تفسير من وحي القرآن - ج ١٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٦

هذا النهج المادي الذي يخضعون له في مسيرتهم ، ليشبعوا نهمهم ، ويتركوا لغرائزهم العنان ، (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) الطويل الذي يشعرون معه بالامتداد في خط العمر ، لغفلتهم المطبقة التي تمنع عنهم الإحساس بالموت القادم إليهم بشكلٍ مفاجئ ، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) نتائج ذلك كله عند ما يواجهون المصير الأسود الذي يقفون فيه وجهاً لوجه أمام النار وبئس القرار.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) فلكل جماعة من الناس ، في أيّة قرية أو منطقة ، أجل معلوم عند الله ، يقف عنده تاريخها ، وتنتهي معه حياتها ، فلا مجال للخلود. ولهذا فلا معنى للأمل الطويل الممتد ، ولا بد لهؤلاء من أن يستفيدوا من هذا الحدّ الواقع في دائرة البداية والنهاية ، ليحققوا نموهم الفكري والعملي الذي يحقق للحياة معناها ، ويرفع قيمتها في ميزان الله ، في المشاريع التي يقومون بها ، استثماراً لطاقاتهم ، ورفعاً لمستوى الحياة من حولهم ، واستجلاباً للنفع للناس ، فينالون بذلك الدرجة الرفيعة عند الله. إن العمر فرصة ممارسة المسؤولية ، ولا بد من المسارعة في الاستفادة منها قبل فوات الأوان ، (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) الذي حدده الله لها بحسب ظروفها وإمكاناتها الذاتية والخارجية ، (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) فللبداية حدّ تنطلق منه ، وللنهاية حدّ تقف عنده ، ولا يملك أحد ، مهما كانت قدرته ، تقديم ما أراد الله تأخيره ، أو تأخير ما أراد الله تقديمه.

* * *

١٤١

الآيات

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ)(٢٠)

* * *

معاني المفردات

(الذِّكْرُ) : القرآن.

١٤٢

(شِيَعِ) : جمع شيعة : وهي الفرقة المتفقة على مبدأ واحد ديناً وعقيدة.

(نَسْلُكُهُ) : ندخله.

(يَعْرُجُونَ) العروج : الصعود.

(سُكِّرَتْ) : سدّت.

(شِهابٌ) : شعلة من النار.

(رَواسِيَ) : الجبال.

(مَوْزُونٍ) : المقدّر بقدر.

* * *

طلب المكذبين رؤية الملائكة

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) ، قالوها ، على سبيل السخرية والاستهزاء ، فقد نادوه بهذا النداء ، في الوقت الذي كانوا ينكرون نزول الوحي عليه من قبل الله ، وربما كان إتيانهم بالفعل المبني للمجهول ، للإيحاء بكونهم يجهلون مصدر هذا الذكر ، مما يبعث على عدم الوثوق به (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) لأنك تدّعي أمرا لا يدّعيه من يزن الأمور بميزان العقل. وكيف يمكن لبشر أن يدعي نزول الوحي عليه من السماء ، وهو أمر لا يمكن حدوثه للبشر ، لأن للنبوّة علامات لا نجدها عندك ، (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) معك ليشهدوا بما تدعيه ، فإتيانك بهم هو السبيل الوحيد للدلالة على أن هناك علاقة بينك وبين العالم العلوي الذي يمثل الملائكة جزءا منه (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) بما

١٤٣

يفرضه الصدق من وجود دلائل وعلامات عليه ، (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) وهذا جواب الله لهم على ما اقترحوه ، فإن الله لا يحدث أيّ أمر خارق للعادة ، كنزول الملائكة ، إلا بالحق الفاصل الذي يستتبع نزول العذاب عليهم في حال إنكارهم له ، فلا ينظرهم الله بعد ذلك ، ولا يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة ، وتلك هي سنة الله في عباده حال استجابته لما يقترحونه من معجزات ، فهو لا يمهلهم بعدها إذا استمروا على التمرّد ، ولعل هذا التفسير لكلمة الحق هو أقرب الوجوه لأجواء الآية ، والله العالم.

* * *

حفظ الذكر

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) الذي تواجهون آياته بأساليب السخرية ، دون وعي أو مسئولية ، لأنكم لم ترتكزوا في موقفكم من الرسالة على موقع التأمل والتدبّر ، لتعرفوا عمق الإعجاز فيه ، وتلتفتوا إلى أن الله هو الذي أنزل آياته لتكون نورا وهدى للناس ، وأنّ البشر لا يمكن أن يأتوا بسورة من مثله ، لأن خصائصه الإبداعية شكلا ومضمونا فوق قدرتهم ، (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من الضياع ومن التحريف ، ليبقى وثيقة إلهية معصومة يرجع الناس إليها في كل جيل عند ما تشتبه الأمور ، وتضطرب الأفكار ، وتختلط المفاهيم وتتحرك التيارات المضادة أو التحريفيّة ، وتكثر الأكاذيب على صاحب الرسالة ، فإن القرآن يبقى المرجع المعصوم الذي يمثل الحقيقة الإلهية في كل آياته ، والميزان الصادق الذي يمكن للناس من خلاله أن يحددوا الحديث الصادق من الكاذب ، عند عرض التركة الكبيرة من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه ، لأن ما خالفه زخرف ، كما جاء في الحديث عن أئمة أهل البيت ، بحيث يستطيع العارف بخصائص أسلوبه ، أن يكتشف زيف كل كلمة تضاف إليه ، في ما يضعه الواضعون ، أو يحرّفه المحرّفون ، فلا تقترب الكلمة من الآية ، إلا لتبتعد عنها ، فلا تؤثّر على سلامة النص القرآني في وعي المسلمين. وهذا ما نلاحظه

١٤٤

في إجماع المسلمين ، إلا شاذا منهم ، على أن النص القرآني الموجود بين يدي الناس ، هو كل ما أنزله الله على رسوله دون زيادة أو نقصان وأن الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه.

* * *

بطلان التحريف

تنقل بعض كتب الحديث أحاديث تشير إلى زيادة كلمة هنا ، أو نقصان كلمة هناك ، أو سورة كاملة في موضع آخر ، ولكن الذين ينقلونها يلاحظون دائما أن مثل هذه الكلمات لم تذكر بعنوان الإضافة إلى النص القرآني ، بل بعنوان التفسير الذي يتناول المعنى المصداقي لها كما لو كان جزءا منها ، كما يلاحظون أن الكثير من هذه الأحاديث موضوع من قبل بعض الكذابين الذين يريدون إرباك العقيدة الإسلامية ، أو الرؤية الإسلامية للحياة فكرا وتشريعا ، أو الذين يريدون تأكيد بعض الخلافات الفكرية بين المسلمين من خلال القرآن.

وعلى ضوء ذلك ، نلاحظ أنّ أيّ فريق يتحدث عن مثل هذه التحريفات زيادة أو نقصانا ، لم يستطع مسّ النص القرآني وسلامته على مستوى الواقع في حياة الناس ، فلم يحدث في شرق البلاد الإسلامية أو غربها أن وجدت ولو نسخة واحدة ، تحمل أيّة زيادة أو نقصان في الكلمات المنسوبة إلى النص القرآني ، مما يدلّ على عبثيّة هذا النوع من النقل أو الاعتقاد وعدم قدرته على النفاذ إلى واقع المسلمين ، فقد بقي ذاك الادعاء مجرد رواية في هذا الكتاب أو ذاك ، ككثير من الروايات التي تتناقلها الكتب دون إحداث أيّ تأثير إيجابي في المسيرة الفكرية والعملية العامة.

* * *

١٤٥

مصحف الزهراء

يتحدث بعض الناس عن وجود كتاب اسمه «مصحف الزهراء» انطلاقا من بعض الأحاديث المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام التي قد توحي لدى هذا البعض بأنّه يمثل «قرآنا آخر» أو شيئا من القرآن ، فمن خلال ما جاء في مضمون بعضها : (إنه ثلاثة أمثال قرآنكم) ، (وما فيه حرف من القرآن). وفي بعض الروايات كما ورد عن الإمام جعفر الصادق (عندي الجفر الأبيض ... ومصحف فاطمة ... أما والله ما فيه حرف من القرآن ولكنه إملاء رسول الله وخط علي) مما يوحي بأنه ليس مصحفا كبقية المصاحف لجهة ما توحيه كلمة المصحف ، ولكنه كتاب حديث يشتمل على أحكام الشرع ونحوها مما أملاه رسول الله على علي عليه‌السلام ، وفي بعض الأحاديث أن فيه وصية فاطمة.

ولعل الملاحظ في مثل هذا الموضوع الذي يثير مثل هذه الضجة لدى كثير من الكتّاب ، أنه يتحرك ضمن خطة إعلامية تستهدف تسجيل نقطة سلبيّة ضد بعض المذاهب الإسلامية دون نقد أو تمحيص ، وفي الواقع إن أيّ مسلم مخلص يستطيع أن يعرف كذب مثل هذه الإثارة ، من خلال ملاحظة واقعية وهي أنه لو فتش في شرق الأرض وغربها على نسخة واحدة من مصحف فاطمة ، لم يجدها ، لعدم وجود المصحف أساسا في كل الأوساط حتى بطريقة خفيّة ، كما أن أحدا لا يعتقد بوجوده.

* * *

تأويل القران لمصلحة الخلافات

ويبقى أن نتناول في شأن حفظ القرآن من قبل الله ، التركة المثقلة من

١٤٦

الأحاديث التي تتدخل في تفسير القرآن لمصلحة هذا الفريق أو ذاك ، بالمستوى الذي يسيء إلى الفهم القرآني المنفتح عند ما تحاصره التفاصيل من كل جانب ، مما يجعل النص القرآني أدبا رمزيا ، لا تعبّر فيه الكلمة عن المعنى إلا بطريقة بعيدة جدا ، تقصيه عن الأسلوب البلاغيّ ، إلى درجة أننا نلاحظ من خلال ذلك ، أن هؤلاء الناس قد يهمّهم حماية مذاهبهم وأفكارهم الخاصة ، أكثر مما يهمهم حماية كتاب الله ، إذ لا يكفي وجود حديث واحد من شخص ثقة بحسب الموازين الفنية في علم الحديث ، لنرفع اليد عن الإشراق التعبيري للقرآن بما يتضمنه من معنى ، أو يدلّ عليه من ظاهر ، لأن القرآن يمثل الكتاب المعصوم الذي نقطع بصحة كلماته المنسجمة مع أروع الأساليب الفنية في اللغة العربية ، فلا بد في تأويله ، والخروج عن ظاهره ، من وثيقة حديثية بالقوّة التي تتناسب مع قوته ، أو تكون قريبة منه مع ضرورة دراسة طبيعتها المضمونية ومدى ملاءمتها للأجواء العامة للقرآن روحا ومنهجا وفكرا.

إننا نضع هذه الملاحظة أمام المهتمين لدراستها ، حتى لا نضيع في متاهات الأحاديث الكثيرة التي تؤول القرآن ، وتتصرف في مضامينه ، بطريقة وبأخرى ، دون أيّة محاكمة دقيقة ، فنبتعد بذلك عن صفاء الوحي الإلهيّ ، لنفرض عليه فكرا من فكرنا ونخضعه لخلافاتنا ، فلا يصلح بعد ذلك لأن يكون حكما في ما نختلف فيه ، لابتعادنا عن صفاء مدلوله ، وإشراق معانيه.

* * *

حفظ الله للقرآن ... في مستوى الحقيقة

إن استمرار القرآن لدى جميع المسلمين ، في صيغة واحدة ، في ما يلتزمونه كمصدر للتشريع ، وفي ما يقرءونه في الصلاة وفي غيرها ، وفي ما يثيرونه على ضوئه في حياتهم من مفاهيم وعقائد ، هو دليل على حفظ القرآن ،

١٤٧

فليس هناك في العالم الإسلامي كله ، ولا في غيره ، صيغة أخرى أو نسخة أخرى يختلف فيها القرآن لدى مذهب عنه لدى مذهب آخر ، بالرغم من وجود كلمات شاذّة هنا أو هناك ، فإن مثل هذه الكلمات لم تستطع أن تنفذ إلى مستوى العقيدة العامة. وإذا كان بعض الذين ذهبوا إلى القول بالتحريف يملكون موقعا متقدما من حيث العلم والوثاقة لدى أهل مذهبهم ، فإنهم لم يتمكنوا من النفاذ إلى واقع الناس العقيدي والعملي ، كما أنهم لا يملكون الوعي الذي يستطيعون به إدراك خطورة هذا الاتجاه على مستوى العقيدة الإسلامية ، عند ما يتسرّب الخلل إلى النص القرآنيّ. هذا إلى جانب أن هؤلاء لا يملكون الذوق الفني الذي يعينهم على فهم أسرار اللغة العربية ليقارنوا بين هذه الكلمات التحريفية ، وبين الأسلوب القرآني المعجز ، فبقي كلامهم لغوا وجدلا عقيما لا قاعدة ثابتة له ، غرضه تسجيل النقاط على غيرهم من الفرق لحسابات مذهبية أو سياسية ، لذا لا بد من الابتعاد عنه عند تناول القرآن.

* * *

استهزاء الناس بالرسل من قبلك

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) فلم تكن أول رسول يرسله الله إلى الناس ، فقد سبقك رسل كثيرون بعثوا إلى الأمم الأولى ، التي بدأ تاريخها مع بداية التاريخ حتى يومك هذا ، ولم يكن سلوك قومك معك وما لاقوك به من استهزاء ، بدعا من السلوك ، فقد عايش أقوام الرسل الآخرين مثل ذلك السلوك مع رسلهم (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) لأنهم لا يستطيعون مواجهة الحجة ، فيلجئون إلى السخرية ، ليبرروا هروبهم من الحجة الدامغة ، وابتعادهم عن خط الحق ، وليسقطوا عن الرسل تأثيرهم في المجتمع ، لما يوحيه الاستهزاء من عدم الاحترام للشخصية التي يطالها.

١٤٨

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) من خلال ما يشتمل عليه من إبداع الأسلوب وروعة المضمون ، وإشراق الجوّ ، ولكن مشكلتهم أنهم لا يعيشون إرادة الإيمان ليستريحوا إلى دلائله ، وليفكروا في طروحاته ، وليناقشوا أفكارهم على ضوئها كي يصلوا إلى معرفة الحقيقة الإيمانية ، ولذلك فإنهم (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) ، فقد سبقهم إلى هذه الطريقة ، في مواجهة دعوات الرسل بالتكذيب والاستهزاء ، آباؤهم وأجدادهم ، هروبا من الإيمان وتجاوزا لكل الموازين الفكرية والروحية والعملية التي تدعو إليه.

* * *

مظاهر كونية تدل على عظمة الله

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) استجابة لاقتراحهم إيجاد سبيل يستطيعون من خلاله الوصول إلى العالم السماوي حيث يعيش فيه الملأ الأعلى من الملائكة وغيرهم ، ليطلعوا على أسرار ذلك العالم التي قد تتضمن أسرار عالمنا الذي نعيش فيه ، وما يتحكم فيه من نظم وقوانين ، مما يسهل عليهم الوصول إلى الإيمان من أقرب طريق (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) وغشيت بطريقة سحرية تحرك البصر في دائرة الوهم الذي يوحي برؤية ما ليس حقيقة ، (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) أي أن رؤيتنا تلك هي نتيجة السحر وليس استنادا إلى واقع. وخلفية هذا الرد أن هؤلاء المجرمين لا يفكرون بما يعرض عليهم ، لأن ذلك سوف يحرجهم إمام الحقيقة ، وأمام أنفسهم ، وأمام الناس ، ولهذا فإنهم يتهربون باستمرار من كل الحجج التي تلاحقهم ، برفضها أو بتأويل الظواهر ، حتى إذا لم يجدوا مجالا للهروب ، أعلنوا العناد بكل صلف وقساوة وكفران.

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) منازل الشمس والقمر ، التي خلقها الله على

١٤٩

هذا المستوى وأطلق عليها اسم البروج ، تشبيها لها بالقصور لعظمتها ، وتدليلا على القدرة الإلهية في إبداعها من الضخامة والعلو دون قواعد ثابتة ترتكز عليها ، بالإضافة إلى ما فيها من نظام يمدّ الكون كله بالدفء والنور والحياة ، ويحقق للناس النعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى ، حتى عادت السماء مظهرا للقدرة من جهة ، وللنعمة من جهة أخرى.

(وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) ، بما تمثله الكواكب المتلألئة والنجوم الزاهرة من جمال وزينة تثير الشعور بالمتعة والجمال لدى الناظرين ، وتحثهم على التفكير بما خلفها من عوالم وأكوان. (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) بوضع حاجز بين وصول تلك المخلوقات القادرة على الاطلاع على أسرار الخلقة وعظمة التكوين وأخبار العالم العلويّ بما تملكه من قدرات ذاتية أودعها الله فيها ، وبين السماء ، لمنعها من اختراق الحجب ، والوصول إلى ما خلفها من عوالم ، (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) فنفذ من خلال بعض الثغرات التي يحاول أن يستمع منها إلى بعض ما يدور في أجواء السماء ، ولكنه لا يبلغ هدفه ، لأنه كلّما اقترب منها وحاول الوصول إلى ما يريد ، سلّط الله عليه شيئا يمنعه من ذلك ، (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) كمثل الشعلة الملتهبة الخارجة من النار ، كما نلاحظ في الأجرام المضيئة ، كأنّ الواحد منها كوكب ينقضّ دفعة واحدة من جانب إلى آخر ثم لا يلبث أن ينطفئ.

وقد يتساءل المرء ، عن المنطقة التي يمكن أن ينفذ إليها الشياطين لاستراق السمع ، وما هي هذه الأحداث التي تدور في هذا العالم الذي يسمى السماء ، هل هناك ملائكة يتحدثون بأسرار الكون وقضايا الناس فيحاول الشياطين التعرّف عليها ، ليملكوا من خلالها السيطرة على العالم الأرضي؟ وما هي هذه الشهب ، هل هي مثل الأجرام التي نشاهدها في السماء ، أم أنها حواجز طبيعية تمنعهم من الوصول إلى غاياتهم؟ أو ماذا؟ إنها علامات استفهام ، مفتوحة على علامات استفهام أخرى عند الدخول في التفاصيل ،

١٥٠

ولكن الإجابة عنها غير موجودة بشكل كاف يشفي الغليل ويرفع الحيرة. لذا يحسن أن نترك أمرها إلى الله ، لأنها في دائرة الغيب الذي احتفظ به لنفسه ، ولم يعرّفنا تفاصيله ، ولم يكلفنا معرفته ، لعدم امتلاكنا وسائله.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) في هذا الامتداد المنبسط طولا وعرضا الذي جعلها صالحة للحياة وللسكنى ، وللزرع ولغير ذلك ، ولو لا ذلك لما استطاع الموجود الحيّ أن يتحرك أو يحيى فيها بسهولة ، (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) ثابتة في أعماقها ، لتمنعها من الاهتزاز ، وهي الجبال الشامخة (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) على أساس التقدير الذي يراعي الحاجة بشكل دقيق ، من حيث الخفة والثقل ، فلكل شيء أودعه الله في الأرض من النبات وغيره ، ميزان دقيق يوازن بينها وبين ما تحتاجه الحياة والإنسان ، فلا يزيد شيء عن الحاجة ، ولا ينقص عنها ، ولكل شيء منها تقديره الذي يتحقق فيه التناسب والانسجام بين الأمور ، ضمن النظام الذي يحكم الأشياء بالحكمة والتقدير ، (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) مما تأكلون وتشربون وتحفظون به حياتكم (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) من مخلوقات سخرناها لكم دون أن نجعل رزقها عليكم ، كالحيوانات وغيرها ، بل تكفلنا برزقها.

في هذا العرض السريع ، حيث تلتقي العظمة بالنعمة ، وتنطلق الحياة ضمن نظام متوازن زاخر بالروعة والجمال ، ويتحرك الإنسان في رعاية الله وحمايته التي تدبر كل شؤونه وأموره ، حتى يشعر بأن الحياة كلها له ، وفي خدمته ، ليشكره على ذلك من موقع الإحساس بضرورة الانسجام في حركته مع النظام الكوني الذي أراد الله أن لا يسيء إليه الإنسان ، بالانحراف عن غاياته ومقاصده ، وهكذا نجد في هذا الجو الكوني ما يدفع الإنسان إلى الشعور بالروحانية الفيّاضة بالرحمة واللطف الإلهيين ، ليرتبط بالله أكثر ، إحساسا بارتباط كل وجوده به ، في كل شيء ، ومع كل شيء. وبذلك يلتقي ، في داخله ، جانب الإحساس ، بجانب التصور في حالة مشرقة من وضوح الرؤية وسلامة الشعور.

* * *

١٥١

الآيات

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٢٥)

* * *

وإن من شيء إلا عندنا خزائنه

تجسد هذه الآيات قصة العقيدة التوحيدية الصافية التي تتطلع إلى الله ، ولا تتطلع إلى غيره ، في كل شيء موجود في حركة الحياة ، أو تنتظر وجوده. إنها كلمات الله في خلقه ونعمه التي يشتمل عليها التكوين من حقائق وموجودات تتصل بالواقع الكوني ، وترتبط بنظامه ، وتتكامل في عملية تحقق الوجود وتطوّره ، بطريقة تدريجية ، كالينبوع الذي يختزن في داخل الأرض البحيرات الكبيرة ، ولكنه يتفجّر بالعطاء تدريجيا. فالأشياء كلها مخزونة في علم الله ، وحاضرة في قدرته ، ومتحركة من خلال حكمته ، وتلك هي الحقيقة الإلهيّة التي تقف الأبصار شاخصة إلى ما تراه منها وإلى ما لا تراه ، وتخشع

١٥٢

النفوس خاضعة ، لما تحتويه ولما لا تحتويه ، فهو مصدر الفيض ، وسرّ وجود كل شيء.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) في ما يتمثل في الإحاطة العلمية بالأشياء من خزائن ، وفي ما يتمثل في ساحة القدرة من مواقع وآفاق ، هل هو المطر الذي يختزنه الله في الأعماق وفي الآفاق ، أو هو الأشياء كلها؟ الظاهر من الآية ، أن المسألة تتحرك في خط الشمول ، لأنها واردة في مجال تحديد القاعدة الكلية لإحاطة الله بالأشياء وقدرته عليها ، ولا خصوصية لخزائن الماء في ذلك. (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) توحي كلمة الإنزال بالعلوّ في المكانة والقدرة ، وليس من الضروري أن تكون دالّة على الجانب المكاني منها لتختص بما ينزل من السماء من مطر ، وهكذا أجرى الله الحياة على نظام دقيق ، تتجدّد فيه الأشياء وتتدرّج في تكاملها في خط الامتداد ، كما تتكامل في خط العمق والعرض والارتفاع ، تبعا للحكمة في تقدير حاجة الحياة إلى ذلك.

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) أراد الله في حركة هبوب الرياح أن تحمل الذرات التي تكمن في نطفة ذكور النبات لتلقح بها إناثها على أساس قانون الزوجية التي قررها القرآن في الكون كله .. وربما يرى البعض أن المسألة تتصل بدور الرياح في عملية إنزال المطر ، من خلال ما تحدثه من الحركة في أجواء السحاب ، وهو أمر محتمل ، ولكنه ليس بواضح (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) فهو المصدر الأساس لكل الماء الموجود في خزانات الأرض الجوفية ، وعلى سطحها ، مما يشربه الإنسان والحيوان والنبات (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) بل هو من خزائن الله المودعة في علمه وفي قدرته ، فهو الذي يدفعه إليكم ، وهو الذي ينظم حركته على سطح الأرض ، وفي أعماقها ، وهو الذي يحوّلها إلى طاقة حيّة في كل شيء حيّ في الحياة.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) ، من خلال السنّة الجارية في الكون في

١٥٣

قوانين الحياة والموت (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) الذين نرث الأرض ومن عليها بعد أن تنتهي الحياة فيها ويموت الخلق جميعا ، لأن الله هو الواحد الذي لا شريك له في ملكه ، ولا انتهاء لقدرته ، وهو الحيّ القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) لأن الزمن لجهة ما يحتويه من موجودات ، حاضر بكل مراحله أمام الله ، فلا فرق في إحاطة علم الله وقدرته بها بين الموجودات السابقة والموجودات اللاحقة ، (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) بعد ما يبعثهم إليه ، ليكون الجزاء بالأعمال (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) في تحديده حركة المسؤولية في الحياة ، ونتائجها في ما بعد ، وفي علمه بكل ما أسرّوه وما أعلنوه.

* * *

١٥٤

الآيات

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ)(٤٨)

* * *

١٥٥

معاني المفردات

(صَلْصالٍ) : الطين اليابس غير المطبوخ.

(حَمَإٍ) : الطين المتغير إلى السواد.

(مَسْنُونٍ) : المتغير.

(سَوَّيْتُهُ) : أتممته.

(رَجِيمٌ) : أي مرجوم والمراد به هنا المطرود من رحمة الله.

(فَأَنْظِرْنِي) : أمهلني.

(سُرُرٍ) : جمع سرير.

(نَصَبٌ) : التعب.

* * *

عقدة الشيطان من الإنسان

بداية خلق الإنسان ، كيفيتها ومصدرها وظروف صراعه مع إبليس ، ونتائجه ، قضايا كرر القرآن الحديث عنها في أكثر من سورة ، ليذكر الإنسان أولا بأصله الترابي ويدفعه إلى الإحساس الدائم بالتواضع كحقيقة من حقائق إنسانيته ، وليذكّره ثانيا ، بالعقدة الإبليسية التي تشكلت مع بداية خلقه على الأرض ، فقد أعلن إبليس الحرب على الإنسان لمنعه من الإيمان ، ومن التحرك الإيجابي في خط المسؤولية أمام الله ، لإبعاده عن طاعة الله ، وعن

١٥٦

رحمته وجنته ، تنفيسا لعقدة إبعاده عن الجنة ، بإبعاد الأكثرية من أولاد آدم عنها.

* * *

مادة خلق الإنسان والجان

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ، الصلصال هو الطين الجافّ ، باعتبار أن أصل الكلمة هو تردد الصوت من الشيء اليابس ، فاستعير لكل شيء يابس ، باعتبار أن اليباس يبعث على تردد الصوت ، والحمأ هو الطين الأسود المنتن ، والمسنون هو المتغير ، ومنه قوله تعالى : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) [البقرة : ٢٥٩] أي لم يتغير ، كأنّ الله خلق الإنسان من تراب ، ثم تحول التراب إلى طين ، ثم تركه حتى جفّ وتغيّر واسودّ وأنتن.

(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) وهو مخلوق حي عاقل يعيش مع الإنسان على الأرض ولكن في مجتمع منفصل عنه ، دون أن يبرز أي مظهر من مظاهر حياته أو حركته على الأرض مع الإنسان ، إلا في حالات خاصة ، وهو مخلوق كالإنسان تماما يعقل ويفكر ويتحمل المسؤولية أمام الله في الحياة ، ثم يموت ويبعث ليواجه نتائج المسؤولية ، لكنه يتميز عن الإنسان بحرية أكبر ، لما أودعه الله فيه من خصائص وأسرار ، لا نملك إمكانية اكتشافها لمحدودية طاقاتنا وتجاربنا في هذا المجال ، كما أننا لا نملك أيّة وثيقة حيّة للوصول إلى ذلك إلا ما عرفنا الله إياه في كتابه ، أو ما شرحه النبي في سنته ، مما ثبت النقل فيه عنه بشكل موثوق. وقد بيّن الله لنا في هذه الآية ، أنه خلق الجان من نار السموم ، ولعل المراد بها الريح الحارّة التي تؤثر تأثير السمّ ، كما أفاد الراغب (١) في تفسير معناها ، مما حوّلها إلى نار ، أو جعلها قريبة إلى النار ، ولكن كيف كان ذلك ، هذا ما لم يبيّن لنا الله أمره.

__________________

(١) الراغب الاصفهاني ، معجم مفردات ألفاظ القرآن ، دار الفكر ، ص : ٢٤٧.

١٥٧

ولكن لماذا بيّن الله لنا هذه الحقيقة التكوينية؟

لعل السبب في ذلك أن إبليس كان من الجن ، كما شرح الله لنا في آية أخرى ، وأن شعوره بامتياز مادّة خلقه وهي النار على التراب الذي هو مادة خلق الإنسان ، هو الذي جعله يرفض الأمر الإلهي بالسجود للإنسان.

* * *

الأمر بالسجود لآدم

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ) كملت خلقه حتى تمّت صورته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) توحي كلمة النفخ بوجود تجويف داخليّ ، لأن معنى النفخ إدخال الهواء في الجسم بفم أو بغيره ، وتوحي كلمة (روحي) بقدرة الله الذي أبدع الروح في داخل جسم الإنسان ، كقوّة مستقلة في ذاتها عن البدن ، ولكنها تتصل به لتحرك فيه الحياة ، ثم تنفصل عنه ـ بعد ذلك ـ لتموت فيه الحركة والحياة. (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) لأن هذا المخلوق يتميز بصفات تجعله في موقع متقدم عن غيره من الموجودات ، لحملة رسالاتي ، وقيامه بعبادتي ، وإرادته شؤون بناء الحياة على الأرض خلافة لي ، وتحكيمه الإرادة القويّة في عملية الاختيار بين الخير والشر في عملية المواجهة والصراع وغير ذلك من الأمور التي تجعل منه مخلوقا مميّزا ، مما يفرض على الملائكة أن يسجدوا له ، تحيّة لله وخضوعا ، أو يسجدوا لآدم ، تعبيرا عن خضوعهم لما يريد الله أن يخدموا به مصالحه التي أوكل الله إليهم أمرها كما يحتمل بعض المفسرين. وعلى كل حال ، فإنه أمر إلهيٌّ لا بد من إطاعته ، كأيّ أمر آخر ، وليس للملائكة الاعتراض ، أو السؤال عما لا يريد الله أن يعرّفهم به. وهكذا وقف الملائكة وقفة الخضوع لله (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) لم يتخلف منهم أحد عن هذه الفريضة (إِلَّا إِبْلِيسَ) الذي كان يعيش في مجتمع الملائكة كأيّ واحد منهم ، وهكذا كان الأمر متوجها إليه ،

١٥٨

كما هو متوجه إليهم ، ولكنه لم يكن منهم ، بل كان من الجن ففسق عن أمر ربه و (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) بل وقف وقفة التمرد والكبرياء ، في حالة نفسية معقدة خاضعة للنوازع الشريرة التي ينسى فيها عواقب فعله ، وموقعه من ربّه (قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) هل هي غفلة ، أو نسيان ، لما تفرضه عليك طبيعة العبودية من استسلام لأمري دون أيّ توقّف أو تأمّل أو اعتراض أو تمرّد؟ وكيف حدث ذلك منك؟ ولماذا؟

* * *

معصية إبليس

(قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ، فلم أعصك يا رب من موقع التمرد عليك ، فقد عبدتك طويلا ، وأطعتك كثيرا ، ولكن المسألة أنك أردتني أن أسجد لمخلوق مثلي ، لم أستطع أن أفهم معنى السجود له ، فإذا كان ذلك لعلوّ مكانته ، وتعبيرا عن الخضوع له ، لتكون حياتي في خدمته ، فإن مكانتي تعلو مكانته ، فقد خلقته من طين أسود منتن ، بينما خلقتني من نار تنطلق منها الشعلة الملتهبة اللافحة التي تفني التراب ، وتفتّت الطين ، وبذلك يفقد السجود معناه ، وإذا كان السجود لك ، سجود تحية له ، فالمسألة هي المسألة ، لماذا لم يسجد هو لي ، ما دمت أفضل منه؟!

* * *

طرد إبليس من الجنة

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي مطرود من الجنة ومن رحمتي ، فهذا هو الجواب عن موقفك ، فلا مكان في الجنة إلا للمطيعين لله ، الخاضعين لأوامره

١٥٩

ونواهيه (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) ... بما تمثله اللعنة من إبعاد عن رحمة الله ، لأنه افتتح معصية الله في الكون من موقع الكبرياء الذي يبغضه الله لأنه رداؤه الذي تفرّد به ، فكيف إذا كان ذلك الكبرياء سبيلا للتمرد عليه في مواجهة أمره المباشر ، وهكذا كانت هذه المعصية مميّزة عن بقية المعاصي ، لأن إبليس كان مصرّا على الاستمرار في مواجهة الأمر الإلهيّ بالتمرّد ، لأن موقفه من الإنسان كان موقف عقدة ، لا حالة طارئة ، وهذا ما يكشفه موقفه المستقبلي من الإنسان ، حيث يفكر بإلحاق الأذى به في كل مكان وزمان.

* * *

إمهال إبليس إلى الوقت المعلوم

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أمهلني إلى آخر موعد تتحرك فيه المسؤولية في حياة الإنسان ، وإلى آخر يوم يقف فيه ليواجه نتائج المسؤولية بين يديك. إنه آخر طلب أقدّمه إليك ، فإذا كنت قد عصيتك الآن ، فقد أطعتك في ما مضى كثيرا .. إنها رغبتي الأخيرة ، لأني إذا كنت فقدت الجنة بسبب هذا المخلوق الذي سيمتد في ذريته إلى وقت طويل ، فلا تحرمني فرصة الثأر لنفسي منه ، واستجاب الله دعاءه ، لا لكرامة منه عليه ، ولكن لأن رغبته تلك التقت بالحكمة الإلهيّة التي شاءت أن يعيش الإنسان حركة الإرادة والاختيار من مواقع الصراع بين الخير والشر ، والحق والباطل ، تماما كما أراد لأبيه آدم أن يكون كذلك ، فلا بد من عنصر يثير الإحساس بالشرّ ويقوّيه في نفسه ، في مواجهة العنصر الذي يثير الخير فيها وينمّيه ، ليختار الخير من موقع القناعة ، ويرفض الشرّ من موقع وعيه للعناصر التي تقوده إليه ، ومقاومته لتأثيرها في موقفه .. وإذا اختار الشرّ ، فإنه يختاره من موقع الإرادة التي تتحمل

١٦٠