إعراب القرآن - ج ٤

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (١١)

قال الأخفش : (لَمَقْتُ) هذه لام الابتداء ووقعت بعد (يُنادَوْنَ) لأن معناه يقال لهم والنداء قول. وقال غيره المعنى يقال لهم : لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقت بعضكم بعضا يوم القيامة لأن بعضهم عادى بعضا ومقته يوم القيامة فأذعنوا عند ذلك وخضعوا ، وطلبوا الخروج من النار فقالوا (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) و «من» زائدة للتوكيد.

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)

(ذلِكُمْ) في موضع رفع أي الأمر ذلكم أي ذلكم العذاب (بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) أي لأنه إذا وحّد الله كفرتم وأنكرتم ، وإن أشرك به مشرك صدّقتموه وامنتم به والهاء كناية عن الحديث (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) أي لله جلّ وعزّ وحده لا لما تعبدونه من الأصنام (الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ).

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (١٤)

فادعوه أي من أجل ذلك ادعوه (مُخْلِصِينَ) على الحال.

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (١٥)

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) على إضمار مبتدأ. قال الأخفش : يجوز نصبه على المدح ، وقرأ الحسن لتنذر يوم التلاق (١) وهي مخاطبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتأوّل أبو عبيد قراءة من قرأ لينذر بالياء أنّ المعنى : لينذر الله. وقال أبو إسحاق : الأجود أن يكون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أقرب وحذفت الياء من «التلاق» لأنه رأس آية.

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦)

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ هُمْ) في موضع رفع بالابتداء و (بارِزُونَ) خبره ، والجملة في موضع خفض بالإضافة ؛ فلذلك حذفت التنوين من يوم وإنما يكون في هذا عند سيبويه (٢) إذا كان كان الظرف بمعنى «إذ» تقول : لقيتك يوم زيد أمير ، فإذا كان بمعنى إذا لم يجز نحو : أنا ألقاك يوم زيد أمير (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أصحّ ما

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٣٧.

(٢) انظر الكتاب ٣ / ١٣٨.

٢١

قيل فيه ما رواه أبو وائل عن ابن مسعود ، قال : يحشر النّاس على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله جلّ وعزّ عليها فيؤمر مناد أن ينادي لمن الملك اليوم؟ فهذا قول بيّن. فأما أن يكون هذا والخلق غير موجودين فبعيد ؛ لأنه لا فائدة فيه. والقول الأول صحيح عن ابن مسعود ، وليس هو مما يؤخذ بالقياس ، ولا بالتأويل والمعنى على قوله فينادي مناد يوم القيامة ليقرّر الناس لمن الملك اليوم فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم : لله الواحد القهّار فيقول المؤمنون هذا سرورا وتلذاذا ، ويقول الكافرون هذا رغما وانقيادا وخضوعا.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (١٨)

(إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) نصبت كاظمين على الحال وهو محمول على المعنى. قال أبو إسحاق : المعنى : إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كظمهم ، وأجاز الفراء (١) أن يكون التقدير : وأنذرهم كاظمين على أنه خبر القلوب ، وقال : لأن المعنى إذ هم كاظمين. وقال الكسائي : يجوز رفع كاظمين على الابتداء (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) أي قريب (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) من نعت شفيع أي ولا شفيع يسأل فيجاب.

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (١٩)

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ). قال أبو إسحاق : أي من نظر ونيّته الخيانة ، وقال الفراء : يعلم خائنة الأعين النظرة الثانية (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) النظرة الأولى.

(وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٢٠)

(إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) «هو» زائدة فاصلة ، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء وما بعدها خبر عنها والجملة خبر «إنّ».

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) (٢١)

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) عطف على يسيروا في موضع جزم ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على أنه جواب ، والجزم والنصب في التثنية والجمع واحد. (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) اسم كان والخبر في كيف. (واقٍ) في موضع خفض معطوف على اللفظ ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على الموضع فرفعه وخفضه واحد لأن الياء تحذف وتبقى الكسرة دالّة عليها.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٦.

٢٢

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٢٣)

في قوله جلّ وعزّ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) [الإسراء : ١٠١] «وسلطان مبين» «السلطان» الحجّة وهو يذكّر ويؤنّث.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) (٢٤)

(إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ) أسماء أعجمية لا تنصرف وهي معارف ، فإن نكّرتها انصرفت. (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) مرفوع على إضمار مبتدأ أي هو ساحر.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ) (٢٥)

(قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) جمع ابن على الأصل والأصل فيه بني. وقال قتادة : هذا القتل الثاني فهذا على قوله إنه معاقبة لهم ، والقتل الأول كان لأنه قيل لفرعون : إنّه يولد في بني إسرائيل ولد يكون زوال ملكك على يده فأمر بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم ثم كان القتل الثاني عقوبة لهم ليمتنع الناس من الإيمان. قال الله جلّ وعزّ (ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي إنّه لا يمتنع النّاس من الإيمان ، وإن فعل بهم مثل هذا فكيف يذهب باطلا.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (٢٦)

(أَقْتُلْ) جزم لأنه جواب الأمر (وَلْيَدْعُ) جزم لأنه أمر و (ذَرُونِي) ليس بمجزوم وإن كان أمرا ، ولكن لفظه لفظ المجزوم وهو مبني ، وقيل : هذا يدلّ على أنّه قيل لفرعون : إنّا نخاف أن ندعو عليك فيجاب ، فقال (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (١) هذه قراءة المدنيين وأبي عبد الرحمن وابن عامر وأبي عمرو ، وقراءة الكوفيين (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (٢) وكذا في مصاحف الكوفيين «أو» بألف وإليه يذهب أبو عبيد ، قال : لأن «أو» قد تكون بمعنى الواو لأن في ذلك بطلان المعاني ، ولو جاز أن يكون بمعنى الواو لما احتيج إلى هذا هاهنا لأن معنى الواو إني أخاف الأمرين جميعا ، ومعنى «أو» لأحد الأمرين أي إنّي أخاف أن يبدّل دينكم فإن أعوزه ذلك أفسد في الأرض.

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَ

__________________

(١) و (٢) انظر تيسير الداني ١٥٥ ، والبحر المحيط ٧ / ٤٤١.

٢٣

جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٢٨)

(أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) في موضع نصب أي لأن يقول. (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) ولو كان «يكن» جاز ولكن حذفت النون لكثرة الاستعمال على قول سيبويه ، ولأنها نون الإعراب على قول أبي العباس.

(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) (٣٠)

(ظاهِرِينَ) نصب على الحال. وقد ذكرنا ما بعده (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) يعني به من أهلك والله أعلم.

(مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٣١)

(مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ) على البدل. (وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) لم ينصرف ثمود ؛ لأنه اسم للقبيلة وصرفه جائز على أنه اسم للحيّ. (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) في موضع خفض على النسق.

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) (٣٢)

وقراءة الضحاك (يَوْمَ التَّنادِ) (١) بالتشديد ، وقد رويت عن ابن عباس إلّا أنها من رواية الكلبي عن أبي صالح. قال أبو جعفر : يقال : ندّ البعير يندّ إذا نفر من شيء يراه ثم يستعار ذلك لغير البعير. وفي القراءة جمع بين ساكنين إلا أنه جائز.

(يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٣)

(يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) على البدل من (يَوْمَ التَّنادِ). (مُدْبِرِينَ) على الحال. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) في موضع خفض بمن ومن وما بعدها في موضع رفع ، ورفع هاد وخفضه واحد.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) (٣٤)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٤٤ ، والمحتسب ٢ / ٢٤٣.

٢٤

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) من قبل موسى صلّى الله عليهما فذكر وهب بن منبّه أن فرعون موسى هو فرعون يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمّر ، وغيره يقول : هو أخر وليس في هذه الآية دليل على أنه هو لأنه إذا أتى بالبيّنات فهي لمن معه ، ولمن بعده ، وقد جاءهم جميعا بها وعليهم أن يصدقوه بها. (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ).

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٣٥)

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ) في موضع نصب على البدل من «من» ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على معنى هم الذين يجادلون في آيات الله أو على الابتداء. (مَقْتاً) على البيان أي كبر جدالهم مقتا. (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) وقراءة أبي عمرو (عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (١) بالتنوين. قال أبو جعفر : قال أبو إسحاق : الإضافة أولى لأن المتكبّر هو الإنسان وقد يقال : قلب متكبر يراد به الإنسان.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ) (٣٧)

(أَسْبابَ السَّماواتِ) بدل من «الأسباب». (فَأَطَّلِعَ) عطف على (أَبْلُغُ) وقرأ الأعرج فأطلع (٢) بالنصب. قال أبو عبيد : على الجواب. قال أبو جعفر : معنى النصب خلاف معنى الرفع ؛ لأن معنى النصب متى بلغت الأسباب اطّلعت ومعنى الرفع لعليّ أبلغ الأسباب ثم لعليّ أطّلع بعد ذلك إلا أنّ ثم أشدّ تراخيا من الفاء. (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ) (٣) (عَنِ السَّبِيلِ) وقراءة الكوفيين وصدّ (٤) ويجوز على هذه القراءة وصدّ (٥) تقلب كسرة الدال على الصاد ، وقراءة ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة وصدّ عن السبيل.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) (٣٨)

وقراءة معاذ (أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) (٦). قال أبو جعفر : وقد ذكرناه.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٥٥.

(٢) انظر تيسير الداني ١٥٥ ، والبحر المحيط ٧ / ٤٤٦.

(٣) انظر تيسير الداني ١٥٥.

(٤) و (٥) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٤٦ ، وهذه قراءة الجمهور.

(٦) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٤٦.

٢٥

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٤٣)

(لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) قال أبو إسحاق : أي ليس له استجابة دعوة تنفع ، وقال غيره : ليس له دعوة توجب له الألوهة في الدنيا وفي الآخرة.

(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) (٤٥)

(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) أي في الآخرة. (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) قيل : هذا يدلّ على أنهم أرادوا قتله. قال الكسائي : يقال : حاق يحيق حيقا وحيوقا إذا نزل ولزم.

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٦)

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) فيه ستة أوجه تكون النار بدلا من سوء ، ويكون بمعنى هو النار ، وتكون بالابتداء ، وقال الفرّاء (١) : تكون مرفوعة بالعائد فهذه أربعة أوجه وأجاز الفرّاء النصب لأن بعدها عائدا وقبلها ما تتّصل به وأجاز الأخفش : الخفض على البدل من العذاب ، واحتجّ بعض أهل اللغة في تثبيت عذاب القبر بقوله جلّ وعزّ : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) قال فهذا في الدنيا ، وفي الحديث عن ابن مسعود قال : «إن أرواح ال فرعون ومن كان مثلهم من الكفار يعرضون على النار بالغداة والعشيّ فيقال هذه داركم» (٢) وفي حديث صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ الكافر إذا مات عرض على النار بالغداة والعشيّ ثم تلا (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) وإن المؤمن إذا مات عرضت روحه على الجنة بالغداة والعشي» (٣). قال الفرّاء (٤) : في الغداة والعشيّ أي بمقادير ذلك في الدنيا. قال أبو جعفر : غدوّ مصدر جعل ظرفا على السعة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) نصبت يوما بقوله (أَدْخِلُوا) (٥) وقراءة الحسن وأبي الحسن وأبي عمرو وعاصم ادخلوا آل فرعون أشد العذاب تنصب ال فرعون في هذه القراءة على النداء المضاف ومن قرأ أدخلوا ال فرعون نصبهم بوقوع الفعل عليهم و (آلَ فِرْعَوْنَ) من كان على دينه وعلى مذهبه وإذا كان من كان على دينه

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٩.

(٢) انظر الطبري ٢٤ / ٤٦ ، وتفسير عبد الرزاق ٣ / ١٩٢ ، والبغوي ٤ / ٩٩ ، وابن كثير ٤ / ٨٢ ، والدر المنثور ٥ / ٣٥٢.

(٣) أخرجه البخاري في صحيحه ٣ / ٢٤٣ ، ومسلم في صحيحه ٤ / ٢١٩٩.

(٤) انظر معاني الفراء ٣ / ٩.

(٥) انظر تيسير الداني ١٥٥.

٢٦

وعلى مذهبه في أشدّ العذاب كان هو أقرب إلى ذلك. وروى قتادة عن أبي حسّان الأعرج عن ناجية بن كعب عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ العبد يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا ، منهم يحيى بن زكريا صلّى الله عليهما وسلّم ولد مؤمنا وحيي مؤمنا ومات مؤمنا. وإن العبد يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا ، منهم فرعون ولد كافرا وحيي كافرا ومات كافرا».

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) (٤٧)

(فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) مصدر فلذلك لم يجمع ، ولو جمع لقيل : أتباع.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) (٤٨)

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) قال الأخفش : كل مرفوع بالابتداء ، وأجاز الفرّاء(١) والكسائي إنّا كلا فيها بالنصب على النعت. قال أبو جعفر : وهذا من عظيم الخطأ أن ينعت المضمر ، وأيضا فإنّ «كلّا» لا تنعت ولا ينعت بها. هذا قول سيبويه نصا. وأكثر من هذا أنّه لا يجوز أن يبدل من المضمر هاهنا ؛ لأنه مخاطب ، ولا يبدل من المخاطب ولا المخاطب ؛ لأنهما لا يشكلان فيبدل منهما. هذا قول محمد بن يزيد نصا. (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) أي حكم بينهم ألا يؤاخذ أحدا بذنب غيره.

(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ) (٥٠)

(الَّذِينَ) في موضع رفع ، ومن العرب من يقول : اللذون على أنه جمع مسلّم معرب ومن قال : الذين في موضع الرفع بناه ، كما كان في الواحد مبنيا. وقال سعيد الأخفش : ضمّت النون إلى الذي فأشبه خمسة عشر فبني على الفتح. وخزنة جمع خازن ، ويقال : خزّان وخزّن. (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ) جواب مجزوم ، وإذا كان بالفاء كان منصوبا إلّا أن الأكثر في كلام العرب في الأمر وما أشبهه أن يكون بغير فاء ، على هذا جاء القرآن بأفصح اللغات ، كما قال : [الطويل]

٣٩٤ ـ قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (٢)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١٠.

(٢) مرّ الشاهد رقم (٣٠٨).

٢٧

وفي الحديث عن أبي الدرداء قال : «يلقى على أهل النار الجوع حتّى يعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون منه فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع فيأكلون فلا يغني عنهم شيئا فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة فيغصّون به فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء فيستغيثون بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب فإذا دنا من وجوههم شواها فإذا وقع في بطونهم قطّع أمعاءهم وما في بطونهم فيستغيثون بالملائكة فيقولون «ادعوا ربكم يخفّف عنا يوما من العذاب» (١) فيجيبونهم (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ).

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٥٢)

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) ويجوز حذف الضمة لثقلها فيقال : رسلنا. (وَالَّذِينَ آمَنُوا) في موضع نصب عطفا على الرسل. وفي الحديث عن أبي الدرداء وبعض المحدثين يقول عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ردّ عن عرض أخيه المسلم كان حقّا على الله جلّ وعزّ أن يردّ عنه نار جهنّم» (٢) ثم تلا (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) وروى سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله جلّ وعزّ ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من النار ، ومن ذكر مسلما بشيء ليشينه به وقفه الله جلّ وعزّ على جسر جهنّم حتّى يخرج مما قال»(٣). (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) قال سفيان الثوري : سألت الأعمش عن الأشهاد فقال : الملائكة صلّى الله عليه وسلّم ، وقال زيد بن أسلم (٤) : الأشهاد : الملائكة والنبيون والمؤمنون والأجساد. قال أبو إسحاق : الأشهاد : جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب ، قال أبو جعفر : ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقاس عليه ، ولكن ما جاء منه مسموعا أدّى كما سمع وكان على حذف الزائد. وأجاز الأخفش والفرّاء (٥) : ويوم تقوم الأشهاد بالتاء على تأنيث الجماعة. وقرأ أبو عمرو وابن كثير لا تنفع الظالمين معذرتهم (٦) قال بعض أهل اللغة : كان الأولى به أن يقرأ ويوم تقوم الأشهاد لأن الفعل يلي الأسماء ، وأن يقرأ (لا يَنْفَعُ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في سننه في صفة جهنم ١٠ / ٥٤.

(٢) أخرجه الترمذي في سننه ـ البرّ والصلة ٨ / ١١٨.

(٣) أخرجه أبو داود في سننه ـ الأدب ـ الحديث رقم (٤٨٨٣).

(٤) زيد بن أسلم أبو أسامة ، مولى عمر بن الخطاب ، وردت عنه ال في حروف القرآن ، أخذ عنه شيبة ابن نصاح (١٣٦ ه‍) ، ترجمته في غاية النهاية ١ / ٢٩٦.

(٥) انظر معاني الفراء ٣ / ١٠.

(٦) انظر تيسير الداني ١٥٥.

٢٨

الظَّالِمِينَ) بالياء ؛ لأنه قد حال بين الفعل وبين الاسم. قال أبو جعفر : هذا لا يلزم لأن الأشهاد واحدهم شاهد مذكّر فتذكير الجميع فيهم حسن ، ومعذرة مؤنّثة في اللفظ فتأنيثها حسن.

(هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٥٤)

(هُدىً) في موضع نصب إلّا أنه يتبيّن فيه الإعراب لأنه مقصور. (وَذِكْرى) معطوف عليه ونصبهما على الحال.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٥٥)

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) مصدر جعل ظرفا على السعة ، والأبكار جمع بكر.

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٥٦)

قال أبو إسحاق : المعنى أنّ الذين يجادلون في دفع آيات الله وقدره مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وقال سعيد بن جبير (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) بغير حجة. والسلطان يذكّر ويؤنّث ولو كان بغير سلطان أتتهم ، لكان جائزا. (أَتاهُمْ) من نعت سلطان وهو في موضع خفض. (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) قال أبو إسحاق : المعنى : ما في صدورهم إلّا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه فقدره على الحذف. وقال غيره : المعنى ببالغي الكبر على غير حذف ؛ لأنّ هؤلاء قوم رأوا أنهم إن اتّبعوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلّ ارتفاعهم ونقصت أحوالهم وأنهم يرتفعون إذا لم يكونوا تبعا فأعلم الله جلّ وعزّ أنهم لا يبلغون الارتفاع الذي أمّلوه بالتكذيب (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي من شرّهم.

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧)

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبتدأ وخبره وهذه لام التوكيد ، وسبيلها أن تكون في أول الكلام لأنها تؤكّد الجملة إلّا أنها تزحلف عن موضعها. كذا قال سيبويه : تقول : إن عمرا لخارج وإنما أخّرت عن موضعها لئلّا يجمع بينها وبين «إنّ» لأنهما يؤديان عن معنى واحد ، كذلك لا يجمع بين إنّ وأنّ عند البصريين. وأجاز هشام : إنّ أنّ زيدا منطلق حقّ ، فإن حذفت حقّا لم يجز عند أحد من النحويين علمته ومما دخلت اللام في خبره قوله جلّ وعزّ بعد هذا (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها).

٢٩

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٦٠)

(ادْعُونِي) أمر غير معرب ولا مجزوم عند البصريين إلّا أن تكون معه اللام ، وعند الفراء مجزوم على حذف اللام «أستجب» مجزوم عند الجماعة ؛ لأنه بمعنى جواب الشرط وهذه الهمزة مقطوعة لأنها بمنزلة النون في نفعل ، وسقطت ألف الوصل لأنه قد استغني عنها.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٦١)

(جَعَلَ) هاهنا بمعنى خلق والعرب تفرق بين «جعل» إذا كانت بمعنى خلق وبين «جعل» إذا لم تكن بمعنى خلق ، فلا تعديها إلّا إلى مفعول واحد ، وإذا لم تكن بمعنى خلق عديتها إلى مفعولين نحو قوله جلّ وعزّ : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزخرف : ٣] (وَالنَّهارَ) عطف عليه (مُبْصِراً) على الحال.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٦٤)

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) وتروى عن ابن رزين (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) بكسر الصاد وقد بيّن هذا سيبويه (١) ، وذكر أن الكسرة مجاورة للضمة لأن العرب تقول : ركبة وركبات ويحذفون الضمة فيقولون : ركبات وكذلك هند وهندات ويحذفون الكسرة فيقولون : هندات ، فتجاورت الضمة والكسرة فجمعوا فعلة على فعل رشوة ورشى ، فكذا عنده صورة وصور وهذا من أحسن كلام في النحو وأبينه ، ونظيره أنهم يقولون (٢) : فخذ وفخذ وعضد وعضد ، فيحذفون الكسرة والضمة ولا يقولون : في جمل جمل فيحذفون الفتحة لخفتها ، ويقولون : سورة وسورة ولا يقولون : في فعلة مفتوحة اللام إلا فعال نحو : جفنة وجفان وفعلة مثل : فعلة يقولون : فيها فعل. ألا ترى إلى تجانس فعلة وفعلة ومباينة فعلة لهما.

(هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٥)

(مُخْلِصِينَ) على الحال. (لَهُ الدِّينَ) بوقوع الفعل عليه ، والتقدير : قولوا الحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) انظر الكتاب ٣ / ٤٤٠.

(٢) انظر ٤ / ٢٢٨.

٣٠

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦٧)

(ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) وهذا جمع الكثير ، ويقال : شيوخا ، وفي العدد القليل أشياخ والأصل : أشيخ مثل فلس وأفلس إلّا أن الحركة في الياء ثقيلة وقد كان فعل يجمع على أفعال وليست فيه ياء تشبيها بفعل ، قالوا : زند وأزناد ، فلما استثقلت الحركة في الياء شبّهوا فعلا بفعل فقالوا : شيخ أشياخ ، وإن اضطرّ شاعر جاز أن يقول : أشيخ مثل : عين أعين إلّا أنه حسن في عين لأنها مؤنثة ، والشيخ من جاوز أربعين سنة. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) قال مجاهد : أي من قبل أن يكون شيخا. قال أبو جعفر : ولهذا الحذف ضمّت قبل ، وقد ذكرنا العلة في اختيارهم الضمّ لها. قال مجاهد : (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) الموت للكلّ.

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) (٧١)

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) عطف على الأغلال. قال أبو حاتم (يُسْحَبُونَ) مستأنف على هذه القراءة ، وقال غيره : هو في موضع نصب على الحال والتقدير : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل مسحوبين. وروى أبو الجوزاء (١) عن ابن عباس أنه قرأ (وَالسَّلاسِلُ) (٢) بالنصب (يُسْحَبُونَ) والتقدير في قراءته : ويسحبون السلاسل. قال أبو إسحاق : من قرأ (وَالسَّلاسِلُ) (٣) بالخفض فالمعنى عنده وفي السلاسل يسحبون وفي الحميم والسلاسل. وهذا في كتاب أبي إسحاق «في القرآن» كذا ، والذي يبين لي أنه غلط لأن البيّن أنه يقدّره يسحبون في الحميم والسلاسل تكون السلاسل معطوفة على الحميم ، وهذا خطأ لا نعلم أحدا يجيز : مررت وزيد بعمرو ، وكذا المخفوض كلّه وإنما أجازوا ذلك في المرفوع أجازوا : قام وزيد عمرو ، وهو بعيد في المنصوب نحو : رأيت وزيدا عمرا ، وفي المخفوض لا يجوز لأن الفعل غير دال عليه.

(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) (٧٥)

أي ذلكم العذاب بما كنتم تفرحون بالمعاصي. وفي بعض الحديث لو لم يعذّب الله جلّ وعزّ إلّا على فرحنا بالمعاصي واستقامتها لنا. فهذا تأويل ، وقيل : إن فرحهم

__________________

(١) أبو الجوزاء : أوس بن عبد الله الربعي البصري ، أخذ عن عائشة وابن عباس (ت ٨٣ ه‍). ترجمته في (خلاصته تذهيب الكمال ٣٥).

(٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٥٤.

(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٥٤.

٣١

بما عندهم أنهم قالوا للرسل عليهم‌السلام : نحن نعلم أنا لا نبعث ولا نعذّب. وكذا قال مجاهد في قوله جلّ وعزّ : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) قال (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي بما كنتم تأشرون (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) أي تبطرون.

(ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٧٦)

(فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) في موضع رفع أي قبحت مثوى المتكبرين.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) (٧٨)

(فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) في موضع جزم بالشرط و «ما» زائدة للتوكيد وكذا النون وزال الجزم وبني الفعل على الفتح لأنه بمنزلة الشيئين الذي يضمّ أحدهما ، إلى الآخر (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) عطف عليه. (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) الجواب (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ) «من» في موضع رفع بالابتداء ، وكذا (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ).

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٧٩)

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) قال أبو إسحاق : الأنعام هاهنا الإبل. (لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فاحتجّ من منع أكل الخيل وأباح أكل الجمال بأنّ الله تعالى قال في الأنعام (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ، وقال في الخيل والبغال والحمير. (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) [النحل: ٨] ولم يذكر إباحة أكلها.

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) (٨١)

(فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) نصبت أيّا بتنكرون لأن الاستفهام يعمل فيه ما بعده ، ولو كان مع الفعل هاء لكان الاختيار الرفع في أيّ ، ولو كان الاستفهام بالألف أو بهل وكان بعدها اسم بعده فعل معه هاء لكان الاختيار النصب.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٢)

(كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) خبر كان ولم ينصرف لأنه على أفعل وزعم الكوفيون أن كل ما لا ينصرف يجوز أن ينصرف إلّا أفعل من كذا لا يجوز صرفه بوجه في شعر ولا غيره إذا كانت معه «من». قال أبو العباس : ولو كانت «من» المانعة لصرفه لوجب أن لا

٣٢

تقول : مررت بخير منك وشر من عمرو ، وكيف يجوز صرف ما لا ينصرف وفيه العلل المانعة من الصرف ، وإذا كان ينصرف فما معنى قولنا لا ينصرف لعلة كذا.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٨٣)

في معناه ثلاثة أقوال : قول مجاهد : إنّ الكفار الذين فرحوا بما عندهم من العلم ، وقالوا : نحن أعلم منهم لن نعذّب ولن نبعث وقيل : فرح الكفار بما عندهم من علم الدنيا نحو (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الروم : ٧]. وقيل : الذين فرحوا الرّسل لمّا كذبهم قومهم أعلمهم الله جلّ وعزّ أنه مهلك الكافرين ومنجيهم والمؤمنين ففرحوا بما عندهم من العلم بنجاء المؤمنين ، وحاق بالكفار ما كانوا يستهزئون أي عقاب استهزائهم بما جاءت به الرسل.

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٨٥)

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ سُنَّتَ اللهِ) مصدر أي سنّ الله عزوجل في الكافرين أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب. (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) قال أبو إسحاق : وقد كانوا خاسرين قبل ذلك إلا أنه تبين لهم الخسران لمّا رأوا العذاب.

٣٣

(٤١)

شرح إعراب سورة السجدة (فصّلت)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣)

قال أبو إسحاق : (تَنْزِيلٌ) رفع بالابتداء وخبره (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) قال : وهذا قول البصريين. قال الفراء (١) يجوز أن يكون رفعه على إضمار هذا (قُرْآناً عَرَبِيًّا) قال الكسائي والفراء (٢) : يكون منصوبا بالفعل أي فصّلت كذلك قال : ويجوز أن يكون منصوبا على القطع. وقال أبو إسحاق يكون منصوبا على الحال أي فصّلت آياته في حال جمعه. وقول أخر : يكون منصوبا على المدح أي أعني قرانا عربيا.

(بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (٤)

(بَشِيراً وَنَذِيراً) قال الكسائي والفراء (٣) : ويجوز قرآن عربي بالرفع يجعلانه نعتا لكتاب ، قالا مثل (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام : ٩٢ ، ١٥٥] وقال غيرهما : دلّ قوله جلّ وعزّ : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) على أنه لا يجوز أن يقال فيه شيء بالسريانية والنبطية ، ودل أيضا على أنه يجب أن يطلب معانيه وغريبه من لغة العرب وكلامها ، ودلّ أيضا على بطلان قول من زعم أن ثمّ معنيين معنى ظاهرا ومعنى باطنا لا يعرفه العرب في كلامها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فدلّ بهذا على أنه إنما يخاطب العقلاء البالغين ، وإن من أشكل عليه شيء من القرآن فيجب أن يسأل من يعلم. (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) في معناه قولان : أحدهما لا يقبلون وكلّهم كذا إلّا من آمن والآخر يجتنبون سماع القرآن.

(وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) (٥)

(وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) جمع كنان أي عليها حاجز لا يصل إليها ما يقوله ، وكذا

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١١.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ١٢.

(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٦٥.

٣٤

(وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي صمم والوقر الحمل. (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) قال أبو إسحاق : أي حاجز لا يجامعك على شيء مما تقوله (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) على الأصل ، ومن قال : إنّا حذف النون تخفيفا.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) (٦)

(يُوحى إِلَيَّ أَنَّما) في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله.

(الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٧)

(الَّذِينَ) في موضع خفض نعت «للمشركين». (لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) في معناه أقوال: فمن أصحّ ما روي فيه وأحسنه استقامة إسناد ما رواه عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : التوحيد لله جلّ وعزّ. وروى الحكم بن أبان عن عكرمة (لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) قال لا يقولون لا إله إلا الله. وقال الربيع بن أنس : لا يزكّون أعمالهم فينتفعون بها. وروى إسماعيل بن مسلم عن الحسن (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ). قال : عظم الله جلّ وعزّ شأن الزكاة فذكرها فالمسلمون يزكون والكفار لا يزكون والمسلمون يصلّون والكفار لا يصلّون.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٨)

قال محمد بن يزيد : في معناه قولان يكون (غَيْرُ مَمْنُونٍ) غير مقطوع من قولهم مننت الحبل أي قطعته ، وقد منّه السفر ، أي قطعه ويكون معناه لا يمنّ عليهم.

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٩)

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) قال عبد الله بن سلام وكعب : هما يوم الأحد ويوم الاثنين. وقال مجاهد : كلّ يوم بألف سنة مما تعدون. وقال غيره : لو أراد عزوجل أن يخلقها في وقت واحد لفعل ، ولكنه أراد ما فيه الصلاح ليتبين ملائكته أثر صنعته شيئا بعد شيء فيزداد في بصائرها. الأصل : أإنّكم ، فإن خفّفت الهمزة الثانية جعلتها بين بين ، وكتابه بألفين لا غير ؛ لأن الهمزة الثانية مبتدأة ، والمبتدأة لا تكون إلا ألفا ، ودخلت عليها ألف الاستفهام. فقولك أإنّكم كقولك هل إنّكم وأم إنّكم لا تكتب إلّا بألف. (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) قال الضحاك : تتّخذون معه أربابا والهة. قال أبو جعفر : واحد الأنداد ندّ وهو المثل أي تجعلون له أمثالا لاستحقاق. (ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ذلك الذي خلق الأرض في يومين والذي جعلتم له أندادا ربّ العالمين. قال الضحاك : العالمون

٣٥

الجنّ والإنس والملائكة ، وهذا من أحسن ما قيل في معناه لأن سبيل ما يجمع بالواو والنون والياء والنون أن يكون لما يعقل فهذا للملائكة والإنس والجن.

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (١٠)

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) قال كعب : مادت الأرض فخلق الله فيها الجبال يوم الثلاثاء ، وخلق الرياح والماء الملح ، وخلق من الملح العذب ، وخلق الوحش والطير والهوام وغير ذلك يوم الأربعاء. قال أبو جعفر : واحد الرواسي راسية ، ويقال : واحد الرواسي راس. وقيل للجبال : رواس لثباتها على الأرض. (وَبارَكَ فِيها) أي زاد فيها من صنوف ما خلق من الأرزاق وثبتها فيها والبركة : الخير الثابت (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) قال عكرمة : جعل في كلّ بلد ما يقوم به معيشة أهله فالسابري بسابور ، والهروي بهراة ، والقراطيس بمصر. (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) قال محمد بن يزيد : أي ذا وذاك في أربعة أيام. وقال أبو إسحاق : أي في تمام أربعة أيام. (سَواءً) مصدر عند سيبويه أي استوت استواء. قال سيبويه : وقد قرئ (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) جعل سواء في موضع مستويات ، كما تقول : في أربعة أيام تمام أي تامة ، ومثله : رجل عدل أي عادل وسواء من نعت أيام ، وإن شئت من نعت أربعة. والقراءة بالخفض مرويّة عن الحسن ، وبالرفع عن أبي جعفر أي هي سواء. (لِلسَّائِلِينَ) فيه قولان : قال الضحاك : أي لمن سأل عن خلق هذا في كم كان هذا؟ والقول الآخر وقدّر فيها أقواتها للسائلين أي لجميع الخلق لأنّهم يسألون القوت.

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١١)

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) قالوا : في يوم الخميس (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) وعن سعيد بن جبير أنه قرأ (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي أعطيا الطاعة. وقرأ (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١) ولم يقل : طائعات ففي هذا ثلاثة أجوبة للكسائي قال : يكون أتينا بمن فينا طائعين يكون لما خبّر عنهن بالإتيان أجرى عليهن ما يجري على من يعقل من الذكور ، والجواب الثالث أنه رأس آية.

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١٢)

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) على قول من أنّث السماء ، ومن ذكّر قال : سبعة سموات فأما قول بعض أهل اللغة أنه ما جمع بالتاء فهو بغير هاء ، وإن كان الواحد

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٦٦ ، ومختصر ابن خالويه ١٣٣.

٣٦

مذكرا ، وحكى أخذت منه أربع سجلّات ، بغير هاء فخطأ لا يعرفه أهل الإتقان من أهل العربية وقد حكوا : هذه أربعة حمّامات لأن الواحد حمّام مذكر ، هكذا قال الأخفش سعيد (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) قيل : أمرها ملائكتها ، وقيل : ما صنع فيها وعن حذيفة ما يدلّ على الجوابين ، قال : وأوحى في كل سماء أمرها قال للسماء الدنيا : كوني زمردة خضراء ، وجعل فيها ملائكة يسبّحون. (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً) قال الأخفش : أي وحفظناها حفظا.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (١٣)

وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ) ولم تأتهم الصاعقة ؛ لأنهم لم يعرضوا كلهم وأعرضوا للكل ، وكل من خوطب بهذا أسلم إلّا من قتل منهم. وقراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عتبة بن الوليد كما قرئ على أحمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال : حدّثنا محمد بن فضيل قال : حدثنا الأجلح بن عبد الله عن الذيّال بن حرملة عن جابر بن عبد الله قال : قال أبو جهل يوما ، والملأ من قريش : إنه قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فأتاه فكلّمه ثم أتانا ببيان من أمره فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت السحر والكهانة والشعر وعلمت من ذلك علما وما يخفى عليّ إن كان كذلك فأتاه عتبة فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه ، فقال له عتبة : يا محمّد أأنت خير أم هاشم؟ أأنت خير أم عبد المطلب؟ أأنت خير أم عبد الله؟ لم يأتوا بمثل ما أتيت به فبم تشتم الهتنا وتضلّل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا لك اللواء بيننا بالرئاسة فكنت ما بقيت ، وإن كان بك الباءة زوّجناك عشر نسوة تختار هن من أي بنات قريش شئت ، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساكت لا يتكلّم فلما فرغ عتبة من كلامه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بسم الله الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصّلت آياته قرانا عربيا» ثمّ قرأ إلى قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (١٣) فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكفّ ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فاحتبس عنهم فقال أبو جهل : يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلّا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلّا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فأتوا عتبة فخرج إليهم فقال له أبو جهل والله يا عتبة ما نظنّك إلّا قد صبأت إلى محمد وأعجبك أمره ، وما نرى ذلك إلّا من حاجة أصابتك فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد ، فغضب عتبة وأقسم ألّا يكلّم محمدا أبدا ، وقال لهم : لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكنّي أتيته فقصّ عليهم ما قال له : وما قال لرسول الله ، ثم قال : جاءني والله بشيء ما هو بسحر ولا كهانة قرأ علي «بسم الله الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصّلت آياته قرانا عربيا» إلى قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ

٣٧

أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (١٣) فأمسكت على فيه ، وناشدته الرحم أن يكفّ ، وقد علمتم أنّ محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب فناشدته الرحم أن يكفّ. قال الضحاك : (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) أي عذابا ـ وقال محمد بن يزيد : الصاعقة معناها في كلام العرب المبيدة المهلكة المخمدة فربّما استعملت للإخماد من غير إهلاك ومنه سمّي الصّعق بن حرب لأنه ضرب ضربة فخمد ثم أفاق.

(إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (١٤)

(إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) في معناه ثلاثة أقوال : مذهب الضحاك : أن الرسل الذين بين أيديهم من قبلهم ، والذين من خلفهم الذين بحضرتهم. قال أبو جعفر : فيكون الضمير الذي في خلفهم يعود على الرسل ، هذا قول وهو مذهب الفراء. وقيل : من بين أيديهم الذين بحضرتهم ، ومن خلفهم الذين من قبلهم. وقيل : هما على التكثير أي جاءتهم الرسل من كلّ مكان بشيء واحد ، وهو ألا يعبدوا إلّا الله.

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) (١٦)

قرأ أبو عمرو ونافع (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) (١) بإسكان الحاء ، وأكثر القراء بكسرها فيقول : (نَحِساتٍ) واحتجّ أبو عمرو في التسكين على إجماعهم بتسكين الحاء في قولهم : نحس وفي قوله جلّ وعزّ : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) [القمر : ١٩] وردّ عليه أبو عبيد هذا الاحتجاج لأن معنى (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) في يوم شؤم وأن معنى (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) في أيام مشؤومات ، والقول كما قال أبو عبيد. روى جويبر عن الضحّاك «في أيام نحسات» قال: مشؤومات عليهم ، ويحتمل قراءة من قرأ (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) بإسكان الحاء أن يكون الأصل عنده نحسات ثم حذف الكسرة فيكون كمعنى نحسات ، ويحتمل أن يكون وصفها بما هو فيها مجازا واتساعا.

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (١٨)

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) رفعت ثمود بالابتداء ولم تصرفه على أنه اسم للقبيلة

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٥٦.

٣٨

والمعروف من قراءة الأعمش (وَأَمَّا ثَمُودُ) (١) بالصرف على أنه اسم للحيّ إلّا أن أبا حاتم روى عن أبي زيد عن المفضّل عن الأعمش وعاصم أنهما قرا وأمّا ثمودا بالنصب. وهذه القراءة معروفة عن عبد الله بن أبي إسحاق ، والنصب بإضمار فعل على قول يونس قال : زيدا ضربته ، وذلك بعيد عند سيبويه. وعلى ذلك أنشد : [المتقارب]

٣٩٥ ـ فأمّا تميم تميم بن مر

فألفاهم القوم روبى نياما(٢)

قال الضحاك : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) أخرجنا لهم الناقة تبيانا وتصديقا لصالحصلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) قال : أي استحبّوا الكفر على الإيمان.

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٠)

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) هذه قراءة نافع ، وأما سائر القراء أبو عمرو وأبو جعفر والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي فقرؤوا (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ) (٣) على ما لم يسمّ فاعله. وهذا اختيار أبي عبيد وعارض نافعا في قراءته منكرا فقال بعده (فَهُمْ يُوزَعُونَ) ولم يقل نزعهم أي يحشر أولى. قال أبو جعفر : وهذه المعارضة لا تلزم ، والقراءتان حسنتان ، والمعنى فيهما واحد غير أن قائلا لو قال قراءة نافع أولى بما عليها من الشواهد ؛ لأنه قد أجمع القراء على النون في قوله جلّ وعزّ : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٥] ومن الدليل على أن معارضته لا تلزم قول الله جلّ وعزّ : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) [الكهف : ٤٧] ولم يقل : وحشروا ، وبعده (وَعُرِضُوا) لما لم يسمّ فاعله. فهذا مثل قراءة نافع ويوم نحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون والإمالة في قوله جلّ وعزّ : (إِلَى النَّارِ) حسنة لأن الراء مكسورة وكسرتها بمنزلة كسرتين لأن فيها تكريرا. هذا قول الخليل وسيبويه (٤) فحسن معها إمالة الألف للمجانسة. فأما قول من يقول : تمال الراء وتمال الدال فلا تخلو من إحدى جهتين من الخطأ والتساهل : لأن الإمالة إنما تقع على الألف لأنها حرف هوائي فيتهيأ فيه ما لا يتهيأ في غيره. ويقال : وزعته أزعه والأصل أوزعه فحذفت الواو وفتحت لأن فيه حرفا من حروف الحلق. قال الضحاك :

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١٤ ، والبحر المحيط ٧ / ٤٧.

(٢) الشاهد لبشر بن أبي خازم في ديوانه ص ١٩٠ ، والأزهيّة ص ١٤٦ ، وجمهرة اللغة ١٠٢١ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٨٠ ، والكتاب ١ / ١٣٤ ، ولسان العرب (روب) ، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص ٧ ، وأمالي ابن الحاجب ١ / ٣٣٤ ، ومجالس ثعلب ص ٢٣٠ ، والمحتسب ١ / ١٨٩ ، والمعاني الكبير ٩٣٧.

(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٧١.

(٤) انظر الكتاب ٤ / ٥٧٥.

٣٩

(يُوزَعُونَ) يدفعون. وقال مجاهد وأبو رزين : (يُوزَعُونَ) يحبس أولهم على اخرهم. ويروى عن ابن عباس (يُوزَعُونَ) ، قال : يحبس أولهم على اخرهم حتّى يتتامّوا فيرمى بهم في النار. قال أبو جعفر : والدليل على هذا الجواب أنّ بعده (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) وهذا من معجز القرآن لأن فيه حذفا واختصارا قد دلّ عليه المعنى ، والمعنى حتّى إذا جاءوا النار وصاروا بحضرتها سئلوا عن كفرهم ومعاصيهم فأنكروها بعد أن شهد عليهم النبيون والمؤمنون. (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) قال الفرّاء (١) : الجلد هاهنا الذكر كنّى الله جلّ وعزّ عنه كما كنّى في قوله جلّ وعزّ (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) [البقرة : ٢٣٥] أي نكاحا ، وقال غيره : هي جلودهم بعينها جعل الله عزوجل فيها ما ينطق فشهدت عليهم ، قال جلّ وعزّ : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) أي ما كنتم تقدرون على أن تستروا معاصيكم عن سمعكم وأبصاركم وجلودكم لأنكم بهن تعملون المعاصي و «أن» في موضع نصب أي من أن.

(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣)

(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) ابتداء وخبر ، ويجوز أن يكون ظنكم بدلا من ذلكم و (أَرْداكُمْ) خبر ذلكم ، وعلى الجواب الأول أرداكم خبر ثان فأما قول الفرّاء : يكون أرداكم في موضع نصب مثل : هذا زيد قائما ، فغلط لأن الفعل الماضي لا يكون حالا. قال أبو العباس : أرداكم من الردى وهو الهلاك.

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) (٢٤)

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً) في موضع جزم بالشرط ، وجوابه الجملة الفاء وما بعدها ، وكذا (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا).

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (٢٥)

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) عن ابن عباس أن القرناء الشياطين. وهي آية مشكلة فمن الناس من يقول : معنى هذا التحلية للمحنة وقيل : قيضنا لهم قرناء من الشياطين في النار (فَزَيَّنُوا لَهُمْ) أعمالهم في الدنيا. فإن قيل : فكيف يصحّ هذا والفاء تدلّ على أن الثاني بعد الأول؟ قيل : يكون المعنى : قدّرنا عليهم هذا وحكمنا به. ومن أحسن ما قيل في الآية أن المعنى أحوجناهم إلى الإقرار والاقتران فأحوجنا الغنيّ إلى الفقير

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١٦.

٤٠