تفسير من وحي القرآن - ج ١٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٦

وربما كان المراد به جبرئيل الذي صرحت باسمه الآية الكريمة في قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) [البقرة : ٩٧](لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) لما يريده لحركتهم في الدعوة والعمل ، والجهاد ، من خضوع للقرآن في آياته التي توجّه خطوة هنا وخطوة هناك ، وتخطط المسير في هذا الاتجاه ، ثم تبدله في اتجاه آخر ، تبعا لمقتضيات الواقع العملي ، الأمر الذي يخلق التفاعل بين حياة الناس والقرآن ، بحيث يعايشون ، بشكل واقعي لا تجريدي ، القرآن في مفاهيمه وأحكامه. من هنا نستطيع أن نقرر الحقيقة القرآنية في الأسلوب الواقعي ، وهي أن آياته كانت تحرك مسيرة الدعوة وترعى حركة التغيير ، وتوجّه خطوات الجهاد ، مما يجعل القرآن تجسيدا للرسالة في الفكر والواقع.

(وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) في ما هيأه لمن أسلموا الفكر والروح والحياة لله من سبل الهداية بآياته إلى سواء السبيل ، وفي ما يبشرهم به من رحمة ورضوان وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها في رحاب الله.

* * *

صدق الكتاب مع كونه نازلا على بشر

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) فقد كان مصدر هذا الكتاب المعجز الذي تحدّاهم به ، في أسلوبه وفي مضمونه يحيرهم ؛ كيف جاء به محمد ، وهو من عاش معهم ولم يتعلم القراءة والكتابة ، ولم يأخذ بقسط وافر من الثقافة تمكنه من هذا الإبداع ذاتيا ، كما أنهم لا يريدون الاعتراف له بالنبوّة التي تلتقي بالوحي كتفسير لكل هذه الآيات التي أعجزت البشر ، لذا أبعدوا عن أذهانهم احتمال أن يأتي بها بشر ، لأنهم لم يتعقلوا ولم يريدوا تعقّل الفكرة

٣٠١

التي تجمع بين البشرية والنبوّة ، وهكذا بحثوا عمن ينسبون إليه القرآن ليكون معلّما لمحمد ، ومبدعا لهذه الآيات ، واعتبروه شخصا غير عربي ، لأن غالبية العرب كانوا من الأميين. وتلقف هذه الفكرة الكثير من الناس الذين وجدوا فيها وسيلة للتشكيك بنبوة محمد ، وجوابا على جمعه بين الأمية وإبداع القرآن. من هنا أخذ المبشرون والمستشرقون والمتغربون من المثقفين ، يربطون بين ثقافة النبي وبين رعاية آخرين له في عصره وفي بلده ثقافيا. ولكنهم لم يلتفتوا إلى أنهم لم يكتشفوا جديدا في إثارة ذاك الإشكال ، ذلك أن القرآن نفسه نقل عن معارضي الرسالة من قريش ، طرحهم للإشكال نفسه وخلده في آياته ، ليفكر كل جيل ممن يقرأ القرآن في طبيعة التهمة ، وفي طبيعة ردها ، كي يقتنعوا على أساس الحجة التي يقدمها في هذا الشأن ، ضمن النهج القرآني في تربية العقيدة من خلال الفكر القائم على دراسة المشاكل المثارة حولها.

هذا بالإضافة إلى ما يوحيه من الثقة بالحق في نبوّة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمستوى الذي لا يخشى فيه ذكر ما قيل في حقه ، تعليقا على نبوّته ، لأنه لا يرى فيها سببا معقولا للشكّ ، ليعيش الناس في المرحلة البعيدة عن زمن الدعوة الثقة التي عاشها معاصر والدعوة ، من خلال سماعهم ما كان أولئك قد سمعوه في رد قرآني على أولئك المشككين (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) وينسبون إليه القرآن (أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) فكيف يمكن أن يكون هذا القرآن صنعة رجل أعجمي لا يحسن من العربية شيئا ، وكيف يمكن لشخص أعجمي أن يأتي بهذا الإبداع الذي أعجز بلغاء العربية فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله؟!

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لأن اختيارهم للكفر ، وابتعادهم عن خط الإيمان ، لم يكن ناشئا عن حالة جهل لا مجال معها لتحصيل المعرفة ، بل كان ناشئا من حالة عناد وتمرّد ، بعد قيام

٣٠٢

الحجة عليهم ، أو بعد توفر ما يمكن إقامة الحجة به ، بحيث لو درسوه لاهتدوا إلى العقيدة الحقّة. ولذا ، فإن الله يتركهم لأنفسهم ، دون أن يتدخل لهدايتهم بشكل مباشر تكوينا ، لأن حكمته اقتضت أن يكون الهدى والضلال تابعين للاختيار الإنساني. وسيعذبهم الله ـ سبحانه ـ على تمردهم وعنادهم ، لأنهم يستحقون ذلك بعد قيام الحجة عليهم.

(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) لأنهم لا يستندون إلى قاعدة إيمانية تمنعهم عن الكذب الذي يمثل الارتباط بالباطل ، مقابل ما يعنيه الإيمان من ارتباط بالحق ، ولهذا ورد في بعض الكلمات المأثورة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن عبد الله بن جراد سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل يزني المؤمن؟ قال : قد يكون ذلك ، قال : هل يسرق المؤمن؟ قال : قد يكون ذلك ، قال : هل يكذب المؤمن؟ قال : لا. ثم أتبعها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ)(١).

(وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) لأنهم يكذبون في إنكارهم للوحي القرآني ، وللنبوّة ، ولليوم الآخر ، وغير ذلك من شؤون العقيدة الصحيحة.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٢ ، ص : ٣٥٢.

٣٠٣

الآيات

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١١١)

* * *

معاني المفردات

(شَرَحَ) : بسط ، وشرح للكفر صدره : أي بسط صدره للكفر فقبله قبول رضى.

٣٠٤

(اسْتَحَبُّوا) : آثروا وقدموا.

(لا جَرَمَ) : لا شك.

(فُتِنُوا) : ابتلوا ، الفتنة في الأصل إدخال الذهب النار ليظهر جودته ثم استعمل في مطلق البلاء والتعذيب.

(تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) : تدافع عن نفسها.

(وَتُوَفَّى) : التوفية : إعطاء الحق تماما من غير تنقيص.

* * *

أسباب النزول

جاء في أسباب النزول في ما رواه الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر آلهتهم بخير ، ثم تركوه ، فلما أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ما وراءك شيء؟ قال : شرّ ، ما تركت حتى نلت منك ، وذكرت آلهتهم بخير. قال : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئن بالإيمان. قال : إن عادوا فعد ، فنزلت : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(١).

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٢ ، ص : ٣٥٨.

٣٠٥

الإيمان بالله حقيقة يجحدها جاهل أو معاند

في أكثر من آية من آيات القرآن تأكيد على أن الإيمان بالله يمثل الحقيقة التي لا ريب فيها ، وأن الذين يبتعدون عنها هم أحد فريقين ، الجاهلون الذين لم ينفتحوا على الحق من موقع المعرفة الواعية ، والمعاندون الذين عرفوا الحق ثم أنكروه ، ولهذا اعتبر الارتداد خيانة وجريمة لا مبرّر لها ، لأنها تصنف مرتكبيها في فريق المعاندين ، ذلك أن من آمنوا لا بد من أن يكونوا قد اكتشفوا جانب الحقيقة في الإيمان ، فلا مبرر لتراجعهم عنه ، بعد وضوحه ، ولهذا استحقوا العذاب.

* * *

الإكراه على الكفر والقلب المطمئن

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) فانحرف عن مواقع الحق إلى مواقع الباطل (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فكان اعترافه بالكفر نتيجة ضغط وإكراه لم يملك معه أن يتماسك ، لأنه وقف بين خيارين ، فإما أن ينطق بكلمة الكفر ، فيتخلص من أشد الآلام ، وأقسى العذاب ، وإما أن يرفض فيموت تحت تأثير التعذيب ، فكان النطق بكلمة الكفر التي يريدها الكفار الطغاة ، مظهرا لحالة ضعف إنسانيّ يعيشها المؤمن ، والله لا يؤاخذه على الخضوع ، لأنها مجرد كلمة يقولها ثم ينصرف بعدها إلى مواقع إيمانه ليعمل ويجاهد ويواجه هؤلاء الكفرة الطغاة من موقع قوّة جديد ، تمكنه من محاصرة الكفر واحتواء الساحة ، لذا كان الإسلام واقعيا في مسألة مسئولية الإنسان المؤمن في الإصرار على موقفه الإيماني ، ففرض عليه الالتزام بالموقف في الحالات التي يمثل فيها الضعف إسقاطا للموقف كله ، ورخّص له التراجع عنه

٣٠٦

بطريقة ظاهرية إنقاذا للموقف من الانهيار في بعض مراحله ، وحفظا للساحة عند ما لا تستطيع مواصلة الجهاد والحركة تحت تأثير الضغوط القاسية التي تتعرض لها بفعل القوّة الطاغية التي يملكها أعداء الله.

وقد لا يكون الموقف موقف إكراه يعيشه المؤمن ، بل موقف ضغط تعيشه الساحة كلها ، فتقضي المصلحة الإسلامية انتماء بعض المسلمين إلى خطّ من خطوط الكفر ، للحصول على أسرار ذلك الخط ، أو لتخفيف بعض أضراره ، أو لتفجيره من الداخل ، أو لغير ذلك. وفي هذه الحالة يجوز للمؤمنين الذين يتحملون مسئولية العمل للإسلام ، أو الذين يفرض عليهم وليّ الأمر القيام بمثل هذه المهمات والأدوار ، إعلان الانتماء إلى الكافرين ، لأن المصلحة الإسلامية تجمّد الحكم الشرعي في حرمة هذا العمل ذاتيا ، وترخص في ممارسته ، كأيّ موقع من المواقع الذي تتزاحم فيه المصالح الكامنة وراء التشريع ، فيقف الحكم الشرعي في دائرة المصلحة الأهمّ والأقوى ، وهذا ما يمثله تشريع التقية التي لا تجوز إلا في موارد حفظ النفس من الهلاك ، حيث لا مصلحة ملزمة في مواجهة الموت ولا مفسدة كبيرة على الدين من ذلك.

وقد نلاحظ ، في هذا المجال ، أن الكافرين الذين يضغطون على المؤمنين ليحصلوا منهم على اعتراف بالكفر أو الطغاة الذين يعذبون المستضعفين ليحصلوا منهم على اعتراف ببعض الأمور ، لا ينطلقون من موقع قوّة في طلبهم ذاك ، بل من موقع ضعف شديد يشعرون به ، الأمر الذي يجعلهم يلهثون وراء كلمة اعتراف بهم ، توحي لهم بانهزام الخصم وترضي كبرياءهم ، حتى وهم يوقنون بعدم كونه اعترافا حقيقيا ، فلا يكون الكفر في هذه الحال سوى كفر كلامي يخفي تحديا إيمانيا يخطط من خلاله المؤمن للانقضاض عليهم ، مستفيدا من غطاء الكفر الشكلي الذي اعترف به ، لأن الضغط يصنع الحركة المضادة والعذاب يستثير مشاعر الثورة على كل الواقع الذي يصنع مأساة الإنسان الفكرية والعملية ، وإن كل وسائل التعذيب لا

٣٠٧

تستطيع تحويل قناعات الناس إلى قناعات مضادة ، لأن مواقع القناعة هي مواقع الفكر التي لا تستطيع وسائل الضغط تحويلها. ولهذا فإن الله قد استثنى المؤمنين الذين أكرهوا على كلمة الكفر ، من فئة المرتدين ، فلم يعتبر ذلك ارتدادا عن الإيمان ، لأن قضية الارتداد هي قضية الكفر الذي يتسع له القلب ، ويتحرك فيه الموقف.

* * *

من يشرح صدره للكفر

(وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) في التزامه بالكفر كانتماء ، وكموقع ودعوة في حركة الحياة (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لأنهم لم يرتدوا من موقع شبهة بل من موقع عناد.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) فاستسلموا لإغراءات الكفر وامتيازاته وشهواته لما اعتبروا في ذلك من مظهر للسعادة الذاتية ، ولم يفكروا بالآخرة ، كوجه من وجوه النشاط الإنساني الخيّر في الدنيا ، وكمصير في ساحة النتائج العملية في الآخرة ، لأن قيمة الآخرة أنها تعطي الدنيا معناها فتحول أعمال الدنيا إلى أعمال للآخرة ، كما تتدخل في تحديد المصير السعيد أو الشقي في الدار الآخرة. وبذلك كانت الحياة الآخرة هي الهدف الذي يريد الله للناس أن يسعوا إليه في حياتهم الدنيا ، لما تمثله في خط السير من قيم ومبادئ وأعمال ، ولا يريدهم أن يستغرقوا في الدنيا ، بما تمثله من لحظات فانية وشهوات زائلة ونتائج واهية. (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) بل يتركهم لضلالهم الذي اختاروه لأنفسهم بعد أن أقام عليهم الحجة ، حيث لا مجال لأيّ عذر ، من قريب أو من بعيد (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ

٣٠٨

وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) فإن اختيار الإنسان لأيّ موقف تجاه مسألة معينة يغلق قلبه وسمعه وبصره عن رؤية الجانب الآخر من المسألة ، حتى بمستوى الاحتمال الوجداني ، فيتعصب الإنسان لموقفه ، فلا يسمح لأيّ شيء آخر أن يقترب من قناعاته ، وبذلك يكون هو من أغلق قلبه وسمعه وبصره ، بالتزامه السبب الذي أدّى إلى ذلك .. أمّا نسبته إلى الله ، فلأن الله هو الذي جعل السببيّة بين المقدمات والنتائج ، وإن كانت المقدمات بيد الإنسان ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) الذين استغرقتهم أجواء الكفر ، فغفلوا عن أجواء الإيمان وعن النتائج السلبية التي تحكم موقفهم في الحاضر والمستقبل.

(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم لم يأخذوا بأسباب الربح في الدنيا ، وأخذوا بأسباب الخسارة ، فواجهوا نتائجها الخاسرة من مواقع الغفلة المطبقة على الحواس والعقول.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) وهم المؤمنون الذين كانوا يتعرضون للبلاء والتعذيب من قبل المشركين الذين أرادوا بذلك أن يفتنوهم عن دينهم ، وينحرفوا بهم عن الخط المستقيم ، ولكنهم قاوموا كل وسائل الضغط والتعذيب ، ورفضوا التنازل عن مواقفهم ، ولما اشتد عليهم الضغط وخافوا أن يضعفوا ، هاجروا إلى مواقع أخرى ، ليحصلوا على القوة فيها ويعودوا إلى مواقعهم الأولى من خلال الجهاد (ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) لما يفرضه الجهاد على المجاهدين من الصبر الذي يتحدى كل الآلام والخسائر والمشاعر الحميمة التي تثقلها الهجرة ، ويثقلها العذاب (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر ذنوبهم التي كانوا قد ارتكبوها في ساحة التجربة ويفيض عليهم من رحمته التي تنهمر عليهم باللطف والرضوان والنعيم في الدنيا والآخرة.

* * *

٣٠٩

مجادلة كل نفس عن نفسها يوم القيامة

(* يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) ، وهذا هو خط المسؤولية الفردية التي يواجهها الإنسان أمام الله يوم القيامة ، فهو الذي يتحمل مسئولية نتائج عمله سلبا أو إيجابا ، ولا يتحملها أحد غيره ، مهما كان قريبا إليه ، وهو الذي يدافع عن موقفه ، ولا يملك أحد الدفاع عنه ، فعليه أن يسمع السؤال بوعي ويجيب عنه بدقّة في خلفيات العمل ودوافعه ، وظروفه وأوضاعه ، ونتائجه وغاياته ، ثم تكون الكلمة الفصل لله ، فلا يملك أحد له شيئا ، حتى على مستوى الشفاعة ، لأنها ـ لو حصلت ـ لا تتم إلا بإذن الله ، (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) من خير أو شر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فالله لا يحتاج إلى ظلم أحد من عباده ، لأنه القوي الغنيّ عن ظلمهم وعنهم جميعا في كل شيء.

* * *

٣١٠

الآيات

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١١٩)

* * *

معاني المفردات

(رِزْقُها رَغَداً) : الرزق الواسع.

٣١١

(بِأَنْعُمِ) : الأنعام : جمع نعمة.

* * *

ضرب الأمثال للعبرة

يهدف المثل القرآني أحيانا إلى إيصال الإنسان إلى ساحة الخير من خلال إثارة تهاويل الشرّ في خياله ، وإلى ساحة الأمن من خلال حشد صور الخوف في ذهنه ، لتتحول تلك التهاويل والصور إلى مشاعر وأحاسيس مسحورة بمعاني الخير والأمن والطمأنينة ، لتحوّل المعاني الحلوة إلى واقع حلو جميل يمتد من الصورة الحلوة الجميلة ، فيستمر في تحريكها مع الواقع الحي في كل زمان ومكان ، وهو ما نجده في هذه الآيات.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) ، فهي تعيش الأمن بدون خوف ، والطمأنينة بدون قلق ، والاكتفاء الذاتي في المأكل والملبس والمشرب دون جهد أو عناء ، (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) ولكنها لم تشكر الله على ذلك كله ، بما يفرضه هذا الجو الآمن المطمئن الغنيّ من انضباط في العلاقات والأعمال والأقوال وابتعاد عن الاعتداء والإساءة إلى حياة وحرية أي إنسان ، وعدم إثارة القلق والاهتزاز الروحي والمادي والمعنوي في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بوضع الخطط الشريرة التي تقود إلى أكل أموال الناس بالباطل ، والاتجاه بالمال إلى غير ما يريده الله ، بإفساد الحياة من خلاله ، ففي خطوات كهذه كفر عملي بالله ونعمه ، وهو ما حصل لهذه القرية التي كفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ، فأجاعها بعد شبع ، وأخافها بعد أمن ، ولكن

٣١٢

لا كعقوبة على العمل ، بل كنتيجة طبيعية لخصائص ذاك العمل في طبيعته ، تماما ، كما هي النتيجة المتصلة بمقدمتها ، والسبب بمسببه ، وذلك قوله تعالى : (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) فهم يجوعون لأن أعمالهم السيئة تؤدي إلى الفقر الذي ينتج الجوع ، وهم يخافون لأن المشاكل والمعارك التي يثيرونها تطرد الأمن.

وما يريد الله أن يثيره هنا هو علاقة العمل بنتائجه السلبية أو الإيجابية في الدنيا والآخرة ، ليتمثّل الإنسان معنويا صورة عمله السيئ في الآخرة مقابل ما تمثّله فيه من صورة إيجابية مادية في الدنيا ، ذلك أن النتائج السلبية للعمل السيئ ، تقلب الصورة التي كان عليها العمل في الدنيا رأسا على عقب. وهذا ما ينتظر الذين يواجهون الرسول بالتكذيب (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) الدنيوي أو الأخروي (وَهُمْ ظالِمُونَ) أنفسهم لما اختاروه لها من مصير مظلم بسبب أعمالهم المظلمة (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) ومن الحلال الطيب يلتقي الإحساس باللذة المادّية ، التي يشتمل عليها خصائص المطعم والمشرب ، بالإحساس باللذة المعنوية ، الذي يصنعه الشعور برضوان الله من خلال ما رزقه الله ، حيث يتحول الاكتفاء بالحلال إلى طاعة وعبادة باعتباره وسيلة من وسائل الامتناع عن الحرام .. (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) ، في ما رزقكم إياه ، بالوعي الروحي الذي يرى الله في كل نعمة ويحس بمسؤوليته عنها في كل ما يتصل بها من شؤون الحياة ، وفي ما جعله الله لها من دور في واقع الإنسان ومصيره (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فإن للعبادة أنواعا كثيرة ، منها أن يذكر الله في نعمه ، فيشكره بلسانه ، وبإحساسه الوجداني بارتباطها به ، وبممارسته العملية في تحقيق الغاية الكبيرة منها في حياة الناس .. وبهذا يلتقي الشكر بالالتزام الروحي والفكري بعبادة الله ، كما يعني الكفر بالله ، الكفر بنعمه بالقول والفعل.

* * *

٣١٣

اللحوم المحرمة وحالات الضرورة

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فعليكم أن لا تأكلوا من ذلك كله ، لأن الله لم يحرمه إلا لاستخباثه الذي يخرجه عن الطيب الذي أحله الله لعباده ، سواء كان ذلك لجهة العناصر المادية المضرّة فيه ، أو لجهة العناصر الروحية السلبيّة ، وقد تحدثنا عن مضمون هذه الآية في ما قدمناه من تفسير الآية المماثلة في سورة البقرة / الآية ١٧٣ ، وفي سورة المائدة / الآية ٣ ، وفي سورة الأنعام / الآية ١٤٥. فليراجع التفسير في مكانه.

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومن رحمته أنه لم يحرم على المضطر شيئا اضطر إليه رأفة به ورحمة بحياته ، بشرط أن لا يكون باغيا ولا عاديا ، في مواقع اضطراره.

وهناك ملاحظة ذكرها صاحب الميزان «رحمه‌الله» حول سرّ التأكيد على هذه المحرّمات الأربع حتى كررها في أكثر من سورة مما نزل في مكة ومما نزل في المدينة ، فقد نستطيع القول بأن هذه هي المحرمات التي حرمها الله في كتابه ، ولم يحرم غيرها ... أما بقية الأمور ، فقد أوكل الله أمر تحريمها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي حرّم أشياء كثيرة موجودة في السنة الشريفة ، ثم دعا الأمة إلى أن تأخذ بها في قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧](١). وهي ملاحظة جيدة تستحق الدراسة والاهتمام.

* * *

__________________

(١) انظر تفسير الميزان ، ج : ١٢ ، ص : ٣٦٥.

٣١٤

الكذب على الله في التحليل والتحريم

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) ذكر جمهور المفسرين أن المراد به ، النهي عما كان المشركون يحلّونه كالميتة والدم وما أهل لغير الله به ، أو يحرّمونه كالبحيرة والسائبة وغيرهما ، ولكن صاحب الميزان يقول : إن السياق لا يؤيد هذا الوجه ، لأن الخطاب فيها إما للمؤمنين ـ على ما يؤيده سياقها ـ وإما لعامة الناس ، فيكون المراد منها ـ على هذا الأساس ـ «النهي عن الابتداع بإدخال حلال أو حرام في الأحكام الجارية في المجتمع المعمولة بينهم من دون أن ينزل به الوحي ، فإن ذلك من إدخال ما ليس من الدين في الدين ، وافتراء على الله وإن لم ينسبه واضعه إليه تعالى» (١).

ويحتمل أن لا يكون مقصود الجمهور الاختصاص بهذه الأمور ، بل المراد النهي عن البدعة في التحليل والتحريم مطلقا ، ولكن الآية انطلقت من هذا المورد الخاص باعتباره المورد الذي كان الانحراف يتحرك فيه ، والله العالم.

(إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) فينسبون إليه ما لم يقله ، ويشرّعون ما لم يشرّعه (لا يُفْلِحُونَ) لأن ما يصيبهم من العذاب في الآخرة أكثر مما حصلوا عليه من اللذة والمنفعة في الدنيا (مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) وربما كان المقصود به ما قصه الله على نبيه في سورة الأنعام ـ وقد نزلت قبل سورة النحل بلا إشكال ـ بقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ

__________________

(١) م. س. ، ج : ١٢ ، ص : ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

٣١٥

شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) [الأنعام : ١٤٦]. ولكنهم حرموا على أنفسهم وعلى الناس أشياء أخرى لم يحرمها الله ، فضيقوا على أنفسهم وعلى الناس ، وظلموا بذلك أنفسهم ولم يظلمهم الله (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ككل الناس الذين ساروا في حياتهم دون وعي للنتائج السيّئة والعواقب الوخيمة لظلمهم.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) فلم يتحركوا من حالة تمرّد وكفر وعناد ، بل تحركوا من حالة جهالة لا تدرك حقائق الأشياء ولا تعرف نتائجها ، أو تغفل عنه ـ بعد معرفة ـ فتندفع إلى العمل بدون حساب ... فانتبهوا بعد ذلك ، وقرروا التراجع عما هم فيه (ثُمَّ تابُوا) وندموا على ما فعلوا (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) فغيروا مسيرتهم ، وعاشوا ، من جديد ، في الخط الصحيح على هدى الله في أعمال الخير ، فقبلهم الله قبولا حسنا (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي من بعد التوبة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، فهو الذي يغفر الذنوب للتائبين ، ويرحمهم برحمته ، ويدخلهم في جنته.

* * *

٣١٦

الآيات

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(١٢٨)

* * *

معاني المفردات

(قانِتاً) : مطيعا.

٣١٧

(حَنِيفاً) : مستقيما مائلا عن الباطل إلى الحق.

(اجْتَباهُ) : اختاره واصطفاه.

* * *

خط إبراهيم الرسالي عنوان الرسالات بعده

يعود الحديث القرآني باستمرار إلى إبراهيم ، الذي ينتسب إليه الرسل ، عند تناوله التوحيد والمشركين والإسلام الذي كان إبراهيم يمثل الوجه المشرق في إعلان خطه وتجسيد معناه.

ويتحدث الله عن إبراهيم في هذا الإطار كنموذج حيّ للنبيّ المطيع لله الموحّد له ، الذي اختاره لرسالته وهداه إلى صراط مستقيم ، وهو بذلك يتناول شخصيته في الدائرة الإنسانية المنفتحة على ساحة المسؤولية بين يدي الله ، دون الدخول في أجواء المبالغة التي تصور الشخصية الغامضة ذات الأسرار الخفية والآفاق النورانية السابحة في أجواء القدس ، وغير ذلك من الكلمات التي قد تثير في النفس الكثير من مشاعر التعظيم ولكنها لا تقدم معرفة تفصيلية بالنبي تملأ الوجدان وتغني الفكر.

* * *

إبراهيم كان أمة

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً). جاء في المفردات أن المراد من كونه أمّة أي

٣١٨

قائما مقام جماعة في عبادة الله نحو قولهم : فلان في نفسه قبيلة (١) ، وقيل معناه الإمام المقتدى به ، وقيل إنه كان أمة منحصرة في واحد مدّة من الزمان لم يكن على الأرض موحّد يوحّد الله غيره. وعلى ضوء هذه التفاسير ، نلتقي بشخصية إبراهيم التي تتجمّع فيها خصائص الإنسان الذي تعيش شخصية الأمة فيه وتمتد منه في حركة رسالته ، وتلتقي في أجوائه الروحية ، روحية الجماعة في صورة الفرد .. وربما كان السرّ في ذلك ، أن الرساليين ، ولا سيما الأنبياء منهم ، لا ينطلقون من حالة ذاتية ، تتحول معها الذات إلى دائرة مغلقة تحجبهم عن الآخرين ، وتخنق في داخلهم روح الامتداد ، بل ينطلقون من الروح الرسالية التي تمتد في شخصيتهم ، لتحوي الأمة بأسرها في حركة الرسالة ، فيسقط الحاجز بين روح الفرد وروح الجماعة.

(قانِتاً لِلَّهِ) يعيش الطاعة لله ، والعبادة له كطبيعة ذاتية تملك الدوام والاستمرار (حَنِيفاً) مائلا عن خط التطرف إلى دائرة الاعتدال في الإخلاص للخط المستقيم الذي يمثله التوحيد.

(وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بل عاش التوحيد في روحه وفكره ووجدانه ، كأفضل ما يكون التوحيد ، وأيّ توحيد أصفى وأنقى من الإسلام لله في كل شيء ، حتى إذا خيّر بين أن يطيع الله في ذبح ولده وبين أن يستسلم لعاطفته في الامتناع عن ذلك ، اختار الاستسلام لله على الاستسلام لعاطفته (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) في إخلاصه لله في عبوديته ، في ما يمثله ذلك من سموّ الشكر وعلوّ شأنه ، (اجْتَباهُ) أي اختاره واصطفاه لرسالته ، لأنه يمثل الشخص الذي تتحرك الرسالة في حياته الداخلية كجزء من ذاته (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لما منحه من وضوح الرؤية لما حوله ، ولما أوحى به إليه من رسالته التي تحدد له الطريق وتخطط له خط السير (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) ربما كان المراد بها

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ١٩.

٣١٩

المعيشة الحسنة ، وربما كان المراد بها النبوّة (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) بما اختص به الصالحين في عملهم وفي دعوتهم وجهادهم من درجات عالية في ساحة رضوانه وفي نعيم جنته.

* * *

حنيفية إبراهيم

وامتد تأثير الخط الرسالي الذي انطلق به إبراهيم في رسالته التي أوحى بها الله إليه ، حتى أراده الله أن يكون عنوانا للرسالات التي جاءت بعده ، حتى جاء دور النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، فإذا كانت ملته هي الإخلاص في التوحيد لله ورفض الشركاء له ، فإن الله يريد للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتبع هذا النهج في الدعوة ، وأن يتحرك مع هذا الخط في الرسالة.

ولعل في التأكيد على صفة الحنيفيّة في شخصه ونفي صفة الإشراك عنه ، ما يوحي بأنه يمثل التجسيد للملّة ، حتى تحول اسمه إلى صورة حيّة لها (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) ، ففرض عليهم السبت عطلة حرّم فيها العمل ، للتشديد عليهم واختبار طاعتهم لله فيه ، فمنهم من قبله ومنهم من رفضه ، ولم يمتثلوا جميعا لله في ذلك كما يقتضي الإيمان (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) حول هذه القضايا التي أثارها تشريع السبت ، وغيرها من أمور تتصل بالعقيدة والتشريع ، مما لم يصلوا فيه إلى نتيجة .. ولكن الله سيحكم بينهم ويفصل بين الحق والباطل ، فيعرف كل منهم موقفه ومصيره على أساس ذلك الحكم.

* * *

٣٢٠