تفسير من وحي القرآن - ج ١٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٦

فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) فترفعون أصواتكم إليه مستغيثين به. وقد تكونون من المنكرين له ، وقد تكونون من الغافلين عنه ، أو من المشركين به أو بعبادته ، ولكن الفطرة العميقة المتصلة بكل خلجة من خلجات المشاعر ، وبكل نبضة من نبضات القلوب ، وبكل حركة من حركات العقل ، تستيقظ وتتحرك وتهمس للحس وللقلب وللعقل بكلمة الله ، ليعيش الإنسان معها من جديد ، فيحس بالحنان والحب والعاطفة ، تهوي عليه من علياء الله ، الذي يعفو ويسامح ويرحم ويغفر ، فلا يشعر الإنسان بوجود حواجز تحول بينه وبين الأمل بالرحمة التي تكشف الضر عنه ، وتفرّج عنه غمّه وهمّه وكربه ، وهكذا ينطلق الإحساس بوجود الله في الأعماق ليدلّل على وحدانيته عن طريق الشعور والعقل ، لأن القلب لا يتجه إلا إليه عند الشعور بالخطر ، كما أن العقل لا يهتدي إلا إليه عند البحث عن سرّ الوجود.

وبهذا يتأكد الارتباط بين الخالق والمخلوق في عمق الوجود الإنساني ، ليكون الإحساس بالله الواحد ، هو العمق الروحي الذي يحكم حركة الإنسان في الحياة ، وهذا ما يعنيه الوجدان الذي يحس بالله ، قبل أن تحكم معادلات العقل بوجوده.

* * *

الشرك بالله عند الرخاء

ولكن الإنسان الذي يكتشف الله في حالة الاضطرار ، ويلجأ إليه من أجل دفع الضر عنه ، لا يستمر على حالته تلك ، بل يتبدّل ويتغيّر عند ابتعاده عن حالة الشدة إلى حالة الرخاء ، ويستسلم مجددا إلى شهواته ومطامعه ونزواته التي تبعده رويدا رويدا عن أصالة الشعور في وجدانه ، فينسى ربه ويغفل عن مسئوليته ، (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) فيعبدون غيره ،

٢٤١

ويلتزمون بغير دينه. ولكن ذلك لا يحكم الوجود الإنساني كله .. فهناك فريق آخر من الناس الذين يحافظون على نتائج الحركة الوجدانية ، في الشعور ومواقع الحركة العقلية في الفكر. ويبقى وعيهم العميق للتوحيد ، حيّا في ذواتهم ، نابضا بالحركة والحياة ، وتستمر أفكارهم ومشاعرهم في تغذية التزامهم بالخط المستقيم حتى النهاية ، في مواجهة الخط المنحرف الذي يلتزم به الكافرون الغافلون المستسلمون لشهواتهم (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من النعم ، فيجمّدوها بالفكر والممارسة ، ويمتنعوا عن شكرها. ولكن ماذا وراء ذلك وهل تستمر الحالة بهم في طريق الخلود؟ ليس من الضروري مناقشة المسألة معهم ، لأنهم ليسوا مستعدين للدخول في مناقشة هذه المسائل ... ولهذا كان الخطاب لهم بطريقة أخرى (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما هي العواقب الوخيمة التي تنتظركم ، وما هي النتائج السلبية التي تواجهكم ، عند الموت الذي تفقدون معه كل هذه المتع الحسية التي أخضعتم حياتكم لها ، وبعد الموت ، حيث تواجهون عذاب الله على ما قدمت أيديكم من الأعمال الشريرة.

* * *

٢٤٢

الآيات

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٦٠)

* * *

معاني المفردات

(كَظِيمٌ) : المغموم الممتلئ غيظا دون أن يبديه.

(يَتَوارى) : يستخفي.

(هُونٍ) : ذلة وخزي.

(يَدُسُّهُ) : يخفيه.

* * *

٢٤٣

ملامح انحراف عقيدي في مجتمع الدعوة الأول

للانحراف في العقيدة نتائج على مستوى التصور والممارسة ، في ما يمكن أن يجعله المنحرفون لآلهتهم المدّعاة من امتيازات ، وفي ما يمكن أن ينسبوه إلى الله من أمور ، لأن الأساس إذا لم يكن مرتكزا على قاعدة العلم والحجة ، فإن النتائج المتفرعة عنه ستخضع للهوى وللمزاج. وهذا نموذج مما كان مجتمع الدعوة الأول يعيشه من تصورات.

* * *

الشرك بالله عن جهل

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ) وهذا تعبير قرآني عن الآلهة التي يدعونها من دون الله باعتبار أنهم لا يرتكزون إلى قاعدة فكرية أو علم ثابت (نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) ، فكانوا يخصونها ببعض الأموال والأشياء ، ويخصون الله ببعضها الآخر. وقد أشار الله إلى ذلك في آية أخرى في قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الأنعام : ١٣٦] ولكن الله سبحانه ينكر عليهم ذلك ، لأنهم لا يملكون مثل هذا الجعل ، طالما أن الله هو مصدر الرزق ، مما يفرض أن يكون أمره إلى الله لا إليهم ، فليس لله حصة خاصة فيه ، بل هو لله كله ، هو الذي يجعله لهذا ولذاك في مجال التوزيع والتقسيم ، في ما يشرّعه من أحكام ، وليس لهم من ذلك أي نصيب (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ

٢٤٤

تَفْتَرُونَ) من هذه الأحكام.

* * *

مع صاحب الميزان في تفسير الآية

ولصاحب الميزان تفسير آخر للآية ، وذلك بأن يكون «المراد بما لا يعلمون ، الأسباب الظاهرة التي ينسبون إليها الآثار على سبيل الاستقلال ، وهم جاهلون بحقيقة حالها ، ولا علم لهم جازما أنها تضر وتنفع مع ما يرون من تخلّفها عن التأثير أحيانا. وإنما نسب إليهم أنهم يجعلون لها نصيبا من رزقهم مع أنهم يسندون الرزق إليها بالاستقلال من غير أن يذكروا الله معها ، ومقتضاه نفي التأثير عنه تعالى رأسا لا إشراكه معها لأن لهم علما فطريا بأن الله سبحانه له تأثير في الأمر» (١).

ولكن هذا لا يتناسب مع ظاهر الكلمات ، لأن مدلول عبارة (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) هو الحصة ، على نحو التمليك ، كما أن جوّ الآيات هو الحديث عن الأصنام التي يعبدونها من دون الله ، وهو الظاهر من كلمة (لِما لا يَعْلَمُونَ) لأنه أشبه بالمصطلح القرآني للشريك المعبود عندهم كما يوحي وصف المشركين بأنهم الذين لا يعلمون في قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) [البقرة : ١١٣] وذلك في مقابل أهل الكتاب ، مع أن أسلوب الآية هو نفسه الأسلوب الذي جاءت في سياقه آية تقسيم المشركين الحصص بين الله وبين الشركاء (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) كان العرب يفضلون الذكور على الإناث ولا يرون للبنت قيمة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية ، بل ينظرون إليها كمتاع ، ينتقل بالإرث إلى الولد الأكبر ، ولكن ما يميزها عن

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٢ ، ص : ٢٧٣ و ٢٧٤.

٢٤٥

المتاع أنها قد تجلب العار الى العشيرة عند ما تتعرض للسبي ، أو للاغتصاب ، وما إلى ذلك. ومما يلفت النظر أنهم كانوا ينسبون الإناث إلى الله فيقولون عن الملائكة إنهم بنات الله (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] ، كما جعلوا بينه وبين الجنة نسبا ، كما في بعض الآيات. وهكذا نسبوا الإناث إلى الله ، الذي جلّ عن أن يكون له ولد ، ذكرا كان أو أنثى. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه عليهم ، من خلال ما نستوحيه من جوّ الآية هو ، لماذا هذا التصنيف لما يعتبرونه ولدا لله ، وجعله في دائرة الإناث اللاتي لا يمثلن قيمة بالنسبة إليهم ولا يرضون لأنفسهم أن يكون أولادهم منهن ، لذا كانوا يقومون بوأدهن عند إنجابهن ، هل هي استهانة بمقام الله؟ أو هو تقدير خاطئ منهم ، نتيجة الفهم السيئ لطبيعة الملائكة أو الجن ، وعلاقتهم بالله؟

وليست الآية ـ كما توحي به ـ في معرض التنديد بهم لأن البنات لا يمثّلن قيمة لدى الله ، بل هو تنديد بهم لأنهم ينسبون إليه الولد ثم يجعلونه أنثى ، في الوقت الذي لا مجال لنسبة الولد إلى الله ، بالأساس ، ففي ذلك إساءة إلى مقام الله سبحانه ، من جهة مبدأ النسب ، ومن ناحية التطبيق في مفهومهم المنحرف حول الملائكة.

* * *

الاستياء من بشارة الأنثى

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) إن الأنثى تمثل مشكلة في المجتمع الجاهلي الذي يخاف من العار الذي تحمله لأهلها في حالات وقوعها تحت سيطرة الأعداء ، ولذلك فإن البشارة بها ، تعني البشارة بالعار

٢٤٦

القادم من خلالها. وهذا ما يفسر اسوداد وجهه بما تعبر عنه كلمة الاسوداد من ظلام وانفعال وتوتّر شديد ، تعبيرا عن الشعور بالمأزق الذي وقع فيه ، والعار المترتّب في دائرة احتمالات المستقبل ، وذلك في مقابل ابيضاض الوجه الذي يوحي بالإشراق الداخلي المنعكس عليه على أساس إشراقه المستقبل على مستوى المصير.

وهكذا يواجه الواحد منهم ولادة الأنثى بغيظ متفجر يحتبس في الصدر دون أن يتمكن من التعبير عنه بالقول أو الفعل لحراجة الموقف ، فيبقى كاظما لغيظه ، بانتظار أن يعبر عنه بطريقة أخرى (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) كأنه يفرّ من العار الذي أحاط به. (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) أي ذلة (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) وذلك بطريقة الوأد وهو دفنها حيّة.

* * *

تساوي الذكر والأنثى عند الله

(أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) لأن مثل هذا الانحراف في التصور لقضية الذكر والأنثى ، لا ينسجم مع ما جاءت به الرسالات السماوية من مفاهيم إنسانية تقضي بتساوي النظرة إلى كل منهما لجهة الطبيعة والقيمة والمسؤولية ، فإن الأنثى كما الذكر إنسان ، تقع استقامته أو انحرافه في دائرة مسئوليته الشخصية ، ولا تتعداها إلى الأهل والعشيرة ، بالتالي فإن شرفها وعارها يقع في تلك الدائرة أيضا ولا يتعداها ، وأي انحراف من المرأة يطال المجتمع بالعار يجب أن يكون كذلك بالنسبة للرجل على المستوى الإنساني وإلا فإنه يمثل انحيازا لا إنسانيا إلى جانب الرجل ، وحكما سيئا لا ينسجم مع العدالة الإنسانية والإلهية في التشريع ، كما أن عملهم هذا بإمساك الأنثى على أساس الذل والهوان ، أو وأدها في التراب وهي حيّة ، هو من الأعمال التي يحكم الله

٢٤٧

بسوئها في حساب النتائج.

* * *

مثل السوء لمنكري الآخرة

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) وذلك من خلال ما يحملونه من الفكر السيئ ، وما يمارسونه من الأعمال السيئة ، وما يخططون له من الأهداف الشريرة ، وما يأخذون به من الوسائل السيئة ، مما يجعل أيّة فكرة ، يمكن أن تكون تعبيرا ، عنهم مشحونة بالسوء ، من ناحية المعنى والإيحاء ، (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) الذي لا يصل إليه مخلوق ، لأن أيّة صفة من صفاته تمثل الامتداد الذي لا حدّ له في كل مجال ، ولأن أسماءه الحسنى تمثل التعبير الحيّ عن الحق كله ، وعن الخير كله ، وعن الرحمة كلها (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي لا يقترب أحد من ساحة عزته ، ليسيء إليها أو لينتقص منها ، كما لا يبلغ أحد من البشر مستوى حكمته التي أحاطت بتدبيرها كل شيء ، فكانت الحياة بجميع مظاهرها وقوانينها ، صورة ناطقة بأسرار حكمته ، في انطلاقة الوجود ، وفي حركته ، وفي تفاصيله المتنوعة في جميع الموجودات.

* * *

٢٤٨

الآيات

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٦٤)

* * *

إذا جاء الأجل فلا تقديم ولا تأخير

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو القادر على ذلك كله ، فهو الذي بدأ الحياة بقدرته ، وهو الذي يستطيع

٢٤٩

إلغاءها بإرادته التي لا يعجزها شيء ، لأنه مالك الموت والحياة. وإذا كانت المسألة مسألة الاستحقاق ، فإن الناس يستحقون ذلك لظلمهم أنفسهم بالكفر والمعصية ، وظلمهم الحياة بالزيف والانحراف ، وظلمهم بعضهم البعض بالقهر والغلبة ، ويمثل هذا الظلم ، في كل أنواعه وأشكاله ، ظلما لله ، في حقه على عباده ، لتوحيده ، ونفي الشركاء عنه ، والالتزام بطاعة أوامره ونواهيه ، والسير على خط إرادته فكرا وحركة ، من أجل تجسيد الأهداف الكبيرة والمثل العليا في الحياة. ولكن الله يمهلهم ليتراجعوا ، وليتوبوا ، وليستقيموا على الطريقة اللازمة ، حتى يستنفد كل تجربة ، فلا يبقى لهم مجال لأيّ عذر ، أمام الفرص المتاحة لهم في كل زمان ومكان ، حتى يبلغوا أجلهم الذي حدّده الله لهم ، بحسب حكمته (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) لأن ذلك الأجل يمثل إرادة الله ، وإذا أراد الله شيئا فلا رادّ له.

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) من البنات وغير البنات دون تبرير نسبة ذلك إليه في كلمات لا مسئولة ولا معنى لها ، ولا هدف من ورائها ، غير تعمد الإساءة إلى الله في تلك الكلمات ، وهو أصل يكاد يكون غير مفهوم ، لأنهم لا ينكرون ألوهيته ، الأمر الذي يفرض احترامه وإجلاله ، ولكنه الجهل الذي يؤدّي بأصحابه إلى الهلاك.

(وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) ذلك أن الكذب يطبع سلوكهم وحياتهم في كل ما يقولونه عن الله وعن الناس وعن أنفسهم ، لأنّ الذين لا يلتزمون بالحق في العقيدة ، ولا يتحملون مسئولية البحث عنه ، لا يمكن أن يحترموا الحقيقة في كلامهم ، على حساب نوازعهم الذاتية وشهواتهم ومطامعهم التي ينطلقون منها ويقررون على أساسها أن لهم الحسنى. وربما كان المراد بها الجنة التي قد يرون أنهم يستحقونها دون حجة تؤكد ذلك أو علم. ولكن الله يواجههم بالحقيقة الصارخة المنطلقة من شركهم وضلالهم وتمرّدهم على الله سبحانه (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي السابقون

٢٥٠

المقدّمون إلى عذاب النار ، لأن الفرط هو السبق ، والمفرط هو ما يقدم ليسبق فلا يؤجّل.

* * *

الشيطان يزين الأعمال

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) الرسالات التي تنظم حياتهم في جانب العقيدة والعمل ، على النهج الذي يضمن لهم سعادة في الدنيا والآخرة ، ولكنهم لم يأخذوا بالجانب الخيّر من هذه الرسالات ، بل أخذوا بالجانب المضاد لها ، وعملوا في اتجاه الشرّ (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) وصور لهم الباطل حقا ، وألبس الحق ثوب الباطل ، وأخذ من الحق شيئا ، ومن الباطل أشياء ، وجمعها في خليط هجين صنع منه خطا للعقيدة أو للسياسة أو للاجتماع ، وقاد الإنسان إلى السير عليه ، على أساس أنه خط الحق المستقيم ... وبذلك استطاع أن يجتذب مشاعرهم ويحتوي أفكارهم ، وحوّلهم إلى جماعة شيطانية ، تتأثر بأساليبه ، وتسكن إلى أفكاره (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) في ما تمثله الولاية من النصرة والالتزام والاتباع ، وبذلك ابتعدوا عن مواقع رحمة الله وخرجوا عن ولايته إلى ولاية الشيطان وابتعدوا بذلك عن مواقع رحمة الله (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) جزاء على انحرافهم عن الخط المستقيم.

ولكن الله لا يترك عباده للشيطان بل يتابع عملية إرسال الرسل إليهم ، من أجل فرصة جديدة للهداية وللتوعية وللالتزام ، وذلك ، على أساس الثقة بالإنسان الذي قد تبعده بعض الظروف أو الأوضاع ، أو النوازع ، بما تثيره فيه من شبهات وشكوك ومشاكل ، عن رؤية الحق كما هو ، وتقوده بالتالي إلى الضلال. ولكنه يمكن أن يتوقف في بعض الأحيان ليطرح علامات الاستفهام حول المؤثرات الذاتية أو الموضوعية التي ساهمت في تكوين قناعاته أمام

٢٥١

الفكر الجديد الذي يدعوه إلى التفكير وإعادة النظر في ما اتخذه من قرارات ، ويصل بالتالي إلى تغيير الاتجاه الذي انحرف معه. ولهذا كان تتابع الرسالات يمثل استمرارية العمل على الوصول بالإنسان إلى الحق الذي لا ريب فيه ، من خلال الوحي وما يتضمنه من فكر وشريعة ومنهج واضح ، ومن خلال الرسول وما يمثله من خلق عظيم ، وروح منفتحة ، وأسلوب حكيم. (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) مما أثارته الأفكار المريضة من شكوك وشبهات وخلافات ، فيكتشفون فيه طريق اليقين الذي يمتص كل شبهة وشك وخلاف (وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ، انفتحت قلوبهم على الله ، فالتقت بهداه في آيات وحيه ، وبرحمته في آفاق شريعته ومنهجه العملي للحياة.

* * *

٢٥٢

الآيات

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٧١)

* * *

معاني المفردات

(فَرْثٍ) : ما يبقى من المأكول في الكرش بعد الهضم ويسمى الثفل.

(سائِغاً) : ما سهل مروره في الحلق.

٢٥٣

(يَعْرِشُونَ) : يرفعون من الكروم والسقوف.

* * *

جولة كونية في آفاق نعم الله

وهذه جولة كونية في آفاق نعم الله التي خلقها لعباده من أجل أن تستمر بها حياتهم ، وتتلون بأنواع الملذات والمشتهيات ، ليعبدوه ، من موقع أنه الإله المنعم الواحد ، وليشكروه من مواقع هذه النعم التي لا حياة لهم بدونها. وذلك هو الأسلوب القرآني في إثارة وعي الإنسان بربه ، من خلال انفتاحه على الحياة ، حيث تتحرك خطوات العقيدة في فكره من تحسس الحياة في وجدانه ، فلا ينفصل جانب العقيدة عن جانب الحياة ، وهكذا يحس الإنسان المؤمن بحضور الله معه من خلال كل النعم التي تحيط به من كل جانب.

* * *

نعمة إنزال المطر

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) وكانت الأرض جرداء لا تنبت شيئا ، وميتة لا تنتج ولا تنمو فيها أيّة بذرة للحياة. حتى إذا نزل عليها المطر من السماء ، وابتلت عروقها بقطراته ، وامتلأت خزاناتها بمياهه ، دبت فيها الحياة (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها). وذلك هو سرّ تجدد الحياة بالماء ، الأمر الذي يدفع بالإنسان إلى التفكير في عظمة الله الذي أبدع الحياة في الأرض ، كما أبدعها في الإنسان (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) فيصغون بمسامع قلوبهم لما يسمعونه من دلائل القدرة ، أو لما يشاهدونه منها ، فيكون ذلك أساسا للقبول والقناعة ، لما توحيه

٢٥٤

الكلمة المألوفة في التعبير عن الموافقة بالسماع ، في قولهم : إن فلانا يسمع الكلام ، أي يقبله.

* * *

نعمة الأنعام وأخذ العبرة منها

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) ودرسا للإبداع الإلهي في خلقه ، وفي نعمته ، في الإبل والبقر والغنم (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) أي في بطون ما ذكر منها (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ) وهو الثفل الذي ينزل إلى الكرش والأمعاء (وَدَمٍ) في مجرى الشرايين والأوردة (لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) ، وهذا هو مكان اللبن الخارج منها الذي يقع في مؤخر البطن بين الرجلين ، ولعل اعتبار اللبن بين الفرث والدم راجع إلى مجاورته لهما ، واجتماع الجميع داخل الحيوان. أما العبرة من ذلك ، فهو أن هذا اللبن السائغ اللذيذ الخالص لم يتلوث بالفرث وبالدم ، ولم يختلط بشيء منهما ، بالرغم من مجاورته لهما ، مما يوحي بالقدرة الإلهية التي تجمع كل هذه الأشياء المتنوعة دون أن يتأثر أحدها بالآخر ، مع قربها من بعضها البعض ، ودقّة الحاجز الفاصل بينهما. وربما كان في هذا إيحاء بأن القادر على تخليص اللبن من بين فرث ودم ، لا يعجزه أن يبعث الإنسان ويحييه بعد أن صار عظاما رميما وذهبت في الأرض أجزاؤه ...

* * *

إنعام الله بأنواع الثمرات

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) وفي إمكانية تحول هذه الثمرات إلى شراب مسكر ، ما يدفع الإنسان إلى التفكير في القدرة الإلهية التي

٢٥٥

يجسدها ذاك التحول على الرغم من كونه لا يمثل صلاحا للإنسان بل فسادا له ، ولكن الآية لا تتناول تلك الخصوصية لجهة القيمة بل لجهة القدرة ، وبهذا يجاب عن السؤال الذي يثأر أمامنا حول الحديث عن السكر كنعمة وكقيمة إيجابيّة ، في الوقت الذي حرّم الله فيه الخمر أشدّ التحريم ، فقد اعتبرها رجسا من عمل الشيطان ، ووسيلة من وسائل إثارة العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، فإن القضية قضية الخصائص الذاتية ، لا الخصائص الروحية ... ولعلنا نلاحظ في الفقرة التالية (وَرِزْقاً حَسَناً) أنه وصف الرزق بالحسن ، وهو ما لم يصف به الكلمة السابقة ، للإيحاء بالصفة المضادّة لمضمونها ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ممن يستعملون عقولهم لدراسة الخصائص الدالة على سر العظمة في الخالق من خلال سرّ الإبداع في المخلوق .. فمهمة العقل لدى العقلاء ، أن يتحرك في الاتجاه الذي يمنحهم فكرة جديدة ، أو تجربة نافعة ، لأن ذلك هو السبيل الذي يوصلهم إلى العقيدة الصحيحة ، والرؤية الواضحة ، بعيدا عن كل انحراف أو تحريف أو التواء.

* * *

وحي الله إلى النحل

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ). ويريد الله لنا أن نتطلع إلى النحل ، هذا المخلوق الصغير العجيب الذي يبني بيوته في الجبال وفي الشجر وفي الكروم التي يرفعونها ، على مستوى عال من الصنعة الهندسية ، كما يتبع نظاما متقدما في توزيع المسؤوليات وتجميع العسل وفحص نوعية الغذاء الذي يتشكل منه قبل فرزه ، في نظام دقيق متقن لكل خطوات حياة هذه المخلوقات التي لا تملك عقلا ، والتي تشكل الفطرة أساسا لحركة حياتها ، ضمن السنّة الكونية التي ألهم الله فيها كل نفس هداها ، لتحقق

٢٥٦

الغاية من وجودها ، لنفسها وللمخلوقات من حولها. وهكذا كان وحي الله للنحل أن تتخذ لنفسها بيوتا ، ثم أن تبدأ في الإعداد للقيام بدورها الطبيعي الذي أعدها الله له ، من أجل استمرار حياتها ، في ما فيه النفع للناس (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) التي تشتمل على العناصر الغذائية المتناسبة مع طبيعة الشراب الذي تريدين تحضيره وصناعته (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) في ما ذلّله الله لك من وسائل للحصول على ما تريدين ، فإن الله قد جرت حكمته أن يلهم المخلوقات ما تعمله ، وأن يسهّل لها السبيل إلى ذلك. وبذلك تكون النتيجة الطيبة الحلوة من ذلك كله ، في ما يتعلق بالنحل ، (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) تبعا لنوعية الغذاء الذي تتغذى به بين الأبيض والأحمر والأصفر (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) من كثير من الأمراض. وقد لا يكون من الضروري أن يكون فيه شفاء لكل الأمراض (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في ما تستدعيه من تفكير في دلالاتها وفي طبيعة العقيدة التوحيدية التي توحي بأن الله وراء ذلك كله ، وأنه هو السرّ في كل تفاصيل الوجود البديعة في مخلوقاته وفي منتوجاته.

وقد نقل بعض المفسرين ، عن بعض المختصين ، أنه اكتشف أخيرا ، أن بعض النحل عند ما ترتفع درجة الحرارة ، ينقل الماء في خراطيمه ويرشّه داخل الخليّة ، في حين يهز بعضه أجنحته ليحرك تيارات من الهواء داخلها فيتبخر الماء بسرعة ، ومع التبخر تنخفض درجة الحرارة ، وهذا بعض من الخصائص الكثيرة التي أودعها الله في نظام خلق النحل وطريقة حياته مما لا يتّسع هذا التفسير للحديث عنه ، فليرجع إلى الكتب المختصة في هذا الموضوع.

* * *

الله وحده محدد أجال الناس

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) في الأجل المحدّد لكم الذي قد يأتيكم وأنتم

٢٥٧

في طور الصبا أو في مرحلة الشباب ، أو في مرحلة الكهولة (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهو الهرم الذي يمثل حالة الوهن والضعف والشيخوخة المتقدمة التي يستولي فيها الضعف على الجسم والعقل والذاكرة (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) فينسى كل معلوماته أو أكثرها ، ويفقد التركيز في ذلك كله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) فلا يعزب عن علمه شيء ، في كل حركة مخلوقاته ، وهو القادر على كل شيء ، فإذا تعلقت إرادته بشيء فلا رادّ لها.

* * *

التفضيل في الرزق

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) فلكل واحد منكم قدرته الذاتية التي قد تختلف عن قدرة غيره. وربما تكون فرص الإنتاج لدى شخص ، مختلفة عن الفرص الموجودة لدى شخص آخر. وهكذا تختلف ساحة العمل ، ومراحله ، وعلاقاته ، وأوضاعه ، مما قد يساهم في حصول بعض الناس على رزق أكثر سعة من بعضهم الآخر ، وبذلك يتفاضل الناس في الرزق ، فيصبح بعضهم غنيا وبعضهم الآخر فقيرا ، تبعا لحركة الأسباب والمسببات في ذلك. وبذلك لا تكون المسألة خارجة عن عنصر الاختيار لدى الإنسان بشكل مطلق ، بل قد يكون ذلك اختياريا في بعض حالاته ، كمن يملك إمكانية العمل فلا يعمل ، أو كمن تتوفر له الظروف الملائمة للإنتاج فلا ينتهزها ، وقد لا يكون اختياريا ، كمن وضعته الظروف في دائرة ضيقة لا يستطيع الخروج منها ، أو كمن يتحرك في دائرة واسعة تسمح له بالامتداد أو تحقق له الغنى بطريقة حتمية.

وهكذا تكون مسألة الرزق خاضعة للنظام الكوني الذي أراد الله للإنسان

٢٥٨

أن يتحرك فيه ، على أساس الحكمة. وتلك هي الحقيقة الكونية التي أقام الله الحياة عليها ، حيث تحكم قاعدة التنوّع والتفاضل في كل دوائر الوجود الحية والجامدة. ولكنه لم يترك للقاعدة التكوينية أن تحكم الإنسان بشكل قدري يحول الفقر والغنى إلى معيار تتحدد على أساسه قيمة الذات ، بل وضع نظاما تشريعيا يخلق التوازن بينهما على خط العدالة ، فجعل للفقير حقا في مال الغنيّ لا هدر لكرامته في أخذه ، كما جعل العطاء فريضة على الغني لا امتياز له فيه.

ولكن هذا الحديث كله ليس ما تريد الآية أن تثيره وتفيض فيه ، بل هو مقدّمة لحديث آخر يتعلق بحركة العقيدة في وعي الإنسان لقضية التوحيد لله (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي فإذا كان الله قد فضّل بعض الناس على بعض في الرزق ، فإن الذين فضلوا لا يقبلون بالتنازل عما يملكونه من امتيازات ، لمن ملكوه من عبيد وإماء ليكونوا سواء في ذلك ، فكيف يمكن أن تساووا الله الذي يملك القدرة كلها بهؤلاء الشركاء الذين تدعونهم من دون الله الذي لا يملكون شيئا معه؟! هذا أحد الوجوه التي ذكرت في تفسير هذه الفقرة من الآية.

وقد ذكر هناك وجه آخر ـ كما جاء في الكشاف ـ : «إن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعا ، فهم في رزقي سواء ، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئا من الرزق ، فإنما ذلك رزقي أجريه إليهم على أيديهم» (١).

وهناك وجه ثالث ـ ذكره الزمخشري ـ قال : «أي جعلكم متفاوتين في الرزق ، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم ،

__________________

(١) الزمخشري ، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر (الخوارزمي) ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، دار الفكر ، ج : ٢ ، ص ٤١٩.

٢٥٩

فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في الملبس والمطعم» (١).

ولكن مدلول منطوق الآية ليس ظاهرا في ذلك كله ، لأن كل ما جاء فيه هو أن الذين فضلهم الله على الآخرين في الرزق ، ليسوا مستعدين للتنازل عما فضلهم الله به ، إلى هؤلاء الذين فضلهم الله عليهم ، وجعلهم مملوكين لهم ، ليتساووا معهم في الرزق ، أو أن المسألة تمثل حالة طبيعية في استمرار هذا التفضيل ، في ما يعيشه هؤلاء من شعور وامتياز ، مما يحملهم على المحافظة على ما هم فيه ، بعدم التنازل عنه للطبقات الأخرى. وبذلك تكون الآية واردة في الحديث عن تأكيد هذه النعمة للإيحاء بضرورة الشعور بقيمتها في حياة الإنسان ، لأن الغفلة عنها ، نظريا أو عمليا ، يعتبر جحودا للنعمة ، لا يريد الله لعباده أن يعيشوه في سلوكهم العقيدي العام (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) في ما يمثله النسيان لهذه النعمة من جحود على مستوى الحالة الذهنية ، أو لما يمثله الشرك بالله وعبادة غيره من جحود واقعي عملي ، بعد الانتباه بأن الله هو وحده المنعم ، في ما يفرضه شكر النعمة من الإخلاص لله بتوحيده في العقيدة أو في العبادة.

* * *

__________________

(١) م. س. ، ج : ٢ ، ص : ٤١٨.

٢٦٠