تفسير من وحي القرآن - ج ١٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٦

رسالات الله التي جاء بها الأنبياء ، فآمنوا بها وعملوا على أساسها وساروا على منهجها ، لهم الأجر والثواب ، والمنفعة على مستوى الدنيا والآخرة ، بما تمثله دعوة الله من حق ينفع الناس ، ويمكث في الأرض على كل صعيد.

(وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) وابتعدوا عنه وأقبلوا على الشيطان في أوهامه وخيالاته ، (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) أنفسهم مما يواجهونه من العذاب الأليم. (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) نظرا لسوء أعمالهم ، (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) الفراش الذي يفترشونه ، من نار تحرق أجسادهم بلهيبها وعذابها.

وتلك هي صورة المصير التي يريدنا الله أن نتمثلها لنختار صورتنا يوم القيامة ، من خلال ما نختاره من موقف ومن خط عملي نسير عليه في الدنيا.

* * *

٤١

الآيات

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢٥)

* * *

معاني المفردات

(وَيَدْرَؤُنَ) : يدفعون.

(عُقْبَى) : من العاقبة وهي النهاية التي تؤدي إليها البداية إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ.

٤٢

(عَدْنٍ) : الإقامة.

* * *

صفة المؤمن وصفة المنافق

ما هي صفة المؤمن بالله ، وكيف يتعامل مع الناس والحياة ، وكيف يقيم علاقاته العامة والخاصة؟ هل يخضع للعبة الشيطانية التي تفسد الكون من حولها أو يتمرّد عليها ليصلح الساحة من حوله؟ وما هي مسئوليته أمام الله ومع الناس؟ هل هو سلبي أو إيجابي؟ وما هي صفة الكافر أو المنافق في مقابل ذلك؟

تحدد هذه الآيات الملامح البارزة للمؤمن وغيره ، من موقع العقل الذي يحركه بإيجابية ووعي ، بينما لا يملك الآخرون أن يحركوه في الاتجاه السليم.

* * *

من يعلم ليس كالأعمى

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) ، لانفتاح قلبه على النيات والدلائل الواضحة وتحريك فكره ، للحصول على قناعة ثابتة من موقع وضوح الرؤية للأشياء بمستوى الإيمان ، بأن النبي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، بما يمثله الوحي من منطق الحق القادم من رحاب الله. هل يمكن أن يكون هذا (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) لا يبصر النور الذي يتفايض على الكون من حوله ليملأه إشراقا وانفتاحا على حقائق الحياة؟ ومن ثم ، فإنه لا يستطيع إدراك القضايا المعقدة التي لا تحتاج إلى إشراق المعرفة ووضوح الرؤية ، ولا يتمكن من أن يفتح صفحة حياته ليتذكر فتنفعه الذكرى ، في تنظيم حياته على منهج سليم؟

* * *

٤٣

صفات أولي الألباب

(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذوو العقول الذين يعون مسئولية أعمالهم ، ويتحملون نتائجها بكل وعي وصبر ، ويرتفعون إلى مستوى المسؤولية الكبيرة بقوة وانفتاح ، ولا يتجمدون أمام المشاكل الكثيرة التي تصادفهم في الطريق ، فيسقطون عندها ، ويتراجعون عن أهدافهم الكبيرة.

هكذا نفهم دور العقل في حركة الشخصية المتوازنة في الإسلام ، وهكذا نقدر قيمته في إثارة التأمل في حقائق الحياة ، وفي استعادة التجربة الماضية واستفادة العبرة للمستقبل منها ، وليتفهم الإنسان من خلال التعمق في فهم القضايا ، كيف يمكن أن يخطط لحياته على أساس واضح وسليم ، ونستوحي من ذلك كيف يريد الإسلام للعقل أن يرتبط بالواقع ، ولا يغرق في خيالات التجريد ، لأن هدف الفكر هو خدمة الحياة في حركة الواقع ، لا خدمة التنظير في رحاب الخيال.

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) ويلتزمون بما عاهدوا الله عليه من الإيمان به وبرسله وبكتبه وبشريعته ، وبما عاهدوا عليه الناس أمام الله أو من خلال شريعته ، من التزامات عقدية أو شخصية أو جماعية ، أو من مواثيق أخلاقية في نطاق السلوك الاجتماعي العام ، (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) لأن المسألة عندهم ترتبط بالقاعدة الأخلاقية للشخصية المتوازنة في خط السلوك العملي الذي يحكم كل حياتها.

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من العلاقات الإنسانية على مستوى الأرحام والجيران والمؤمنين ، والمستضعفين الذين يحتاجون إلى الرعاية. أما كيفية الصلة ، فلا يمكن تحديدها في أسلوب أو وسيلة ، بل تشمل كل

٤٤

الإمكانات التي تجلب لهم النفع وتدفع عنهم الضرر ، وتسهل لهم سبل الحياة ، وترفع مستواهم في كل جوانب المعرفة والعمل. وعلى ضوء ذلك ، نستوحي أن المؤمنين لا يعيشون اللامبالاة والعزلة عن الناس من حولهم ، بل يلتصقون بالمجتمع من موقع المسؤولية التي فرضها الله على الناس في التواصل والتبادل والتراحم والتعاطف ، الذي يجعل الحياة وحدة روحية وعملية على طريق الله.

(وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) ، فيدفعهم خوفهم من الله إلى الالتزام بأوامره ونواهيه ، ومراقبته في كل شيء في السرّ والعلانية ، ويقودهم خوفهم من الحساب الدقيق الذي يلاحق كل أعمالهم السيئة بالتدقيق والمحاسبة ، إلى الانضباط في خط السير ، فلا ينحرفون تحت تأثير شهوة ، ولا يسقطون تحت رحمة نزوة ، بل يتوازنون في موقفهم الإيماني أمام المسؤولية.

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) ، بما يمثله الصبر من التزام عملي بما يحبه الله ويرضاه على الرغم من النتائج السلبية لذاك الالتزام ، وما يجري عليهم من الآلام خسائر مادية ومعنوية نتيجة الحرمان على أكثر من صعيد. وهؤلاء الصابرون لا ينطلقون في موقفهم الصامد من حالة ذاتية ، بل من التقرب إلى الله في معاناتهم وتحمل الآلام والتضحيات. وبذلك يتعمق الصبر في نفوسهم كحالة نفسية جهادية عميقة ، في عمق الارتباط بالله والإيمان به.

(وَأَقامُوا الصَّلاةَ) التي تفتح قلوبهم لله ، وتعرج بأرواحهم إليه ، وتدفعهم للتفكير الدائم بالإخلاص له في موقع الممارسة العملية للعبودية المطلقة له ، أمام الألوهية القادرة الرحيمة ، فيعيشون الحرية أمام العالم كله ، لشعورهم العميق بالعبودية لله ، وتتأكد كل القيم الكبيرة في الحياة ، من خلال ما تخلقه روحية الصلاة في ركوعها وسجودها وكلماتها من آفاق روحية ومناهج عملية ، تلتقي بالجانب المشرق من الفكر والحياة.

(وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) بما يمثله الإنفاق من معنى العطاء

٤٥

الذي يمتد من روح الإنسان المتحركة بالخير ، إلى حياة الآخرين ، ليشبع جائعا وليروي ظامئا وليكسو عريانا وليغيث ملهوفا ، وليقضي حاجة وليفرّج كربة وليقوّي ضعيفا أو يعلم جاهلا ، أو يهدي ضالا ، إلى غير ذلك من موارد الإنفاق في سبيل الله الذي يتحرك في حالة السر عند ما تدعوا الحاجة إلى الإسرار بالإنفاق لحفظ كرامة الإنسان المحتاج ، أو يتحرك في حالة الإعلان عند ما تدعو الحاجة إلى الإعلان ، لتشجيع الآخرين على ذلك أو لتسجيل موقف في هذا المجال المصلحة إنسانية أو إسلامية.

(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) بانفتاحهم على الجانب الإنساني الخير من شخصية الإنسان الذي يعيش رحابة الصدر ، وسعة الأفق وإنسانية النظرة وروحية المعاملة ، فلا يتعقد من الإسائة إليه ليتحول ذلك إلى حالة مرضية في نفسه ، بل يحاول أن يمتص السلبيات ليحوّلها إلى إيجابيات ، ويواجه السيئات بروحية تطمح إلى تبديلها بالحسنات ، فيحسن لمن أساء إليه ، ويعفو عمن اعتدى عليه ، ويصل من قطعه ، حتى يجعل من ذلك حافزا يدفع الطرف الآخر للتراجع عن خطئه ، والرجوع إلى ربه ، انطلاقا من القناعة بأن الفعل الأخلاقي متعلق بالإحساس الداخلي بالمبدأ ، لا من موقف رد الفعل ، باعتبار القيمة الأخلاقية عملية تبادلية يقدم فيها الإنسان إلى الآخرين مقابل ما قدموه إليه ، أو ينتظرهم ليتسلموا زمام المبادرة في عمل الخير معه.

وعلى ضوء ذلك ، نستطيع أن يفهم كيف يعدّ الإسلام الإنسان المسلم لقيادة الحياة من حوله ، ليتغلب على كل سلبياتها الانفعالية ، بواسطة عقله الذي يخطط للمستقبل الواسع ، إذا فكر الناس من حوله بالزوايا الضيقة للحاضر ، وبواسطة روحه التي تنفتح على مشاكل الآخرين ، بالروحية التي تعمل على حلها ، لا على تعقيدها ، فإن ذلك هو السبيل للسيطرة على الساحة ، بسياسة الاحتواء الفكري والأخلاقي الذي لا يترك جانبا فارغا من الخير ، أو من الحركة الجدية في اتجاه التجربة الواقعية لأعمال الخير.

٤٦

(أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) حيث يجمع الله الذين كانوا يعيشون جوّ الصلاح في الدنيا في علاقاتهم الاجتماعية الحميمة ، بحيث لا يفقدون في الآخرة أجواء المشاعر الذاتية التي كانت تهز وجدانهم وتثير أرواحهم في الدنيا.

ويتكامل الجو الروحي إلى أعلى المستويات ، بلقائهم في الملأ الأعلى مخلوقات الله ، الذين يتلقونهم بالترحيب والإكرام والبشارة من الله ، (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) ، ليرتفعوا بهم إلى الجو الملائكي السامي العابق بروحانية الإخلاص لله ، في إحاطة شاملة ورعاية كبيرة ، فلا يجدون للغربة أي مكان في مشاعرهم ، بل يجدون بدلا من ذلك الأنس والفرح العظيم.

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) ، إنها كلمة السلام التي تحمل كل معاني الأمن والطمأنينة والصفاء والانفتاح على رحابة الواقع الجديد ، حيث يشعرون فيه بقيمة المعاناة الشاقة التي عاشوها في الدنيا ، مع صبرهم على كل المكاره التي واجهتهم في خط الالتزام الشامل. فعاقبة الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ، وجزاء العاملين في سبيل الله ، دار الله وجنته التي أعدّها لعباده المتقين ، الذين صدقوا الله ما عاهدوه عليه ، فنعم أجر الصابرين.

* * *

الناقضون للعهود

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ، وهذا هو الجانب الآخر من الصورة الاجتماعية للعلاقة مع الآخر ، فهؤلاء لا يلتزمون بعهدهم الذي عاهدوا الله عليه بشكل مباشر ، أو غير مباشر ، ويتراجعون عن

٤٧

التزامهم التعاقدي مع الناس بعد عهدهم الموثق معهم ، لأنهم لا يملكون القاعدة الروحية التي تجعلهم يحترمون كلمتهم وعهدهم ، وتجعلهم يخافون ربهم في ما يقومون به أو لا يقومون به. فهم يربكون بأعمالهم هذه حياتهم وحياة الناس من حولهم ، ويعرضونها للاهتزاز بفعل جو انعدام الثقة الذي تخلقه تصرفاتهم بين الناس ، لأنها تهز أسس التعامل في تنظيم العلاقات بين الناس.

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ، من خلال ما يملكونه من إمكانات ومواقع وفرص وامتيازات عامة وخاصة ، يستغلونها في عملية إفساد الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني ، ليحصلوا من ورائها على أرباح لحسابهم الخاص ، أو لحساب من يتبعونهم من دون الله ، بالإساءة إلى البلاد والعباد ، فينصرون الظالم ، ويخذلون العادل ، ويشجعون المجرم ، ويدعمون الخائن ، ويضغطون على كل أعمال الخير ودعوات الإيمان ، (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) التي تبعدهم عن رحمة الله ورضوانه بسبب أعمالهم التي أبعدتهم عنه ، وجعلتهم يستحقون اللعنة ، (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) في نار جهنم التي لا تجد دارا أشد سوءا منها ، لما تشتمل عليه من عذاب وعقاب أبدي خالد.

* * *

٤٨

الآيات

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)(٢٩)

* * *

معاني المفردات

(يَبْسُطُ) : يوسع.

(وَيَقْدِرُ) : يضيق.

(مَتاعٌ) : ما فيه متعة ولكنها قليلة.

(أَنابَ) الإنابة : الرجوع إلى الحق بعد الضلال.

* * *

٤٩

الرزق من عند الله

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) إنها سنة الله في الكون ، فقد أودع فيه سبحانه قوانين وسننا ، تحكم حياة الإنسان وتوجه مسيرته ، وتوفر بالتالي لفريق من الناس ، سعة الرزق من حيث ظروف العمل ، أو طبيعة الموقع في إمكانات القدرة ووسائل الإنتاج ، في حين تضيق تلك الأسباب بفريق آخر منهم ، فيضيق رزقهم تبعا للظروف والأجواء والمواقع والإمكانات والوسائل.

ذلك أن للرزق أسبابه ، في حركة الإنسان ، وفي ظروفه المحيطة به ، تبعا لقانون السببية الذي يحكم الكون ، بناء على التخطيط الإلهي ، مما يجعل من نسبة التوسعة والتضييق إلى الله نسبة حقيقية ، لسيطرته المطلقة على الظروف والقوانين والضوابط التي تحكم الحياة. وقد لا ينافي ذلك اختيارية بعض الظروف التي يصنعها الإنسان بحركته السلبية أو الإيجابية ، لأن عملية الاختيار هذه ، تتحرك ضمن الدائرة الكونية التي تحكمها سنن الله وتديرها مشيئته ، ككل الأشياء الخاضعة للتقدير الإلهي بشكل عام ، ولكنها تتضمن هامشا من الحرية يسمح للإنسان بالحركة في النطاق الخاص ، بحيث يبقى رزق الإنسان في حدود التقدير الإلهي ، فلا يزيد أو ينقص عما قدره الله في حركة الأسباب والمسببات ، مما يفرض عليه أن يواجه سعة الرزق وضيقه ، بطريقة متوازنة ، لا مجال فيها للفرح بمفاجأة غير منتظرة ، لأن الشيء الذي يحصل ، بحصول سببه ، لا بد منه أن يكون حالة طبيعية في واقع الإنسان ، تماما كما هو الحال في طلوع النهار أو قدوم الربيع ، ولكن الناس يغفلون هذه الحقيقة ، ويرون أن جهدهم ـ وحده ـ بعيدا عن حركة السنن الكونية ، هو الأساس في عملية الربح والزيادة ، من دون أن يكون للتقدير الإلهي دخل في ذلك كله. وهذا ما يحدثنا عنه الله تعالى في قوله : (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) ، واستسلموا لها واستغرقوا

٥٠

في تفاصيلها ، وواجهوا أرباحها وسعتها ، من موقع الفرح الطاغي الذي تثيره المفاجأة ، وتحكمه الشهوة. ولكن لو فكر هؤلاء الناس بحجم الحياة الدنيا وحدودها ، إذ يستسلمون للفرح بها كما لو كانت هي الفرصة الأولى والأخيرة لدى الإنسان ، لما استسلموا لها هذا الاستسلام ، ولما فرحوا بها هذا الفرح ، بل لوقفوا أمامها موقفا متوازنا ، يحدد دورهم فيها ، ودورها في مصيرهم ، ويقف بحدودها عند حدود أعمارهم ، ولأدركوا الحقيقة الكونية التي تعتبر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة ، مجرد متاع يستمتع به الإنسان ثم يتركه (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) مقابل حياة الإنسان في الآخرة الممتدة في أجواء الخلود ورحابه ، حيث يتحدد موقعه فيها تبعا لعمله في الدنيا في خط الإيمان والكفر ، وحركة الطاعة والمعصية.

ولكن الكافرين بالله وبرسله ، لا يريدون مواجهة حقائق الأشياء ، التي يقدمها الرسل إليهم ، فلا يدخلون معهم في حوار منتج ، حول الرسالة في مفاهيمها ، والرسول في دعوته ، بل يهربون الى مواقع التحدي نتيجة عقد تحكمهم ، وتدفعهم إلى تسجيل المواقف. (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) بما تمثله المعجزة من خرق للمألوف في أوضاع الكون ، كما في معجزة موسى أو عيسى عليهما‌السلام ، لزعمهم أن تحرك النبوة في أجواء المعجزة هو قاعدة عامة ، من دون التفات إلى أن دور المعجزة هو رد التحدي ذو الطابع ، العام ، حفاظا على سلامة الرسالة الخاصة التي تفرضها الاقتراحات المزاجية والتي تهدف إلى شغل النبي بها.

* * *

٥١

الضلال والهداية من الله

(قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) من خلال أسباب الضلال التي تتحرك في حياة الأشخاص ، وربما كان من بينها ، إرادة الإنسان للضلال ، أو إهماله الأخذ بأسباب الهدى في فكره وفي خطواته العملية في الحياة ، (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) إلى الله ورجع إليه وأقبل على مواقع الهداية في آفاق الحق وحرك فكره في كل موقع من مواقع الكفر ، وفي كل موقف من مواقف الحوار. وبذلك ينطلق الضلال من مواقع الاختيار الإنساني في نطاق ظروفه المحدّدة ، وينطلق بالهدى في هذا الاتجاه. وتبقى نسبة الأمرين لله سبحانه ، من حيث علاقة كل الأشياء في الكون بإرادته من خلال قانون السببية ، الذي يجعل حركة السبب تابعة للإرادة ، في الوقت الذي يكون ارتباطه بالمسبب خاضعا للمشيئة الإلهية في حركة الكون.

* * *

ذكر الله سكينة لنفس المؤمن

(الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ، ووعوا حقيقة الإيمان ، وعرفوا موقع الله من وجود الكون والإنسان ، وسيطرته المطلقة على مقدرات الأمور ، فلا يوجد شيء إلا من خلال إرادته ، فإذا أراد شيئا كان ، وإذا لم يرد لم يكن ، ولا يملك أحد أن يتدخل في ما يريد أو في ما لا يريد ، ومن خلال ذلك يشعر المؤمنون بالطمأنينة النفسية مع الله ، من موقع الإيمان بقدرته ورحمته ورعايته وتدبيره ، فلا مجال للشعور بالقلق والضياع والحيرة ونحوها من المشاعر النابعة من حالات الاهتزاز النفسي ، أمام أحداث الحياة ومشاكلها ، لأن الله هو الذي

٥٢

يتكفل بحل ذلك كله ، على أساس القاعدة الصلبة التي أقام عليها نظام الإنسان والحياة ، وفتح له الآفاق التي يلجأ فيها إليه ، ليرحمه ويلطف به ، حتى في قضاياه الجزئية ، ووعده بالاستجابة له ، إذا دعاه ، في حدود مصلحته في دنياه وآخرته ، وكل شيء عنده بمقدار.

وهكذا يرجع المؤمنون إلى الله كلما أصابهم حزن ، أو أحاطت بهم المشاكل ، ويذكرونه بالتسبيح والدعاء في حالة من الخشوع والإيمان والانفتاح ، (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) فتسكن إلى رحمته ، وتهفو إلى لطفه ، وتستسلم لرعايته وتدبيره ، وهذا ما نستوحيه مما حدثنا الله به عن رسوله ليلة الهجرة في غار حراء (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) ، [التوبة :

٤٠] فقد كانت ثقته بالله وبرحمته ورعايته ، هي الأساس في هذه الطمأنينة التي هزمت الخوف والحزن معا ، بدلا من أن تسقط مهزومة أمامهما ، وليس المراد بالذكر هنا ـ كما يظهر ـ الذكر بالكلمة ، بل المراد به الذكر في المواقف ، حيث يعيش الإنسان الشعور بحضور الله في داخله ، فلا يغيب عنه ، في أي موقف من مواقف الاهتزاز أمام تحديات الحياة ومشاكلها ، فيتماسك ويتوازن ويقوى ويشتد ويثبت أمام الله ، ليحس بالثقة بين يديه .. وذلك هو زاد المؤمن في الحياة ، وتلك هي قيمة الإيمان الروحية ، التي تجعله يختزن عناصر الثقة بالحياة من خلال الثقة بالله.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ) بما تعنيه الكلمة من الموقع الطيب ، وهو الجنة التي وعد الله بها عباده المتقين ، (وَحُسْنُ مَآبٍ) يرجع اليه مصير الناس حيث يستريحون ، ويشعرون بالروح والراحة والرضا والطمأنينة والأمان في ظل رحمة الله ولطف عنايته واستحقاق مثوبته ، وذلك هو الفوز العظيم.

* * *

٥٣

الآيتان

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)(٣١)

* * *

معاني المفردات

(خَلَتْ) : مضت.

(مَتابِ) : اسم مصدر من تاب.

(قارِعَةٌ) : مصيبة.

* * *

٥٤

ثقة الداعية بالله

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) فمضت في التاريخ بكل أوضاعها المتنوعة من الكفر والإيمان ، والرشد والغي ، والهدى والضلال ، في التزامها بالرسالات وإيمانها بالرسل ، أو انفصالها عنها وعنهم ، فلم تكن هذه الأمة بدعا من الأمم التي أرسل الله إليها رسله الذين تتحرك في مسيرتهم ، (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من هذا القرآن في آياته التي تبين لهم رسالة الله وشريعته ، ولكنهم لم يستجيبوا لك (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) فلا يؤمنون به أو لا يؤمنون بتوحيده ، بل يشركون به شرك عقيدة أو عبادة ، اتباعا لأهوائهم ، في الابتعاد عن الصراط المستقيم ، فلا تتراجع أمام جحودهم وكفرهم ، بل تابع رسالتك ، واعمل على تأكيد الدعوة وإعلان التوحيد ، بكل قوة ، ولا تحزن ولا تكن في جانب الضعف ، لأنك في موقف القوة في العقيدة وفي الشريعة ، وفي المنهج. (قُلْ هُوَ رَبِّي) الذي أدين له بالربوبية ، وألتزم به في مواقف العبودية ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في ما أتمثله من خط التوحيد ورفض الشرك ، في كل جوانب الحياة ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في كل أموري التي يتحرك الغيب معها ، في ما لا أعرف كنهه ، ولا أدرك سره ، ولا أستوضح أمره من قضايا المستقبل وأخشى تهاويله وأشباه ومشاكله ، فألجأ إليه ، بعد استنفاد كل الوسائل التي أملك أمرها ، وأعرف حدودها. ويبقى للمستقبل خط التوكل الذي ينفتح فيه الشعور بالأمن والطمأنينة من خلال الله ، فهو الملاذ والمرجع فإياه أدعو (وَإِلَيْهِ مَتابِ) فأوجه إليه التوبة من ذنوبي التي أسلفتها ، وأفتح له كل حياتي المستقبلية ، التي أثير فيها كل تاريخ حياتي الماضية بالتوبة والإيمان.

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) فتحركت معه ، (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) وشققت به أنهار وعيون (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) فجعلها تتكلم ، لكان هذا القرآن

٥٥

الذي أنزله الله بدلائله وبرهانه. ولكن لما ذا يتحدث الكافرون بهذه الطريقة؟ ويقدمون هذه الاقتراحات؟ هل المسألة هي مسألة مزاج ذاتيّ ، أو مسألة عناد وتعنّت ، أو هي مسألة إيمان واقتناع؟ فإذا كانت المسألة مزاجا وعنادا ، فإن الله لا يستجيب لذلك ، لأن الرسالات لم تأت لتعالج حالات مزاجية ، أو عقدا نفسية ، بل جاءت للتخطيط لمسيرة الإنسان الإيمانية في خط الفكر والعمل ، وإذا كانت القضية إيمانا في ما يريد الله أن يمهّده من وسائل الإيمان ، فإن للقرآن دلائله وبراهينه التي تؤكد أساس الإيمان وقاعدته ، وحركته وآفاقه ، وليس للناس من الأمر شيء في ذلك كله ، وفي غيره (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) في ما يريد وفي ما لا يريد ، بعيدا عن كل ما يقترحونه ، أو ما يريدونه.

(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) وقد جاء في تفسيرها ، أن المراد بكلمة «ييأس» يعلم أو يتبين ، على لغة هوازن ، وربما كان المراد منها معناها اللغوي المعروف من اليأس في مقابل الأمل والرجاء على سبيل الكناية عن المعرفة ، باعتبار أن نفي اليأس يؤكد الرجاء الذي يقترب بالفكرة من حركتها في صعيد الفكر والواقع ، الذي يؤدي إلى المعرفة الإيمانية بأن الله قادر على أن يهدي الناس جميعا إلى خط الإيمان بالوسائل التكوينية الضاغطة على فكر الإنسان وإرادته ، فلا يملك فكاكا ، ولا يستطيع انفصالا عن الخط ، (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) بالجبر والإكراه ، ولكن الله العزيز الحكيم اقتضت حكمته أن يجعل مسألة الإيمان خاضعة للإرادة والاختيار ، بعد إقامة الحجة ، بكل وسائل المعرفة ، ليهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيى من حيّ عن بيّنة.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وتمرّدوا وواجهوا الرسول بالتكذيب (تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) من أنواع البلاء التي يرسلها الله إليهم في الدنيا فتقع عليهم ، (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) لتملاهم بالخوف ، ولتوحي إليهم بقدرة الله عليهم ، وتؤكد لهم أنهم أضعف من أن يتمرّدوا على الله ، أو يعاندوا وحيه ، فيشغلهم بأنفسهم وبمشاكلهم ، (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) بالنصر من عنده (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ

٥٦

الْمِيعادَ) ما وعد به رسله من النصر والمعونة والتأييد.

وهكذا تبقى للمؤمنين العاملين في خط الدعوة إلى الله ، ثقتهم الكبيرة بالله وبنصره ، لأن الله قد أخذ على نفسه ، في ما وعد به رسله والداعين إلى رسالاته ، أن ينصرهم ما داموا في خط النصرة لدينه ، والجهاد في سبيله.

* * *

٥٧

الآيات

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ)(٣٤)

* * *

معاني المفردات

(فَأَمْلَيْتُ) : أمليت.

(قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ) : رقيب عليها ومدبر لأمورها.

* * *

٥٨

أخذ العبرة والعظة من التاريخ

يبقى للتاريخ دور العبرة والعظة والإلهام للأجيال المقبلة ، في جوانبه السلبية والإيجابية ، في ما يريد الله للناس أن يستلهموه ويتعظوا به لحياتهم المستقبلة في كل قضايا الحياة ، من دون أن يتحملوا مسئوليته ، لأن التاريخ مسئولية الأجيال التي صنعته ، وللآخرين مسئولية العبرة والاستيحاء.

وهكذا يريد الله للناس الذين عاشوا الرسالة في بداية الدعوة ، أو الذين جاؤوا بعدها ، كما يريد للذين يحملون مسئولية الرسالة في الدعوة ، وفي الممارسة ، أن يدرسوا تاريخ الرسل السابقين ، ليستفيدوا من التجربة الحية الواعية في انطلاقة الرسالة ، ويغذوا بمعطيات تجربة المرحلة السابقة مرحلة أخرى ، لا ترتبط بزمن محدد ، بل تمتد بامتداد حركة الحقيقة الخالدة في الحياة ، لتتكامل المسيرة على مستوى تكامل المراحل ، وتتتابع الدروس والعبر على مستوى القضية الواحدة.

* * *

تجربة الرسل من قبل

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي من قبل أصحاب الامتيازات الطبقية والعائلية والاقتصادية الذين يحتلون مواقع القيادة الفكرية في المجتمع ، والذين هم غير مستعدين للاستجابة لمن هم أراذل الناس بادي ، الرأي ، لا سيما إذا كانت الأفكار التي يطرحونها بعيدة عن المألوف من عاداتهم وعقائدهم ، وغريبة عن تراث الآباء والأجداد ، فيواجهونهم بالسخرية والاستهزاء ضد

٥٩

مواقعهم الاجتماعية وأفكارهم الغريبة. (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) فلم أعاجلهم بالعقاب ، بل تركت لهم الفرصة ، في المال والعمر والموقع والظروف ، ليمتدوا ما شاءت لهم ظروفهم تلك في الامتداد ، على ما هم فيه ، لتقوم الحجة عليهم في ما اعتقدوه ومارسوه من أعمال ، واتخذوه من مواقف ، فحق عليهم القول ، وعاجلتهم بالعذاب الشديد في الدنيا قبل الآخرة ، (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) وكيف تساقطوا أمام العقاب فلم ينفعهم ما كانوا فيه ولم ينصرهم أحد ممن كانوا يعبدونهم من دون الله.

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) ويعلم خفاياها وأسرارها ، ويملك كل أمورها في ما يدبر به أمر خلقه ، ويسيطر عليها في كل ما تقوم به من أعمال وتتخذه من مواقف ، ويملك مجازاتها في كل شيء ، كمن هو مخلوق في نفسه ، محدود في قدرته ، من هؤلاء الشركاء الذين دعوهم من دون الله ، دون حجة أو برهان كما يوحي قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) كالأصنام التي عبدوها ، والأشخاص الذين أطاعوهم في معصية الله ، (قُلْ سَمُّوهُمْ) وأشيروا إليهم بالأسماء التي تليق بالإله والمعبود الذي يتميز بصفات القدرة والعلم والغنى والخلق والرزق وغيرها من صفات الجلال والكمال ، فهل تستطيعون ذلك؟ وهل يثبت هذا الموقف أمام الحقيقة؟ إن النتيجة ستكون سلبا ، وستواجهون الخزي والعار في دعواكم هذه.

(أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) هذا التعبير كناية عن عدم وجود ما لا يعلمه الله محيط بكل شيء ، فلو كان له وجود لعلمه ، (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) مما لا يثبت أمام النقد ، ولا يرتكز على حقيقة ، كما في الكثير من الأقوال التي لا تعبّر عن أية مسئولية عن قضايا العقيدة والحياة. إنه التساؤل الذي يواجه هؤلاء ، حول ما اعتقدوه ، وما عبدوه ، ولا يملكون له جوابا ، (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) وما دبّروه للرسول وللرسالة من مكائد وأضاليل ، وما أثاروه حولهما من شكوك وشبهات ، (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) القويم الذي أراد الله للناس

٦٠