إعراب القرآن - ج ٤

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

آخرين قالوا : لا تضارّون بتشديد الراء ولا تضامّون بتشديد الميم مع ضم التاء. قال : وقال بعضهم بفتح التاء وبتشديد الراء والميم على معنى تتضارّون وتتضامّون. وتفسير هذا أنّه لا يضارّ بعضكم بعضا أي لا يخالف بعضكم بعضا في ذلك. يقال : ضاررت الرجل أضارّه مضارّة وضرارا إذا خالفته. ومعنى لا تضامّون في رؤيته ، لا ينضمّ بعضكم إلى بعض فيقول واحد للآخر أرينه ، كما يفعلون عند النظر إلى الهلال.

(هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٩)

(هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) «ينطق» في موضع نصب على الحال ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر هذا و «كتابنا» بدل من هذا.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (٣٠)

(الَّذِينَ) في موضع رفع بالابتداء وخبره (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ).

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٣١)

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ) في موضع رفع أيضا ، وحذف القول كما يحذف في كلام العرب كثيرا ، فلما حذف حذفت الفاء معه لأنها تابعة له (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) الاستكبار في اللغة الأنفة من اتّباع الحقّ وقد بيّن الله جلّ وعزّ على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سئل ما الكبر؟ كما قرئ على إسحاق بن إبراهيم بن يونس عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب عن هشام عن محمد عن أبي هريرة «أنّ رجلا أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان رجلا جميلا فقال : يا رسول الله حبّب إليّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتّى ما أحبّ أن يفوقني أحد. إما قال : بشراك نعل وإمّا قال : بشسع أفمن الكبر ذلك؟ قال : لا ولكن الكبر من بطر الحقّ وغمص الناس» (١) قال إسحاق : وحدّثنا الوليد بن شجاع قال : حدّثنا عطاء بن مسلم الخفّاف عن محمد عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يحشر المتكبّرون ـ أحسبه قال ـ في صور الذرّ»؟ (٢) قال إسحاق : وحدّثنا محمد بن بكار قال : حدّثنا إسماعيل ـ يعني ابن عليّة ـ عن عطاء بن السائب عن الأغرّ عن أبي هريرة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال جلّ وعزّ : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنّم» (٣).

__________________

(١) أخرجه أبو داود في سننه الحديث رقم ٤٠٩٢ ، وذكره الحاكم في المستدرك ٤ / ١٨١ ، ١٨٢.

(٢) ذكره الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٣٠٩ ، و ١٠ / ٤٥٣ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٥١١٢ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٥٥١.

(٣) أخرجه أحمد في مسنده ٢ / ٣٧٦ ، وذكره الحاكم في المستدرك ١ / ٦١ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٨ / ٣٣٦ ، والبخاري في الأدب المفرد ٢٥٣ ، والألباني في السلسلة الصحيحة ٤٥٠ ، وأبو حنيفة في جامع المسانيد ١ / ٨٨ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ١٥١.

١٠١

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (٣٢)

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) وقرأ الأعمش وحمزة (السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) (١) عطفا بمعنى وأنّ الساعة لا ريب فيها. والرفع بالابتداء ، ويجوز أن يكون معطوفا على الموضع أي وقيل (السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) ، ويجوز أن تكون الجملة في موضع الحال. وزعم أبو عبيد أنه يلزم من قرأ بالرفع هاهنا أن يقرأ (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) [المائدة : ٤٥] وفي هذا طعن على جماع الحجّة لأنه قد قرأها هنا بالرفع وثم بالنصب من يقوم بقراءتهم الحجّة منهم نافع وعاصم قرا (وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) وقرا «والعين بالعين» بالنصب ، وكذا ما بعده. وفيه أيضا طعن على عبد الله بن كثير وأبي عمرو بن العلاء وأبي جعفر القارئ وعبد الله بن عامر لأنهم قرءوا «والساعة لا ريب فيها» وقرءوا (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) بالنصب ، وكذا ما بعده إلّا «والجروح قصاص» والحديث المرويّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ «والعين بالعين» لا يجوز أن يكون في موضع الحال. وقد ذكر أبو عبيد أنّ مثله (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ) [لقمان: ٢٧] وهو مخالف له ؛ لأنّ والبحر أولى الأشياء به عند النحويين أن يكون في موضع الحال وأبعد الأشياء في «الساعة لا ريب فيها» أن يكون في موضع الحال. (قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) وهذا من مشكل الإعراب وغامضه لأنه لا يقال : ما ضربت إلّا ضربا ، وما ظننت إلّا ظنّا ، لأنه لا فائدة فيه أن يقع بعد حرف الإيجاب لأنّ معنى المصدر كمعنى الفعل. فالجواب عن الآية عن محمد بن يزيد على معنيين : أحدهما أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي إن نحن إلّا نظنّ ظنّا ، وزعم أنّ نظيره من كلام العرب حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه (٢) : ليس الطّيب إلّا المسك أي ليس إلّا الطّيب المسك ، والجواب الآخر أن يكون التقدير : إن نظنّ إلّا أنّكم تظنّون ظنّا.

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٣٤)

قال أبو العباس (وَحاقَ بِهِمْ) نزل بهم.

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) قال : نترككم (كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) يكون من النسيان أي تشاغلتم عن يوم القيامة بلذاتكم وأمور دنياكم فوبّخهم

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦١ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٩٥.

(٢) انظر الكتاب ١ / ٢٠١.

١٠٢

الله عزوجل على ذلك. ويجوز أن يكون المعنى كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا. وحقيقته في العربية كما تركتم عمل لقاء يومكم مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٦)

على البدل ، ويجوز أن يكون نعتا.

(وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٧)

(وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال محمد بن يزيد : الكبرياء الجلال والعظمة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مبتدأ وخبر.

١٠٣

(٤٦)

شرح إعراب سورة الأحقاف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى).

(الَّذِينَ) في موضع رفع بالابتداء ومن العرب من يقول : اللّذون في غير القرآن إذا كان موضع رفع.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) قال الفراء (١) : وفي قراءة عبد الله قل أريتم من تدعون من دون الله يعني بالنون ، «أريتم» لغة معروفة للعرب كثيرة ، وأرأيتم الأصل ، ولغة ثالثة أن يخفف الهمزة التي بعد الراء فتجعل بين بين. ومن قرأ «ما تدعون» جاء به على بابه لأنه للأصنام. ومن قرأ من فلأنهم قد عبدوها فأنزلوها منزلة ما يعقل. وعلى هذا أجمعت القراء على أن قرءوا (خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ) ولم يقرءوا خلقن ولا خلقت ولا لهنّ ولا لها. (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) وقرأ أبو عبد الرحمن السّلميّ أو أثرة (٢) وحكى الفراء (٣) لغة ثالثة وهي (أثرة) بفتح الهمزة وحكى الكسائي لغة رابعة وهي «أو أثرة» بضم الهمزة والمعنى في اللغات الثلاث عند الفراء واحد ، والمعنى عند بقيّة من علم. ويجوز أن يكون المعنى عنده شيئا مأثورا من كتب الأولين. فأثارة عنده مصدر كالسّماحة والشّجاعة ، وأثرة عنده بمعنى أثر كقولهم : قترة وقتر ، وأثرة كخطفة. فأما الكسائي فإنه قال : أثارة وأثرة وأثرة كلّ ذلك تقول العرب ،

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٤٩.

(٢) انظر البحر المحيط ٨ / ٥٦ ، والمحتسب ٢ / ٢٦٤.

(٣) انظر معاني الفراء ٣ / ٥٠.

١٠٤

والمعنى فيهن كلّهن عنده معنى واحد. بمعنى الشيء المأثور. قال أبو جعفر : ومعنى الشيء المأثور المتحدّث به. ومما صحّ سنده عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سمع عمر وهو يقول : وأبي ، فقال : «إنّ الله جلّ وعزّ ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله جلّ وعزّ أو ليسكت» (١) قال عمر : فما حلفت بها بعد ذاكرا ولا أثرا. وفي بعض الحديث «من حلف بغير الله جلّ وعزّ فقد أشرك» (٢) وفي أخر «فقد كفر» فقوله «ذاكرا» معناه متكلّما بها ، وقائلا بها ، كما يقال : ذكرت لفلان كذا ومعنى «ولا أثرا» ولا مخبرا بها عن غيري أنه حلف بها. ومن هذا حديث مأثور ، يقال : أثر الحديث يأثره ، وأثر يفعل ذلك واثر فلان فلانا ، إذا فضّله ، وأثار التراب يثيره ، ووثر الشيء ويؤثر إذا صار وطيئا ومنه قيل : ميثرة انقلبت الواو فيها ياء.

وفي معنى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف بغير الله جلّ وعزّ فقد أشرك». أقوال : أصحّها أنّ المعنى فقد أشرك في تعظيم الله جلّ وعزّ غير الله ؛ لأنه إنما يحلف الإنسان بما يعظّمه أكبر العظمة ، وهذا لا ينبغي أن يكون إلّا لله جلّ وعزّ. وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فقد كفر» أقوال : فمن أصحّها أنّ الكفر هو التغطية. والمعنى : فقد غطّى وستر ما يجب أن يظهر من تعظيم الله جلّ وعزّ.

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) (٥)

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي ومن أضلّ عن الحقّ ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة. قال الفراء (٣) : وفي قراءة عبد الله ما لا يستجيب له والقول فيه مثل ما تقدّم.

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (٦)

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) أي يتبرؤون منهم ومن عبادتهم.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) نصب على الحال.

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه ٨ / ٣٣ ، ١٦٤ ، ومسلم في صحيحه الإيمان ١ ، ٣ ، والترمذي في سننه (١٥٣٤) ، والنسائي في سننه ٧ ، ٤ ، ٥ ، وأبو داود في سننه (٣٢٤٩) ، وابن ماجة في سننه (٢٠٩٤) ، وأحمد في مسنده ١ / ١٨ ، و ٢ / ٧ ، والبيهقي في السنن الكبرى ١٠ / ٢٨.

(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٢ / ٦٧ ، ٨٧ ، وذكره الطحاوي في مشكل الآثار ٣٥٨ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٣٤١٩ ، وابن حجر في فتح الباري ١٠ / ٥١٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٤٦٣٢٨) ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٣٤٢.

(٣) انظر معاني الفراء ٣ / ٥٠.

١٠٥

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٨)

(هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) قال محمد بن يزيد : أي بما تمضون فيه قال : ومنه حديث مستفيض ومستفاض فيه إذا شاع حتّى يتكلم النّاس فيه (كَفى بِهِ شَهِيداً) نصب على الحال ، ويجوز أن يكون نصبا على البيان والباء زائدة جيء بها للتوكيد ؛ لأن المعنى : اكتفوا به ، قال : فإذا قلت : كفى بزيد ، فمعناه كفى زيد.

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٩)

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) قال محمد بن يزيد : البدع والبديع الأول. يقال : ابتدع فلان كذا ، إذا أتى بما لم يكن قبله ، وفلان مبتدع من البدعة وهي التي لم يتقدّم لها شبه ، وقال عزوجل (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١١٧] أي مبتدئهما. (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) حذفت الضمّة من الياء لثقلها ، وكذا وإن أدري.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠)

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) قيل : شاهد بمعنى شهود تشهد جماعة من بني إسرائيل ممن أسلم على أنهم قد قرءوا التوراة. وفيها تعريف نزول القرآن من عند الله جلّ وعزّ ومن أجّل ما روي في ذلك ما رواه مالك بن أنس عن أبي النّضر عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه ، قال : ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشهد لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا عبد الله بن سلام ففيه نزلت (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) قال أبو جعفر : ومع هذا فقد عارض هذا الحديث علماء جلّة منهم مسروق والشّعبي فقالا : لم تنزل في عبد الله بن سلام ؛ لأن السورة مكّية وعبد الله بن سلام بالمدينة ، وإنما نزلت في غيره. والحديث صحيح السند وقد احتجّ على من أنكر ذلك بأن السورة وإن كانت مكّية فإنه قد يجوز أن يضمّ إليها بعض ما أنزل بالمدينة لأن التأليف من عند الله جلّ وعزّ يأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أحبّ وأراد. فهذا قول بيّن ، وقد قيل : إنّ قريشا وجّهت من مكّة إلى المدينة لأنه كان بها علماء اليهود يسألون عن أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشهد عبد الله بن سلام بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله جلّ وعزّ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) الآية ومع هذا كلّه فإنّ الحديث ، وإن كان صحيح السند فقد قيل : إنّ الذي في الحديث من قوله وفيه نزلت ليس من كلام سعد وإنما هو من كلام بعض المحدّثين خلط بالحديث ولم يفصل.

١٠٦

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (١١)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) روى ابن المبارك عن معمر عن قتادة قال : قال قوم من المشركين : نحن ونحن يفتخرون لو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان يعنون عمّارا وبلالا وصهيبا وضروبهم فأنزل الله جلّ وعزّ : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ١٠٥]. (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) زعم سيبويه (١) أن «إذ» لا يجازى بها حتّى يضمّ إليها «ما» ، وكذا «حيث». قال أبو جعفر : والعلّة في ذلك أن «ما» يفصلها من الفعل الذي بعدها فتعمل فيه ، وإذا لم تأت بما كان متّصلا بها وهي مضافة إليه فلم تعمل فيه (فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي تقدّم مثله في سالف الدهور.

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) (١٢)

(إِماماً) منصوب على الحال أي يؤتمّ به (وَرَحْمَةً) عطف على إمام أي ونعمة. (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا) منصوب على الحال والضعيف في العربية يتوهّم أنه حال من نكرة ؛ لأن الذي قبله نكرة والحال من النكرة ليس بجيد ولا يقال في كتاب الله جلّ وعزّ ما غيره أجود منه فلسانا منصوب على الحال من المضمر الذي في مصدّق ، والمضمر معرفة وجاز نصب لسان على الحال ؛ لأنه بمعنى مبين وكان علي بن سليمان يقول : في هذا هو توطئة للحال و «عربيا» منصوب على الحال ، كما تقول : هذا زيد رجلا صالحا لتنذر الّذين ظلموا بالتاء ، هذه قراءة المدنيين ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) (٢) واختيار أبي عبيد لتنذر (٣) بالتاء ، واحتج بقوله جلّ وعزّ : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) [الرعد : ٧]. قال أبو جعفر : والمعنى في القراءتين واحد ، ولا اختيار فيهما ؛ من قرأ «لينذر» جعله للقرآن أو لله جلّ وعزّ ، وإذا كان للقرآن فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المنذر به وكذا إذا كان لله جلّ وعزّ فإذا عرف المعنى لم يقع في ذلك اختيار كما قال جلّ وعزّ : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] فقد علم أن الغافر هو الله جلّ وعزّ والقراءة نغفر ويغفر واحد ، وكذا (وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ) [البقرة : ٥٨] و «يغفر» واحد ليس أحدهما أولى من الآخر. (وَبُشْرى) في موضع رفع عطفا على «كتاب» ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على المصدر (لِلْمُحْسِنِينَ) قال ابن عيينة : الإحسان التفضّل والعدل والإنصاف.

__________________

(١) انظر الكتاب ٣ / ٦٤.

(٢) انظر تيسير الداني ١٦١.

(٣) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٥٩٦.

١٠٧

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤)

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) أي على طاعة الله جلّ وعزّ ثم أخبر جلّ ثناؤه بما لهم فقال : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي في الآخرة. (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما خلفوا في الدنيا. كذا قال أهل التفسير ، وبعده خبر أخر وهو (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) نصب على الحال. (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) مصدر.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١٥)

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) هذه قراءة (١) المدنيين والبصريين ، وكذا في مصاحفهم ، وقرأ حمزة والكسائي (إِحْساناً) (٢) وروي عن عيسى بن عمر أنه قرأ حسنا بفتح الحاء والسين فأما «حسنى» بغير تنوين فلا يجوز في العربية لأن مثل هذا لا تنطق به العرب إلّا بالألف واللام الفضلى والأفضل والحسنى والأحسن. وإحسان مصدر أحسن وحسنا بمعناه ، وحسن على إقامة النعت مقام المنعوت أي فعلا حسنا وينشد بيت زهير : [البسيط]

٤٢٠ ـ يطلب شأو امرأين قدّما حسنا

فاقا الملوك وبذّا هذه السّوقا(٣)

أي فعلا حسنا. وهذا مثل هذه القراءة. (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) هذه قراءة حمزة والكسائي (٤) ، وهي مروية عن الحسن ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلميّ وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة ونافع كرها (٥) بفتح الكاف. وعارض أبو حاتم السجستاني هذه القراءة بما لو صحّ لوجب اجتنابها ؛ لأنه زعم أنّ الكره الغضب والقهر ، وأنّ الكره المكروه ، واحتجّ بأنّ الجميع قرءوا (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) [النساء : ١٩] ، وذكر أنّ بعض العلماء سمع رجلا يقرأ «حملته أمه كرها ووضعته كرها» فقال : لو حملته كرها لرمت به يذهب إلى أنّ الكره القهر والغضب. قال أبو جعفر : في هذا طعن على من تثبت الحجّة بقراءته ، وحكايته عن بعض العلماء لا حجّة فيها لأنه لم يسمه ولا

__________________

(١) و (٢) انظر تيسير الداني ١٦١.

(٣) مرّ الشاهد رقم (٣١٦).

(٤) انظر تيسير الداني ١٦١ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٩٦.

(٥) انظر البحر المحيط ٨ / ٦٠.

١٠٨

يعرف ، ولو عرف لما كان قوله حجّة ، إلّا بدليل وبرهان. والحجّة في هذا قول من يعرف ويقتدى به. إن الكره والكره لغتان بمعنى واحد بل قد روي عن محمد بن يزيد أنه قال : الكره أولى لأنه المصدر بعينه. وقد حكى الخليل وسيبويه رحمهما‌الله أنّ كلّ فعل ثلاثي فمصدره فعل ، واستدلّا على ذلك أنك إذا رددته إلى المرة الواحدة جاء مفتوحا نحو قام قومة ، وذهب ذهبة ، فإذا قلت : ذهب ذهابا فإنما هو عندهما اسم للمصدر لا مصدر ، وكذلك الكره اسم للمصدر والكره المصدر. (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) التقدير : وقت حمله مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وقرأ أبو رجاء وعاصم الجحدريّ (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ) (١) فرويت عن الحسن بن أبي الحسن واحتجّ أبو عبيد للقراءة الأولى بالحديث «لا رضاع بعد فصال» (٢) وأبين من هذه الحجّة أنّ فصالا مصدر مثل قتال. وهذا الفعل من اثنين لأن المرأة والصّبيّ كل واحد منهما ينفصل من صاحبه فهذا مثل القتال ، وإن كان قد يقال : فصله فصلا وفصالا. (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) جمع شدّة عند سيبويه مثل نعمة. وقد ذكرناه (٣) بأكثر من هذا.

(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الأصل إنّني حذفت النون لاجتماع النونات.

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) (١٦)

أولئك الّذين يتقبّل عنهم أحسن ما عملوا قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ) بالنون وكذا «نتجاوز» بالنون أنها أخبار من الله جلّ وعزّ عن نفسه وإنما اختار هذه القراءة لقوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) وقرأ الباقون يتقبّل بالياء ، وكذا يتجاوز على ما لم يسمّ فاعله و (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) ومن قرأ بالنون نصب أحسن لأنه مفعول به. (وَعْدَ الصِّدْقِ) منصوب على المصدر.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٧)

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) قال الفراء (٤) : أي قذرا لكما. وقد ذكرنا (٥) ما في

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٦١.

(٢) ذكره البيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٣١٩ ، والطبراني في المعجم الصغير ٢ / ٦٨ ، والزيلعي في نصب الرآية ٣ / ٢١٩ ، وابن حجر في المطالب العالية (١٧٠٧) ، والسيوطي في الدر المنثور ١ / ٢٢٨.

(٣) ذكره في إعراب الآية ٣٢ سورة يوسف.

(٤) انظر معاني الفراء ٣ / ٥٣.

(٥) انظر إعراب الآية ٢٣ ـ الإسراء.

١٠٩

أفّ من اللغات. (أَتَعِدانِنِي) وذكر بعض الرواة أنّ نافع بن أبي نعيم قرأ (أَتَعِدانِنِي) (١) بفتح النون الأولى ، وذلك غلط غير معروف عن نافع وإنّما فتح نافع الياء فغلط عليه. وفتح هذه النون لحن ولا يلتفت إلى ما أنشد وهو : [الرجز].

٤٢١ ـ أعرف منها الأنف والعينانا(٢)

وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد يقول : إن كان مثل هذا يجوز فليس بين الحق والباطل فرق. يتركون كتاب الله جلّ وعزّ ولغات العرب الفصيحة ويستشهدون بأعرابي بوال. (أَنْ أُخْرَجَ) وقرأ الحسن أن أخرج (٣) وتقديره أن أخرج من قبري. (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) أي يسألانه ويطلبان إليه أن يلطف لهما بما يؤمن به. (وَيْلَكَ آمِنْ) يدلّك على أنهما احتجّا عليه ووعظاه ، ونصب ويلك على المصدر. وتوهّم القائل لهذا القول أن الأمم لمّا لم تخرج من قبورها أحياء في الدنيا أنّها لا تبعث فذلك قوله : (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي).

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (٢٠)

(أَذْهَبْتُمْ) هذه القراءة مروية عن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه ، وهي قراءة نافع وأبي عمرو وعاصم وابن أبي إسحاق وحمزة والكسائي. وقرأ يزيد بن القعقاع أذهبتم (٤) وهذه القراءة مروية عن الحسن والقراءتان عند الفراء (٥) بمعنى واحد. قال الفراء : العرب تستفهم في التوبيخ ولا نستفهم ، فيقولون : ذهبت ففعلت وفعلت ، ويقولون : أذهبت ففعلت وفعلت ، وكلّ صواب. قال أبو جعفر : فأما ما روي عن محمد بن يزيد فتحقيق هذا ، وهو أن الصواب عنده ترك الاستفهام فيقرأ «أذهبتم» وفيه معنى التوبيخ ، وإن كان خبرا. والمعنى عنده : أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا فذوقوا العذاب. والاستفهام إذا قرأ «أذهبتم» فهو على التوبيخ والتقرير ، وإنما اختار أذهبتم

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٢.

(٢) الرجز لرؤبة بن العجاج في ملحق ديوانه ١٨٧ ، ولرؤبة أو لرجل من ضبة في الدرر ١ / ١٣٩ ، والمقاصد النحوية ١ / ١٨٤ ، ولرجل في نوادر أبي زيد ص ١٥ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٦٤ ، وتخليص الشواهد ٨٠ ، وخزانة الأدب ٧ / ٤٥٢ ، ورصف المباني ص ٢٤ ، وسرّ صناعة الإعراب ص ٤٨٩ ، وشرح الأشموني ١ / ٣٩ ، وشرح التصريح ١ / ٧٨ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٢ ، وشرح المفصل ٣ / ١٢٩ ، وهمع الهوامع ١ / ٤٩ ، وبعده :

«ومنخرين أشبها ظبيانا»

(٣) وهذه قراءة ابن يعمر وابن مصرف والضحاك أيضا ، انظر البحر المحيط ٨ / ٦٢.

(٤) انظر تيسير الداني ١٦٢.

(٥) انظر معاني الفراء ٣ / ٥٤.

١١٠

بغير استفهام لأن الاستفهام إذا كان فيه معنى التقرير صار نفيا إذا كان موجبا ، كما قال جلّ وعزّ: (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) [الواقعة : ٥٨ ، ٥٩] وإن كان نفيا صار موجبا ؛ لأن نفي النفي إيجاب كما قال : [الوافر].

٤٢٢ ـ ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح(١)

إلا أنّه من قرأ «أذهبتم» فليس يحمل معناه عنده على هذا ، ولكنّ تقديره : أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدّنيا وتطلبون النّجاة في الآخرة. (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) العامل في اليوم تجزون ينوى به التأخير. (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي استكباركم وفسقكم وإذا كانت «ما» هكذا مصدرا لم تحتج إلى عائد.

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٢١)

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) صرف عاد لأنه اسم للحيّ ولو جعل اسما للقبيلة لم ينصرف وإن كان على ثلاثة أحرف ، وكذا لو سمّيت امرأة بزيد لم ينصرف وإن سمّيتها بهند جاز الصرف عند الخليل وسيبويه (٢) والكسائي والفراء إلّا أنّ الاختيار عند الخليل وسيبويه ترك الصرف ، وعند الكسائي والفراء الأجود الصّرف. فأما أبو إسحاق فكان يقول : إذا سمّيت امرأة بهند لم يجز الصّرف البتّة. وهذا هو القياس ؛ لأنها مؤنّثة وهي معرفة. فأما قول بعض النحويين : إنّك إذا سمّيت بفعل ماض لم ينصرف فقد ردّه عليه سيبويه بالسّماع من العرب خلاف ما قال ، وأنّ له نصيرا من الأسماء ، وكذا يقال : كتبت أبا جاد بالصرف لا غير (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) قال مجاهد : الأحقاف أرض. وقال ابن أبين نعيم : الأحقاف : اسم أرض. وقال وهب بن منبّه : الأحقاف باليمن الأصنام والأوثان وقد قهروا الناس بكثرتهم وقوتهم. وقال محمد بن يزيد : واحد الأحقاف حقف وهو رمل مكتنز ليس بالعظيم وفيه اعوجاج ، قال : ويقال : احقوقف الشيء إذا اعوجّ حتّى كاد يلتقي طرفاه ، كما قال : [الرجز]

٤٢٣ ـ سماوة الهلال حتّى احقوقفا(٣)

وانصرف الأحقاف وإن كان اسم أرض لأن فيه ألفا ولاما. قال سيبويه : واعلم أن كلّ ما لا ينصرف إذا دخلته ألف ولام أو أضيف انصرف. (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) جمع نذير ، وهو الرسول. ويجوز أن تكون النذر اسما للمصدر. قال الفراء : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ)

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم ١٦٢.

(٢) انظر الكتاب ٣ / ٢٦٥.

(٣) الشاهد للعجاج في ديوانه ٢ / ٢٣٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣١٩ ، ولسان العرب (حقف) و (زلف) و (وجف) ، و (سما) ؛ بلا نسبة في الكتاب ١ / ٤٢٥ ، وجمهرة اللغة ٥٥٣.

١١١

من قبله (وَمِنْ خَلْفِهِ) من بعده (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) «أن» في موضع نصب أي بأن (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) نعت لليوم ولو كان نعتا لعذاب لنصب. ولا يجوز الجوار في كتاب الله تعالى وإنما يقع في الغلط.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٤)

قال محمد بن يزيد : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً) فيه جوابان : يكون التقدير فلمّا رأوا السحاب ، وإن كان لم يتقدّم للسّحاب ذكر لأنّ الضمير قد عرف ودل عليه «عارضا» ، والجواب الآخر أن يكون جوابا لقولهم (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) أي فلمّا رأوا ما يوعدون عارضا (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) يقدّر فيه التنوين ، وكذا (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أو ممطر لنا ، كما قال : [البسيط]

٤٢٤ ـ يا ربّ غابطنا لو كان يطلبكم (١)

أي غابط لنا. (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) قال الفراء (٢) : وفي حرف عبد الله : قل بل ما استعجلتم به هي ريح فيها عذاب أليم. قال : وهي وهو مثل (مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) [القيامة : ٣٧] ويمنى. من قال : هو ، ذهب إلى العذاب ، ومن قال هي ، ذهب إلى الريح.

(تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥)

فأصبحوا لا ترى إلّا مساكنهم هذه قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو والكسائي (٣) ، وهي المعروفة من قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس. وقرأ الأعمش وحمزة وعاصم (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) وهي المعروفة من قراءة ابن مسعود ومجاهد ، وقرأ الحسن وعاصم الجحدريّ فأصبحوا لا ترى إلّا مساكنهم (٤) بالتاء ورفع المساكن على اسم ما لم يسمّ فاعله. وهذه القراءة عند الفراء

__________________

(١) الشاهد لجرير في ديوانه ١٦٣ ، والكتاب ١ / ٤٩٢ ، والدرر ٥ / ٩ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٤٥٧ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧١٢ ، ولسان العرب (عرض) ، ومغني اللبيب ١ / ٥١١ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٦٤ ، والمقتضب ٤ / ١٥٠ ، وهمع الهوامع ٣ / ٤٧ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ٣٠٥ ، والمقتضب ٣ / ٢٢٧. وعجزه :

«لاقى مباعدة منكم وحرمانا»

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٥٥.

(٣) انظر تيسير الداني ١٦٢ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٩٨.

(٤) انظر البحر المحيط ٨ / ٦٥.

١١٢

بعيدة ؛ لأنّ فعل المؤنّث إذا تقدّم وكان بعده إيجاب ذكّرته العرب فيما زعم ، وحكى : لم يقم إلّا هند ؛ لأن المعنى عنده : لم يقم أحد إلّا هند.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٢٦)

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) قال محمد بن يزيد : «ما» بمعنى الذي و «إن» بمعنى «ما» أي ولقد مكّنّاهم في الذي مكّنّاكم فيه. (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) فجاء السمع مفردا وما بعده مجموعا ففيه غير جواب منها أنّه مصدر فلم يجمع لذلك ، ومنها أن يكون فيه محذوف أي وجعلنا لهم ذوات سمع ، ومنها أن يكون واحدا يدلّ على جمع (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ) تكون «ما» نعتا لا موضع لها من الإعراب ، وإن جعلتها استفهاما كان موضعها نصبا. قال الفراء (١) : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي عاد ، قال: وأهل التفسير يقولون : أحاط ونزل.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢٧)

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) هذه لام توكيد. و «قد» عند الخليل وسيبويه بمعنى التوقّع مع الماضي فإذا كانت مع المستقبل أدّت معنى التقليل ، تقول : قد يقوم أي يقلّ ذلك منه.

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٨)

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ) لولا وهلّا واحد ، كما قال : [الطويل]

٤٢٥ ـ بني ضوطرى لو لا الكميّ المقنّعا(٢)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٥٦.

(٢) الشاهد لجرير في ديوانه ٩٠٧ ، وتخليص الشواهد ص ٤٣١ ، وجواهر الأدب ص ٣٩٤ ، وخزانة الأدب ٣ / ٥٥ ، والخصائص ٢ / ٤٥ ، والدرر ٢ / ٢٤٠ ، وشرح شواهد الإيضاح ٧٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٦٩ ، وشرح المفصل ٢ / ٣٨ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٧٥ ، ولسان العرب (أمالا) ، وتاج العروس (لو) ، وللفرزدق في الأزهيّة ١٦٨ ، ولسان العرب (ضطر) ، ولجرير أو للأشهب بن رميلة في شرح المفصّل ٨ / ١٤٥ ، وبلا نسبة في الأزهية ص ١٧٠ ، والأشباه والنظائر ١ / ٢٤٠ ، والجنى الداني ص ٦٠٦ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٤٥ ، ورصف المباني ٢٩٣ ، وشرح الأشموني ٣ / ٦١٠ ، وصدره :

«تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم»

١١٣

أي هلّا : (قُرْباناً آلِهَةً) يكون «قربانا» مصدرا ، ويكون مفعولا من أجله ، ويكون مفعولا و «الهة» بدل منه (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) وإن شئت أدغمت اللّام في الضاد. وزعم الخليل وسيبويه (١) أن الضاد تخرج من الشقّ اليمين ولبعض النّاس من الشقّ الشمال. (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) «ذلك» في موضع رفع بالابتداء «إفكهم» خبره والهاء والميم في موضع خفض بالإضافة ومثله سواء في الإعراب والمعنى. قال الفراء (٢) : إفك وأفك مثل حذر وحذر أي هما بمعنى واحد. ويروى عن ابن عباس أنه قرأ أفكهم (٣) على أنه فعل ماض والهاء والميم على هذه القراءة في موضع نصب ، وفي إسنادها عن ابن عباس نظر ولكن قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق عن سليمان بن حرب عن حمّاد بن سلمة قال : حدّثنا عطاء بن السائب قال : سمعت أبا عياض يقرأ (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) فعلى هذه القراءة يكون (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) في موضع رفع على أحد أمرين إما أن يكون معطوفا على المضمر الذي في «أفكهم» ويكون المعنى وذلك أرداهم وأهلكهم هو وافتراؤهم إلّا أنّ العطف على المضمر المرفوع بعيد في العربية إلّا أن يؤكّد ويطول الكلام لو قلت : قمت وعمرو ، كان قبيحا حتّى تقول : قمت أنا وعمرو أو قمت في الدار وعمرو. والوجه الثاني أن يكون «وما كانوا يفترون» معطوفا على ذلك أي وذلك أهلكهم وأضلّهم وافتراؤهم أيضا أهلكهم وأضلّهم. والقراءة البيّنة التي عليها حجّة الجماعة «وذلك إفكهم» أي وذلك كذبهم وما كانوا يفترون على هذه القراءة معطوف على إفكهم أي وذلك إفكهم وافتراؤهم تكون ما والفعل مصدرا فلا تحتاج إلى عائد لأنها حرف فإن جعلتها بمعنى الذي لم يكن بدّ من عائد مضمر أو مظهر. فيكون التقدير والذي كانوا يفترونه ثم تحذف الهاء ويكون حذفها حسنا لعلل منها طول الاسم وأنه لا يشكل مذكّر بمؤنّث وأنه رأس آية وأنه ضمير متّصل ، ولو كان منفصلا لبعد الحذف ، وإن كان بعضهم قد قرأ (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) [الأنعام : ١٥٤] بمعنى على الذي هو أحسن ، وتأوّل بعضهم قول سيبويه (٤) «هذا باب علم ما الكلم» بمعنى الّذي هو الكلم ، وروى بعضهم «هذا باب علم ما الكلم» بغير تنوين على أنه حذف أيضا هو وفيه من البعد ما ذكرنا فإذا كان متصلا حسن الحذف كما قرئ وفيها ما تشتهي الأنفس [الزخرف : ٧١] وتشتهيه ، وحكى أبو إسحاق «وذلك أأفكهم» أي أكذبهم.

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٥٧٢.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٥٦.

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ٦٦ ، والمحتسب ٢ / ٢٦٧.

(٤) انظر الكتاب ١ / ٤٠.

١١٤

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (٢٩)

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) «إذ» في موضع نصب قيل : مضى «صرفنا» وقفناهم لذلك فسمّي صرفا مجازا (فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرغ من تلاوته (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي مخوّفين من ترك قبول الحق ونصب «منذرين» على الحال.

(قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٠)

(قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً) وأجاز سيبويه (١) في بعض اللغات فتح «أنّ» بعد القول. (أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) «يهدي» في موضع نصب ؛ لأنه نعت لكتاب ، ويجوز أن يكون منصوبا على الحال ، وهو مرفوع ؛ لأنه فعل مستقبل.

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٣١)

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ) جواب الأمر ، وكذا (وَيُجِرْكُمْ).

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٣)

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) ليس من التعب وإنما يقال في التعب : أعيا يعيي وعيي بالأمر يعي وعيّ به إذا لم يتّجه له. بقدر (٢) هذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وأبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي ، وقرأ عبد الرحمن الأعرج وابن أبي إسحاق وعاصم الجحدري يقدر (٣) وقد زعم بعض النحويين أن القراءة بيقدر أولى ؛ لأن الباء إنما تدخل في النفي وهذا إيجاب وتعجّب من أبي عمرو والكسائي كيف جاز عليهما مثل هذا حتّى غلطا فيه مع محلّهما من العربية قال أبو جعفر : وفي هذا طعن على من تقوم الحجّة بقراءته ومع ذلك فقد أجمعت الأئمة على أن قرءوا (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ) [يس : ٨١] ولا نعلم بينهما فرقا ولا تجتمع الجماعة على ما لا يجوز. وقد تكلّم النحويون في الآية التي أشكلت على قائل هذا فقال الكسائي : إنما دخلت الباء من أجل «لم» وهذا

__________________

(١) انظر الكتاب ١ / ١٧٨ ، و ٣ / ١٦٣.

(٢) انظر البحر المحيط ٨ / ٦٧.

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ٦٨.

١١٥

قول صحيح وسمعت علي بن سليمان يشرحه شرحا بيّنا ، قال الباء تدخل في النفي فتقول : ما زيد بقائم ، فإذا دخل الاستفهام على النفي لم يغيره عمّا كان عليه فتقول : أما زيد بقائم ، فكذا «بقادر» لأن قبله حرف نفي وهو «لم» وقال أبو إسحاق : الباء تدخل في النفي ولا تدخل في الإيجاب تقول : ظننت زيدا منطلقا ، ولا يجوز : ظننت زيدا بمنطلق فإن جئت بالنفي قلت : ما ظننت زيدا بمنطلق ، فكذا قوله جلّ وعزّ : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ) والمعنى : أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر في رويّتهم وفي علمهم. قال أبو جعفر : فإن قال قائل : لم صارت الباء في النفي ولا تكون في الإيجاب؟ فالجواب عند البصريين أنها دخلت توكيدا للنفي ؛ لأنه قد يجوز ألّا يسمع المخاطب «ما» أو يتوهّم الغلط فإذا جئت بالباء علم أنه نفي. وأما قول الكوفيين الباء في النفي حذاء اللام في الإيجاب.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٤)

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) بمعنى واذكر يوما.

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٣٥)

(بَلاغٌ) في معناه قولان : أحدهما أنه بمعنى قليل. يقال : ما معه من الزاد إلّا بلاغ أي قليل ، والقول الآخر : أن المعنى فيما وعظوا به بلاغ ، كما قال الأخفش. قال بعضهم : البلاغ القرآن. وهو مرفوع على إضمار مبتدأ أي ذلك بلاغ ، ومن نصبه جعله مصدرا أو نعتا لساعة. (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) أي من فسق في الدنيا. ويقال : إنّ هذه الآية من أرجى آية في القرآن إلّا أن ابن عباس قال : أرجى آية في القرآن (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [الرعد : ٦].

١١٦

(٤٧)

شرح إعراب سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) (٢)

(الَّذِينَ) في موضع رفع بالابتداء وهو اسم ناقص. (كَفَرُوا) من صلته «وصدّوا» معطوف عليه (وَصَدُّوا) بزيادة ألف بعد الواو وللنحويين في ذلك ثلاثة أقوال : فمذهب الخليل رحمه‌الله أنّ هذه الألف زيدت في الخط فرقا بين واو والإضمار والواو الأصلية نحو «لو» فاختيرت الألف ؛ لأنها عند أخر مخرج الواو. وقال الأخفش : لو كتب بغير ألف لقرئ «كفر وصدّ» ففرق بين هذه الواو وبين واو العطف. وقال أحمد بن يحيى : كتب بألف ليفرّق بين المضمر المتصل والمنفصل فيكتب صدّوهم عن المسجد الحرام بغير ألف ويكتب صدوا هم بألف ، كما تقول : قاموا هم. قال أبو جعفر : فهذه ثلاثة أقوال أصحّها القول الأول لأن قول الأخفش يعارض بأنه قد يقال : كفر وأفعل فيقع الأشكال أيضا وقول أحمد بن يحيى في الفرق إنما جعله بين المضمرين وليس يقع في قاموا مضمر منصوب فيجب على قوله أن يكتبه بغير ألف وهو لا يفعل هذا ولا أحد غيره. ومذهب الخليل رحمه‌الله مذهب صحيح. وهذا في واو الجمع خاصة فأما التي في الواحد نحو قولك : هو يرجو فبغير ألف ؛ لأنها ليست واو الإضمار وهي لام الفعل بمنزلة الواو من «لو» فكتابتها بالألف خطأ ، وإن كان بعض المتأخرين قد ذكر ذلك بغير تحصيل ورأيت أبا إسحاق قد ذكره بالنقصان في النحو وذكر أنه خاطبه فيه. ومن العرب من يقول : اللّذون فيجعله جمعا مسلّما. فأما ما رواه مجاهد عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أنّهم كفار أهل مكة فجعل الآية فيهم خصوصا ، والظاهر يدلّ على العموم فيجوز أن تكون نزلت في قوم بأعيانهم ثم صارت عامة لكل من فعل فعلهم ، وكذا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فقول ابن عباس أنّ هذا نزل في الأنصار خاصة وهو بمنزلة ما تقدّم «والذين» في موضع

١١٧

رفع بالابتداء ، والخبر (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) قال مجاهد عن ابن عباس : أي أمرهم. وروى الضحاك عنه : أي شأنهم. قال أبو جعفر : والبال في اللغة يعبّر عنه بالأمر والشأن والحال. قال محمد بن يزيد : وقد يكون للبال موضع أخر يكون بمعنى القلب. يقال : ما يخطر هذا على بالي أي على قلبي.

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) (٣)

(ذلِكَ) في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك ، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء وما بعده خبره. ويكون ذلك إشارة إلى الإضلال والهدى. والعرب قد تشير إلى شيئين بذلك فمنهم من يقول ذانك. وسمعت أبا إسحاق يقول في قول سيبويه : ظننت ، ولم يعدها إلى مفعول أخر : إنّ ذلك إشارة إلى شيئين ، كأن قائلا قال : ظننت زيدا منطلقا ، فقال له أخر : قد ظننت ذلك.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) (٤)

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) مصدر. أي فاضربوا الرقاب ضربا ، وقيل : هو على الإغراء (١) ، هذا قول الفراء. (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) أي لئلا يهربوا أو يلحقكم منهم مكروه. والإثخان المبالغة بالضرب مشتق من قولهم : شيء ثخين أي متكاثف. (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) مصدران وحذف الفعل لدلالة المصدر عليه ولأنه أمر. والفداء يمدّ ويقصر عند البصريين. وأما الفراء فحكى (٢) أنه ممدود إذا كسر أوله ومقصور إذا فتح أوله وحكي : قم فدى لك. (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أهل التفسير على أن المعنى حتّى يزول الشرك والضمير عند الفراء يحتمل معنيين : أحدهما حتّى تضع الحرب أوزارها أي آثامهم ، والمعنى الآخر أن يعود على الحرب نفسها. قال أبو جعفر : الحرب في كلام العرب مؤنّثة ، ويصغّرونها بغير هاء فيقولون : حريب ، ومثلها قوس وذود يصغّران بغير هاء سماعا من العرب (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) «ذلك» في موضع رفع أي الأمر ذلك أنه لو شاء الله لانتصر منهم ، ولكنه أراد أن يثيب المؤمنين ، وكانت الحكمة في ذلك ليقع الثواب والعقاب. وقد بيّن ذلك جلّ وعزّ بقوله : (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٥٧.

(٢) انظر المنقوص والممدود ٢٥ ، ٢٦.

١١٨

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) (١) هذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي ، وقرأ عاصم الجحدري (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) (٢) وقرأ أبو عمرو والأعرج (قُتِلُوا) وعن الحسن أنه قرأ قتلوا (٣) مشددة. قال أبو جعفر : والقراءة الأولى عليها حجّة الجماعة ، وهي أبين في المعنى وقد زعم بعض أهل اللغة أنه يختار أن يقرأ «قاتلوا» لأنه إذا قرأ «قتلوا» لم يكن الثواب إلا لمن قتل ، وإذا قرأ قتلوا لم يكن الثواب إلا لمن قتل وإذا قرأ قاتلوا عم الجماعة بالثواب وهذه لعمري احتجاج حسن ، غير أن أهل النظر يقولون : إذا قرئ الحرف على وجوه فهو بمنزلة آيات كل واحدة تفيد معنى ، وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أوتيت جوامع الكلم» (٤).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (٧)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) قيل : المعنى : إن تنصروا دين الله وأولياءه فجعل ذلك نصرة له مجازا ينصركم في الآخرة أي يدفع الشدائد عنكم. وروى الضحاك عن ابن عباس : ينصركم على عدوكم. (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) قيل : في موضع الحساب بأن يجعل الحجّة لكم.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (٨)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) في موضع رفع بالابتداء ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل يفسّره (فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) معطوف على الفعل المحذوف.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٩)

قال أبو إسحاق : كرهوا نزول القرآن ونبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) (١٠)

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) في موضع نصب على أنه جواب ، ويجوز أن يكون في موضع جزم على أنه معطوف ، والجزم والنصب علامتهما حذف النون. (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ) اسم كان ولم يقل : كانت لأنه تأنيث غير حقيقي وخبر «كان» في «كيف» (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) روى الضحاك عن ابن عباس قال : عذاب ينزل من السّماء ولم يكن

__________________

(١) و (٢) و (٣) انظر تيسير الداني ١٦٢ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٦٠٠.

(٤) أخرجه مسلم في صحيحه ، المساجد ٧ ، ٨ ، وأحمد في مسنده ٢ / ٢٥٠ ، وذكره ابن كثير في تفسيره ٤ / ٧٢ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ١١٣ ، وأبو نعيم في دلائل النبوة ١ / ١٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٢٠٦٨).

١١٩

بعد. وقال أبو إسحاق في الضمير الذي في أمثالها أنه يعود على العاقبة.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) (١١)

روى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) قال: ناصرهم. قال الفراء (١) وفي قراءة عبد الله ذلك بأنّ الله وليّ الذين آمنوا وهذه قراءة على التفسير. وقال أبو إسحاق : في معنى ذلك بأن الله يتولّى الذين آمنوا في جميع أمورهم وهدايتهم والنصر على عدوهم. وهذه الأقوال متقاربة ومعروف في اللغة أنّ المولى الوليّ. وهو معنى ما قال ابن عباس : إنّ المولى الناصر ، وعلى هذا تؤوّل قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من كنت مولاه فعليّ مولاه» (٢) أي من كنت أتولاه وأنصره فعليّ يتولاه وينصره ، وقيل : المعنى من كان يتولاني وينصرني فهو يتولّى عليّا وينصره. ويبيّن ذلك ما حدّثناه علي بن سليمان عن أبي سعيد السكّري عن يونس ، عن محمد بن المستنير قال : إن سأل سائل عن قول الله جلّ وعزّ : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) (١١) فقال الله جلّ وعزّ : مولى كلّ أحد فكيف قال جلّ وعزّ وأن الكافرين لا مولى لهم؟ فالجواب أن المولى هاهنا الولي وليس الله جلّ وعزّ وليّ الكافرين ، وأنشد : [الكامل]

٤٢٦ ـ فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها(٣)

أي وليّ المخافة.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (١٢)

(وَالنَّارُ) مرفوعة بالابتداء ، و «مثوى» في موضع رفع على أنه الخبر ، وأجاز الفراء أن يكون (مَثْوىً) في موضع نصب ويكون الخبر لهم.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) (١٣)

التقدير وكم من أهل قرية. وهي أيّ دخلت عليها كاف التشبيه. قال الفراء (٤) : في معنى «التي أخرجتك» التي أخرجك أهلها إلى المدينة (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) قال

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٥٩.

(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٥ / ٤١٩ ، وذكره ابن أبي عاصم في السنة ٢ / ٦٠٥ ، وابن كثير في البداية والنهاية ٧ / ٣٣٩ ، والترمذي في سننه (٣٧١٣).

(٣) مرّ الشاهد رقم (١٥١).

(٤) انظر معاني الفراء ٣ / ٥٩.

١٢٠