تفسير من وحي القرآن - ج ١٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٦

معاني المفردات

(تُسِيمُونَ) : سامت الماشية ، إذا رعت ، أي ترعون أنعامكم من النبات من غير كلفة.

(ذَرَأَ) : خلق.

(مَواخِرَ) : جمع ماخرة ، والمخر شق الماء ، يقال مخرت السفينة أي جرت وشقت الماء يمينا وشمالا.

(تَمِيدَ) : تميل وتضطرب.

(وَعَلاماتٍ) : العلامات ، المعالم التي يستدل بها على الطريق.

* * *

بعض ما أودع الله في الكون من النعم

ويستمر الأسلوب القرآني في تربية الإنسان على تنمية التصور الفكري والروحي لعقيدة التوحيد ، من خلال ما أودعه الله في الكون من مواقع نعمه وأسرار عظمته ، في ما يريد الله له أن يفكر به ، ويحرك عقله في آفاقه ، ويهتدي به ، ويتذكر ما يقبل عليه من مصير وما يجب أن يواجهه من مسئولية.

وتلك هي قصة التربية القرآنية التي تؤكد ـ دائما ـ على الفكر أن يتحرك ، وعلى العقل أن يناقش ، ليكون سبيلا للهداية ، ومنطلقا للوعي والتذكّر ، فيستنطق كل ما حوله ، وكل من حوله ، في عملية استيحاء واستذكار ، واستنتاج للفكرة الهادية والخط المستقيم ، فلا يكون البصر مصدر

٢٠١

استمتاع للهو ، بل مصدر معرفة للعبرة ، ولا تكون الأشياء المحيطة به أو الموجودة أمامه ، مجرد جوامد في معطياتها الفكرية والروحية ، بل يتحوّل الكون بذلك إلى مدرسة فكرية وروحية ، تغني التجربة ، وتمد الفكر بكل ألوان التصور في جانب الفكر والعقيدة ، وتوجّه الإنسان إلى المنهج الذي يجعل من العقيدة حالة حيّة في الواقع ، بدلا من أن تكون حالة جامدة في الطريقة النظرية في التفكير.

* * *

نعمة الماء على الإنسان

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ) لتستفيدوا منه في تنمية حياتكم وتطويرها (مِنْهُ شَرابٌ) تشربون منه ، أنتم وأنعامكم ، وكل شيء حيّ يحتاج إلى الماء في استمرار وجوده (وَمِنْهُ شَجَرٌ) ترتوي بذورها الأولى بالماء فتنمو ، وتمتد جذورها في الأرض ، وترتفع أغصانها في الفضاء ، وتتدلّى أثمارها من الأغصان ، (فِيهِ تُسِيمُونَ) من السوم وهو رعي الماشية ، التي تتغذّى بأوراق الشجر ، لتكون غذاء لكم بعد نموّها وقوّتها. ويفصّل القرآن هنا في شأن النبات الذي يستمد قدرته على الحياة والنموّ والامتداد من الماء الذي أنزله الله لتكون منه حياة كل شيء (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) التي تتنوع بأشكالها وخصائصها ، مما لم تعتادوه أو تشاهدوه أو تكتشفوه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ذلك أن التفكير في خصائص هذه النباتات يقود إلى اكتشاف سرّ عظمة الله ورحمته وقدرته المتجلية فيها.

* * *

٢٠٢

تسخير الشمس والقمر والليل والنهار

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) لجهة تنظيم حياتكم بين النوم واليقظة والراحة والعمل ، والاستفادة من حركة الشمس والقمر والنجوم ، من خلال الخصائص الكونية التي أودعها الله في هذه المخلوقات ، مما يؤثر في حياة الإنسان والنبات وكل ما في الأرض والفضاء من موجودات وأوضاع ، فينعكس على الإنسان في أصل وجوده وفي نموّه وامتداده و (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) إذ يعملون عقولهم في اكتشاف أسرارها وآثارها ، ليتعرفوا من ذلك على مدى تكريم الله للإنسان ، فقد خلقه في هذه الأرض ، وأعدّ له في آفاقها الكونية في السماء ، كل ما يمكن أن يكون مصدر راحة وخير وحياة ، ليلتقوا ـ من خلال ذلك ـ بالحقيقة الإلهية التي ترعى الحياة بالحكمة ، والإنسان بالرحمة ، (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) وما خلق من أصناف الأشياء المودعة في الأرض ، في ظاهرها وباطنها ، من معادن ومركّبات ، مما ينتفع به الإنسان ، وتتكامل به حركة الحياة في طريق النموّ والتطوّر ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) بما توحيه كلمة التذكر من وعي للكون والواقع والمصير ، مما يجعل الإنسان يتوقف أمام كل شيء يراه أو يسمعه أو يلمسه أو يكتشفه ، ليجعله موضع دراسة وتجربة ، ومصدر معرفة واستذكار للنتائج الإيجابية أو السلبية التي يواجهها ، تبعا للتخطيط الدقيق الذي يخضع له حياته.

وقد حاول صاحب تفسير الميزان أن يتوقف أمام اختلاف الكلمات في الآيات الثلاث ، التي قد يكون المعنى فيها واحدا ، وذلك في قوله «يتفكرون» و «يعقلون» و «يذكّرون» ، ليستوحي منها اختلاف الموقع في كل واحدة منها.

٢٠٣

قال ـ رحمه‌الله ـ : «وهذه حجج ثلاث ، نسب الأولى إلى الذين يتفكرون ، والثانية إلى الذين يعقلون ، والثالثة إلى الذين يتذكرون ، وذلك أن الحجة الأولى مؤلفة من مقدمات ساذجة يكفي في إنتاجها مطلق التفكر ، والثانية مؤلفة من مقدمات علمية لا يتيسر فهمها إلا لمن غار في أوضاع الأجرام العلوية والسفلية وعقل آثار حركاتها وانتقالاتها ، والثالثة مؤلفة من مقدمات كلية فلسفية إنما ينالها الإنسان بتذكر ما للوجود من الأحكام العامة الكلية كاحتياج هذه النشأة المتغيرة إلى المادة ، وكون المادة العامة واحدة متشابهة الأمر ، ووجوب انتهاء هذه الاختلافات الحقيقية إلى أمر آخر وراء المادة الواحدة المتشابهة» (١).

ولكن نرى في ذلك لونا من التكلف ، لأن إدراك الصلة بين هذه الأمور في خصائصها العلمية وأسرارها الكونية ، يحتاج إلى فكر وعلم يتحركان في دائرة العقل ، وينطلقان من وعي يعتبر المعرفة مصدرا للتذكر والاعتبار ، فليست المسألة مسألة حاجة الأولى إلى مطلق التفكر ، والثانية إلى عمق التصور العقلي ، والثالثة إلى حركة الفكر الفلسفي ، بل المسألة هي تنوع في التعبير البلاغي ، لأن فهم خصائص كل منها سواء أكان في الأرض أم في السماء ، يحتاج إلى عمق في الدراسة ، وإلى جهد في الاكتشاف ، أما الربط بينها وبين الحقيقة الإلهية ، فإنه يحتاج إلى إعمال الفكر والعقل للوصول إلى التذكر والاستنتاج من خلال المعرفة.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٢ ، ص : ٢١٥.

٢٠٤

خيرات الأرض ونعمها

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) بما أودعه فيه من أسماك تصطادونها بسهولة ، لما هيّأه لكم من وسائل الصيد (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) من اللؤلؤ والمرجان وغيرهما من الأصداف والقواقع التي تستخرج من البحر. (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) تشق الماء وتفرّق العباب ، لتحقق للإنسان الكثير من منافع الانتقال إلى أماكن بعيدة ، لا طريق لها إلا البحر الذي سخره الله له ، بإخضاع قوانينه لخدمته ، عبر ما ألهمه إياه من اكتشاف الوسائل التي تسيطر على جبروته وأهواله (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) من خلال ركوبكم البحر ووصولكم إلى مصادر الرزق في المناطق البعيدة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على ما رزقكم إياه وأعدّه لكم من وسائل العيش ، وأصناف الرزق ، وعلى ما سخّره لكم من مخلوقاته.

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) وهي الجبال الرواسي التي تحفظ للأرض توازنها ، حتى لا تهتز بالإنسان ، فتمنعه من الاستقرار عليها. ويعلل علماء الطبيعة وجودها بنظريات كثيرة منها : «أن جوف الأرض الملتهب يبرد فينكمش ، فتتقلص القشرة الأرضية من فوقه ، وتتجمّد فتكوّن الجبال والمرتفعات ، والمنخفضات ، (وَأَنْهاراً) صنعت مما تشتمل عليه الجبال من ثلوج تذوب في الصيف ، فتجري لتتكون منها الأنهار (وَسُبُلاً) وطرقا يسلكها الناس بين الجبال والسهول ، لتسهل للإنسان الانتقال من مكان إلى مكان (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) ، في ما جعله الله لهم من دلائل توضّح مسالك الطرق ، وتمنعهم من الحيرة والضياع على الأرض ، أمّا في الصحراء والبحار حيث لا علامات منصوبة مميّزة ، فإن الله ألهمهم الاهتداء بالنجم ، من خلال خارطة السماء التي اكتشفوا ما تبينه من طريق السير.

* * *

٢٠٥

نعم الله لا تحصى

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وكيف تفكّرون؟ وما هو الأساس الذي ترتكزون عليه في شرككم بالله عقيدة أو عبادة ، وفي اتخاذكم أشخاصا أو أوثانا ، لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا آلهة من دون الله. إن الألوهية لا ترتبط بالمعنى النفسي الذي نعيشه تجاه الإله ، ولا بالمظهر الشكلي له ، ولا بالأسرار الغامضة التي تحيط به ، ولا بالمعاني الغيبيّة التي نصنعها له ، ولكنها ترتبط بالقدرة المطلقة التي تبدع الوجود من قلب العدم ، وتخلقه خلقا جديدا ، فيتحوّل إلى كون ونظام وحياة ، تشمل الوجود كله. وهو الله الواحد الأحد الذي يرجع كل شيء إليه ، وتصدر كل حياة منه ، فهو الذي خلق الأشياء كلها بقدرته. وهو بذلك لا يمكن أن تشركوا به ، موجودا ضعيفا ، لا يملك أية حياة في وجوده ، فكيف يمكن أن يعطي الحياة لغيره ، وكيف يمكن إحداث التعادل بينه وبين الله سبحانه وتعالى؟! ولكنها الغفلة عن الحقيقة الإلهية التي لا ريب فيها ، أفلا تذكرون ، وهو المنعم الذي أعطى الخلق كله الحياة ، وزوّدها بكل ما يكفل لها القوّة والنموّ والاستمرار ، وأعطى الإنسان الكثير من ذلك ، في ما سخر له من طاقات الكون الحيّة والجامدة لتكون ، بأجمعها ، في خدمته.

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) فكيف تنكرون الله ، وهو الحاضر في وجودكم مع كل نعمة ، في ما تفكرون وتبصرون ، وفي ما تسمعون وتلمسون ، أو تأكلون أو تشربون ... وكيف لا تشكرونه على ذلك كله؟ (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لكم ذنوبكم على الرغم من ذلك ، إذا رجعتم عن الخطأ ، ويرحمكم إذا انتبهتم للانحراف وتحركتم في خط الاستقامة. وتستمر النعم الكثيرة ، بالتساقط عليكم بالخير والرحمة والبركة كل صباح ومساء ، دون

٢٠٦

أن تنقطع لذنب أذنبتموه ، أو لخطأ ارتكبتموه. وماذا بعد ذلك؟ هل تستطيعون الاختباء من الله وراء الحواجز التي تحجبكم عن بعضكم البعض ، وتؤمن لأسراركم الحماية من الآخرين ، في ما يصدر عنكم من أخطاء ومشاكل وأوضاع ، (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) ، فهو الحاضر معكم في كل ساحة من ساحات حياتكم الداخلية والخارجية ، فكيف يمكن أن يكون كفركم وضلالكم وإنكاركم لله وشرككم به سرّا عليه (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) وكيف يمكن أن تكون عبادتكم لمن لا يبتعد في مستواه عن أصغر مخلوق لله فضلا عن عدم ارتفاعه إلى مقام الألوهية؟ فليس هذا إلا دليلا على موت الفكر والقلب والضمير ، نتيجة الغفلة المطبقة التي تحجب عن الإنسان رؤية الأشياء بحجمها الطبيعيّ ، كما تمنعه من رؤية المصير كله ... إنه الموت الحقيقي ، لأن الحياة تفقد معناها معه (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ، فهم يتحركون كما لو كانوا يسيرون في ظلام يطبق على الحياة كلها حتى يلغيها ، فلا يعرفون الزمن الذي يستفيقون فيه ليواجهوا المسؤولية أمام الله الذي لا رب سواه.

* * *

٢٠٧

الآيتان

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)(٢٣)

* * *

عدم الإيمان بوحدانية الله استكبار

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) إن وحدانية الله حقيقة واضحة لا يغفل عنها أيّ عقل يفكر بمسؤولية ولا يبتعد عنها قلب يتحسس الواقع ، وهو تصور صاف يعطي الحياة معناها ، ويمنح الإنسان سرّ حياته ، حيث لا يمكن أن ينفصل إحساس الإنسان بالحياة ، عن إحساسه بالوحدانية الإلهية التي منحته الحياة.

(فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) تنكر حقيقة التوحيد ، وتلتقي بباطل الشرك ، ولكن لا من موقع القناعة ، بل من موقع الاستكبار ، لأنها ترفض اللقاء بالحقيقة من خلال الفكر المسؤول ، والإحساس النقيّ ، أو من خلال الوحي الذي يحمله بشر ، لا يملك مالا أو جاها يقويه ، ولا يملك ما

٢٠٨

يميزه عن غيره من البشر ، كما يتميز الملك عن البشر في خلقه وارتفاع مقامه في رحاب السماء ، ولذلك فلا مجال للتفكير بما يطرح ، وللحوار معه ، لأن المسألة مسألة شخصية الرسول ، لا شخصية الرسالة ، ومستوى الموقع لا مستوى الفكر ، خاصة إذا كان الرسول فقيرا أو يتيما أو غير منتم إلى الطبقات العليا في المجتمع ، فإن ذلك يحسم مسألة الرفض لكل ما عنده ، دون سؤال (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) في تفكيرهم الذي يتحرك من موقع فوقي يمنعهم من احترام فكر الآخرين ، وفي مشاعرهم ، التي تتحكم فيها عقدة الكبرياء وتمنع عنها التفاعل بمحبة مع مشاعر الآخرين. وبذلك لا يكون الاستكبار حالة اجتماعية منحرفة ، بل يتحول إلى نوع من الانحراف الثقافي والعقيدي والروحي ، الناشئ من الإصرار على الرأي الخاطئ تحت تأثير الحالة النفسية المعقّدة.

ولكنهم يحاولون أن يغطّوا هذه الحالة السلبية المعقّدة فيهم والإيحاء بأن رفضهم للعقيدة الجديدة أو للرسول ، ينطلق من موقف فكري حقيقيّ ، موضوعه اختلاف المفاهيم الفكرية التي يحملونها عن قناعة عما تطرحه دعوة الرسول من قضايا ومفاهيم ، لإكساب معارضتهم نوعا من الاحترام أمام جماعاتهم ، كي لا تتحول إلى موقف عناد وتمرّد دون أساس. ولكن الله يفضح المسألة كلها ، لأنه يعلم خفايا الأشياء كما يعلم ظواهرها (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) فلا يمكنهم إخفاء حقيقة الموقف عنه ، لأن علمه ينفذ إلى ما يفكرون ، حتى يطلع على وساوس الصدور وخائنة الأعين ، الأمر الذي يفقدهم محبة الله ، لاطلاعه على طبيعة الكبرياء المعقّدة في مواقفهم (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) لأن الاستكبار لا يمثل موقف انفتاح إنسانيّ ، بل يمثل حالة انغلاق معقّد شيطانيّ مرفوض من الله ورسالاته ، لأنه يقهر إنسانية المستضعفين من الناس ، وينحرف بالتفكير إلى اتجاه مضاد للحقيقة ، ويحوّل الحياة ـ من حوله ـ إلى ما يشبه الجحيم.

* * *

٢٠٩

الآيات

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)(٢٩)

* * *

معاني المفردات

(أَساطِيرُ) : جمع أسطورة وهي الشيء المسطور في الكتب من غير دليل على صحته.

(أَوْزارِ) : آثامهم.

٢١٠

(الْقَواعِدِ) : جمع قاعدة ، أي الدعامة.

(السَّلَمَ) : الاستسلام.

(مَثْوَى) : مكان الثواء والإقامة.

* * *

منطق المستكبرين ومصيرهم في الآخرة

ما هو منطق هؤلاء المستكبرين في مواجهتهم للرسالة؟ وما هو مصيرهم في الآخرة ، وما هو موقفهم من نتائج المسؤولية هناك ، أمام استحقاقات المصير؟

* * *

رفض المستكبرين لما أنزل الله

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) ، هل فكرتم في مضمونه ، وفي ما يؤكده من كلمة الله الفاصلة في قضايا العقيدة والشريعة وحركة الحياة ، وهل حاولتم الانفتاح عليه من موقع التأمل والحوار لتصلوا إلى الحقيقة الكاملة الكامنة فيه؟ فالانطلاق من موقع الحوار أو التأمل يؤمن للفكرة نضجا وعمقا وثباتا ، وهو موقع مسئول لم يعتمده المستكبرون في مواجهة الرسالة لعدم رغبتهم في التنازل عن مواقعهم العقيدية الموروثة عن آبائهم وعن تقاليدهم وعاداتهم المرتكزة على مفاهيم الجاهلية ، الرافضة للتغيير. لذا فإنهم يواجهون الدعوة بمواقف انفعالية يعبرون عنها بسلوكهم وكلماتهم ، حتى إذا ما سئلوا عما أنزل الله عليهم ـ من خلال رسوله ـ وعن قيمته الفكرية ، (قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) في ما يقصه من حكايات تشبه الخرافات والأساطير ، وما يذكره عن الآخرة ،

٢١١

في نعيمها وجحيمها ، وفي كل ما تشتمل عليه من أجواء ومواقف وقضايا ومفاهيم. ولكن ما هو مفهومهم عن الأسطورة؟ هل هي القصة أو الفكرة التي لا تتناسب مع مألوفاتهم ، أو هي ما لا يتناسب مع مقاييس الواقع؟ وما هي مفاهيمهم حول الغيب؟ وهل يمكن اعتبار أيّة قضية غيبيّة خرافة ، حتى لو كان للغيب أساس يقر العقل بواقعيته؟

إنها علامات استفهام ترتسم أمام الذهن ، عند ما يسمع مثل هذا الحكم الانفعاليّ السريع الذي يلتقي فيه أولئك المستكبرون ، مع كثير ممن يطلقون على التفكير الديني ، أو القصص الديني ، صفة «الأسطورة» دون الدخول في حوار فكري حول مفهوم الكلمة ، وطبيعة القصة ودائرة الفكر.

إنهم يطلقونها شتائم هدفها محاربة طروحات الرسالة ، بإثارة الأجواء التي تهزم الفكرة عبر خلق حالة انفعال تثير الدخان الذي يحجب الفكرة عن أجواء الصفاء والهدوء. وهذا هو الأسلوب السلبي الذي يحمل أصحابه المسؤولية أمام الله ، لأنهم بذلك لا يخطئون في قضية شخصية ضد شخص آخر ، بل يتحول الخطأ إلى جريمة في حقّ الأمة التي يبتعد بها هذا الأسلوب عن الوعي والروحية والشرعية التي تحكم حركة الواقع للناس. وهذا ما أرادت الآية التالية تقريره بشكل حاسم (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، أوزار إساءتهم إلى أنفسهم في الانحراف عن خط الاستقامة في جانب العقيدة والعمل ، (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) في ما يبعدونهم عن الحق ، فيتحولون ـ من خلال ذلك ـ إلى عناصر كافرة أو ضالّة ، بكل ما يمثله الكفر والضلال من جريمة بحق مصيرهم في الدنيا والآخرة ، من دون أن يرجع ذلك إلى أساس من علم ، بما يقتضيه العلم من حجّة تتحرك في خط الحوار أو برهان ينطلق في حركة العقل (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) بما يعنيه الوزر من الثقل الذي يطبق بنتائجه السلبية ، وبعواقبه الوخيمة ، على الروح والحياة والمصير. وأيّ وزر أكثر سوءا من هذا الوزر الذي يدفع بالإنسان إلى نار جهنم ، وغضب الله وسخطه!

* * *

٢١٢

العذاب كان مصير المستكبرين من قبل

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فحاولوا أن يدبّروا المكائد ، ويخطّطوا لتهديم أسس العقيدة التوحيدية ، في فكر الإنسان وحياته. ولكن الله عطل كل مؤامراتهم من حيث لا يشعرون (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) فهدّم كل ركائزهم الفكرية ، من الكفر والشرك والضلال ، في الفكرة والمنهج والأسلوب ، وذلك من خلال قوّة الركائز التي انطلق منها الإيمان والتوحيد والرشاد.

(فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) لأنّ أيّ سقف ، مهما كانت قوّته ، لا يمكن أن يحمي صاحبه ، إذا ارتكز على قاعدة منهارة ، لأنه لا يحمي نفسه. ويريد الله بذلك أن ينبه أية جماعة تتطلع إلى الامتداد الواسع عبر فكرة معينة أو محور معين ، أن كل ما تحققه سوف ينهار ويسقط إذا سقطت القاعدة التي يرتكز عليها.

(وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) الذي يتنوّع في طبيعته وفي شكله ، حسب مقتضيات الحكمة الإلهية في ما ينزله على الكافرين من صنوف البلاء الذي يتحوّل إلى حالة من العذاب ، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) في موقفهم الحائر الخائف المهزوم أمام هول المحشر ، في محضر الخلائق الذين يشهدون على جرائمهم ، ويشاهدون عذابهم ، ويتطلعون إليهم وهم واجمون أمام السؤال الحاسم الذي يوجهه الله إليهم ، من موقع التأنيب والتوبيخ ، لما كانوا يعيشونه من انحراف ، في منطقهم الضعيف الذي لم يرتكز على أساس من علم.

(وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) وتنازعون المؤمنين الموحدين ، وتثيرون من خلالهم المشاكل في طريق الأنبياء والدعاة إلى الله. فهل ترون لهم من موقع في هذا الموقف العظيم ، الذي كنتم تزعمون أنهم يملكون فيه الامتيازات الكبيرة ، والحظوة العظيمة. ويلحّ السؤال عليهم ، دون أن يملكوا له جوابا ، لأن هؤلاء الشركاء لا يملكون أيّة قوة ، ولا يمثلون أيّ موقع. ويقف الذين أخذوا بأسباب العلم في الدنيا ، في ما حملوه من عقائد

٢١٣

ومفاهيم ، واتخذوه من مواقف ، وأقاموه من علاقات ، جعلت حياتهم تتحرك في المواقع الثابتة ، وفي الطريق المستقيم ، ومنحتهم بالتالي وضوح الرؤية وسلامة التفكير في النظر إلى الأمور وإلى حركة الناس ، وأصبحوا بذلك في موقع الحكم الذي يزن الأمور ، ليطلق الحكم العدل والكلمة الصحيحة ، (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) لأنهم لم يكفروا من حالة شك في حقيقة العقيدة في حسابات الحق والباطل ، ولكنهم كفروا من حالة عناد وتمرّد ، بعد أن قامت عليهم الحجة من الله ، ولذلك فإنهم يواجهون الخزي في الموقف ، في ما يلاقونه من العار كما يواجهون السوء ـ وهو العذاب ـ في ما يواجهونه من عذاب النار (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بما أخذوا به من أسباب الكفر والضلال ، ولم يتراجعوا عنه حتى جاءهم الموت وهم كافرون ، فواجهوا حساب المسؤولية ، (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) فاستسلموا للموقف ، لأنهم لا يملكون أمام ذلك أيّة قوّة ، وأيّ مهرب ، محاولين سلوك منطق المكابرة ، وإنكار كل تاريخهم في الكفر والضلال والعصيان ، من موقع الدفاع الغريزي عن النفس ، ظنا منهم بأن الإنكار ينفعهم في الآخرة ، كما كان ينفعهم في الدنيا ، حيث كانوا في مواجهة أعمالهم السيئة يخدعون المسؤولين عن حسابهم بالتلاعب بالألفاظ واستخدام الأساليب الملتوية في التهرب من المسؤولية ، وادعاء البراءة ، فيتركون دون عقاب. ولكن الموقف هنا يختلف تماما عن الموقف في الدنيا ، لأن الحاكم الذي يتولى مهمّة الحساب هو الله الذي (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر : ١٩]. ولهذا ، يأتيهم الرد حاسما في الرفض لهذا المنطق الكاذب (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فهل تملكون دفاعا أمام الله؟ وهل تملكون الكلمة القوية التي تبرّر لكم ذلك كله؟ فلا بد لكم من مواجهة المصير المحتوم (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) الذين يمثلون الخط الذي يتمرد على الحق ، وهو يعرفه ، وينحرف عن الخط المستقيم ، وهو يراه.

* * *

وبذلك كان هذا الخط يتحرك في اتجاه كل كفر وشرك وظلم وبغي وضلال.

٢١٤

الآيات

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٣٤)

* * *

معاني المفردات

(يَنْظُرُونَ) : ينتظرون.

(وَحاقَ بِهِمْ) : أحاط بهم.

* * *

٢١٥

منطق المتقين ومصيرهم في الاخرة

ما هو منطق المتقين الذين عاشوا الحياة إيمانا في الفكر والروح ، والتزاما في العمل ، وما هو مصيرهم في الآخرة؟

* * *

جزاء المتقين في الدنيا حسنة

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) ، بكل ما تحمله هذه الكلمة من عمق في الروح ، وامتداد في الحياة ، وغنى في النتائج ، وسعادة في المصير. إنها تمثل كل ما يربط الإنسان بالمعنى الإنسانيّ لفكره وخطّه العملي في الحياة ، وطريقة إدارة علاقته بالناس وبالحياة ، مقابل معنى الشرّ الذي يمثل انتفاء تلك الإنسانية في خلفيّات فكره ، وحركات عمله ، ونتائج خطواته. وذلك كله من موقع الاختيار الحرّ الذي يحدّد فيه لنفسه ما يريد (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) هل هي من كلمات المتقين ، أو هي كلمة مستأنفة مما أراد الله أن يقرره كنتيجة لهذا الخير الذي أعلنوه واجهة للعمل ، وساروا عليه من مواقع الالتزام؟ كل ذلك محتمل ، وإن كان الأقرب إلى الجو السياقي في الحديث عنهم بصفة الغائب ، هو المعنى الثاني ، وتلك هي النتيجة الطيبة ، فللمحسنين في مواقفهم وكلماتهم وأفعالهم وتطلعاتهم في الحياة حسنة قد تكبر أو تصغر تبعا لحجم الإحسان العملي ، في ما يتقرب به الإنسان إلى الله ، وينفع به الناس من أعمال ، طلبا لما عند الله. فالآية تقرّر المبدأ ، ولا تدخل في التفاصيل ، لأن المسألة في هذا الموقف ، هي تحديد النتيجة التي تشير إلى طبيعة المصير الذي ينتظر هؤلاء بعد ذلك.

* * *

٢١٦

دار الآخرة للمتقين

(وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) ، في ما يتمثل فيها من رحمة ولطف ورضوان ، جزاء على ما قدمه المتقون من عمل. وهكذا التقى الخير في العمل بالخير في النتيجة (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) التي يستريح فيها الإنسان إلى حياته الجديدة في نعمة من الله ورضوان ، بالإضافة إلى الجانب الحسّي من المتع التي تنتظرهم في هذه الدار : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) ، فليس هناك حدّ لما يحققه الله لهم من أمنيات ، في ما يخطر في بالهم من أمور وحاجات وتطلّعات ، فلهم أن يحملوا كما يحبون لتكون أحلامهم حاضرة بين أيديهم ، دون حاجة إلى الانتظار والقلق والترقب ، كما كانت حالهم مع الأحلام في الدنيا ، حيث تنتهي أحيانا دون أن يتحقق شيء منها. (كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) الذين اتقوا ربهم في الفكر وفي العمل ، في السرّ وفي العلن ، (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) بما توحيه كلمة الطيبة من طيبة في الروح ، وفي النيّة ، وفي الجوّ الذي يحيط بهم في علاقات الحياة ، وفي الخط الذي يحكم كل تاريخ حياتهم من البداية إلى النهاية ، حتى إذا جاءهم الموت ، كانوا على استعداد لمواجهة نتائج المسؤولية بكل قوّة وإيمان أمام الله ، لأنهم يعرفون النتيجة سلفا من خلال تاريخهم المليء بالتقوى ، فهم ينتظرون الملائكة الذين يتوفونهم (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ، في تحيّة طيبة توحي إليهم بكل معاني السلام الروحية والعملية التي تنتظرهم في حياتهم الجديدة (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لأن الجنة لا تُنال بالتمنيات بل بالأعمال ، وهذا ما ينبغي للناس أن يتمثلوه في الدنيا ، عند ما يتمنون الجنة بعد الموت. فلا مجال هناك إلا للعاملين المؤمنين الصالحين ، الذين يلتقون بالرحمة الإلهية من مواقع العمل في خط الإيمان ، أما الكافرون والمشركون والمتمردون فما ذا ينتظرون ، (هَلْ

٢١٧

يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) ليلاقوا جزاء كفرهم وعملهم.

* * *

الظالم ظالم لنفسه

(كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم السالفة (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بما أنزله عليهم من العذاب في الدنيا ، وما ينتظرهم منه في الآخرة ، لأن الله لا يحتاج إلى ظلم أحد ، فهو القوي الذي لا حدّ لقوته في كل شيء (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فقد أقدموا على الكفر ، بعد أن قامت عليهم الحجة على الإيمان ، ومارسوا المعصية بعد أن عرّفهم الله المصير الأسود الذي ينتظرهم من خلالها وكانوا يملكون القدرة على الاستقامة في خط الإيمان وخط الطاعة ، فانحرفوا من موقع إرادة واختيار ، لا من موقع ضغط وقهر ، (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) في ما تلتقي به المقدّمات بالنتائج (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب الذي كان ينذرهم به الأنبياء ، وكانوا يواجهونه بالسخرية والاستهزاء ، فحلّ بهم ما كانوا به يستهزئون.

* * *

٢١٨

الآيات

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٣٧)

* * *

الإيمان والشرك اختياريان لا قسريان

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا) وذلك هو المنطق المهزوم الذي يحاول التهرّب من المسؤولية بإرجاع الشرك إلى مشيئة الله ، على أساس إحاطة الله بعباده في كل ما يعتقدونه وما يمارسونه من أعمال ، فليس لهم أن يقوموا بأيّ فعل ، أو يتّخذوا أيّ موقف ، من دون أن

٢١٩

يشاء الله لهم ذلك ، مما يجعل من الشرك مشيئة إلهيّة ، لا مشيئة ذاتية ، بالتالي فإن انحرافهم العملي في ساحة المعصية حيث يحللون ما حرّم الله أو يحرّمون ما أحلّ الله ، يعود إلى الله لا إليهم (وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) وهذا هو منطق المشركين الذين عاصروا النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الكافرين والمشركين من الأمم السابقة (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) لأن الله لم يجعل للرسول مهمّة التدخل في تحويل قناعات الناس إلى الإيمان بطريقة غيبيّة ، كما يوحي ربطهم بين الإيمان وبين المشيئة الإلهية لذلك بطريقة ضاغطة لا مجال فيها للاختيار ، بل إن الله قد جعل مهمة الرسول البلاغ ، في كل ما يريد الله أن يبلّغه للناس من وحيه وتعاليمه ، ليختاروا ما يريدون من ذلك من موقع حرية الإرادة ، لأن المشيئة لا تعني إلغاء الإرادة ، بل تعني تأكيدها عند ما يشاء الله لهم الكفر أو الإيمان باختيارهم ، بما وفره لهم من وسائل الاختيار.

* * *

للرسالات أهداف واحدة

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) وهذا هو المنهج الذي أراد الله أن يحكم الحياة في حركة الناس ، فهو يرسل إلى الناس الرسول ، ليبلغهم رسالاته ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة ، في ما أعدّه لهم من عقل قادر على التخطيط والوصول إلى النتائج الكبيرة ، وما منحهم من إرادة وقدرة على الاختيار.

ولا تختلف الرسالات ، ولا الرسل ، في الخط العام الذي يحكم

٢٢٠