر ٢ / ١٤٥ ، وشرح التصريح ١ / ٢٠٦ ، وشرح شواهد الإيضاح ٩٧ ، وشرح شواهد المغني ٤٤٣ ، واللمع ٢٢٥ ، والمقاصد النحوية ٢ / ١٨٤ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ١٢٨ ، وتخليص الشواهد ٣٢٦ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣١٦ ، والجنى الداني ص ٤٦٢ ، وشرح ابن عقيل ١٦٥ ، وشرح عمدة الحافظ ٨١٦ ، والمقرب ١ / ٩٨ ، وشرح المفصل ٧ / ١١٧ ، ومغني اللبيب ص ١٥٢ ، والمقتضب ٣ / ٧٠ ، وهمع الهوامع ١ / ١٣٠.

(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٢ / ٤٤٥ ، وذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٢ / ٤٦ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٨٢ ، والقرطبي في تفسيره ٧ / ٣٧٧ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٣ / ٥٤.

(٣) أخرجه البخاري في صحيحه ٥ / ٩٧ ، ٩٨ ، ومسلم في صحيحه ، الجنة ٧٦ ، والنسائي في سننه ٤ / ١٠١ ، وأحمد في مسنده ٢ / ٣٨ ، ١٣٠ ، و ٣ / ١٠٤ ، ١٤٥ ، و٤ / ٩ ، وذكره ابن أبي شيبة في مصنّفه ١٤ / ٣٧٧ ، والبيهقي في دلائل النبوة ٣ / ٤٨ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٥ / ٢٣.

١٢٤

تُسْمِعُ الْمَوْتى) [النمل : ٨٠]. فليس فيه مخالفة لهذا : وإنما المعنى ـ والله أعلم ـ إنك لا تسمع الموتى بقدرتك ولا بقوتك ، ولكن الله جلّ وعزّ يسمعهم كيف يشاء ويدلّ على هذا أنّ بعده (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) [النمل : ٨١] أي لست تهديهم أنت بقدرتك ولكن الله جلّ وعزّ يهدي من يشاء بلطفه وتوفيقه.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٢٤)

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) أي فيعملون بما فيه ويقفون على دلائله (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) أي أقفال تمنعها من ذلك.

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) (٢٥)

قال أبو إسحاق : أي رجعوا بعد سماع الهدى وتبيينه إلى الكفر (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) هذه قراءة أكثر الأئمة ، وقرأ أبو عمرو والأعرج وشيبة وعاصم الجحدري وأملي لهم (١) على ما لم يسمّ فاعله ، وقرأ مجاهد وسلام ويعقوب وأملي لهم (٢) بإسكان الياء فالقراءة الأولى بمعنى وأملى الله جلّ وعزّ لهم ، والقراءة الثانية تؤول إلى هذا المعنى ؛ لأنه قد علم أنّ الله تبارك وتعالى هو الذي أملى لهم ، والقراءة الثالثة بيّنة أخبر الله جلّ وعزّ أنه يملي لهم. والكوفيون يميلون (وَأَمْلى لَهُمْ) لأن الألف منقلبة من الياء ومعنى أملى له ؛ مدّ له في العمر ولم يعاجله بالعقوبة وهو مشتق من الملاوة ، وهي القطعة من الدهر ومنه ملاك الله جلّ وعزّ نعمته وتملّ حبيبك والملوان : الليل والنهار.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) (٢٦)

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) قال أبو إسحاق : أي الأمر ذلك الإضلال فإنهم قالوا لليهود سنطيعكم في بعض الأمر أي في التضافر على عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) (٣) هذه قراءة أكثر الأئمة ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي والله يعلم إسرارهم وهذا مصدر من أسرّ ، والأول جمع سرّ.

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (٢٧)

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) فيه حذف أي فكيف تكون حالهم (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ

__________________

(١) و (٢) انظر تيسير الداني ١٦٣ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٦٠٠.

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ٨٣ ، وتيسير الداني ١٦٣.

١٢٥

وَأَدْبارَهُمْ) قال مجاهد : أي وأستاههم ولكن الله جلّ وعزّ كريم يكنّى.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٢٨)

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) أي ذلك جزاؤهم بأنّهم اتّبعوا الشيء أسخط الله من ترك متابعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) أي اتّباع شريعته والإيمان به (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي فأحبط ذلك ، ويجوز أن يكون المعنى : فأحبط الله جلّ وعزّ ما عملوا من خير بكفرهم.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) (٢٩)

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) عن ابن عباس قال : هم المنافقون قال : والمرض الشكّ والتكذيب (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) قال : عداوتهم للمؤمنين قال محمد بن يزيد : الضغن ما تضمره من المكروه وقد ضغنت عليه واضطغنت.

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٣٠)

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) ويقال في معناه سيمياء (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) عن ابن عباس قال : فما رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم منافقا فخاطبه إلا عرفه قال محمد بن يزيد : في لحن القول في فحواه وفي قصده من غير تصريح ، قال : وقريب من معناه التعريض. وفي الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم يكون ألحن بحجّته من صاحبه فأقضي له على قدر ما أسمع. فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار» (١) قال محمد بن يزيد : معنى «ألحن بحجّته» أقصد وأمضى فيها. قال : ومنه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للسّعدين (٢) حين وجّههما إلى بني قريظة «إن أصبتماهم على العهد فأعلنا ذلك وإن أصبتماهم على غير ذلك فالحنا لي لحنا أعرفه ولا تفتّا في أعضاد المسلمين» (٣).

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٣١)

الابتلاء في اللغة الاختبار فقيل : المعنى : لنشدّدنّ عليكم في التعبّد ، وذلك في الأمر بالجهاد ، والنهي عن المعاصي. يدلّ على ذلك حتّى نعلم المجاهدين منكم

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه ٣ / ٢٣٥ ، و٩ / ٣٢ ، ومسلم في الأقضية ٤ ، وأحمد في مسنده ٦ / ٢٠٣ ، وذكره السيوطي في جمع الجوامع (٧٥٣٤) ، والشافعي في مسنده ١٥٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٤٥٣٦.

(٢) السعدان : هما سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.

(٣) انظر السيرة النبوية لابن هشام ٣ / ٢٢١.

١٢٦

والصابرين. (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أي ما عملتم فيما تعبّدتم به.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٣٤)

دخلت الفاء في خبر «إنّ» لأن اسمها الذين وصلته فعل فأشبه المجازاة فدخلت فيه الفاء ، ولو قلت : إنّ زيدا فمنطلق ، لم يجز.

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) (٣٥)

(فَلا تَهِنُوا) الأصل توهنوا حذفت الواو تباعا (وَتَدْعُوا) عطف عليه ، ويجوز أن يكون جوابا. قال محمد بن يزيد : السلم والسّلم والمسالمة واحد (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) قال مجاهد : الغالبون. (وَاللهُ مَعَكُمْ) أي ينصركم (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) قال الضّحاك : أي لن يظلمكم وقدّره أبو إسحاق على حذف أي لن ينقصكم ثواب أعمالكم. وروى يونس عن الزهري عن سالم عن أبيه وعنبسة يقول : عن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» (١) أي نقص وسلب. قال أبو جعفر : وفي اشتقاقه قولان : مذهب الفراء (٢) أنه مشتقّ من الوتر ، وهو الذّحل وهو قتل الرجل وأخذ ماله فالذي تفوته صلاة العصر لما فاته من الأجر والثواب بمنزلة من أخذ أهله وماله أي هو بمنزلة الذي وتر. والاشتقاق الآخر أن يكون من الوتر وهو الفرد كأنّه بمنزلة من قد بقي منفردا وخصّت بهذا ، لأنها في وقت أشغالهم ومعائشهم والأصل في يتركم يوتركم حذفت إلى مفعولين مثل (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) [الأعراف : ١٥٥] والتقدير عند الأخفش ولن يتركم في أعمالكم.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) (٣٦)

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) مبتدأ وخبره (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا). قال أبو إسحاق : وقد عرّفهم أنّ أجورهم الجنة ، قال : ويجوز (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) يريد على أن يجعله خبرا والجزم على العطف. قيل : المعنى : ولا يأمركم أن تنفقوا أموالكم كلّها في الجهاد ومواساة الفقراء.

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) (٣٧)

(فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) أي تمتنعوا مما يجب عليكم. قال أبو جعفر : وكذا البخل في اللغة (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) قيل : أي ويخرج ذلك البخل أضغانكم أي ما تضمرونه من امتناع النفقة خوف الفقر.

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده ٢ / ١٠٢.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٦٤.

١٢٧

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨)

(وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما) شرط وجوابه (فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي إنما يعود الضرر عليه والعقوبة (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) أي فلم يكلّفكم ذلك لمّا علمه منكم (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) قيل : إن تتولّوا عن نصرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي بقوم آخرين بدلا منكم (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) فيما فعلتموه.

١٢٨

(٤٨)

شرح إعراب سورة الفتح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (١)

الأصل إنّنا حذفت النون لاجتماع النونات. والنون والألف في «إنّا» في موضع نصب ، وفي «فتحنا» في موضع رفع وعلامات المضمر تتّفق كثيرا إذا كانت متصلة ، والفتح هاهنا فتح الحديبيّة. وقد توهّم قوم أنه فتح مكّة ممّن لا علم لهم بالآثار. وقد صحّ عن ابن عباس والبرآء وسهل بن حنيف أنّهم قالوا : هو فتح الحديبيّة وهو صحيح عن أنس بن مالك كما قرئ على أحمد بن شعيب عن عمرو بن علي قال : حدّثنا يحيى قال : حدّثنا شعبة قال : حدّثنا قتادة عن أنس بن مالك (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) قال : الحديبية. وصحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال عند منصرفه من الحديبيّة «لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها» ثمّ تلا (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (١) (١) الآية فإن قيل : لم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الدنيا ، فكيف قال في هذا الفضل العظيم الخطير أحبّ إليّ من الدنيا؟ وإنما تقول العرب : هذا في الشيء الجليل فيقولون : هو أسخى من حاتم طيّئ ، والدنيا لا مقدار لها. وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين مرّ بشاة ميّتة «والله للدّنيا أهون على الله جلّ وعزّ من هذه على أهلها» (٢) ففي ذلك غير جواب منها أنّ المعنى لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها لو كانت لي فأنفقتها في سبيل الله جلّ وعزّ. وقيل : خوطبوا بما يعرفون «فتحا» مصدر «مبينا» من نعته.

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢)

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) لام كي ، والمعنى لأن. قال مجاهد (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) قبل النّبوة. (وَما تَأَخَّرَ) بعد النبوة ، وقال الشعبي مثله إلّا أنه قال : إلى أن مات. (وَيُتِمَّ

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه ، الجهاد ب ٣٤ رقم ٩٧ ، والقرطبي في تفسيره ١٦ / ٢٥٩.

(٢) أخرجه الترمذي في سننه ـ الزهد ٩ / ١٩٨ ، وابن ماجة في سننه رقم الحديث (٤١١٠).

١٢٩

نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) عطف قيل : يتم نعمته عليه في الدنيا بالنصر وفي الآخرة بالثواب (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) قيل : طريق الجنة. قال محمد بن يزيد : الصراط المنهاج الواضح. قال أبو جعفر: التقدير : إلى صراط ثم حذفت إلى.

(وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٣)

(وَيَنْصُرَكَ اللهُ) عطف. (نَصْراً عَزِيزاً) مصدر «عزيزا» من نعته.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٤)

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : السكينة الرحمة ، قال محمد بن يزيد : السكينة فعيلة من السكون ، ومن السكينة الحلم والوقار وترك ما لا يعني. وروى مالك بن أنس عن الزهري عن علي بن الحسين وبعضهم يقول عن الحسين رضي الله عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (١) ، ومن الرحمة الحديث أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبّل الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال له الأقرع بن حابس : إنّ لي لعشرة أولاد ما قبّلت واحدا منهم قطّ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من لا يرحم لا يرحم» (٢). وفي بعض الحديث «أرأيت إن كان الله سبحانه قلع الرحمة من قلبك فما ذنبي» (٣). وفي ابن أبي طلحة عن ابن عباس (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) قال : بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله ثم زاد الصلاة ثمّ زاد الصيام ثم أكمل لهم دينهم.

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٦)

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) مفعولان (خالِدِينَ) على الحال (وَيُكَفِّرَ) عطف ، كذا (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ) نعت. وقرأ مجاهد وأبو عمرو دائرة السوء (٤) بضم السين ، وفتح السين ، وإن كانت القراءة به أكثر فإنّ ضمّها فيما زعم الفراء في هذا أكثر. والسّوء اسم الفعل ، والسّوء الشيء بعينه.

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطّأ ـ الحديث (٣) ، والترمذي في سننه ـ الزهد ٩ / ١٩٦.

(٢) و (٣) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٧٠.

(٤) انظر تيسير الداني ١٦٣ ، ومعاني الفراء ٣ / ٦٥.

١٣٠

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (٨)حال مقدّرة.

(لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٩)

قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليؤمنوا (١) مردودة على (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) ليؤمنوا. والقراءة بالتاء على معنى قل لهم ، وقيل إنّ المخاطبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطبة لأمته ، (وَتُعَزِّرُوهُ) على التكثير ، ويقال عزره يعزره. قال الحسن والضحاك : «وتعزّروه» أي تنصروه وتعظّموه. (وَتُسَبِّحُوهُ) أي تسبّحوا الله عزوجل. وقال قتادة : «تعزّروه» تعظّموه (وَتُوَقِّرُوهُ) تسوّدوه وتشرّفوه ، وتأوّله محمد بن يزيد على أنه للمبالغة قال : ومنه عزّر السلطان الإنسان أي بالغ في أدبه فيما دون الحدّ. قال أبو جعفر : ورأيت علي بن سليمان يتأوّله بمعنى المنع ، قال : فعزّرت الرجل الجليل منعت منه ونصرته ، وعزّرت الرجل ضربته دون الحدّ. واشتقاقه منعته من أن يعود إلى ما ضربته من أجله.

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١٠)

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) اسم «إنّ» ويجوز أن يكون الخبر (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ويجوز أن يكون الخبر (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وقرأ ابن أبي إسحاق (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) (٢) جاء به على الأصل ويجوز فسنؤتيه أجرا عظيما كالأول ، فسنؤتيه بإثبات الواو في الإدراج ، ويجوز فسنؤتيهي بإثبات الياء في الإدراج تبدل من الواو ياء. حكى هذا كلّه سيبويه وغيره.

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١١)

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) ويجوز إدغام اللام وإن كان فيه جمع بين ساكنين لأن الأول منهما حرف مدّ ولين ، ولا يجوز الإدغام في (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) عند الخليل وسيبويه ؛ لأن في الراء تكريرا فإن أدغمتها في اللام ذهب التكرير. (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ) جمع على أنّ اللسان مذكّر ومن أنّثه قال : ألسن. (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) هذه قراءة أكثر القراء ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٣ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٦٠٣.

(٢) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٦٠٣.

١٣١

(اضُّرُّا) (١) ففرّق بينهما جماعة من أصحاب الغريب منهم أبو عبيد فقال : الضّرّ : ضدّ النفع والضرّ : البؤس كما قال : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) [الأنبياء : ٨٣] فعلى هذا يجب أن يكون الضرّ هنا أولى ولكن حكى النحويّون أنّ ضرّه ضرّا وضرّا جائز مثل شرب شربا وشربا.

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) (١٢)

(وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) يقال : إنّ البور في لغة أزد عمان الفاسد ، وحكى الفراء : أن البور في كلام العرب لا شيء ، وأنه يقال : أصبحت أعمالهم بورا أي لا شيء.

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً(١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٦)

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي كلم الله (٢) جمع كلمة ، وقول سيبويه «هذا باب علم ما الكلم من العربيّة» يريد به جمع كلمة يريد ثلاثة أنحاء من الكلام اسما وفعلا وحرفا. والكلام اسم للجنس ، وقد أجاز بعض النحويين أن يكون الكلام بمعنى التكليم ، وأجاز : سمعت كلام زيد عمرا. قال أبو جعفر : وحقيقة الفرق بين الكلام والتكليم أن الكلام قد يسمع بغير متكلّم به ، والتكليم لا يسمع إلّا من متكلّم به. (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) وهو قوله جلّ وعزّ : (وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) [التوبة : ٨٣] ثم قال جلّ ثناؤه بعد هذا (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) يقال : كيف تدعون إلى القتال ، وقد قال (وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) وردّ عليهم قولهم (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ)؟ فالجواب عن هذا أنه إنما قال : (لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) وهؤلاء لم يدعوا في وقت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدلك على ذلك أنّ بعده. (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) ويعضد هذا الجواب جماعة الحجّة أن أبا بكر وعمر رحمهما‌الله هما اللذان دعيا الأعراب إلى القتال ، كما قال ابن عباس في قوله جلّ وعزّ : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال : إلى بني حنيفة أصحاب مسيلمة ، قال : ويقال إلى فارس

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٣ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٦٠٤.

(٢) انظر تيسير الداني ١٦٣.

١٣٢

والروم. قال مجاهد وعطية العوفي : (إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال : فارس. قال أبو جعفر : فكانت في هذه الآية دلالة على إمامة أبي بكر وعمر وفضلهما رضي الله عنهما وأنهما أخذا الإمامة باستحقاق لقول الله جلّ وعزّ (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) ولا يجوز أن يعطى الله جلّ وعزّ أجرا حسنا إلّا لمن قاتل على حقّ مع إمام عادل. قال الكسائي : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) على النسق. وقال أبو إسحاق : «أو يسلمون» مستأنف ، والمعنى أو هم يسلمون. قال الكسائي : وفي قراءة أبيّ بن كعب أو يسلموا (١) بمعنى حتّى يسلموا ، والبصريون يقولون : بمعنى إلى أن كما قال : [الطويل]

٤٢٨ ـ أو نموت فنعذرا(٢)

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) (١٧)

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أصل الحرج في اللغة الضيق. وعن ابن عباس : أن هذا في الجهاد ، وأنه كان في وقعة الحديبية فيمن تخلّف عنها.

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١٨)

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) قال جابر كنا ألفا وأربع مائة بايعنا على أن لا نفرّ. (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) أكثر أهل التفسير على أنه خيبر كانت لأهل الحديبية ، وقيل : هو فتح الحديبية. قال الزهري : وكان فتحا عظيما.

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢٠)

(فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) فأهل التفسير على أنها خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) عن ابن عباس والحسن قال : هو عيينة بن حصن الفزاري وقومه وعوف بن مالك النضري ومن معه جاءوا لينصروا أهل خيبر ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محاصر لهم فألقى في قلوبهم الرعب قال جلّ وعزّ : (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) وقيل : المعنى : ولتكون المغانم آية أي دلالة على صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإخباره بالغيب.

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ١٤٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٩٤.

(٢) مرّ الشاهد رقم ١٤٨.

١٣٣

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٢١)

(وَأُخْرى) في موضع نصب أي وعدكم أخرى (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) أي علم أنها ستكون.

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٢٢)

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) عن ابن عباس والحسن أيضا أنه في عيينة وعوف.

(سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٢٣)

(سُنَّةَ اللهِ) مصدر لأن معنى (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) سنّ الله عزوجل ذلك. قال أبو إسحاق : ويجوز «سنّة الله» بالرفع أي تلك سنة الله.

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٢٥)

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ)

رويت فيه روايات فمن أحسنها أنه في يوم فتح مكّة كفّ الله جلّ وعزّ أيدي الكفار بالرعب الذي ألقاه في قلوبهم وكفّ أيدي المؤمنين بأنه لم يأمرهم بقتالهم يدلّ على هذا قوله عزوجل : (بِبَطْنِ مَكَّةَ) ولم تنصرف مكة ؛ لأنها معرفة اسم للمؤنث ثم بيّن جلّ وعزّ أنه لم يترك أمرهم بقتالهم لأنهم مؤمنون وأخبر أنّهم كفار فقال : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ) معطوف على الكاف والميم وصدّوا الهدي (مَعْكُوفاً) على الحال. (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) «أن» في موضع نصب أي عن أن يبلغ محلّه ثم بيّن جلّ وعزّ لم لم يأمرهم بقتالهم فقال : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) «أن» في موضع رفع بدل والمعنى ولو لا أن تطئوهم أي تقتلوهم بالوطء ، وقيل : لأذن لكم في دخول مكة ولكنه حال بينكم وبين ذلك (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) من أهل مكة بالوطء ، وقيل : المعنى أنّ الله سبحانه علم أنّ هؤلاء الكفّار من يسلم ومن يولد له من يسلم فلم يأمر بقتلهم ويقال : إنّ على هذا نهى الله جلّ وعزّ عن قتل أهل الكتاب إذا أدّوا الجزية قال الله جلّ وعزّ : (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ). فأما معنى (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) فقيل لئلا يقتل المسلمون خطأ فتؤخذ الديات وقيل: معرّة أي عيب فيقال : لم يتقوا إذ قتلوا أهل دينهم قال الله سبحانه : (لَوْ تَزَيَّلُوا

١٣٤

لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي لو انمازوا لأمرناكم أن تعذبوهم بالقتل.

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٢٦)

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ)

روي عن ابن عباس قال : هم المشركون صدّوا عن المسجد الحرام ومنعوا الهدي أن يبلغ محلّه فأما حقيقة الحميّة في اللغة فهي الأنفة والإنكار فإن كانت لما يجب فهي حسنة ويقال فاعلها حامي الذمار ، كما قال : [الكامل]

٤٢٩ ـ حامي الذّمار على محافظة

الجليّ أمين مغيّب الصّدر(١)

وإن كانت لما لا يجب فهي ضلال وغلوّ كما قال جلّ وعزّ : (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) فأما (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) فللعلماء فيه قولان : روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) «لا إله إلّا الله» وهي رأس كلّ تقوى وكذلك يروى عن علي وابن عمر وأبي هريرة وسلمة بن الأكوع رحمهم‌الله قالوا : كلمة التقوى «لا إله إلا الله» وروى محمد بن إسحاق عن الزهري عن المسور ومروان (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : يعني (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال الزهري : لمّا كتب الكتاب بالمقاضاة وأملاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بسم الله الرحمن الرحيم) أنكروا ذلك ، وقالوا : ما نعرف إلا «باسمك اللهمّ» فأمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكتب كما قالوا. وهذان القولان ليسا بمتناقضين ، لأن الله جلّ وعزّ قد ألزم المؤمنين التوحيد وبسم الله الرحمن الرّحيم. وقد كانوا أنكروا في هذا الكتاب «من محمد رسول الله» وقالوا من محمد عبد الله. (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) خبر كان أي أحقّ بها من غيرهم لأنهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين اختارهم الله جلّ وعزّ له.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (٢٧)

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ)

ثم بيّن الرؤيا بقوله عزوجل : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) وتكلّم العلماء في معنى «إن شاء الله» هنا لأن الاستثناء لا يكون في البشارة فيكون فيه فائدة إنما الاستثناء من المخلوقين ؛ لأنهم لا يعرفون عواقب الأمور فقيل الاستثناء من امنين. وقيل : إنما حكي ما كان من الرؤيا وقيل خوطب الناس بما يعرفون ومن حسن ما فيه

__________________

(١) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ٩٠.

١٣٥

أن يكون الاستثناء لمن قتل منهم أو مات ، وقد زعم بعض أهل اللغة أنّ المعنى لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله. وزعم أنه مثل قوله : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٧٨] وأنّ مثله : وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون. وهذا قول لا يعرّج عليه ، ولا يعرف أحد من النحويين «إن» بمعنى «إذ» وإنّما تلك «أن» فغلط وبينهما فصل في اللغة والأحكام عند الفقهاء والنحويين (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) نصب على الحال ، وهي حال مقدرة. وزعم الفراء (١) أنه يجوز «محلّقون رؤوسكم ومقصّرون» بمعنى بعضكم كذا وبعضكم كذا وأنشد : [البسيط]

٤٣٠ ـ وغودر البقل ملويّ ومحصود(٢)

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٢٨)

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) قيل : بالحجج والبراهين ، وقيل : لا بد أن يكون هذا ، وقيل : وقد كان لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث والأديان أربعة فقهرت كلّها في وقته ، وفي خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وفي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المعنى ليظهره على أمر الدّين كلّه أي ليبينه له. قال أبو جعفر : هذا من أحسن ما قيل في الآية لأنه لا معارضة فيه.

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩)

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) مبتدأ وخبره (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) مثله. وروى قرّة عن الحسن أنه قرأ (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٣) بالنصب على الحال وخبر «الذين» «تراهم» ، ويجوز أن يكون الذين في موضع نصب بإضمار فعل يفسّره تراهم. (رُكَّعاً سُجَّداً) على الحال. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي علامتهم. وأصحّ ما قيل فيه أنّهم يوم القيامة يعرفون بالنور الّذي في وجوههم. وفي الحديث «تأتي أمتي غرّا محجّلين» (٤) (ذلِكَ مَثَلُهُمْ) مبتدأ وخبره (فِي التَّوْراةِ) تمام الكلام على

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٦٨.

(٢) مرّ الشاهد رقم (٣٨٤).

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ١٠٠ ، ومختصر ابن خالويه ١٤٢.

(٤) أخرجه مالك في الموطأ باب ـ الحديث ٢٨ ، وابن ماجة في سننه ـ الطهارة باب ٦ الحديث (٢٨٣).

١٣٦

قول الضّحاك وقتادة ، ويكون (مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) مبتدأ ، وخبره (كَزَرْعٍ) ، وعلى قول مجاهد التمام (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) تعطف مثلا على مثل ثم تبتدئ «كزرع» أي هم كزرع. (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) عن ابن عباس قال : السنبلة بعد أن كانت وحدها تخرج معها سبع سنابل وأكثر وروى حميد عن أنس (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) (١) قال : نباته وفراخه. قال أبو جعفر : إن خفّفت الهمزة قلت شطه فألقيت حركتها على الطاء وحذفتها (فَآزَرَهُ) (٢) قال أهل اللغة : أي لحق بالأمهات. وأصل أزره قوّاه (فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) جمع ساق على فعول حذف منه (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) قيل : الكفار هاهنا الزراع ؛ لأنهم يغطون الزّرع ، وقيل : هم الذين كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا أولى ؛ لأنه لا يجوز يعجب الزراع ليغيظ بهم الزراع. (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) تكون «منهم» لبيان الجنس أولى ؛ لأنها إذا جعلت للتبعيض كان معنى آمنوا ثبتوا ، وذلك مجاز ولا يحمل الشيء على المجاز ومعناه صحيح على الحقيقة.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٤ ، والبحر المحيط ٨ / ١٠١.

(٢) انظر تيسير الداني ١٦٤.

١٣٧

(٤٩)

شرح إعراب سورة الحجرات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يا) حرف ينادى به ، وأي مضمومة ؛ لأنها نداء مفرد ، وها للتنبيه، (الَّذِينَ) في موضع رفع نعت لأيّ. ومن العرب من يقول : اللّذون (آمَنُوا) صلة «الذين». (لا تُقَدِّمُوا) جزم بالنهي ، وبعض النحويين يقول : جزم بلا لشبهها بلم ، وبعضهم يقول : لقوتها في قلب الفعل إلى المستقبل لا غيره. وروي في نزول هذه الآية أقوال فمن أصحّها سندا وأبينهما ما حدّثناه علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال : حدّثنا حجّاج عن ابن جريج قال : أخبرني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبرهم : أنه قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه : أمّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر رضي الله عنه بل أمّر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر : ما أردت إليّ أو إلى خلافي؟ فقال : ما أردت خلافك ، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).

قال الحسن : وحدّثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا سفيان بن حسين عن الحسن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) قال : لا تذبحوا قبل الإمام. وروى الضحاك عن ابن عباس (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) قال : هذا في القتال والشرائع لا تقضوا حتّى يأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال أبو جعفر : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة بل بعضها يشدّ بعضا ، لأن هذه الأشياء إذا كانت ونزلت الآية تأولها القوم على ظاهرها في كراهة تقديم القول بين يدي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل أن يتشاوروا ، وتأولها قوم على منع الذبح قبل الإمام ، ودلّ على هذا أنّ فعل الطاعات قبل وقتها لا يجوز تقديم الصلاة ولا الزكاة. وقراءة ابن عباس

١٣٨

والضحاك (لا تُقَدِّمُوا) (١) وزعم الفراء (٢) أن المعنى فيهما واحد. قال أبو جعفر : وإن كان المعنى واحدا على التساهل فثمّ فرق بينهما من اللغة قدّمت يتعدّى فتقديره لا تقدّموا القول والفعل بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقدّموا ليس كذا ، لأن تقديره لا تقدموا بالقول والفعل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) قال إبراهيم التيمي : فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : يا رسول الله لا أكلمك إلا أخا السّرار. قال ابن أبي مليكة قال عبد الله بن الزبير : فكان عمر بعد نزول هذه الآية لا يسمّع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلامه حتّى يستفهمه. وقال أنس : تأخّر ثابت بن قيس في منزله ، وقال : أخاف أن أكون من أهل النار حتّى أرسل إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لست من أهل النار» (٣) وعمل جماعة من العلماء على أن كرهوا رفع الصوت عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبحضرة العلماء وفي المساجد ، وقالوا : هذا أدب الله جلّ وعزّ ورسوله عليه‌السلام ، واحتجّوا في ذلك بحديث البراء وغيره ، كما قرئ على بكر بن سهل عن عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن زاذان أبي عمرو عن البرآء قال : خرجنا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يلحد فجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجلسنا حوله كأنّ رؤوسنا الطير ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكبّ في الأرض فرفع رأسه وقال : «استعيذوا بالله من عذاب القبر» (٤) مرّتين أو ثلاثا ، وذكر الحديث. فكان فيما ذكرناه فوائد : منها خروج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم فدلّ هذا على أنه لا ينبغي لإمام ولا لأمير ولا قاض أن يتأخر عن الحقوق من أجل ما هو فيه ، وفيه مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجلسنا حوله كأنّ على رؤوسنا الطير ، أي ساكنين إجلالا له فدلّ هذا على أنه كذا ينبغي لمن جالس عالما أو واليا يجب أن يجلّ ، كما روى عبادة بن الصامت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ليس منّا من لم يجلّ كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا» (٥). (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) الكاف في وضع

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ١٠٥ ، والمحتسب ٢ / ٢٧٨.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٦٩.

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ١٠٦.

(٤) أخرجه أحمد في مسنده ٤ / ٢٨٧ و٦ / ٣٦٢ ، وأبو داود في سننه (٤٧٥٣) ، والترمذي في سننه (٣٦٠٤) ، وذكره التبريزي في مشكاة المصابيح (١٦٣٠) ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٣ / ٤٩ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٤٠٠ ، وأبو نعيم الحلية ٨ / ١١٨.

(٥) ذكره الحاكم في المستدرك ١ / ١٢٢ ، والطبراني في المعجم الكبير ٨ / ١٩٦ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ـ

١٣٩

نصب أي جهرا كجهر بعضكم لبعض. (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) «أن» في موضع نصب فقال بعض أهل اللغة : أي لئلا تحبط أعمالكم ، وهذا قول ضعيف إذا تدبّر علم أنه خطأ ، والقول ما قاله أبو إسحاق هو غامض في العربية قال : المعنى لأن تحبط وهو عنده مثل : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨]. (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) قيل : أي لا تشعرون أنّ أعمالكم قد حبطت.

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٣)

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) اسم إنّ ، ويجوز أن يكون الخبر (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) ويكون «أولئك» مبتدأ ، و «الذين» خبره ، ويجوز أن يكون (الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) خبر إنّ و «أولئك» نعتا للذين ، ويجوز أن يكون خبر إنّ (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٤)

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) اسم «إنّ» والخبر (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ويجوز أن تنصب أكثرهم على البدل من الذين وقرأ يزيد بن القعقاع (الْحُجُراتِ) بفتح الجيم. وقد ردّه أبو عبيد على أنه جمع الجمع على التكثير. جمع حجرة على حجر ثمّ جمع حجرا على حجرات. قال أبو جعفر : وهذا خلاف قول الخليل وسيبويه ، ومذهبهما أنه يقال : حجرة وحجرات وغرفة وغرفات فتزاد منها فتحة فيقال : حجرات وركبات وتحذف فيقال : حجرات وركبات ، كما يقال : عضد عضد. وروى الضحاك عن ابن عباس : إنّ الّذين ينادونك من وراء الحجرات إعراب من بني تميم منهم عيينة ابن حصن صاحوا ألا تخرج إلينا يا محمد ، اخرج إلينا يا محمد. (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ما في هذا من القبح.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥)

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) أي عند النداء (حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً) أي لكان الصبر خيرا لهم ، ودلّ صبروا على المضمر. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) غفر لهم ورحمهم لأنهم لم يقصدوا بهذا استخفافا ، وإنما كان منهم سوء أدب.

__________________

ـ ٨ / ١٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٥٩٨٠) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ٢٥٩ ، والطحاوي في مشكل الآثار ٢ / ١٣٣.

١٤٠