إعراب القرآن - ج ٤

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

الأحدب على أن المعنى : ومن عند الله الذي في السّماء صاحب رزقكم. وقال قول : كلّ ما كسبه الإنسان سمّي رزقا. وقال قوم : لا يقال رزقه الله جلّ وعزّ إلا كما كان حلالا ، واستدلوا على هذا في القرآن فقال الله عزوجل : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) [المنافقون : ١٠] ولا يأمر بالنفقة إلّا من الحلال. واختلف أهل التأويل في (وَما تُوعَدُونَ) فقال الضحاك : الجنّة والنار ، وقال غيره : توعدون من وعد ، ووعد إنما يكون للخير فما توعدون للخير فأما في الشّرّ فيقال : أوعد ، وقال آخرون : هو من أوعد لأن توعدون في العربية يجوز أن يكون من أوعد ومن وعد. والأحسن فيه ما قال مجاهد ، قال : ما توعدون من خير وشرّ ؛ لأن الآية عامة فلا يخصّ بها شيء إلا بدليل قاطع.

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢٣)

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) خفض على القسم. (إِنَّهُ لَحَقٌ) أي إن قولنا. (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) (٢٢) (لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) برفع «مثل» قراءة الكوفيين وابن أبي إسحاق (١) على النعت لحق ، وقرأ المدنيون وأبو عمرو مثل ما بالنصب. وفي نصبه أقوال أصحّها ما قال سيبويه أنه مبني لما أضيف إلى غير متمكّن فبني ونظيره (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) [هود : ٦٦]. وقال الكسائي : «مثل ما» منصوب على القطع ، وقال بعض البصريين هو منصوب على أنه حال من نكرة ، وأجاز الفراء (٢) أن يكون التقدير حقّا مثل ما ، وأجاز أن يكون «مثل» منصوبة بمعنى كمثل ثم حذف الكاف ونصب ، وأجاز : زيد مثلك ، ومثل من أنت؟ ينصب «مثل» على المعنى على معنى كمثل فألزم على هذا أن يقول : عبد الله الأسد شدّة ، بمعنى كالأسد فامتنع منه ، وزعم أنه إنما أجازه في مثل ؛ لأن الكاف تقوم مقامها ، وأنشد: [الوافر]

٤٣٥ ـ وزعت بكالهراوة اعوجّي

إذا ونت الرّكاب جرى وثابا(٣)

قال أبو جعفر : وهذه أقوال مختلفة إلّا قول سيبويه. وفي الآية سؤال أيضا وهو أن يقال : جمع ما بين «ما» و «إنّ» ومعناهما واحد. قال أبو جعفر : ففي هذا جوابان للنحويين الكوفيين أحدهما أنه لما اختلف اللفظان جاز ذلك كما قال : [الوافر]

٤٣٦ ـ فما إن طبّنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا(٤)

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٤ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٦٠٩.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٨٥.

(٣) الشاهد لابن غادية السلميّ في الاقتضاب ص ٤٢٩ ، وبلا نسبة في أدب الكاتب ٥٠٥ ، وجمهرة اللغة ١٣١٨ ، ورصف المباني ١٩٦ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢٨٦ ، ولسان العرب (ثوب) و (وثب) والمقرّب ١ / ١٩٦ ، والمخصص ١٤ / ٨٦.

(٤) الشاهد لفروة بن مسيك في الأزهيّة ٥١ ، والجنى الداني ٣٢٧ ، وخزانة الأدب ٤ / ١١٢ ، والدرر ٢ / ١٠٠ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٠٦ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٨١ ، ولسان العرب (طبب) ، ومعجم ما ـ

١٦١

فجمع ما بين «ما» و «إن» ومعناهما واحد. قال الله جلّ وعزّ (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ) [فاطر : ٤٠] بمعنى ما يعد الظالمون. والجواب الآخر أنّ زيادة «ما» تفيد معنى ؛ لأنه لو لم تدخل «ما» كان المعنى أنه لحقّ لا كذب فإذا جئت بما صار المعنى أنه لحقّ ، مثل ما إنّ الآدميّ ناطق ، كما تقول : الحقّ نطقك ، بمعنى أحقّ أم كذب؟ وتقول : أحقّ إنّك تنطق؟ فتفيد معنى آخر.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) (٢٤)

ولم يقل أضياف ؛ لأنّ ضيفا مصدر ، وحقيقته في العربية حديث ذوي ضيف ، مثل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) (٢٥)

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) أي حين دخلوا. (فَقالُوا سَلاماً) منصوب على المصدر ، ويجوز أن يكون منصوبا بوقوع الفعل عليه. ويدلّ على صحّة هذا الجواب أنّ سفيان روى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. (فَقالُوا سَلاماً) قال سدادا. (قالَ سَلامٌ) (١) مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف أي سلام عليكم ، ويجوز أن يكون مرفوعا على خبر الابتداء والابتداء محذوف أي أمري سلام ، وقرأ حمزة والكسائي (قالَ سَلامٌ) (٢) وفيه تقديران : أحدهما أن يكون سلام وسلّم بمعنى واحد مثل حلّ وحلال ، ويجوز أن يكون التقدير نحن سلم. (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) على إضمار مبتدأ وإنما أنكرهم فيما قبل ؛ لأنه لم يعرف في الأضياف مثلهم.

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) (٢٦)

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) أي رجع ، وحقيقته رجع في خفية. (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) التقدير : فجاء أضيافه ثم حذف المفعول.

(فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) (٢٧)

الفاء تدلّ على أنّ الثاني يلي الأول و «ألا» تنبيه.

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (٢٨)

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي ستر ذلك وأضمره (قالُوا لا تَخَفْ) حذفت الضمة للجزم

__________________

ـ استعجم ٦٥٠ ، والكميت في شرح المفصل ٨ / ١٢٩ ، وللكميت أو لفروة في تلخيص الشواهد ص ٢٧٨ ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٢٠٧ ، وخزانة الأدب ١١ / ١٤١ ، والخصائص ٣ / ١٠٨ ، ورصف المباني ١١٠ ، وشرح المفصل ٥ / ١٢٠ ، والمحتسب ١ / ٩٢ ، والمقتضب ١ / ٥١ ، والمنصف ٣ / ١٢٨ ، وهمع الهوامع ١ / ١٢٣.

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ١٣٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٨ / ١٣٧.

١٦٢

والألف لالتقاء الساكنين (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي يكون عالما وحكى الكوفيون أنّ عليما إذا كان للمستقبل قيل عالم ، وكذا نظائره يقال : ما هو كريم وإنه لكارم غدا ، وما مات وإنه لمائت وهذا وإن كان يقال فالقرآن قد جاء بغيره.

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) (٢٩)

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : في صيحة ، وكذا قال مجاهد والضحاك وابن زيد وابن سابط ، وقيل «في صرّة» في جماعة نسوة يتبادرن لينظرن إلى الملائكة. (فَصَكَّتْ وَجْهَها) قال مجاهد : ضربت جبهتها تعجبا (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) زعم بعض العلماء أنّ عجوزا بإضمار فعل أي أتلد عجوز. قال أبو جعفر : وهذا خطأ ؛ لأن حرف الاستفهام لا يحذف والتقدير على قول أبي إسحاق : قالت أنا عجوز عقيم أي فكيف ألد.

(قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (٣٠)

(قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) أي كما قلنا لك ، وليس هذا من عندنا. (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ) في تدبيره (الْعَلِيمُ) أي مصالح خلقه وبما كان وبما هو كائن.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) (٣١)

قال إبراهيم لضيفه ما شأنكم يا أيها ، وحذفت يا ، كما يقال : زيد أقبل و «أي» نداء مفرد ، وهو اسم تام ، و (الْمُرْسَلُونَ) من نعمته.

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) (٣٢)

أي قد أجرموا بالكفر ، ويقال : جرموا ، إلّا أنّ أجرموا بالألف أكثر.

(لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) (٣٣)

أي لنمطر عليهم.

(مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) (٣٤)

(مُسَوَّمَةً) في معناه قولان : أهل التأويل على أنّ معناه معلّمة. قال ابن عباس : يكون الحجر أبيض وفيه نقطة سوداء ويكون الحجر أسود وفيه نقطة بيضاء. والقول الآخر أن يكون معنى مسومة مرسلة من سوّمت الإبل (لِلْمُسْرِفِينَ) أي للمتعدين لأمر الله جلّ وعزّ.

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣٥)

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣٥) كناية عن القرية ، ولم يتقدّم لها ذكر ؛ لأنه قد عرف المعنى ، ويجوز أن يكون كناية عن الجماعة.

١٦٣

(فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٦)

قال مجاهد لوط صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابنتاه لا غير.

(وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣٧)

قول الفراء (١) إنّ «في» زائدة. والمعنى ولقد تركناها آية ومثله عنده (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) [يوسف : ٧] وهذا المتناول البعيد مستغنى عنه قال أبو إسحاق ولقد تركنا في مدينة قوم لوط عليه‌السلام آية للخائفين.

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٣٨)

(وَفِي مُوسى) أي وفي موسى آية واعتبار (إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجة بيّنة يتبين من رآها أنّها من عند الله سبحانه. قال قتادة : بسلطان مبين أي بعذر مبين.

(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٣٩)

(فَتَوَلَّى) فأعرض عن ذكر الله وأدبر (بِرُكْنِهِ) فيه قولان قال أهل التأويل : المعنى بقومه قال ذلك مجاهد وقتادة ، وقال ابن زيد : بجماعته. والقول الآخر حكاه الفراء (٢) (بركنه) بنفسه ، قال وحقيقة ركنه في اللغة بجانبه الذي يتقوى به (وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) على إضمار مبتدأ. وأبو عبيدة (٣) يذهب إلى أن «أو» بمعنى الواو ، قال : وهذا تأويل عند النحويين الحذّاق خطأ وعكس المعاني ، وهو مستغنى عنه ولأو معناها ، وقد أنشد أبو عبيدة لجرير : [الوافر]

٤٣٧ ـ أثعلبة الفوارس أو رياحا

عدلت بهم طهيّة والخشابا(٤)

فهذا أيضا على ذاك محمول.

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) (٤٠)

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ) عطف على الهاء. (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي فألقيناهم في البحر.

(وَهُوَ مُلِيمٌ) والأصل مليم ألقيت حركة الياء على اللام اتباعا.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٨٧.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٨٧.

(٣) انظر مجاز القرآن ٢ / ٢٢٧.

(٤) الشاهد لجرير في ديوانه ٨١٤ ، والكتاب ١ / ١٥٦ ، والأزهيّة ٢١٤ ، وأمالي المرتضى ٢ / ٥٧ ، وجمهرة اللغة ٢٩٠ ، وخزانة الأدب ١١ / ٦٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٨٨ ، وشرح التصريح ١ / ٣٠٠ ، ولسان العرب (خشب) ، و (طها) والمقاصد النحوية ٢ / ٥٣٣ ، وبلا نسبة في الرد على النحاة ١٠٥ ، وشرح الأشموني ١ / ١٩٠.

١٦٤

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) (٤١)

أي وفي عاد آية والمعنى معقومه فلذلك حذفت الهاء.

(ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٤٢)

(ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) حذفت الواو من تذر لأنها بمعنى تدع ، وحذفت من يدع ؛ لأن الأصل فيها يودع فوقعت بين ياء وكسرة فحذفت (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) قال الفراء (١) : الرميم النّبت إذا يبس وديس. وقال محمد بن يزيد : أصل الرميم العظم البالي المتقادم ، ويقال له : رمّة.

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) (٤٣)

(وَفِي ثَمُودَ) أي آية (إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) زعم الفراء أن الحين هاهنا ثلاثة أيام ، وذهب إلى هذا ؛ لأنه قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام.

(فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٤٤)

(فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي غلوا وتركوا أمر ربّهم (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) ويروى عن عمر بن الخطاب رحمه‌الله أنه قرأ فأخذتهم الصاعقة (٢) وإسناده ضعيف لأنه لا يعرف إلا من حديث السّدّي ويدلّك على أن الصاعقة أولى قوله جلّ وعزّ (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) [الرعد : ١٣] فهذا جمع صاعقة. وجمع صعقة صعقات وصعاق. (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) قيل : المعنى : ينتظرون ذلك لأنهم كانوا ينتظرون العذاب لمّا تغيّرت ألوانهم في الأيام الثلاثة.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) (٤٥)

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) أي نهوض بالعقوبة. قال الفراء : (مِنْ قِيامٍ) أي ما قاموا بها وأجاز في الكلام من إقامة كأنه تأوله بمعنى ما استطاعوا أن يقوموا بها. وزعم أن (مِنْ قِيامٍ) مثل (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي ما كانوا يقدرون على أن يستفيدوا ممن عاقبهم. وقال قتادة في معنى (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) وما كانت لهم قوة يمتنعون بها من العقوبة.

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٤٦)

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) قراءة أهل المدينة وعاصم ، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٨٨.

(٢) انظر البحر المحيط ٨ / ١٣٩.

١٦٥

والكسائي وقوم نوح (١) بالخفض معطوفا على وفي ثمود ، والمعنى في الخفض وفي قوم نوح آية وعبرة. والنصب من غير جهة فللفراء (٢) فيه قولان ، وبعدهما ثالث عنه أيضا وهما أن يكون التقدير فأخذتهم الصاعقة وأخذت قوم نوح ، والتقدير الثاني أن يكون التقدير : وأهلكنا قوم نوح ، والثالث الذي بعدهما أن يكون التقدير واذكروا قوم نوح. قال أبو جعفر : ورأيت أبا إسحاق قد أخرج قوله هذا الثالث وفيه من كلامه ، وليس هذا بأبغض إليّ من الجوابين ، وهو يتعجّب من هذا ويقول : دلّ بهذا الكلام على أن الأجوبة الثلاثة بغيضة إليه. قال : وفي هذه الآية قول رابع حسن يكون وقوم نوح معطوفا على (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) لأن معناه فأغرقناهم وأغرقنا قوم نوح. فأمّا القراءة بالنصب فهي البيّنة عند النحويين سوى من ذكرنا ممن قرأ بغيرها ، فاحتجّ أبو عبيد للنصب بأن قبله فيما كان مخفوضا من القصص كلها بيان ما نزل بهم نحو (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) وليس هذا في قوم نوح فدلّ هذا على أنه ليس معطوفا على الخفض لأنه مخالف له. قال : فكيف يكون وفي قوم نوح ولا يذكر ما نزل بهم ، وقال غيره : أيضا العرب إذا تباعد ما بين المخفوض وما بعده لم يعطفوه عليه ونصبوه قال الله جلّ وعزّ : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) [هود : ٦٠] ولا نعلم أحدا خفض ، وقال جلّ وعزّ : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] فرفع أكثر القراء ولم يعطفوه على ما قبله وحجة ثالثة ذكرها سيبويه وهو أن المعطوف إلى ما هو أقرب إليه أولى وحكي : خشنت بصدره وصدر زيد ، وأن الخفض أولى لقربه فكذا هذا فأخذتهم الصاعقة وأخذت قوم نوح أقرب من أن تردّه إلى ثمود (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) نعت لقوم أي خارجين عن الطاعة.

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٤٧)

(وَالسَّماءَ) نصب بإضمار فعل أي وبنينا السماء. (بَنَيْناها بِأَيْدٍ) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس (بأيد) بقوة.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) (٤٨)

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) بإضمار أيضا. (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) رفع بنعم. والمعنى : فنعم الماهدون نحن ثم حذف.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٥ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٦٠٩.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٨٨.

١٦٦

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٤٩)

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) قيل : التقدير ومن كلّ شيء خلقنا خلقنا زوجين. قال مجاهد : في الزوجين : الشقاء والسعادة والهدى والضلالة والإيمان والكفر. وقال ابن زيد : الزوجان : الذكر والأنثى. وجمعهما الفراء (١) فقال : الزوجان والحيوان الذكر والأنثى ومن غيرهم الحلو والحامض وما أشبه ذلك. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي فتعتبرون وتعلمون أنّ العبادة لا تصلح إلا لمن خلق هذه الأشياء.

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥٠)

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي إلى طاعته ورحمته من معصيته وعقابه (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي مخوف عقابه من عصاه.

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥١)

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي معبودا آخر إذا كانت العبادة لا تصلح إلّا له (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي أخوف من عبد غيره عذابه وجاء (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) مرتين ، وليس بتكرير ؛ لأنه خوّف في الثاني من عبد غير الله جلّ وعزّ وفي الأول من لم يفرّ إلى طاعة الله ورحمته فهذا قد يكون للموحدين.

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٥٢)

تكون الكاف في موضع رفع أي الأمر كذلك ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى كذلك فعل الذين من قبل قريش ما أتاهم من رسول إلّا قالوا له هذا.

(أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٥٣)

(أَتَواصَوْا بِهِ) أي هل أوصى بعضهم بعضا بهذا (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) المعنى : لم يتواصوا به بل هم قوم طغوا واعتدوا فخالفوا أمر الله جلّ وعزّ ونهيه.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) (٥٤)

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) قال مجاهد : أي أعرض والتقدير : أعرض عنهم حتّى يأتيك أمرنا فيهم فأتاه الأمر بقتالهم. (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي لا تلحقك لائمة من ربّك جلّ وعزّ في تفريط كان منك في إنذارهم فقد أنذرتهم وبلّغتهم.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٨٩.

١٦٧

(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٥٥)

(وَذَكِّرْ) أي عظهم. (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) ويجوز ينفع لأن الذكرى والذكر واحد.

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (٥٦)

قيل : يراد هاهنا المؤمنون خاصة. واحتجّ صاحب هذا القول بأنه يلي المؤمنين فأن يكون الضمير يليهم أولى. ومعنى هذا يروى عن زيد بن أسلم قال : وهذا مذهب أكثر أصحاب الحديث ، وقال القتبي : هو مخصوص فهذا هو ذلك القول إلا أن العبارة عنه ليست بحسنة. وقيل في الآية: ما روي عن ابن عباس أن العبادة هنا الخضوع والانقياد ، وليس مسلم ولا كافر إلا وهو خاضع لله جلّ وعزّ منقاد لأمره طائعا أو كارها فيما جبله عليه من الصحّة والسقم والحسن والقبح والضيق والسعة.

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (٥٧)

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) «ما» في موضع نصب و «من» زائدة للتوكيد. (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) حذفت النون علامة النصب ، وحذفت الياء لأن الكسرة دالة عليها ، وهو رأس آية فحسن الحذف.

(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٥٨)

(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) أي الرّزاق خلقه المتكفل بأقواتهم. (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) بالرفع قرأ به من تقوم بقراءته الحجّة على أنه نعت للرزاق ولذي القوة أو على أنه خبر بعد خبر أو على إضمار مبتدأ أو نعت لاسم «إنّ» على الموضع. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس (الْمَتِينُ) الشديد. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (١) بالخفض على النعت للقوة. وزعم أبو حاتم أن الخفض على قرب الجوار. قال أبو جعفر ؛ والجوار لا يقع في القرآن ولا في كلام فصيح ، وهو عند رؤساء النحويين غلط ممن قاله من العرب. ولكن القول في قراءة من خفض أنه تأنيث غير حقيقي. والتقدير فيه عند أبي إسحاق : ذو الاقتدار المتين لأن الاقتدار والقوة واحد ، وعند غيره بمعنى ذو الإبرام المتين.

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) (٥٩)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ١٤١ ، ومعاني الفراء ٣ / ٩٠.

١٦٨

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً) اسم «إنّ». (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) نعت. (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي به.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠)

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) رفع بالابتداء ، ويجوز النصب أي ألزمهم الله ويلا. (مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي يوعدون فيه بنزول العذاب ...

١٦٩

(٥٢)

شرح إعراب سورة الطور

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ) (١)

خفض بواو القسم.

(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) (٢)

واو عطف ، وليست واو قسم. قال الضّحاك وقتادة : (مَسْطُورٍ) مكتوب. وأجاز النحويون : مصطور تقلب السين صادا تقريبا إلى الطاء.

(فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) (٣)

من صلة مسطور أي كتب في رق به وقال الراجز :

٤٣٨ ـ إنّي وأسطار سطرن سطرا (١)

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) (٤)

عطف أي المعمور بمن يدخله. يقال : عمر المنزل فهو عامر ، وعمرته فهو معمور ، وإن أردت متعدي عمر المنزل قلت : أعمرته.

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ)(٧)

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) (٥) معطوف ، وكذا (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٦). وجواب القسم (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) (٧) قال قتادة : أي يوم القيامة أي حالّ بالكافرين.

__________________

(١) الشاهد لرؤبة في ديوانه ١٧٤ ، وخزانة الأدب ٢ / ٢١٩ ، والخصائص ١ / ٣٤٠ ، والدرر ٤ / ٢٢ ، وشرح شواهد الإيضاح ٢٤٣ ، وشرح المفصّل ٢ / ٣ ، ولسان العرب (نصر) ، وبلا نسبة في أسرار العربية ٢٩٧ ، والأشباه والنظائر ٤ / ٨٦ ، والدرر ٦ / ٢٦ ، ولسان العرب (سطر) ، ومغني اللبيب ٢ / ٣٨٨ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٠٩ ، والمقتضب ٤ / ٢٠٩ ، وهمع الهوامع ٢٤٧.

١٧٠

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) (٩)

وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : تحرّكا. قال أبو جعفر : يقال : مار الشيء إذا دار ، وينشد بيت الأعشى : [البسيط]

٤٣٩ ـ كأنّ مشيتها من بيت جارتها

مور السّحابة لا ريث ولا عجل(١)

ويروى عن ابن عباس : تمور تشقّق.

(وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) (١٠)

(وَتَسِيرُ الْجِبالُ) أي من أمكنتها (سَيْراً).

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١١)

دخلت هذه الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة ، ومثله فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى فالتقدير إذا انتبهت له فهو كذا وكذا الآية التقدير فيها إذا كان هذا فويل يومئذ للمكذّبين.

(الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) (١٢)

أي في فتنة واختلاط يلعبون أي غافلين عما يراد بهم ، و (الَّذِينَ) في موضع خفض نعته للمكذبين.

(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) (١٣)

نصب يوم على البدل من يومئذ. وروى قابوس عن أبيه عن ابن عباس (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) (٢) قال : يدفع في أعناقهم حتّى يردّوا إلى النار.

(هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤)

أي يقال لهم فحذف هذا.

(اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦)

(اصْلَوْها) أي قاسوا حرّها وشدّتها. (فَاصْبِرُوا أَوْ لا) أي على ألمها وشدّتها. (تَصْبِرُوا سَواءٌ) مبتدأ أي سواء عليكم الصبر والجزع. (عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

__________________

(١) الشاهد للأعشى في ديوانه ص ١٠٥ ، ولسان العرب (مور) ، وتهذيب اللغة ١ / ٣٧٢ ، و٢ / ٢٥٦ ، وتاج العروس (مور).

(٢) انظر البحر المحيط ٨ / ١٤٥.

١٧١

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) (١٧)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي الّذين اتقوا الله جلّ وعزّ في اجتناب معاصيه وأداء فرائضه. (فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) في موضع خبر «إنّ».

(فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٩)

(فَكِهِينَ) على الحال. ويجوز الرفع في غير القرآن على أنه خبر «إنّ» (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) بما أعطاهم ورزقهم (وَوَقاهُمْ) والمستقبل منه معتلّ من جهتين من فائه ولامه. قال أبو جعفر : فأمّا اعتلاله من فائه فإن الأصل فيه : يوقيه حذفت الواو لأنها بين ياء وكسرة واعتلاله من لامه لأنها سكنت في موضع الرفع ولثقل الضمة فيها ، والتقدير : يقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٩) ونصب (هَنِيئاً) على المصدر. ومعناه بلا أذى ولا غمّ ولا غائلة يلحقكم في أكلكم ولا شربكم.

(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٢٠)

(مُتَّكِئِينَ) نصب على الحال. (عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) جمع سرير ، ويجوز سرر (١) لثقل الضمّة. (مَصْفُوفَةٍ) نعت. (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي قرنّاهم بهنّ. قال أبو عبيدة : الحور شدّة سواد العين وشدّة بياض بياض العين. قال أبو جعفر : الحور في اللغة البياض ، ومنه الخبز الحوّاريّ ، و (عِينٍ) جمع عيناء وهو على فعل أبدل من الضمة كسرة لمجاورتها الياء.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٢١)

(وَالَّذِينَ) مبتدأ. (آمَنُوا) صلته. (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) داخل معه في الصلة (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) خبر الابتداء. وهذه القراءة مأثورة عن عبد الله بن مسعود ، وهي متّصلة الإسناد من حديث المفضّل الضبّي عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه رد على رجل (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) بالتوحيد فيهما جميعا مقدار عشرين مرة وهذه قراءة الكوفيين ؛ وقرأ الحسن وأبو عمرو ذرياتهم (٢) بالجمع فيها جميعا. وقرأ المدنيون (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٣) والمعاني في هذا متقاربة وإن كان التوحيد القلب إليه أميل لما روي عن عبد الله بن مسعود ، وعن ابن عباس وقد احتج أبو عبيد للتوحيد بقوله جلّ وعزّ : (مِنْ

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ١٤٦ ، وهذه قراءة أبي السمال.

(٢) و (٣) انظر البحر المحيط ٨ / ١٤٧ ، وتيسير الداني ١٦٥ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٦١٢.

١٧٢

ذُرِّيَّةِ آدَمَ) [مريم : ٥٨] ولا يكون أكثر من ذرية أدم عليه‌السلام قال : وهذا إجماع فسبيل المختلف فيه أن يردّ إليه (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) يقال : ألته يألته ولاته يليته إذا نقصه و «من» في (عَمَلِهِمْ) للتبعيض وفي (مِنْ شَيْءٍ) بمعنى التوكيد. (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) مبتدأ وخبره أي كل إنسان مرتهن بما عمل لا يؤخذ أحد بذنب أحد.

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٢٢)

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ) وهم هؤلاء المذكورون. (وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي يشتهونه ، وحذفت الهاء لطول الاسم.

(يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (٢٣)

(يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (٢٣) هذه قراءة أهل الحرمين وأهل المصرين إلّا أبا عمرو ويروى عن الحسن (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (١). فالرفع من جهتين : أحداهما أن يكون «لا» بمنزلة «ليس». والأخرى أن ترفع بالابتداء وشبّهه أبو عبيد بقوله جلّ وعزّ : (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات : ٤٧] واختار الرفع. قال أبو جعفر : وليس يشبهه عند أحد من النحويين علمته لأنك إذا فصلت لم يجز إلّا الرفع ، وكذا (لا فِيها غَوْلٌ) وإذا لم تفصل جاز الرفع والنصب بغير تنوين فكذلك (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) ولو كانا كما قال واحدا لم يجز. (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) وقد قرأ به أبو عمرو بن العلاء وهو جائز حسن عند الخليل وسيبويه وعيسى بن عمر والكسائي والفراء ونصبه على التبرية عند الكوفيين. فأما البصريون فإنهم جعلوا الشيئين شيئا واحدا.

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) (٢٤)

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ) أي في الصفاء. (مَكْنُونٌ) فهو أصفى له وأخلص بياضا.

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٢٥)

روى ابن طلحة عن ابن عباس قال : هذا عند النفخة الثانية.

(قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) (٢٦)

خبر كان أي قبل هذا وجعلت «قبل» غاية ...

(فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) (٢٧)

منّ الله عليهم بغفران الصغائر وترك المحاسبة لهم بالنعم المستغرقة للأعمال ،

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ١٤٧ ، وتيسير الداني ٦٩ ، قال (بالنصب من غير تنوين في الكلّ والباقون بالرفع والتنوين).

١٧٣

كما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل أحد الجنّة بعمله» قيل : ولا أنت يا رسول الله قال : «ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله منه برحمته» (١).

(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٢٨)

هذه قراءة أبي عمرو وعاصم والأعمش وحمزة ، وقرأ أبو جعفر ونافع والكسائي (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٢) قال أبو جعفر : والكسر أبين لأنه إخبار بهذا فالأبلغ أن يبتدأ ، والفتح جائز ومعناه ندعوه لأنه أو بأنه. وقد عارض أبو عبيد هذه القراءة لأنه اختار الكسر ولأن معناها ندعوه لهذا ، وهذه المعارضة لا توجب منع القراءة بالفتح لأنهم يدعونه لأنه هكذا. وهذا له جلّ وعزّ دائم لا ينقطع. فنظير هذا لبّيك أنّ الحمد والنعمة لك ، بفتح إن وكسرها. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) قال : اللطيف بعباده ، وقال غيره : الرحيم بخلقه ولا يعذّبهم بعد التوبة.

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (٢٩)

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ) قال أبو إسحاق : أي لست تقول قول الكهان. (وَلا مَجْنُونٍ) عطف على بكاهن ، ويجوز النصب على الموضع في لغة أهل الحجاز ، ويجوز الرفع في لغة بني تميم على إضمار مبتدأ.

(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٣٠)

(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) على إضمار مبتدأ. (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) قال أبو جعفر : قد ذكرناه.

(قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) (٣١)

(قُلْ تَرَبَّصُوا) أي تمهّلوا وانتظروا. (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) حتّى يأتي أمر الله جلّ وعزّ فيكم.

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٣٢)

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) قال ابن زيد : كانوا في الجاهلية يسمّون أهل الأحلام فالمعنى أم تأمرهم أحلامهم بأن يعبدوا أوثانا صمّا بكما ، وقيل : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) أن يقولوا لمن جاءهم بالحق والبراهين والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف (شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ). وزعم الفراء أن الأحلام هاهنا العقول والألباب (أَمْ هُمْ قَوْمٌ

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده ٢ / ٢٥٦ ، وذكره ابن حجر في فتح الباري ٢ / ٣٣٢.

(٢) انظر البحر المحيط ٨ / ١٤٧ ، وهذه قراءة الحسن أيضا ، وتيسير الداني ١٦٥.

١٧٤

طاغُونَ) أي لم تأمرهم أحلامهم بهذا بل جاوزوا الإيمان إلى الكفر.

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣)

أي ليس يأتون ببرهان أنه تقوّل واختلقه بل لا يصدّقون والكوفيون يقولون إنّ «بل» لا تكون إلا بعد نفي فهم يحملون الكلام على هذه المعاني فإن لم يجدوا ذلك لم يجيزوا أن يأتي بعد الإيجاب.

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٣٤)

أي إن كانوا صادقين في أنه تقوّله فهم أهل اللسان واللغة فليأتوا بقرآن مثله.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) (٣٥)

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) فيه أجوبة فمن أحسنها أم خلقوا من غير أب ولا أم فيكونوا حجارة لا عقول لهم يفهمون بها. وقيل المعنى : أم خلقوا من غير صانع صنعهم فهم لا يقبلون من أحد. (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أي هم الأرباب فللربّ الأمر والنهي.

(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (٣٦)

(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي هل هم الذين خلقوا السموات والأرض فلا يقرّوا بمن لا يشبهه شيء (بَلْ لا يُوقِنُونَ) قيل المعنى لا يعلمون ولا يستدلّون ، وقيل : فعلهم فعل من لا يعلم. ومن أحسن ما قيل فيه أنّ المعنى : لا يوقنون بالوعيد وما أعدّ الله جلّ وعزّ من العذاب للكفّار يوم القيامة فهم يكفرون ويعصون لأنهم لا يوقنون بعذاب ذلك.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (٣٧)

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) أي فيستغنوا بها. (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : المسيطرون المسلّطون. والمسيطر (١) في كلام العرب المتجبّر المتسلط المستكبر على الله جلّ وعزّ ، مشتقّ من السطر كأنه الذي يخطر على الناس منعه مما يريد. وأصله السين ويجوز قلب السين صادا ؛ لأن بعدها طاء ، وعلى هذا السواد في هذا الحرف.

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٣٨)

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٥ ، والبحر المحيط ٨ / ١٤٩ (قراءة الجمهور بالصاد وهشام وقنبل وحفص بالسين).

١٧٥

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) أي يستمعون فيه الوحي من السماء فيدّعون أنّ الذي هم عليه قد أوحى به (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجّة بيّنة كما أتى بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) (٣٩)

كما تقولون فتلك قسمة جائرة.

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) (٤٠)

(مَغْرَمٍ) مصدر أي أم تسألهم مالا فهم من أن يغرموا شيئا مثقلون أي يثقل ذلك عليهم.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤١)

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي هم لا يعلمون الغيب فكيف يقولون : لا نؤمن برسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، ويقولون شاعر نتربّص به ريب المنون؟ (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي يكتبون للناس من الغيب ما أرادوا ، ويخبرونهم به.

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) (٤٢)

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) أي احتيالا على إذلال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإهلاكه وعلى المؤمنين. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) أي المذلّون المهلكون الصابرون إلى عذاب الله جلّ وعزّ.

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٣)

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) أي معبود يستحقّ العبادة. (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزيها لله جلّ وعزّ مما يعبدونه من دونه.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) (٤٤)

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) جمع كسفة مثل سدرة وسدر. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس كسفا قال : يقول : قطعا (يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) على إضمار مبتدأ أي يقولوا : هذا الكسف سحاب مركوم.

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) (٤٥)

(فَذَرْهُمْ) من يذر حذفت منه الواو وإنما تحذف من يفعل لوقوعها بين ياء وكسرة أو من يفعل إذا كان فيه حرف من حروف الحلق وليس في «يذر» من هذا شيء يوجب حذف الواو ، وقال أبو الحسن بن كيسان : حذفت منه الواو لأنه بمعنى يدع فأتبعه. (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) وقرأ الحسن وعاصم (يُصْعَقُونَ) (١) قال الحسن أي

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٥ ، والبحر المحيط ٨ / ١٥٠ ، (عاصم وابن عامر بضمّ الياء والباقون بفتحهما).

١٧٦

يماتون ، وحكى الفراء (١) عن عاصم (يُصْعَقُونَ) وهذا لا يعرف عنه قال : يقال : صعق يصعق ، وهي لغة معروفة كما قرأ الجميع (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٦٨] ولم يقرءوا فصعق ، ويقال : صعق يصعق وأصعق متعدّي صعق.

(يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤٦)

(يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) بدل من اليوم الأول. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي ولا يستقيد لهم أحد ممن عاقبهم ولا يمنع منهم.

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤٧)

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أجلّ ما قيل فيه إسنادا ما رواه أبو إسحاق عن البرآء (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) قال : عذاب القبر. وقال ابن زيد : المصائب في الدنيا ، ومعنى (دُونَ ذلِكَ) دون يوم يصعقون وهو يوم القيامة. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون أنّهم ذائقوا ذلك العذاب ، وقيل : فعلهم فعل من لا يعلم.

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (٤٨)

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي لحكمه الذي قضى عليك وامض لأمره ونهيه وبلّغ رسالته (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي نراك ونرى عملك ونحوطك ونحفظك ، وجمعت عين على أعين ، وهي مثل بيت ، ولا يقال : أبيت لثقل الضمة في الياء إلّا أن هذا جاء في عين ؛ لأنّها مؤنثة. وأفعل في جمع المؤنث كثير. قالوا شمال أشمل وعناق أعنق. وقد قيل : أعيان كأبيات (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) في معناه أقوال فقول الضّحاك إنّ معناه حين تقوم إلى الصلاة بعد تكبيرة الإحرام ، تقول : سبحانك اللهمّ وبحمدك تبارك واسمك وتعالى جدّك ، وقيل التسبيح هاهنا تكبيرة الإحرام التي لا تتمّ الصلاة إلا بها ، لأن معنى التسبيح في اللغة تنزيه الله جلّ وعزّ من كل سوء نسبه إليه المشركون وتعظيمه ، ومن قال : الله أكبر فقد فعل هذا ، وقول ثالث يكون المعنى حين تقوم من نومك ، ويكون هذا يوم القائلة يعني صلاة الظهر ؛ لأن المعروف من قيام الناس من نومهم إلى الصلاة إنما هو من صلاة الفجر ، وصلاة الظهر وصلاة الفجر مذكورة بعد هذا. فأما قول الضّحاك إنه في افتتاح الصلاة فبعيد لاجتماع الحجة لأن الافتتاح في الصلاة غير واجب ولو أمر الله جلّ وعزّ به لكان واجبا إلّا أن تقوم الحجة أنّه على الندب والإرشاد.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩)

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) قال ابن زيد : صلاة العشاء ، وقال غيره : صلاة المغرب والعشاء

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٦١٣.

١٧٧

(وَإِدْبارَ النُّجُومِ) فيه قولان : أحدهما أنه لركعتي الفجر ، وقال الضّحاك وابن زيد : صلاة الصبح. قال وهذا أولى ؛ لأنه فرض من الله تعالى. ونصب (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) على الظرف أي وسبّحه وقت إدبار النجوم ، كما : أنا أتيك مقدم الحاجّ ، ولا يجوز أنا أتيك مقدم زيد ، إنما يجوز هذا فيما عرف. وهذا قول الخليل وسيبويه.

١٧٨

(٥٣)

شرح إعراب سورة النجم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٢)

(وَالنَّجْمِ) خفض بواو القسم ، والتقدير وربّ النجم. (إِذا هَوى) في موضع نصب أي حين هوى ، وجواب القسم (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) أي ما زال عن القصد (وَما غَوى) قيل: أي وما خاب فيما طلبه من الرحمة.

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (٤)

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) قيل : المعنى وما ينطق فيما يخبر به من الوحي ، ودلّ على هذا (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أي ما الذي يخبر به إلا وحي يوحى. ويوحى يرجع إلى الياء ، ولو كان من ذوات الواو لتبع المستقبل الماضي.

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٥)

أي الأسباب ، وحكى الفراء أنه يقرأ (شَدِيدُ الْقُوى) بكسر القاف ؛ لأن فعلة وفعلة يتضارعان. قال قتادة : شديد القوى جبريل عليه‌السلام.

(ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) (٦)

(ذُو مِرَّةٍ) قال مجاهد : جبرائيل عليه‌السلام ذو قوة. وقال ابن زيد : المرّة القوة. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس (ذُو مِرَّةٍ) أي منظر حسن. قال أبو جعفر : حقيقة المرّة في اللغة اعتدال الخلق والسلامة من الآفات والعاهات ، فإذا كان كذا كان قويا. (فَاسْتَوى) قيل : فاعتدل بعد أن كان ينزل مسرعا.

(وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) (٧)

في موضع الحال أي فاستوى عاليا ، هذا قول من تجب به الحجّة من العلماء ،

١٧٩

والمعنى عليه ، والإعراب يقويه. وزعم الفراء (١) أن المعنى فاستوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجبريل عليه‌السلام فجعل «وهو» كناية عن جبرائيل عليه‌السلام وعطف به على المضمر. قال أبو جعفر : في هذا من الخطأ ما لاحقا به عطف على مضمر مرفوع لا علامة له ومثله مررت بزيد جالسا وعمرو ، ويعطف به على المضمر المرفوع. وهذا ممنوع من الكلام حتّى يؤكّد المضمر أو يطول الكلام ثم شبّهه بقوله : (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا) [النمل : ٦٧] وهذا التشبيه غلط من جهتين ، إحداهما أنه قد طال الكلام هاهنا وقام المفعول به مقام التوكيد. والجهة الأخرى أنّ النون والألف قد عطف عليهما هاهنا ، وقولك : قمنا وزيد أسهل من قولك : قام وزيد ، وأيضا فليس المعنى على ما ذكر.

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) (٨)

شبّهه الفراء (٢) بقوله جلّ وعزّ : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١] لأن المعنى : انشقّ القمر واقتربت الساعة. قال أبو جعفر : وهذا التشبيه غلط بيّن ؛ لأن حكم الفاء خلاف حكم الواو لأنها تدلّ على أن الثاني بعد الأول ، فالتقدير ثم دنا فزاد في القرب.

(فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٩)

قال أبو جعفر : وهذا أيضا مما يشكل في العربية لأن «أو» لا يجوز أن تكون بمعنى الواو لاختلاف ما بينهما ، ولا بمعنى «بل» لما ذكرنا. وأن الاختصار يوجب غير ذلك فالتقدير فكان بمقدار ذلك عندكم لو رأيتموه قدر قوسين أو أدنى ، كما روي عن ابن مسعود قال : فكان قدر ذراع أو ذراعين. قال أبو جعفر : القاد والقيد والقاب والقيب والقدر والقدر.

(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) (١٠)

في معناه قولان : روى هشام الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال : عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتأوّل هذا على المعنى فأوحى إلى عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والقول الأخر أن المعنى فأوحى جبرائيل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله وهو قول جماعة من أهل التفسير منهم ابن زيد قال : وهذا أشبه بسياق الكلام لأن ما قبله وما بعده أخبار عن جبرائيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يخرج ذلك عنهما إلى أحد إلّا بحجة يجب التسليم بها.

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (١١) (٣)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٩٥.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٩٦.

(٣) انظر القراءات في البحر المحيط ٨ / ١٥٦ ، وتيسير الداني ١٦٦.

١٨٠