إعراب القرآن - ج ٤

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

على المجاز سمّيت سيّئة لأنها مجازاة على الأولى ليعلم أنه يقتصّ بمثل ما نيل منه (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي فلم يقتصّ فثوابه على الله جلّ وعزّ ، كما روى الحسن ومحمد بن المنكدر وعطاء ومحمد يقول : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ينادي مناد يوم القيامة أين من له وعد على الله عزوجل؟ فليقم ، فيقوم من عفا» (١) وقرأ عطاء (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ).

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (٤١)

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) مبتدأ (فَأُولئِكَ) مبتدأ أيضا ، والجملة خبر الأول.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٢)

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) أي سبيل العقوبة.

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٤٣)

أي من أعاليها وأجلّها أن يعفو ويصفح ويتوقّى الشبهات وإن لم تكن محظورة ورعا وطلبا لرضاء الله عزوجل فهذه معالي الأمور ، وهي من عزم الأمور أي التي يعزم عليها الورعون المتّقون. قال أبو جعفر : وفي إشكال من جهة العربية وهو أنّ «لمن صبر وغفر» مبتدأ ولا خبر له في اللفظ فالقول فيه : إن فيه حذفا ، والتقدير : ولمن صبر وعفا أنّ ذلك منه لمن عزم الأمور ، ومثل هذا في كلام العرب كثير موجود ، حكاه سيبويه وغيره : مررت ببرّ قفيز بدرهم أي قفيز منه ، ويقال : السّمن منوان بدرهم بمعنى منه.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) (٤٤)

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي من يضلّه عن الثواب فما له وليّ ولا ناصر يسأله الثواب. (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ) في موضع نصب على الحال. (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) «من» زائدة للتوكيد.

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) (٤٥)

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ) على الحال وكذا (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) قال محمد بن كعب : يسارقون النظر إلى النار (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا

__________________

(١) أخرجه الترمذي في سننه ١٠ / ١٨.

٦١

أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ)روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : هم الذين خلقوا للنّار وخلقت النار لهم خلّفوا أموالهم وأهاليهم في الدنيا وحرموا الجنة وصاروا إلى النار فخسروا الدنيا والآخرة.

(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) (٤٦)

(مِنْ أَوْلِياءَ) في موضع رفع اسم كان.

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) (٤٧)

(ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي من مخلص ولا تنكرون ما وقفتم عليه من أعمالكم.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) (٤٨)

(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) ثم قال بعد (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) فجاء الضمير لجماعة لأنّ الإنسان اسم للجنس بمعنى الجميع ، كما قال جلّ وعزّ : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر : ٢ ، ٣] فوقع الاستثناء لأن الإنسان بمعنى جمع.

(يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) أي من الأولاد.

(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٥٠)

(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) أي يجمع لهم هذا ، كما قال محمد بن الحنفية : يعني به التوأم. وقال أبو إسحاق : يزوّجهم يقرن لهم. وكلّ قرينين زوجان. (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) أي لا يولد له. وعقيم بمعنى معقوم. وقد عقمت المرأة إذا لم تحمل فهي امرأة عقيم ومعقومة.

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٥١)

(أَنْ) في موضع رفع اسم كان و (وَحْياً) يكون مصدرا في موضع الحال ، كما تقول : جاء فلان مشيا ، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مصدر (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) هذه قراءة أكثر الناس ، وقرأ نافع (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) (١)

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٥٨ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٨٢.

٦٢

بالرفع (فَيُوحِيَ) بإسكان الياء ، ولا نعلمه يروى إلّا عن نافع إلّا أنه قال : لم أقرأ حرفا يجتمع عليه رجلان من الأئمة فلهذا قال عبد الله بن وهب : قراءة نافع سنّة. قال أبو جعفر : فأما القول في نصب «يرسل» و «يوحي» ورفعهما فقد جاء به سيبويه عن الخليل بما فيه كفاية لمن تدبّره ونمليه نصا كما قال ليكون أشفى. قال سيبويه (١) : سألت الخليل عن قول الله جلّ وعزّ : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) فزعم أن النصب محمول على «أن» سوى هذه ولو كانت هذه الكلمة على «أن» هذه لم يكن للكلام وجه ، ولكنه لما قال : (إِلَّا وَحْياً) كان في معنى إلّا أن يوحي وكان «أو يرسل» فعلا لا يجري على «إلّا» فأجري على «أن» هذه كأنه قال : إلّا أن يوحي أو يرسل ؛ لأنه لو قال : إلّا وحيا وإلا أن يرسل كان حسنا : وكان أن يرسل بمنزلة الإرسال فحملوه على «أن» إذ لم يجز أن يقولوا : أو إلا يرسل فكأنه قال : إلّا وحيا أو أن يرسل. وقال الحصين بن حمام المرّي : [الطويل]

٤٠٤ ـ ولولا رجال من رزام أعزّة

وآل سبيع أو أسوءك علقما(٢)

يضمر «أن» وذلك لأنه امتنع أن يجعل الفعل على لولا فأضمر «أن» كأنه قال : لولا ذاك أو لولا أن أسؤك. وبلغنا أن أهل المدينة يرفعون هذه الآية (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) فكأنه ـ والله أعلم ـ قال الله لا يكلّم البشر إلّا وحيا أو يرسل رسولا أي في هذه الحال. وهذا كلامه إياهم ، كما تقول العرب : تحيّتك الضرب ، وعتابك السيف ، وكلامك القتل ، قال عمرو بن معدي كرب : [الوافر]

٤٠٥ ـ وخيل قد دلفت لها بخيل

تحيّة بينهم ضرب وجيع (٣)

وسألت الخليل رحمه‌الله عن قول الأعشى : [البسيط]

٤٠٦ ـ إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنا معشر نزل(٤)

فقال : الكلام هاهنا على قولك يكون كذا أو يكون كذا ما كان موضعها لو قال

__________________

(١) انظر الكتاب ٣ / ٥٥.

(٢) الشاهد للحصين في خزانة الأدب ٣ / ٣٢٤ ، والكتاب ٣ / ٥٥ ، والدرر ٤ / ٧٨ ، وشرح اختيارات المفضّل ٣٣٤ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٤٤ ، وشرح المفصّل ٣ / ٥٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤١١ ، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب ١ / ٢٧٢ ، والمحتسب ١ / ٣٢٦ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٠.

(٣) الشاهد لعمرو بن معد يكرب في ديوانه ١٤٩ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٥٢ ، والكتاب ٢ / ٣٣٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٠٠ ، ونوادر أبي زيد ١٥٠ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٣٤٥ ، والخصائص ١ / ٣٦٨ ، وشرح المفصل ٢ / ٨٠ ، والمقتضب ٢ / ٢٠.

(٤) مرّ الشاهد رقم (١٥٦).

٦٣

فيه : أتركبون ، لم ينتقض المعنى صار بمنزلة «ولا سابق شيئا» (١) وأما يونس فقال : أرفعه على الابتداء كأنه قال : أو أنتم نازلون ، وعلى هذا الوجه فسر الرفع في الآية كأنه قال : أو هو يرسل رسولا ، كما قال طرفة : [الطويل]

٤٠٧ ـ أو أنا مفتدى (٢)

وقول يونس أسهل.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٢)

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) الكاف في موضع نصب أي : أوحينا إليك وحيا كذلك الذي قصصنا عليك (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) «ما» في موضع رفع بالابتداء و «الكتاب» خبره والجملة في موضع نصب بتدري. ويجوز في الكلام أن تنصب الكتاب وتجعل «ما» زائدة كما روي : هذا «باب علم ما الكلم من العربية» (٣) فنصب «الكلم» (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) ولم يقل : جعلناهما فيكون الضمير للكتاب أو للتنزيل أو الإيمان. وأولاهما أن يكون للكتاب ويعطف الإيمان عليه ويكون بغير حذف (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال الضحاك : الصراط الطريق والهدى. ويقرأ (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) (٤) وفي حرف أبيّ (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥).

(صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣)

(صِراطِ اللهِ) على البدل. قال أبو إسحاق : ويجوز الرفع والنصب. (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) وهي أبدا إليه تعالى. قال الأخفش : يتولّى الله الأمور يوم القيامة دون خلقه ، وقد كان بعضها إلى خلقه في الدنيا من الفقهاء والسلاطين وغيرهم.

__________________

(١) يشير إلى قول زهير :

تبيّنت أني لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيا إذا كان جاثيا

(٢) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ٣٦ ، والكتاب ٣ / ٥٤ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٤٨ :

«ولكن مولاي امرؤ هو خالقي

على الشكر والتساؤل أو أنا مفتدى»

(٣) انظر الكتاب ١ / ٤٠.

(٤) انظر البحر المحيط ٧ / ٥٠٥ ، ومختصر ابن خالويه ١٣٤.

(٥) انظر البحر المحيط ٧ / ٥٠٥ ، ومختصر ابن خالويه ١٣٤.

٦٤

(٤)

شرح إعراب سورة الزخرف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٣)

(الْكِتابِ) مخفوض بواو القسم ، وهي بدل من الباء لقربها منها ولشبهها بها (الْمُبِينِ) نعت. وجواب القسم (إِنَّا جَعَلْناهُ) الهاء التي في جعلناه مفعول أول وقرآنا مفعول ثان فهذه جعلنا التي تتعدى إلى مفعولين بمعنى صيّرنا وليست وجعلنا التي بمعنى خلقنا ؛ لأن تلك لا تتعدى إلّا إلى مفعول واحد ، نحو قوله جلّ وعزّ : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] وفرقت العرب بينهما بما ذكرنا (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي تعقلون أمر الله جلّ وعزّ ونهيه إذ أنزل القرآن بلسانكم.

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤)

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) أي القرآن في اللوح المحفوظ. (لَعَلِيٌ) أي عال رفيع. وقيل : علي أي قاهر معجز لا يؤتى بمثله (حَكِيمٌ) محكم في أحكامه ورصفه.

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) (٥)

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) قال الفرّاء (١) يقال : أضربت عنك وضربت عنك أي أعرضت عنك وتركتك. وفي نصب صفح أقوال منها أن يكون معنى (أَفَنَضْرِبُ) أفنصفح ، كما يقال : هو يدعه تركا ؛ لأن معنى يدعه يتركه ، ويجوز أن يكون صفحا بمعنى صافحين ، كما تقول : جاء زيد مشيا أي ماشيا ، ويجوز أن يكون صفحا بمعنى ذوي صفح ، كما يقال : رجل عدل أي عادل وكذا رضى. وهذا جواب حسن واختلف العلماء في معنى (الذِّكْرَ) هاهنا فروى جويبر عن الضحّاك (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ) ، قال : القرآن. وقال أبو صالح : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ) فقال : أفنذر عنكم الذكر

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٨.

٦٥

فنجعلكم سدى كما كنتم. قال أبو جعفر : وهذه الأقوال ، وإن كانت مختلفة الألفاظ فإنّ معانيها متقاربة فمن قال : الذّكر العذاب قدّره بمعنى ذكر العذاب وذكر العذاب إذا أنزل قرآن. ومن قال : معناه أفنذر عنكم الذّكر فنجعلكم سدى قدّره أفنترك أن ينزل عليكم الذكر الذي فيه الأمر والنهي فنجعلكم مهملين ، قال أبو جعفر : وهذا قول حسن صحيح بيّن أي أفنهملكم فلا نأمركم ولا ننهاكم ولا نعاقبكم على كفركم بعد أن ظهرت لكم البراهين لأن كنتم قوما مسرفين. وهذا على قراءة من فتح «أن» (١) وهي قراءة الحسن وأبي عمرو وابن كثير وعاصم ، وسائر القراء على كسر «إن» أي متى أسرفتم فعلنا بكم هذا.

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) (٦)

(كَمْ) في موضع نصب وهي عقيبة ربّ في الخبر ، فمن العرب من يحذف «من» وينصب ، ومنهم من يخفض وإن حذف «من» كما قال : [السريع]

٤٠٨ ـ كم بجود مقرف نال العلى

وكريم بخله قد وضعه(٢)

وأفصح اللّغات إذا فصلت أن تأتي بمن ، وهي اللغة الّتي جاء بها القرآن ، وكذا كلّ ما جاء به القرآن وربما وقع الغلط من بعض أهل اللغة فيما يذكرون من فصيح الكلام. فأما المحققون فلا يفعلون ذلك فمما ذكر بعضهم في الفصيح من الكلام من زعم أنه يقال : أضربت عن الشّيء بالألف ، وزعم أنها اللغة الفصيحة. سمعت علي بن سليمان يقول : هذا غلط والفصيح. ضربت عن الشيء ، لأن إجماع الحجة في قراءة الفرّاء (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) بفتح النون ، وذكر بعضهم أنّ الفصيح : عظّم الله أجرك ، وإجماع الحجّة في قراءة القراء (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) [الطلاق : ٢] في حروف كثيرة.

(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) (٨)

(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) (٨) (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) منصوب على البيان. (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) قال قتادة : أي عقوبة يجوز أن تكون «مثل» هاهنا بمعنى صفة أي صفتهم بأنهم أهلكوا لمّا كذّبوا ، ويجوز أن يكون مثل على بابه.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠)

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) (٣) «الذي» في موضع رفع على النعت للعزيز أو على إضمار مبتدأ لأنه أول آية.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٥٨.

(٢) مرّ الشاهد رقم ٤٥.

(٣) انظر تيسير الداني ١٥١.

٦٦

(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (١١)

الكاف في موضع نصب أي تخرجون خروجا مثل ذلك. وبيّن معنى هذا عبد الله بن مسعود ، وهو مما لا يؤخذ به إلا بالتوقيف ، قال : يرسل الله جلّ وعزّ ماء مثل منيّ الرجال وليس شيء خلق من الأرض إلّا وقد بقي منه شيء فتنبت بذلك الجسمان واللحوم تنبت من الثرى والمطر ثم تلا عبد الله (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ).

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) (١٢)

(وَالَّذِي) في موضع رفع على العطف. (خَلَقَ الْأَزْواجَ) جمع زوج جمع على أفعال. وسبيل فعل من غير هذا الجنس أن يجمع على أفعل فكرهوا أن يقولوا : أزوج ؛ لأن الحركة في الواو ثقيلة فحوّل إلى جمع فعل ؛ لأنّ عدد الحروف واحد فشبّهوا فعلا بفعل كما شبّهوا فعلا بفعل فقالوا : زمن وأزمن (كُلَّها) توكيد ويسميه بعض النحويين صفة. وباب كلّها الجمع الكثير ، والجمع القليل كلهن. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) إن جعلت «ما» بمعنى الذي فالضمير محذوف لطول الموسم ولو ظهر الضمير لجاز مما تركبونه على لفظ «ما» ومما تركبونها على تأنيث الجماعة ، وإن جعلت «ما» مصدرا لم تحتج إلى حذف.

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (١٣)

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) قال الفرّاء (١) : ولم يقل ظهورها ؛ لأنه بمعنى : كثر الدرهم أي هو بمعنى الجنس. قال أبو جعفر : وأولى من هذا أن يكون يعود على لفظ «ما» لأن لفظها مذكر موحد ، وكذا (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) جاء على التذكير.

(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (١٤)

معطوف على ما قبله من القول.

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) (١٥)

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) ذكر معناه في ثلاثة أقوال روى ابن أبي نجيح عن

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٢٨.

٦٧

مجاهد «جزءا» قال : ولدا وبنات وقال عطاء : يعني نصيبا شركا. وقال زيد بن أسلم : إنّها الأصنام ، فهذان قولان. وذكر أبو إسحاق قولا ثالثا وهو أن جزءا للبنات خاصة وأنشد بيتا في ذلك أنشده زعم وهو : [البسيط]

٤٠٩ ـ إن أجزأت حرّة يوما فلا عجب

قد تجزئ الحرّة المذكار أحيانا(١)

أي تلد إناثا. قال أبو جعفر : الذي عليه جماع الحجّة من أهل التفسير واللغة أنّ الجزء النصيب وهذا مذهب عطاء الذي ذكرناه ومجاهد والربيع بن أنس والضحّاك وهو معنى قول ابن عباس ، وقال محمد بن يزيد : الجزء النصيب. وقول زيد بن أسلم جماع الحجّة على غيره أيضا ، والرواية تدل على خلافه ونسق الكلام ؛ لأن بعده (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) وقيل : هذا أيضا يلي ذاك.

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) (١٦)

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) فهذا يدلّ على أنّ هذا ليس للأصنام.

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) (١٧)

(ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) اسم ظلّ وخبرها ، ويجوز في الكلام ظلّ وجهه مسودّ على أن يكون في ظلّ ضمير مرفوع يعود على أحد ، ووجهه مرفوع بالابتداء ومسودّ خبره والمبتدأ وخبره خبر الأول ، ومثله مما حكاه سيبويه «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه» (٢) وحكى سيبويه الرفع في اللّذين والنصب.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (١٨)

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) (٣) قال أبو إسحاق : «من» في موضع نصب والمعنى أو جعلتم من ينشأ ، وقال الفرّاء (٤) : «من» في موضع رفع على الاستئناف ، وأجاز النصب ، قال : واذن رددته على أول الكلام على قوله جلّ وعزّ : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) واختلف القراء في قراءة هذا الحرف فقرأ ابن عباس والكوفيون غير عاصم (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا) واحتجّ أبو عبيد للقراءة الأولى بقوله جلّ وعزّ : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) [الواقعة : ٣٥]

__________________

(١) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (جزأ) وتهذيب اللغة ١١ / ١٤٥ ، وتاج العروس (جزأ) والبحر المحيط ٨ / ١٠ ، وغريب القرآن ٣٩٦ ، وروح المعاني ٢٥ / ٦٩ ، والكشاف ٤ / ٢٤١.

(٢) مرّ تخريج الحديث في إعراب الآية ٥٨ ـ النحل.

(٣) انظر تيسير الداني ١٥٨ ، ينشّأ : قراءة حفص وحمزة والكسائي ، والباقون بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين.

(٤) انظر معاني الفراء ٣ / ٢٩.

٦٨

قال أبو جعفر : وهما قراءتان مشهورتان قد روتهما الجماعة ، وليس فيما جاء به حجّة لأنّا نعلم أنّه لا ينشأ حتّى ولو لزم ما قال لما قيل : مات فلان لقوله جلّ وعزّ : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) [البقرة : ٢٨ ، والحج : ٦٦ ، والروم : ٤٠] فكان يجب أن يقال : أميت وكذا حيي ، والفرق على خلاف ما قال عند النحويين وذلك أنّ معنى ينشّأ لمرّة بعد مرّة على التكثير.

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) (١٩)

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) مفعولان أي وصفوا أنه هكذا ، وحكموا أنه كذا. واختلف في قراءة هذا أيضا فقرأ عبد الله بن عباس والكوفيون وأبو عمرو (عِبادُ الرَّحْمنِ) (١) وقرأ أهل الحرمين والحسن وأبو رجاء عند الرحمن (٢) واحتجّ أبو عبيد لقراءة من قرأ (عِبادُ الرَّحْمنِ) بأن الإسناد فيها أعلى وأنها ردّ لقولهم : الملائكة بنات الله فقال : ليسوا بنات هم عباد. قال أبو جعفر : وهما قراءتان مشهورتان معروفتان إلّا أن أولاهما «عند» من غير جهة والذي احتجّ به أبو عبيد لا يلزم لأنه احتجّ بأن الإسناد في القراءة بعباد أعلى. ولعمري أنّها صحيحة عن ابن عباس ولكن إذا تدبرت ما في الحديث رأيت الحديث نفسه قد أوجب أن يقرأ (عند) لأن سعيد بن جبير احتجّ على ابن عباس بالمصحف ، فقال : في مصحفي «عند». وهذه حجّة قاطعة ؛ لأن جماع الحجّة من كتب المصاحف مما نقلته الجماعة على أنه «عند». ولو كان «عباد» لوجب أن يكتب بالألف ، كما كتب (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦]. واحتجاجه بأنه ردّ لقولهم بنات لا يلزم لأن عبادا إنما هو نفي لمن قال : ولد ؛ لأنه يقع للمذكّر والمؤنّث. والأشبه بنسق الآية قراءة من قرأ (عند) ؛ لأن المعنى فيه وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن أي لم يروهم إناثا فكيف قالوا هذا وهم عند الرحمن وليسوا عندهم؟ (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) (٣) قراءة نافع وأما سائر القراء فيما علمنا فإنهم قرءوا أشهدوا وهما قراءتان حسنتان قد نقلتهما الجماعة. والمعنى فيهما متقارب لأنهم إذا شهدوا فقد أشهدوا ، وقوله جلّ وعزّ : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) [الصافات : ١٥٠] يدلّ على قراءة من قرأ أشهدوا والأخرى جائزة حسنة قال جلّ وعزّ (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الكهف : ٥١].

(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ

__________________

(١) و (٢) انظر تيسير الداني ١٥٩ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٨٥.

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ١١.

٦٩

قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) (٢٦)

(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) هذه القراءة التي عليها اجتماع الحجّة واللغة المعروفة. والأمّة : الدّين ، ومنه (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [البقرة : ٢١٣] أي على دين واحد. وقراءة مجاهد وعمر بن عبد العزيز رحمه‌الله (عَلى أُمَّةٍ) (١) بكسر الهمزة. (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) والأصل إننا حذفت النون تخفيفا و (مُهْتَدُونَ) خبر «إنّ» ويجوز النصب في غير القرآن على الحال ، وكذا (مُقْتَدُونَ) وروى معمر عن قتادة (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) قال : رؤوسهم وأشرافهم. وقرأ يزيد بن القعقاع قل ا ولو جئناكم (٢) واستبعد أبو عبيد هذه القراءة ، واحتجّ بأن قبله «قل» ولم يقل : قلنا والحجّة لهذه القراءة أنّ قبله (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) فخاطبهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجئنا لهم عنه وعن الرسل عليهم‌السلام فقال : أو لو جئناكم. (بَراءٌ) القراءة التي عليها حجّة الجماعة والسواد ، وعن ابن مسعود أنه قرأ (إِنَّنِي بَرِيءٌ) إلّا أن الفرّاء (٣) قال : إنّ مثل هذا يكتب بالألف ، وأجاز في كل همزة أن تكتب ألفا. قال أبو جعفر : هذا شاذّ بعيد يلزم قائله أن يكتب يستهزئ بالألف ، وهذا فيه من الأشكال ومخالفة الجماعة أغلظ وأقبح من قرأ برآء قال : في الاثنين والجميع أيضا برآء ، والتقدير : إنّني ذو برآء مثل (لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] ومن قال : بريء قال في جمعه برءاء أو برآء على وزن كرماء وكرام. وحكى الكوفيون جمعا ثالثا انفردوا به حكوا : برآء على وزن براع وزعموا أنه محذوف من برءاء.

(إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) (٢٧)

(إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) في موضع نصب على الاستثناء من قول «ما تعبدون» ويجوز أن يكون استثناء منقطعا.

(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢٨)

(وَجَعَلَها) الهاء والألف كناية عن قوله : «إنّني برآء» وما بعده أي وجعل تبرّؤه من كلّ ما يعبدون من دون الله جلّ وعزّ وإخلاصه التوحيد لله عزوجل.

(كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) والفاعل المضمر في «جعلها» يجوز أن يكون عائدا على قوله : (الَّذِي فَطَرَنِي) أي وجعلها الله تعالى كلمة باقية في عقبه وأهل التفسير على هذا

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ١٢.

(٢) انظر تيسير الداني ١٥٩.

(٣) انظر معاني الفراء ٣ / ٣٠.

٧٠

أنّه لا يزال من ولد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم موحدون. وقيل : الضمير عائد على إبراهيم أي وجعلها كلمة باقية في عقبه أي عرفهم التوحيد والتبرّؤ من كل معبود دون الله جلّ وعزّ فتوارثوه فصار كلمة باقية في عقبه ويقال : «في عقبه» بحذف الكسرة لأنها ثقيلة.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٣١)

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ) على عطف البيان الذي يقوم مقام النعت لهذا ، هذا قول سيبويه. وغيره يقول : نعت (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) نعت لرجل وليس الرجل يكون من القريتين ، ولكن حقيقته في العربية على رجل من رجلي القريتين ثم حذف مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢]. فأما قوله جلّ وعزّ : (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) فمعناه لم أهلكهم كما أهلك غيرهم من الكفار.

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٣٢)

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) «هم» رفع على إضمار فعل ؛ لأن الاستفهام عن الفعل ، ويجوز أن يكون موضعه مرفوعا بالابتداء. (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أي فكذلك فضلنا بعضهم على بعض بالاصطفاء والاختيار. و (دَرَجاتٍ) في موضع نصب مفعول ثان حذف منه «إلى» ، (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي فضّلنا بعضهم على بعض في الرزق ليسخّر بعضهم لبعض. وكلّ من عمل لرجل عملا فقد سخّر له بأجرة كان أو بغير أجرة. وعن ابن عباس والضّحاك (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) (١) قال : العبيد ، قال الفرّاء (٢) : يقال سخريّ وسخريّ بمعنى واحد هاهنا وفي (قَدْ أَفْلَحَ) [المؤمنون : ١] وفي «صاد» (٣). قال أبو جعفر : والأمر كما قال الفرّاء عند جميع أهل اللغة إلّا شيئا ذكره أبو عمرو.

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) (٣٤)

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) قال الفرّاء : «أن» في موضع رفع ، (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) «بيوتهم» فيه غير قول ، منه أن المعنى أي على بيوتهم ، وقيل : إنه بدل بإعادة الحرف مثل : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف : ٧٥]. قال أبو جعفر : وهذا القول أولى

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ١٤.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٣١.

(٣) الآية ٦٣.

٧١

بالصواب لأن الحروف لا تنقل عن بابها إلّا بحجة يجب التسليم لها وسقف (١) على الجمع قراءة الحسن ومجاهد وأبي رجاء الأعرج وشيبة ونافع وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي ، وأما قراءة أبي عمرو وأبي جعفر وابن كثير وشبل وحميد فسقف (٢) على التوحيد. قال أبو جعفر : سقف فيما ذكر أبو عبيد جمع سقف مثل : رهن ورهن ، ورأيت علي بن سليمان ينكر هذا لأنه ليس بجمع فعل مطرد. قال : ورهن جمع رهان مثل حمار وحمر ، ورهان جمع رهن مثل عبد وعباد ، وكذا «سقفا». وحكى الفرّاء : أن سقفا جمع سقيفة فأما قراءة من قرأ (لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) فتأوّلها إسماعيل بن إسحاق على أنّ «من» لواحد ، قال : والمعنى : لجعلنا لكل من كفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة إلا أنه استبعد هذه القراءة ، وحكي أنّ هذا متناول بعيد ، واستدلّ على أن القراءة بالجمع أولى ؛ لأن بعده ومعارج وسررا وأبوابا فكذا سقف بالجمع أولى. قال أبو جعفر : الذي تأوله بعيد وأولى منه أن يكون سقف بمعنى سقف كما قال جلّ وعزّ : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [الحج : ٥] وكما قال الشاعر : [الوافر]

٤١٠ ـ كلوا في بعض بطنكم تعفّوا

فإنّ زمانكم زمن خميص(٣)

والأحاديث تدلّ على أن القراءة سقف ، وكذا نسق الكلام كما حدّثنا بكر بن سهل قال: حدّثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) الآية والتي بعدها قال : يقول سبحانه لولا أن جعل الناس كلّهم كفارا لجعلت للكفار لبيوتهم سقفا من فضّة ومعارج عليها من فضة وزخرفا قال : ذهبا ، قال سعيد بن جبير والشعبي : (لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً) أي جذوعا فهذا كلّه يدل على الجمع.

(وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (٣٥)

(وَزُخْرُفاً) معطوف على سقف. وزعم الفرّاء : أنه يجوز أن يكون معناه سقفا من فضة ومن زخرف ثم حذفت من فنصب. والقول الأول أولى بالصواب. وزعم ابن زيد أن الزخرف متاع البيت فأما أكثر أهل التفسير منهم ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة فقالوا : الزخرف الذهب ، وقال الشعبي : الزخرف الذهب والفضة. قال أبو جعفر : والزخرف في اللغة ، على ما حكاه محمد بن يزيد ، الزينة قال : يقال : بنى داره فزخرفها أي زيّنها وحسّنها. (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) فاللام للتوكيد عند البصريين ، وعند الكوفيين

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٥٩ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٨٥.

(٢) انظر البحر المحيط ٨ / ١٥ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٨٥.

(٣) الشاهد بلا نسبة في الكتاب ١ / ٢٧١ ، وأسرار العربية ص ٣٢٣ ، وتخليص الشواهد ١٥٧ ، وخزانة الأدب ٧ / ٥٣٧ ، والدرر ١ / ١٥٢ ، وشرح المفصّل ٥ / ٨ ، والمقتضب ٢ / ١٧٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٥٠.

٧٢

بمعنى إلّا و «ما» زائدة للتوكيد ، وعند بعض النحويين نكرة بمعنى شيء. (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) رفع بالابتداء والتقدير ثواب الآخرة عند ربّك للمتقين.

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٣٦)

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) قال محمد بن يزيد : يعش يتعامى ، وأصله من الأعشى ، وهو الذي قد ركب بصره ضعف وظلمة. ومنه جاء فلان يعشو ، إذا جاءه ليلا لما يركب بصره من الظلمة. وقال غيره : عشي عن ذكر الرحمن لم ينتفع بالذكر كما أن الأعشى الذي لا يبصر في الضوء فهو لا ينتفع ببصره كما ينتفع غيره و (يَعْشُ) في موضع جزم بالشرط وعلامة الجزم فيه حذف الواو وهو مشتق من العشي إلّا أنه يقال : عشي يعشى إذا صار أعشى ، وعشا يعشو إذا لحقه ما يلحق الأعشى. وهو من ذوات الواو ، والياء في عشي منقلبة من واو ، وكذا الألف في عشا الذي هو مصدر. ولهذا قال النحويون : العشا في البصر يكتب بالألف والدليل على ذلك أنه يقال : امرأة عشواء. (نُقَيِّضْ لَهُ) جواب الشرط.

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٧)

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) محمول على المعنى لأن شيطانا يؤدّي عن معنى شياطين.

(حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) (٣٨)

(حَتَّى إِذا جاءَنا) قراءة نافع وعاصم وعبد الله بن عامر وهي البينة لأن الضمير يعود على «من» و «القرين» ، وقراءة أبي عمرو والكوفيين غير عاصم (حَتَّى إِذا جاءَنا) (١) وهو بمعنى ذلك أي حتّى إذا جاءنا هو وقرينه والعرب تحذف مثل هذا ، كما يقال : كحلت عيني ، يراد العينان. (قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) اسم «ليت» وهي ظرف ، كما يقال : يا ليت بيني وبينك بعدا. ويجوز بعد بمعنى ليت مقدار ذلك ، فإن قلت : ليت بيني وبينك متباعد رفعت.

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٣٩)

«أنّ» في موضع رفع أي لن ينفعكم اشتراككم لأنّ الإنسان في الدنيا إذا أصيب بمصيبة هو وغيره سهلت عليه بعض السهولة وتأسّى به فحرم الله جلّ وعزّ ذلك أهل النار.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٥٩ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٨٦.

٧٣

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) (٤٢)

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) في موضع جزم بالشرط ، والنون للتوكيد ولو لا هي لكانت الباء ساكنة وكذا (أَوْ نُرِيَنَّكَ) في موضع جزم ، ولو لا النون لحذفت الياء ولكنها بنيت معها على الفتح.

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) (٤٤)

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : إن القرآن لشرف لك ولقومك ، وتأوّل هذا مجاهد على أنه شرف لقريش ، قال يقال : ممّن الرجل؟ فيقال : من العرب فيقال : من أيّ العرب؟ فيقول : من قريش. وقال غيره : قومه هاهنا من آمن به وكان على منهاجه. وقيل : معنى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ) وإنّ الذي أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لذكر أي أنزل لتذكروا به وتعرفوا أمر دينكم.

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٤٥)

قال أبو جعفر : في هذه الآية إشكال ؛ لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحتاج مسألة. وقد ذكرنا قول جماعة من العلماء فيها فمنهم من قال : في الكلام حذف ، والتقدير : واسأل من أرسلنا إليه من قبلك رسلا من رسلنا ، قال : والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد المشركون به. قال أبو جعفر : أما حذف رسل هاهنا فجائز لأن من رسلنا يدلّ عليه ، كما قال الشاعر : [الوافر]

٤١١ ـ كأنّك من جمال بني أقيش (١)

والتقدير : كأنك جمل من جمال بني أقيش ، وأمّا حذف إليه فلا يجوز لو قلت : مررت بالذي ضربت أو بالذي قام وأنت تقدّر حذف حرف الخفض والمضمر لم يجز وإنما يجوز حذف المضمر الذي في الصلة وقوله : المخاطب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به المشركون ، كلام فيه نظر. والقول في الآية ـ والله جلّ وعزّ أعلم ـ ما قاله قتادة قال : سل أهل الكتاب أأمر الله جلّ وعزّ إلّا بالتوحيد والإخلاص. وشرح هذا من العربية قل : يا محمد لمن عبد الأوثان سل أمم من قد أرسلنا من رسلنا أي من آمن منهم هل أمر الله جلّ وعزّ أن يعبد وثن أو يعبد معه غيره؟ فإنهم لا يجدون هذا في شيء من الكتب ، ثم حذفت أمم وأقيمت «من» مقامها ، مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) (٤٩)

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) وقرأ ابن عامر (يا أَيُّهَا) (٢) (السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ) «الساحر» نعت لأيّ على اللفظ ، ولا يجوز النصب إلا في قول المازني على الموضع لأن موضع أي نصب. قال أبو إسحاق : إن قال قائل : كيف قالوا يا أيّها الساحر وقد زعموا أنهم

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٩٠).

(٢) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٥٨٣.

٧٤

مهتدون؟ فإنما وقع الخطاب على أنه كان عندهم مسمّى بهذا فقالوا : يا أيّها الساحر على ذلك. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا غير هذا الجواب.

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٥١)

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) قيل : كان نداؤه كراهة أن يتّبع قومه موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لمّا دعا كشف عنهم العذاب فتبيّن عجز فرعون عن كشفه فكره أن يتّبعوه فقال : أنا أولى بالاتّباع منه. (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) في موضع خفض ، ولم ينصرف عند البصريين (١) لأنها مؤنثة سميت بمذكر ، وكذا لو سميت امرأة بزيد لم ينصرف وأجازوا صرف مصر على أن يكون اسما للبلد ، وترك الصرف أولى ؛ لأن المستعمل في مثلها بلدة فأما الكوفيون فيذهبون إلى أن مصر بمنزلة امرأة سمّيت بهند فكان يجب أن ينصرف إلا أنها منعت من ذلك لقلتها في الكلام. (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) «تجري» في موضع نصب على الحال. ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر هذه (أَفَلا تُبْصِرُونَ).

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) (٥٢)

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) قال الفرّاء : هو من الاستفهام الذي جاء بأم لاتصاله بكلام قبله قال : ويجوز أن تردّه على قوله «أليس لي ملك مصر». وقد شرحناه بأكثر من هذا. وزعم الفرّاء (٢) : أنه أخبره بعض المشيخة أنه يقرأ ا فلا تبصرون أما أنا خير (٣) قال أبو جعفر : يقدّره «أما» التي بمعنى «ألا» وحقا ، ويكون على هذا (أَفَلا تُبْصِرُونَ) تمام الكلام. فهذه القراءة خارجة من حجّة الإجماع وكان يجب على هذا أن يكون «أما» بالألف «أنا» مبتدأ و (خَيْرٌ) خبره وكذا (هُوَ مَهِينٌ). وفي معنى «مهين» قولان : قيل معناه الذي يمتهن نفسه في حاجاته ومعاشه ليس له من يكفيه. وقال الكسائي : المهين الضعيف الذليل ، وقد مهن مهانة. وهذا أولى بالصواب.

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) (٥٣)

فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب هذه قراءة (٤) أهل الحرمين وأهل الكوفة وأهل البصرة إلا الحسن وقتادة وشيئا يروى عن عبد الله وأبيّ فأما الحسن وقتادة فقرأ لو لا ألقي عليه أسورة (٥) والذي روي عن عبد الله وأبيّ فلو لا ألقي عليه أساوير قال أبو جعفر : أساورة جمع إسوار. وحكى الكسائي : أسوار وسوار وسوار بمعنى

__________________

(١) انظر الكتاب ٣ / ٢٦٦.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٣٥.

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٣.

(٤) و (٥) انظر تيسير الداني ١٥٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٤.

٧٥

واحد ، وأساوير وأساورة واحد مثل زنادقة وزناديق إلّا أنه إذا كان بالهاء انصرف لأن الإعراب يقع عليها ، وهي بمنزلة اسم ضم إلى اسم. وقال أبو إسحاق : إنما انصرف لأنه له في الواحد نظيرا نحو علانية وعباقية ويجوز أن يكون أساور جمع أسورة (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) على الحال.

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥٥)

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) أي استخفّهم بذلك القول إلى الكفر بموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فَلَمَّا آسَفُونا) قال : يقول أسخطونا.

(فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) (٥٦)

(فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) (١) قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي (سَلَفاً) وهو جمع سليف ، وقد سمع عن العرب سليف. وروي عن حميد الأعرج أنه قرأ (سَلَفاً) بضم السين وفتح اللام جمع سلفة وأبو حاتم لا يعرف معناه لشذوذه. وقال أبو إسحاق : سلفة أي فرقة متقدمة ومع إنكار أبي حاتم إياه فإن فيه مطعنا ؛ لأن الكسائي رواه عن ابن حميد فذكر إسماعيل بن إسحاق القاضي عن علي بن المديني (٢) قال : سألت ابن عيينة عن قراءة حميد (سَلَفاً) فلم يعرفه فقلت له : إنّ الكسائي رواه عنك فقال : لم نحفظه.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) (٥٧)

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) لم ينصرف مريم عليها‌السلام لأنها معرفة واسم مؤنث ، ويجوز أن يكون اسما أعجميا فيكون ذلك علّة ، ويجوز أن يكون عربيا مبنيا على مفعل جاء على الأصل من رام يريم. (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) (٣) قراءة مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وأبي عمرو وعاصم وحمزة ، ويروى عن ابن عباس بكسر الصاد. و (يَصِدُّونَ) (٤) بالضم قراءة الحسن وإبراهيم وأبي جعفر وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والكسائي ، وتروى عن علي بن طالب رضي الله عنه وأبي عبد الرحمن السلمي وعبيد بن عمير الليثي. قال أبو جعفر : حكى الكسائي والفراء (٥) إنّ يصدّون ويصدّون لغتان بمعنى واحد ، كما يقال : نمّ ينمّ وينمّ وشدّ يشدّ ويشدّ ، وفرّق أبو عبيد القاسم بن

__________________

(١) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٥٨٧ ، وتيسير الداني ١٥٩.

(٢) علي بن المديني ، محدّث ، (ت ٢٣٤ ه‍) ترجمته في الأعلام ٥ / ١١٨.

(٣) انظر تيسير الداني ١٥٩.

(٤) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٥.

(٥) انظر معاني الفراء ٣ / ٣٦.

٧٦

سلام بينهما فزعم أن معنى يصدّ يضجّ ومعنى يصدّ من الصدود عن الحق ، وزعم أنها لو كانت يصدّ بالضم لكانت إذا قومك عنه يصدّون. قال أبو جعفر : وفي هذا ردّ على الجماعة الذين قراءتهم حجّة وقد خالف بقوله هذا الكسائي والفراء ، والذي ذكره من الحجة ليس بواجب لأنه يقال : صددت من قوله أي لأجل قوله وعلى هذا معنى الآية ـ والله جلّ وعزّ أعلم ـ إنّما هو «يصدّون» من أجل ذلك القول ، وقد يجوز أن يكون مع ذلك الصدود ضجيج فيقول المفسّر : معناه يضجّون.

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (٥٨)

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ) ابتداء وخبر «أم هو» معطوف على الهتنا (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) مفعول من أجله أي لم يقولوا هذا على جهة المناظرة ولا على جهة التثبت فهذا فرق بين الجدل والمناظرة لأن المتناظرين يجوز أن يكون كل واحد منهما يطلب الصواب والجدل الذي جادلوا به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما روي عن ابن عباس أنه لمّا أنزل الله جلّ وعزّ : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء : ٩٨] قالوا : أليس قد عبد عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عندك رجل صالح فقد جعلته في النار معنا فهذا هو الجدل الذي كان منهم لأن الكلام لا يوجب هذا ؛ لأنه قال جلّ وعزّ : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) ولم يقل من تعبدون و «ما» فإنما هي لغير بني أدم. (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أي كثير والخصومة فيما يدفعون به الحق.

(إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩)

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) أي أنعمنا عليه بظهور الآيات على يديه. (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) قال أبو إسحاق : يعني عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي يدلّهم على نبوته ، وقال غيره وصفناه لبني إسرائيل بأنه مثل لآدم عليه‌السلام. وقيل : مثل ومثل واحد أي هو بشر مثلهم.

(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) (٦٠)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : يقول يخلف بعضهم بعضا. وفي أبي صالح عنه قال : لو نشاء لجعلناهم خلائف وأهلكناهم.

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٦٢)

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) قراءة أكثر الناس ، ويروى عن ابن عباس وأبي هريرة أنّهما قرا (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) (١) وزعم الفراء (٢) أنهما متقاربتا المعنى. وحكي عن محمد بن

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٦.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٣٧.

٧٧

يزيد أنه قال : معنى «لعلم» لذكر وتنبيه وتعريف ، ومعنى «لعلم» لدلالة وعلامة. قال أبو جعفر : فأما الضمير الذي في (وَإِنَّهُ) ففي معناه قولان : مذهب ابن عباس وأبي هريرة وأبي مالك ومجاهد والضحاك أنّ الضمير لعيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : لنزوله ، والقول الآخر ، وهو قول الحسن ، أن الضمير للقرآن أي وإن القرآن لعلم للساعة لأنه لا ينزل كتاب بعده ، والقول الأول أبين وعليه أكثر الناس ، وقد قيل : في هذا دليل على أنه إذا نزل عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفعت المحنة ولم تقبل من أحد توبة. وفي الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يدلّ على ذلك وهو قوله «فليكسرنّ الصليب وليقتلنّ الخنزير وتلقي الأرض أفلاذ كبدها» (١) ففي هذا دليل أنه لا أحد يأخذ من أحد زكاة ، وأنّ المحنة قد ارتفعت وقربت الساعة (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) قال أبو إسحاق : أي فلا تشكّوا (وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) «مستقيم» نعت لصراط ، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر.

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦٤)

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) قال أبو إسحاق : أي بالآيات المعجزات (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) قال : أي بالإنجيل (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) قال أبو عبيدة : بعض بمعنى كل وأنشد : [الكامل]

٤١٢ ـ أو يخترم بعض النّفوس حمامها(٢)

قال أبو جعفر : وهذا القول مردود عند جميع النحويين ، ولا حاجة عليه من معقول أو خبر ؛ لأن بعضا معناها خلاف معنى «كلّ» في كل المواضع. قال أبو إسحاق : المعنى ولأبيّن لكم في الإنجيل بعض الذي تختلفون فيه ، وقال غيره : إنما بيّن لهم بعض الذي اختلفوا فيه على الحقيقة وذلك ما سألوه عنه أو كانت لهم في إخباره إياهم منفعة ، وقد يجوز أن يختلفوا في أشياء غير ذلك. والبيت الذي أنشده أبو عبيدة لا حجة فيه لأن معنى «أو يخترم بعض النفوس» أنه يعني نفسه وبعض النفوس.

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه ب ٧١ رقم ٢٤٣ ، وذكره الطحاوي في مشكل الآثار ١ / ٢٨ ، والآجري في الشريعة ٣٨٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٩٧٢٢ ، والقرطبي في تفسيره ١٠ / ٣١٥ ،

«لينزلن ابن مريم حكما

عادلا فليكسرن الصليب ...»

(٢) الشاهد للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٣١٣ ، والخصائص ١ / ٧٤ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٧٧٢ ، وشرح شواهد الشافية ٤١٥ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٥١ ، ومجالس ثعلب ص ٦٣ ، والمحتسب ١ / ١١١ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٧ / ٣٤٩ ، والخصائص ٢ / ٣١٧. وصدره :

«تراك أمكنة إذا لم أرضها»

٧٨

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (٦٥)

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) قال أبو إسحاق : الأحزاب اليهود والنصارى.

(الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) (٦٧)

(الْأَخِلَّاءُ) جمع خليل ولم يقل فيه فعلاء كراهة التضعيف (بَعْضُهُمْ) على البدل من الأخلاء ، ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء (لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) الخبر. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٦٧) قال : فكلّ خلّة فهي عداوة يوم القيامة إلّا خلّة المتقين (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) نصب على الاستثناء من موجب.

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (٦٨)

من حذف الياء ، وهو أكثر في كلام العرب قال : النداء موضع حذف ومن أثبتها قال : هي اسم في موضع خفض فأثبتّها كما أثبت المظهر.

(الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) (٦٩)

(الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا) في موضع نصب على النعت لعبادي ، ويدلّك على أنه نعت له. وتبيين ما رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس قال : بينما الناس في الموقف إذ خرج مناد من الحجب فنادى (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) ففرحت الأمم كلّها ، وقالت نحن عباد الله كلنا فخرج ثانية فنادى (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) فيئست الأمم كلّها إلا أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن كان مسلما.

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) (٧٠)

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) أي يقال لهم ذلك (أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) عطف على المضمر في ادخلوا «وأنتم» توكيد (تُحْبَرُونَ) في موضع نصب على الحال. وعن ابن عباس «تحبرون» تكرمون.

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) (٧١)

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) وحكي في الجمع كوبة وكيبان ويجوز كياب (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) (١) هذه قراءة أهل المدينة وأهل الشام ، وكذا في

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٠ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٨٨.

٧٩

مصاحفهم. وقراءة أهل العراق (تَشْتَهِي) بغير هاء ، والقراءتان حسنتان فإثبات الهاء على الأصل وحذفها لطول الاسم غير أنه حكي عن محمّد بن يزيد أنه يختار إثبات الهاء ويقدمه على حذفها في مثل هذا ، وعلته في ذلك أنّ الهاء إنما حذفت في الذي لطول الاسم ، «وما» أنقص من الذي ، وأيضا فإنك إذا حذفت الياء في «الذي» وفي «التي» فقد عرف المذكر من المؤنث ، وليس هذا في «ما».

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) (٧٣)

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) نعت لتلك التي خبر الابتداء.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (٧٥)

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) خبر «إنّ» ويجوز النصب في غير القرآن على الحال ، وكذا (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) قال الفراء : وفي قراءة عبد الله وهم فيها يريد جهنم. ومن قال «فيه» أراد العذاب.

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (٧٦)

خبر كان. و «هم» عند سيبويه فاصلة لا موضع لها من الإعراب بمنزلة «ما» في قوله جلّ وعزّ (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [النساء : ١٥٥ والمائدة : ١٣] والكوفيون يقولون هم عماد. قال الفراء (١) : وفي حرف عبد الله بن مسعود ولكن كانوا هم الظالمون (٢). قال أبو جعفر: وعلى هذا يكون «هم» في موضع رفع بالابتداء و «الظالمون» خبر الابتداء وخبره خبر كان ، كما تقول : كان زيد أبوه خارج.

(وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٧٧)

(وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) قال مجاهد : ما كنا ندري معنى «يا مالك» حتّى سمعنا في قراءة عبد الله ونادوا يا مال (٣). قال أبو جعفر : هذا على الترخيم ، والعرب ترخّم مالكا وعامرا كثيرا إلّا أن هذا مخالف للسواد ، وفيه لغتان يقال : يا مال أقبل ، هذا أفصح اللغتين ، كما قال : [البسيط]

٤١٣ ـ يا حار لا أرمين منكم بداهية

لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك(٤)

ومن العرب من يقول : يا مال أقبل ، فيجعلون ما بقي اسما على حاله.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٣٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٧ ، ومعاني الفراء ٣ / ٣٧.

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٧.

(٤) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ١٨٠.

٨٠