تفسير من وحي القرآن - ج ١٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٦

سواء سقطنا جزعا أو استسلمنا للصبر.

وقد نفهم من جواب هؤلاء المستكبرين ، نوعا من الهروب من طبيعة المسؤولية ، فهم لا يعتبرون أنفسهم مسئولين عن ضلال أتباعهم ، لأن الهداية تكون من الله ، فإذا لم يوفّرها لهم ، فكيف يمكن أن يوفروها هم لغيرهم. وفي ذلك تجسيد لغاية اليأس في الموقف.

فالله يريد من خلال هذا النص أن يصوّر للمستضعفين في الدنيا ، كيف تتجسّد مواقف الندم واليأس في الاخرة ، ليواجهوا واقعهم ، مواجهة من سيتحمل مسئوليته وحده ، ولذا فإن عليه أن يبدأ الحساب على هذا الأساس.

* * *

تملص الشيطان من مسئولية الضلال

ولعل من الطريف ـ في هذا الحوار ـ أن الشيطان يتدخل كطرف ثالث ، ليبرّىء نفسه من مسئولية ضلال كلا الطرفين ، التابعين والمتبوعين ، مؤكدا الفكرة الدينية التي تقرر حرية الإرادة التي فطر الله الإنسان عليها ، فليست هناك قوّة قاهرة تشلّها بدون اختيار صاحبها ، حيث يورد القرآن الكريم :

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) وحسمت المواقف ، وانطلقت إرادة الله التي تقود الكافرين والعاصين إلى النار ، وتقود المؤمنين إلى الجنة ، ولم يبق هناك مجال للدفاع أو للاعتذار ، فقد جاء إبليس ليتخفف من بعض ثقل المسؤولية التي يحملها الناس له في عملية الإغواء والإضلال ، ليجعلها على عاتق الناس الضالين : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) ، بالجنة للطائعين المؤمنين ، وبالنار للعاصين المتمردين (وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) ، في ما منّيتكم به ودفعتكم إليه ، مما لم يتحقق ، لأن الأمر كان مجرّد خدعة وتضليل ، من أجل تحقيق ما أريده من إضلالكم ، وقد عرّفكم الله طبيعة الدور الذي أقوم به

١٠١

في حياتكم ، وهو دور الإغراء والخديعة والتزيين وتصوير الحق بصورة الباطل ، والباطل بصورة الحق ، وتشوية الصورة الجميلة ، وتجميل الصورة المشوّهة ، بما أملكه من وسائل وأدوات. وهذا هو كل شيء في دوري معكم ، ولا أملك معه أيّة قوّة إضافية تمكنني من الضغط على إرادتكم بطريقة قاهرة (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) ، بما تتضمنه أساليب الدعوة وأجواؤها من عناصر الإغراء والإغواء (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) لأنني أتحرك في وسائلي وأهدافي من خلال الخط الواضح الذي أعلنت السير فيه أمام الله ، منذ طلبت منه الإنظار إلى يوم القيامة. ولكن ماذا عن دوركم أنتم ، لماذا لم تلتفتوا إلى أساليبي ووسائلي وغاياتي التي عرّفكم الله إياها ، وقد أرسل إليكم الرسل ليحذروكم مني ، وخلق لكم العقل الذي يستطيع أن يحاكم كل الدعوات التي أثيرها في حياتكم ، وكل التهاويل والأحاسيس التي أعمل في سبيل الضغط على مشاعركم من خلالها؟ فليتحمّل كل واحد منا مسئولية نفسه ، (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) فإذا استغثتم بي من العذاب ، فلن أستطيع أن أدافع عنكم (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) فلا تملكون لي شيئا إذا استصرختكم واستغثت بكم ، (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) ، فأنا لا أقر ولا أعترف بجعلكم إياي شريكا لله في العبادة ، (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وهكذا أغلق الملف الذي يمثل هذه الحالة التي تتحرك فيها الضغوط النفسية أو الجسدية لتلغي إرادة فريق من الناس ، تحت تأثير العوامل الداخلية والخارجية ليواجه كل مسئوليته ، من موقع حرية الإرادة التي تستطيع أن تعبّر عن نفسها بألف طريقة وطريقة ، كما لو لم يكن هناك ضغط ، لا من المستكبرين ، ولا من الشيطان نفسه الذي يحمّله الناس كلهم مسئولية إضلالهم ، ويلعنونه لذلك. فليس هناك سلطة في الإضلال حتى للشيطان ، بل كل دوره هو أن يوسوس ويثير ويدعو الإنسان إلى الاستجابة له ، بعيدا عن دعوة الله ، وتلك هي مهمته الأساسية ، ويبقى ، بعد ذلك ، للإنسان دوره في

١٠٢

التفكير والمقارنة بين دعوة الله ، ودعوة الشيطان ، فإذا سار مع دعوة الله ، كان ذلك باختياره ، وإذا انطلق في طريق الشيطان ، فبإرادته سارت خطواته ، فلما ذا يلقون اللوم على الشيطان ، ولا يلقون اللوم على أنفسهم ، في الوقت الذي لم يكن منه إلا إثارة مكامن الشهوة ، وتزيينها للنفس ، بينما كان منهم التصميم والإرادة والعمل؟!

وهكذا تأخذ الفكرة مجالها الطبيعي في الكلمة الأخيرة للشيطان ، التي يقرر فيها حمل الإنسان لمسؤولية إرادته ، في مقابل حمل الشيطان لمسؤولية وسوسته وإضلاله ، دون أن يستطيع أحدهما تخليص الآخر.

ويبرز في خاتمة المطاف العنصر المثير الذي يجعل الشيطان يكفر بإشراكهم إياه بالله ، ليبقى الإنسان المنحرف المتمرد على الله ، وحده ، دون ناصر أو معين.

ويدخل الجميع النار ، ويبقى هناك فريق واحد ، لم يستسلم للمستكبرين ، لأنه كان يملك قوة الموقف الذي يستطيع من خلاله أن يتمرّد على كل طروحاتهم ، ويتحدّى كل ضغوطاتهم ، ويواجه كل ألا عيبهم ، ولم يستسلم للشيطان ، بعد ما اكتشف خداعه وتضليله ، وعرف كل النتائج السلبية التي تحصل من اتباعه والسير معه ، واستطاع هذا الفريق أن يكتشف الطريق المستقيم الذي يؤدي به إلى الله ، ويربطه بالجانب الخير من الحياة.

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بما أعده للمؤمنين عاملي الصالحات من نعمة ورحمة وكرامة ، (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) تعبيرا عن تكريم الله لهم ، لما توحيه كلمة السلام من معاني الطمأنينة الروحية التي تفتح قلب الإنسان على كل خير وحق وإيمان.

* * *

١٠٣

الآيات

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ)(٣١)

* * *

معاني المفردات

(اجْتُثَّتْ) : اقتلعت واستؤصلت.

(قَرارٍ) القرار : الاستقرار.

١٠٤

(الْبَوارِ) : الهلاك.

(يَصْلَوْنَها) : يقاسون حرها.

(بَيْعٌ) : البيع : الفدية.

(خِلالٌ) : الصداقة.

* * *

مثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) للفكرة التي تتحرك التي خارج نطاق الحس بالنموذج المتجسد في دائرة المادة التي يطالها حس الإنسان البصري ، ليكون ضرب المثل أسلوبا حيا من أساليب تمثل الفكرة بطريقة حية موحية ، لأن الناس يتمثلون المحسوسات أكثر مما يتمثلون المعقولات ، الأمر الذي يجعل تشبيه مدلول المعقول بالمحسوس سبيلا لتقديم المعقول إلى الذهن. وهذا ما درج القرآن على استعماله في تقديم أكثر من فكرة في أكثر من موقع ، بأوضح الأساليب وأقربها إلى الوعي ، بهدف إيصالها.

من هنا استخدمت الآية الكلمة الطيبة بأوسع معانيها ، في مداليلها الفكرية والعملية لجهة ما يتصل بالعقيدة والشريعة والأخلاق ، والمنهج العملي لحركة الحياة من حول الإنسان ، للتدليل على ما يريد الله للناس أن يعيشوه في أفكارهم وعلاقاتهم ومواقفهم العامة والخاصة.

(كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) بما يمثله ذلك من عمق في امتداد جذورها في الأرض بمستوى يمنحها القوة والثبات ، بحيث لا يمكن لأية ريح أن تقتلعها ، مهما كانت قوتها ، ومن ارتفاع في حركة نمو الفروع وامتدادها في السماء ، (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) ، فليس

١٠٥

لثمرها وعطائها وقت محدود ، لما أودعه الله فيها من عناصر النموّ الذاتية والقدرة على الاستمرار في التفاعل مع كل العوامل الخارجية المحيطة بها.

فإذا حاولنا استيحاء هذا المعنى في فهم الكلمة الطيبة ، فسنجد أنها تمتد بالعمق من حياة الإنسان حيث يوجد ما يصلحه ويقوّيه وينميه في دائرة الحق الثابت في الكون ثبات الجذور في الأرض ، لأنه لا يمثل حالة طارئة أمام فكرة سريعة ، لينتهي بانتهاء تلك الحالة ، بل هو ظاهرة ثابتة مستمدّة من ذاتية القوانين التي أودعها الله في الكون كما أنها تمثل الأصول القوية التي تتفرع منها قضايا العقيدة والسياسة والاقتصاد والاجتماع ، وما يتعلق بها من أوضاع وعلاقات ومواقف ، تستوعب كامل آفاق الحياة العامة وتغطي بعطائها الدائم كل ما يحتاجه الإنسان في حركة الوجود من حوله. وهكذا تقدم عملية المقارنة بين الشجرة الطيبة التي يتمثلها الإنسان في حسه ، وبين الكلمة الطيبة التي يتمثلها في وعيه ، توضيحا للصورة ضمن الأسلوب القرآني في إيضاح حالات الغموض والإبهام. (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ، أن التمثيل الحقيقي لحقائق الأشياء يدفع الناس إلى التذكر عبر التأمل والتفكير العميق المنفتح على الحقيقة.

* * *

مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة

(وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) في الجانب الآخر من الصورة ، أي خط السلب في الحياة ، حيث الانحراف عن الخط المستقيم ، نتيجة بعض الرواسب الذاتية أو الاجتماعية التي تبعد الإنسان عن القيم الروحية والإنسانية.

(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) في ما يتمثل فيها من معاني الكفر والضلال والزيف

١٠٦

والنفاق وغير ذلك مما يتصل بالعقائد الفاسدة ، والأخلاق الذميمة والخبيثة والصفات السيئة ، (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) لا يطيب ثمرها ، ولا تعطي ظلا (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) أي استؤصلت من سطح الأرض (ما لَها مِنْ قَرارٍ) لأنها لا تملك عمقا في الجذور يمتد بها في التربة ويمنحها قوة الثبات في الأرض ، وبذلك ، فإن من الممكن لأي اهتزاز أن يطيح بها ويسقطها.

وهذا هو المثل الحسّي للكلمة الخبيثة التي لا تملك في مضمونها ثباتا قادرا على تثبيتها في حركة الواقع ، لأنها لا تمثل حقيقة ، ولا تملك حجة تثبّت موقعها في الفكر الذي يتحرك من مواقع البرهان ، ولا تحقّق عمليا أي نفع للناس وللحياة ، لتكون منافعها سببا لامتدادها في حياة الناس.

وهكذا ينبغي للناس أن يواجهوا الكلمات في مداليلها الفكرية والشعورية والعملية ، وفي تأثيرها على وعي الشخصية الإنسانية للفكر ، وعلى حركة الساحة في الواقع ، وعلى عمق النتائج في الحياة ، فلا يتوقفوا أمام الأجواء الخيالية أو الضبابيّة أو السحرية التي تستهوي مشاعرهم بشكل سريع ، ولكنها تذوب في دخان الغرائز والشهوات ، لأنّ قيمة الكلمة هي في عمقها وامتدادها وفعاليتها في خط الخير.

* * *

تثبيت الله للمؤمنين في الدنيا والآخرة

وهذا ما ينبغي للمؤمن أن يعيشه ويتحرك فيه ويسمو إليه ، لينطلق في الحياة الفكرية التي تمثل خط السير لديه ، من قاعدة ثابتة على أساس الحق في المضمون ، والحجّة في الحق ، لئلا تهتز حياته باهتزاز قناعاته عند أوّل ريح تهبّ على فكره من هنا وهناك ، إنه القول الثابت بالحجة الواضحة القوية التي

١٠٧

يستطيع الإنسان من خلالها أن يقف في ساحة الصراع بخطوات ثابتة ، لا يملك أهل الباطل أن ينحرفوا به عنها (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بحيث لا يسقطون أمام الفتنة ، ولا ينهارون أمام الاضطهاد ، ولا ينحرفون أمام الإغراء (وَفِي الْآخِرَةِ) في وقوفهم بثبات أمام الله ، في لحظات الحساب دون أن تهزهم أو تسقطهم أهوال القيامة ، لأنهم يملكون الرؤية الواضحة لكل الحق الذي اعتقدوه أو عملوا به. فهم يملكون لكل سؤال جوابا ، ولكل عمل تفسيرا ، ذلك أن الإيمان الذي يتعمق في الفكر والروح والشعور ويمتد في الحياة ، يمنح صاحبه الثبات في الخطى ، والقوة في الموقف.

* * *

إضلال الله الظالمين

أما الذين كفروا ، بما يمثله الكفر من أوهام وتخيلات لا تثبت أمام النقد أو التحدّي لافتقارها إلى الحجة ، فإنهم يزدادون ضلالا كلما امتدت بهم الحياة ، لأنهم ولروحية العناد التي تحكمهم ، لا يريدون لضلالهم أن يتحوّل إلى هدى ، فيتركهم الله لضلالهم في الدنيا ، من خلال اختيارهم لذلك ، ويحملهم مسئوليته في الآخرة ، بالنتائج السلبية التي يفرضها ، وهذا هو معنى إضلال الله لهم ، إذ إنه يترك لحياتهم حرية التحرك من مواقع الأهواء (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتمرد والعصيان ، فاختاروا لأنفسهم الضياع في الطريق ، والضلال عن الهدف السوي والصراط المستقيم ، (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) مما تقتضيه الحكمة في تدبير أمور الناس وفي شؤون الحياة ، لأنه هو الذي لا رادّ لمشيئته ، فإذا أراد شيئا كان.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) ، فلم يستجيبوا لما تفرضه عليهم نعمته من مسئولية الشكر العملي بالايمان والطاعة ، ولم يثمروا نتائج لهذا

١٠٨

النعمة بشكل خيّر ، بل عملوا على توجيهها بالاتجاه المعاكس الذي لا يريد الله أن تسير فيه ، وحولوها بذلك من مصدر خير ونجاة للناس ، إلى مصدر شرّ وهلاك لهم وللحياة ، فضلوا وأضلوا (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) أي دار الهلاك (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) ، جزاء لكفرهم وعصيانهم (وَبِئْسَ الْقَرارُ) لأنهم لا يطمئنون فيه إلى مصير مريح لما يلاقونه من عذاب متواصل لا نهاية له ، ولا انقطاع.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) لما ابتدعوه من آلهة ، بحيث أعطوها القداسة وعبدوها ، وأخلصوا لها الطاعة ، (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) لما يمثله ذلك من انحراف عن المنهج الذي يريد الله للناس أن يتخذوه في حياتهم العامة والخاصة ، وابتعاد عن الأهداف التي يريد الله للحياة أن تتجه إليها. (قُلْ تَمَتَّعُوا) وخذوا حريتكم في ما تتقلبون به من حياة وصحة وأمان ، واستسلموا للحظة الحاضرة التي تشغلكم عن التفكير بالمصير الذي تتجهون إليه ، فتؤدي بكم إلى الغفلة الخادعة التي تثير فيكم الشعور بالثقة في المستقبل ، والقوة في الموقف ، (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) لأنها النهاية الطبيعية لتلك البداية. وهذا هو منطق الرسالة الذي يخاطب به الرسل هؤلاء المعاندين المتكبرين الذين أصرّوا على الكفر والعصيان ، أما الذين لا تزال قلوبهم مفتوحة للموعظة وللنصيحة ، فإن هناك منطقا آخر ، يوجه إليهم بأسلوب آخر.

* * *

دعوة المؤمنين للصلاة والإنفاق

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) الذين يريدون النجاة في الدنيا والآخرة ، ويبحثون عن أفضل السبل المؤدية إليها ، (يُقِيمُوا الصَّلاةَ) لأنها معراج روح

١٠٩

المؤمن إلى الله ، والناهية له عن الفحشاء والمنكر ، والمنفتحة به على كل الآفاق الروحية التي تسمو به في رحاب الله وتحرك فيه كل عوامل الخير في الحياة ، (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) بما يمثله الإنفاق من روحية عطاء تنفتح على مشاكل البائسين والمحرومين وآلامهم بكل إيجابية المسؤولية ، وتتلمس المواقع الصعبة لتواجهها بكل ما يمكن أن يخفف من صعوبتها ويدفعها إلى طريق الحل ، دون فرق بين حالة الإسرار التي قد تفرضها الحاجة إلى حفظ كرامة هؤلاء البائسين الذين يريدون للناس أن يكتشفوا واقع الحاجة في حياتهم ، وبين حالة الإعلان ، التي قد تفرضها الحاجة إلى تشجيع الآخرين على الخير ، بتشكيل القدوة الحسنة لهم. وهكذا يعيش المؤمن في الإنفاق ، معنى العبادة العملية من موقع التقرب إلى الله ، والاتجار معه الذي لا ينتفع العباد بشيء كما ينتفعون به ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) وهو يوم القيامة الذي يستطيع أي إنسان أن يكتسب فيه شيئا لم يكتسبه من قبل ، لأنه يوم مواجهة الإنسان لنتائج المسؤولية ، لا يوم التحرك في خطها ، لذا لا يستطيع أن يعتمد في النجاة على أي علاقة صداقة وقرابة أقامها ، لأنه اليوم الذي لا يغني فيه أحد عن أحد ، وإن كانت خلّة المؤمنين لا تنقطع ، بل تمتد إلى يوم القيامة ، ولكن امتداد الخلة شيء ، والانتفاع بها يوم القيامة للنجاة من العذاب شيء آخر.

* * *

١١٠

الآيات

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(٣٤)

* * *

معاني المفردات

(دائِبَيْنِ) : دائمين.

* * *

نعم الله على العباد لا تحصى

ينفتح التصوّر الإنساني ، على آيات عظمة الله في الكون ، ومواقع قدرته ، وحركة نعمته ، من خلال ما يشاهده الإنسان ببصره ، ويعيشه في وجوده ، ويلتقي به في كل مفردات حياته ، وذلك بانفتاحه على التربية القرآنية التي تدعو

١١١

الإنسان إلى الالتقاء بالله في طاعته ، من خلال تربية الإحساس بعظمة الله في نفسه ، لتتحرك الطاعة من أعماق الذات ، لا من خارجها ، ولتلتقي الحركة السائرة نحو الهدف بالقاعدة الروحية في خط مستقيم لا التواء فيه ولا انحراف.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بما فيها من أكوان وخلائق ونظم وأوضاع تنطلق فيها النعمة من مواقع القدرة ، (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أودعه على سطح الأرض وفي عمقها ، فأبدع فيها قدرة الخصب والنموّ ، وشق داخل الحبة والنواة سرّ الثمرة والشجرة ، (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) ، تأكلونه أو تلبسونه أو تستمتعون به ، ولو لا ذلك لما أمكن للحياة أن تنمو في داخل أجسادكم ، وللقوة أن تتحرك في وجودكم ، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) بما أودعه في أجواء البحر من نظم وأوضاع تسمح للسفن أن تبلغ أهدافها من خلاله ، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) التي تتدفق من الينابيع الكامنة في أعماق الأرض ، ومن الثلوج المتفجرة من قمم الجبال ، فتتحول إلى حركة متدفقة تبعث الخير والخصب والنماء في كل أرض تمر عليها ، وتشكل للإنسان وللحيوان ، شريان الحياة الذي تنطلق منه وتتحرك من خلاله ، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) لا ينقطعان عن الحركة في النظام الكوني الذي يؤمن الشروط الطبيعيّة لبقاء الحياة على الأرض وفي الجو ، من خلال هذين الكوكبين اللذين يتدخلان في نظامها المتقن البديع ، في أكثر من سرّ في حركة الحياة في الكون ، (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) في تنظيمهما لحياة الإنسان على القاعدة الثابتة المريحة التي تعطي الجسم راحته وهدوءه في الليل مع ما يؤمنه الظلام من سكون وراحة ووداعة ، وإطلاق حركته في تحصيل لقمة العيش مع ما يؤمنه النهار من إشراق النور وانفتاح كل مطالب الإنسان في الحياة. وهكذا تلتقي الرؤية الواعية بالله في الكون ، حيث يشعر الإنسان ، بأن الله قد أودع فيه الشروط الطبيعية لوجود حياته واستمرارها ، وهذا هو معنى تسخير كل الظواهر

١١٢

الكونية للإنسان ، بحيث يشعر أن كل ما فيها من عناصر القوة كان رحمة من الله به ، وليس هذا هو كل شيء في مظاهر نعمة الله على الإنسان ، بل هناك الظواهر الأخرى المبثوثة في كل مكان من حوله ، وفي داخل جسمه ، مما أعدّه الله للإنسان ، لينعم به في كل ما يحتاج اليه.

(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) مما تحتاجه حياتكم ، في كل صغيرة وكبيرة ، مما تعرفون سرّه ، أو تجهلونه ، أو مما تحسون به ، أو لا تشعرون به ، ولكنكم تجدون آثاره في حياتكم. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) ، وكيف يستطيع الإنسان إحصاء مواقع نعم الله في حياته ، في مفرداتها الصغيرة والكبيرة التي تتجلى آثارها في كل لحظة ، بالمستوى الذي يجعل كل شيء من حوله مظهرا من مظاهر نعم الله عليه ، لعلاقته بالحياة التي يحياها ، في المبدأ وفي التفاصيل.

ولكن إحساس الإنسان اللازم بالشكر لهذه النعم العظيمة التي لا تحصى ، والتزامه بالطاعة والخضوع لله ، وتحريكه لتلك النعم في ما يرضاه له من وجوه الخير كتعبير عن ذاك الشكر ، لا يتمثل في سلوكه وفي حركة حياته ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) فهو يظلم نفسه بالكفر والمعصية ، ولا يؤدي إلى ربه حقه من الشكر لنعمه ، بل يعيش الكفران والجحود في أكثر مظاهر وجوده ، عند ما يستعمل نعم الله عليه في معصية الله ، وهذا ما أشار إليه الإمام علي عليه‌السلام في كلمات حدود فيها المستوى الأدنى لمسؤولية الإنسان أمام نعم الله عليه : «أقل ما يلزمكم لله ألا تستعينوا بنعمه على معاصيه» (١).

ولكن ما معنى هذا الوصف للإنسان بأنه ظلوم كفار ، هل هي صفة لازمة للإنسان في سرّ وجوده ، وخاصية من خصائصه الذاتية ، وإذا كان الأمر كذلك ، فما معنى المسؤولية عن سلوك لا إرادة له فيه ولا اختيار ، وكيف يعاقب

__________________

(١) نهج البلاغة ، قصار الحكم : ٣٣ ، ص : ٤٠٢.

١١٣

الإنسان على ما لم يكن له دخل فيه؟

هذه أسئلة تدور في الذهن أمام هذا الحكم القرآني على نوع الإنسان ، فكيف نجيب عنها؟

والجواب عن ذلك ، أن الآية لا تتحدث عن خصائص الذات ، ولكن عن الصفة كظاهرة في السلوك ، لأن الأغلب في الناس ، أن يعصوا الله في الصغير وفي الكبير ، وأن يجحدوا نعمه في حياتهم العملية ، فهم لا يعيشون العصمة في فكرهم وإرادتهم ، وفي عملهم ومواقفهم ، مما قد يسمح باختلال التوازن ، بين التصور والواقع ، والإيمان والحركة ، ولما تفرضه ساحات الفراغ الفكري والعملي من ثغرات ، تدعو الشيطان إلى الاختباء في داخلها ، والعمل بما تقتضيه.

ومن خلال هذا الواقع الظاهر في واقع الإنسان ، تأتي الدعوة إلى التفكير والانضباط والاستقامة في الخط وفي العمل ، وإلى جهاد النفس في ذلك كله ، من أجل أن يتغير الإنسان في فكره ، ويملك الوضوح في رؤيته ، والقوة في إرادته ، ليغير مصيره ومصير العالم من حوله ، فليس الانحراف قدر الإنسان وقضاءه الذي لا يملك الفرار منه ، بل هو الظاهرة الطارئة الخاضعة لبعض العوامل الداخلية والخارجية التي يملك الإنسان وسائل التغلب عليها وقهرها على كل الأصعدة.

* * *

١١٤

الآيات

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ)(٤١)

* * *

مناجاة إبراهيم ربه بعد بناء البيت

وفي أجواء الإيمان ، مع النداء الإلهي الذي يدعو فيه عباده للعودة إليه

١١٥

والالتزام بأوامره ونواهيه على الخط المستقيم ، الذي يمثله خط الرسالات الذي يبدأ من الله ويسير معه وينتهي اليه ، في هذه الأجواء النابضة بالروح الخاشع أمام الله والمتحرك في سبيله ، نلتقي بإبراهيم النبي الذي انفتح على الله بكل روحه وعقله وحياته ، في موقع المشاعر الذاتية ، وفي ملتقى المسؤوليات الكبيرة في الحياة.

إنه الإنسان ـ النموذج ، الذي يرجع إلى الله في كل صغيرة وكبيرة ، ويبتهل إليه لمواجهة صعوبات الحياة ، ومشاكل العمل ، واهتزاز الخطى في الطريق ، وهو لا يحمل همّا للذات ، بل كل همّه الرسالة ، ولا يتعقّد من سيطرة الهموم المتنوعة عليه ، بل ينفتح على الله في همومه ، ليخفف منها ويعود حرّا طليقا بعيدا عن كل الأغلال النفسية التي تقيّد حرية انطلاق الروح في رحاب الله. إنها قصة السائرين مع الرسالة ، فلا مشكلة لهم مع الناس إلا من خلال حركة الرسالة في الحياة ، وهذا ما تمثله قصة إبراهيم على أكثر من صعيد.

* * *

دعاء إبراهيم

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) ، وذلك بعد أن وضع الحجر الأساس لبناء هذا البلد ، وهو مكة ، وأقام فيه البيت الحرام ، ليكون المنطلق للمجتمع الجديد الذي يلتقي به من قاعدة الإيمان بالله ، وتوحيد العقيدة والعبادة له. ولم يفكر في البداية إلا في الطابع الروحي الذي يريد أن يصبغ هذا البلد ، ويميّزه عن بقية البلدان ، فقد أراده أن يكون بلد سلام يشعر فيه الناس ، مع كل خلافاتهم ونزاعاتهم ، بالأمان بين يدي الله ، فلا يعتدي إنسان على آخر ، بل يعيش تجاهه أحاسيس السلام الروحي القادم من الله ، من خلال الممارسة بإشاعة جو السلام وتشريع تحريم القتال فيه.

١١٦

وإذا كان السلام هو طابع هذا البلد الذي أراده إبراهيم له ، فلا بد لهذا السلام من أن يرتكز على قاعدة في الروح وفي الفكر ، وأي قاعدة أعظم تأثيرا في النفس ، وأكثر قوة على الثبات ، من توحيد الله ورفض عبادة غيره ، لأنها القاعدة التي تخطّط للإنسان المنهج الذي تنطلق منه كل مشاريعه العامة والخاصة ، في علاقاته بالحياة وبالآخرين ، حيث يتأكد شعوره بالتقوى في كل شيء ، في أجواء العقيدة الرافضة لشرك الفكر والانتماء ، وفي أجواء العمل الرافض لشرك العبادة ، وهذا ما عبّر عنه إبراهيم عليه‌السلام ـ في ما حكاه الله عنه ـ بقوله:

(وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ، حيث تمثل عبادة الأصنام استجابة لتسويلات الشيطان وما يثيره ، في مكامن الذات ومشاعرها الحميمة ، من دافع للانسجام مع الجو العام الذي يسيطر عليه الشرك ، بطريقة تجعل الأجواء الخارجية البعيدة عن الحق مسيطرة على الآفاق الداخلية للذات ، فتنحرف عن الخط المستقيم ، طلبا لرضى أو تأييد هذا الفريق أو ذاك ، وهذا الشخص أو ذاك ، لأنهم يملكون السلطة والمواقع الاجتماعي المتقدم الذي تضعف مقدرة الذات على الرفض أمامه إلا إذا توفر لها تأييد الله ورعايته له ، وهو أمر يتحقق بالابتهال إليه أن يمنح الإنسان القوّة في الموقف الرافض الحاسم ، كما يمنح بنيه في الحاضر والمستقبل مثل هذه القوّة في مواجهة كل شرك في العقيدة أو في العبادة ، من دون فرق بين الأصنام البشرية أو الحجرية أو الخشبية ، أو غير ذلك مما اعتاد الناس على عبادته والارتباط به على كل مستوى من مستويات العلاقة النفسية والعملية.

(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) ممن كانوا لا يملكون الوعي المنفتح على حقائق الحياة ، ولا يدققون في الأفكار المطروحة عليهم ، فلا يلتفتون إلى الخرافة وهي تتحرك في هذه الفكرة أو تلك ، تضخيما لبعض الأشخاص أو

١١٧

الظواهر أو الأشياء ، وغير ذلك من أساليب التضليل الفكري والروحي والشعوري ، الذي يخضع الإنسان لمؤثرات داخلية أو خارجية تملك عليه كيانه وتتوه به.

وهكذا كانت هذه الأصنام مصدر ضلال للكثيرين من الناس ، من خلال الفكرة الضالّة التي أريد لها أن تحكم صورتها .. فإن الصنمية فكرة يحركها الوهم والخيال لا الواقع. وقد تكون المشكلة فيها أنّها تفصل إحساس الإنسان بالشيء عن واقع ذاك الشيء شكلا ومضمونا ، بحيث يضخم الإحساس من حجم صورته إلى درجة تفقد الإنسان التوازن في التعامل معه.

ولعل من أفضل أساليب مواجهة الصنمية ، العمل على تعرية موضوعاتها من كل التهاويل التي أحاطت بها ، والأسرار التي أثيرت فيها ، والمشاعر التي تحركت حولها ، ليعرفها الناس بحجمها العادي ، تماما كأي شخص آخر ، وكأيّ حجر آخر ، أو أيّة ظاهرة أخرى ، وذلك بالأسلوب الحكيم الذي يعرف كيف يواجه الخرافة ، بالمنطق العقلي الهادىء البعيد عن عنصر الإثارة الانفعالية.

(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) ، من هؤلاء المؤمنين الواعين الذين يدرسون الوقائع من موقع خصائصها الحقيقيّة التي تكشف أن الله هو خالق كل شيء ، وأن كل من عداه في الكون مخلوق له ، وأن بين حقيقة الخالق والمخلوق فرقا شاسعا لا مجال معه لمنح المخلوق صفة الخالق ، ولا النزول بالخالق إلى مستوى المخلوق ، وأن الضعف أمام مثل هذه الأضاليل لا يبرر الانحراف ، ولا يمثل حجّة أمام الله ، بل لا بد للإنسان من أن يأخذ بأسباب القوّة المتوفرة بكثرة لاكتشاف الحقيقة ، واتباع دعوة الأنبياء في توحيد الله في كل شيء ، والاندماج الروحي بهم ، من خلال الالتزام الكامل بدعوتهم.

(وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، لأن المسألة لا تتعلق بالجانب الذاتي

١١٨

ليعود الأمر إليّ كشخص ، بل تتعلق بالجانب الرسالي المتصل بالله. وبذلك فإن المسألة تعود إلى الله ، فهو الذي يملك عقابهم على معصيتهم له وابتعادهم عن خط طاعته ، وهو الذي يملك المغفرة والرحمة لهم ، إما بهدايتهم إلى الصراط المستقيم ليملكوا الرحمة من خلال أسبابها ، وإما بالتفضّل عليهم بها تبعا لمقتضيات الحكمة. وإذا كان الله قد تحدث في القرآن أنه لا يغفر لمن يشرك به ، فإن ذلك لا يعني استحالة ذلك منه ، كما لا يعني أن طلب إبراهيم ذلك منه يمثل انحرافا ، لأنه خاطب الله بإرجاع الأمر إليه ، من موقع القلب المفتوح المتسامح الذي تنفتح فيه الروح النبويّة على الحياة كلها وعلى الآخرين بكل رحابة.

وإذا كان إبراهيم قد بدأ إقامة البلد الجديد على أساس البيت الحرام ، ليكون قاعدة روحيّة لعبادة الله ، للطائفين والركّع السجود ، فقد فكر أن يستعين بالله في تحويل قلوب الناس إليه ، وإلى هذه الأسرة الصغيرة التي هي جزء من أسرته ، لأن المسألة تحتاج إلى الرعاية الإلهية غير العادية ، في مثل ظروف هذه الأرض الصعبة ، حيث لا زرع فيها ولا كلأ يغري بالمجيء إليها والسكن فيها.

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ، لا من أجل الحصول على مكاسب دنيوية مادية أو معنوية ، لأن الأرض لا توفر الفرصة لذلك ، (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) ليعمروا البيت الحرام بالعبادة ، وليعلّموا الناس مناسكهم ، فيألف الناس من خلالهم الحج إلى هذا البيت استجابة لنداء إبراهيم الصادر من الله إليه. وهكذا كان ترك النبي إبراهيم أهله هناك دون أيّة رعاية مادّية مباشرة ، ليكونوا الأسرة الأولى التي تمثل قاعدة الحج للبيت الحرام ، وكان ذهابه إلى أرض أخرى من أجل إكمال رسالته الشاملة لكل الناس تضحية رسالية من قبله ، (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) وتنجذب بعاطفتها الروحية إلى هذه الأرض ، لتكون قاعدة تجارية وثقافية ، بالإضافة إلى كونها

١١٩

قاعدة روحية تدفع الناس للمجيء إليها طلبا للرزق ، (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) التي تحصل من خلال توارد الناس وتكاثر الوفود ، ليطمئنوا إلى رعاية الله لهم ، جزاء لإخلاصهم وطاعتهم ، وليعرفوا موقع نعمة الله عليهم ، (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) فيزدادوا عبادة لله وإخلاصا له ، من موقع الشكر العملي المتجسّد في حركة الحياة المؤمنة المخلصة.

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) ، من نوايا وأفكار وتطلعات وحاجات تختفي في زوايا قلوبنا ومشاعرنا أو تظهر في كلماتنا وأفعالنا ، فلا نحتاج إلى الكلام الكثير معك من أجل أن نظهر لك ما نريد أو نفسّر لك ما نخفي ، لأنك العالم بكل شيء. وإذا كنا ندعوك ونبتهل إليك ، ونزيد في الإلحاح بطلباتنا ، عليك ، فلأننا نعرف أنك تحبّ منا ذلك لما يمثله من معنى العبادة والخشوع والخضوع ، ولما يوحيه إلينا من حقيقة العبوديّة في فقرها إلى المعبود ، وحاجتها المطلقة إليه ، بمقدار غناه المطلق عنها. فليس عندنا ما نخفيه عنك لأنه ليس هناك في أيّة زاوية من زوايا الوجود ما يخفى عليك ، (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ، فكيف تخفى عليه حاجاتنا الخفية والظاهرة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) بعد أن انقطع الأمل أو كاد ، فاستجاب لدعائي ، (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) لعباده الذين يجد في قلوبهم الإخلاص له وفي حياتهم الحاجة إليه ، في أجواء الاعتماد الكلي عليه روحيا.

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) بما تمثله الصلاة من إخلاص عميق لله مصدره الإحساس الواعي بالعبودية له ، والانفعال الإيماني ، فكرا وشعورا ، بالنداء الإلهي الذي يدعوه للسير على الخط المستقيم الذي حدده الله في كتبه وعبر رسله ، إنها اللهفة الحارّة الخاشعة الحميمة التي تنساب بكل خشوع المؤمن وخضوعه بين يدي الله ، (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) لأن ذلك هو المظهر

١٢٠