تفسير من وحي القرآن - ج ٩

السيد محمد حسين فضل الله

ولذلك كان عرضهم ماديا في مقابل تنازل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الدعوة ، وهذا ما رفضه النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أكثر من مرّة معلنا لهم أن حركة رسالته تنطلق من إيمانه بالله وإخلاصه لدوره الرسالي في الدعوة في مواجهة كل حالات القهر والاضطهاد والتشويه والتهويل ، وهذا ما ينبغي للدعاة إلى الله أن يفهموه ويقتدوا به ويعيشوه في وعيهم للموقف والدور والتحدي الكبير.

ونستوحي من ذلك المنهج القرآني الاستقرائي الذي يوجّه الإنسان إلى متابعة الواقع في مظاهره السلبية من أجل الوصول إلى استنتاج صحيح في المسألة التاريخية الإنسانية في حساب المقدمات والنتائج ، مما يعني أن الإسلام يركز على الاستقراء الواقعي كوسيلة من وسائل المعرفة في كل القضايا التي يمكن للواقع الخارجي أن يكشف عنها ، وهذا مما يجعلنا نتبع ذلك في دراسة الظواهر المتحركة في المعرفة الاجتماعية والنفسية والتاريخية لنخرج بالقواعد الحاكمة للسلوك الإنساني كله ، فلا تبقى المعرفة أسيرة التأمّل العقلي المجرّد ، بل تتحرك في عملية التزاوج بين العقل والتجربة ، لأن ذلك هو الوسيلة الواقعية السليمة لحركة المعرفة لدى الإنسان.

* * *

السؤال أسلوب قرآني في إثارة الفكر

ويتابع القرآن في هذه السورة الحديث عن قصة الإيمان بالله ، فيبدأ حديثه بإثارة حالة التأمّل الذاتي التي تدفع الإنسان إلى اكتشاف ما في داخل أعماقه من أفكار وقناعات حول الإيمان ، ليستعيد بذلك جزءا من نفسه ضاع بين الأجواء اللاهية ، والأوضاع المنحرفة ، والضجيج الذي يشغله عن حياته ، فيستسلم لما يوحيه إليه الآخرون من دون وعي أو انتباه .. وذلك بأسلوب

٤١

فريد من نوعه .. مما كان القرآن يثيره في الداخل من أساليب متنوّعة ، فيطرح سؤالا ، ليثير في النفس تساؤلا ، ويحرك التفكير في هذا الاتجاه أو ذاك لأن المشكلة عند كثير من الناس أنهم لا يفكرون ، لأنهم لا يتساءلون ، وإذا تساءلوا كان السؤال مجرّد صيحة ضائعة في النفس ، فلا يبحثون عن جواب له من داخل الذات أو من خارجها ، لأنهم يواجهون كثيرا من القضايا ، مواجهة اللامبالاة.

إن الإنسان يبدأ دائما بالتفكير من خلال إثارة علامات الاستفهام من حوله ، ولهذا نلاحظ أن الطفل يبدأ عملية التفكير عند ما يبدأ في التطلع إلى الأشياء من حوله بنظرة استفهام وتساؤل .. فيبدأ بطرح الأسئلة حول هذا وذاك ، مما يوحي بأنه قد بدأ يفكر بجدّية .. وهذا ما أشار إليه القرآن في أكثر من مرة ، في التأكيد على أن المشكلة الأساس في قضية الكافرين ، هي أنهم يواجهون قضايا العقيدة بموقف اللامبالاة ، فلا يفكرون في تفاصيلها ليتخذوا موقف السلب والإيجاب على أساس ذلك.

وهكذا طرح القرآن في الآية الأولى السؤال : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟ وتولّى هو الجواب للإيحاء بأنه يمثل بديهة من بديهيات التفكير الذي يبعث السائل على أن يجيب دون أن ينتظر جواب المسؤول : (قُلْ لِلَّهِ). ثم يفيض في الحديث عن الله من جديد من خلال ارتباط الإيمان به والالتزام بعبوديته وبقضية المصير ، ليجتمع إليه الفكر في نطاق الحقيقة الموضوعية ، بالفكر في نطاق علاقته بمصير الإنسان ، وهذا من أساليب القرآن في تربية الدوافع الفكرية لدى الإنسان.

فقد تكون بعض الأشياء من حقائق الحياة التي لا علاقة لها بالمصير الإنساني في حركة المسؤولية ، كما في المعادلات الرياضية التي تتصل بالحقائق الموضوعية لمواردها ، وقد تكون بعض الأشياء مرتبطة بالحياة من

٤٢

جهة وبالمصير من جهة أخرى. ففي الحالة الأولى ، لا مشكلة كبيرة أمام الإنسان في قضية عدم الاعتراف بتلك الأشياء الفكرية المجرّدة ، لأنها لا تتصل بحركة الحياة إلا من خلال علاقتها بالمعرفة العامة ، أو ببعض جوانب الحياة المادية المحدودة ، أما في الحالة الثانية ، فإن القضية تتخذ أهميّة كبري في شخصية الإنسان وفي علاقة الفكر بالمصير والحياة ، فتتحول السلبيّة فيها إلى عملية ابتعاد عن المنهج السليم الذي يقود الإنسان نحو السلامة العامة والخاصة ، كما هي الحال في قضية الإيمان لارتباطها بالنظرة العامة إلى الكون والحياة ، وبالقيادات المتحركة في الكون ، والدور الذي يمثله ارتباط الإنسان بها من قريب أو من بعيد ، الأمر الذي يجعل منها حقيقة عملية ، بالإضافة إلى ما تمثله من حقيقة موضوعية.

والله سبحانه وتعالى ، من سنخ هذه الحقائق التي لا بد من أن يفكر فيها الإنسان من الجهتين ، أي بوصفها حقيقة موضوعية وحقيقة عملية تؤثر تأثيرا عميقا على مصير الإنسان ، بل كان المصير الإنساني يتوقف عليها. من هنا ، فإن الله إذا كان حقيقة موضوعية في الكون ـ كما هو معنى الإيمان ـ فإن ذلك يتدخل في طبيعة الفكر والسلوك والهدف ، بينما يختلف واقع الإنسان كله إذا ما انتفى ذاك الوجود ، وهكذا جاءت الآيات القرآنية التي عالجت موضوع الإيمان بالله لربط الفكر بالمصير ، وربط الإيمان بحركة الحياة بين يدي الله ، وذلك لإعطاء الفكر نوعا من الحيوية والحركية بشكل مميز .. وهذا ما نستوحيه من هذه الآية التي دفعت الجواب إلى الواجهة لتثبت وجود الله موضوعيا لجهة ارتباط خلق الكون به باعتباره المبرّر لوجوده.

* * *

الرحمة الإلهية مصلحة للإنسان

وترق الصورة ، وتنساب بالحنان ليعيش معها الإنسان إحساسا بالجو

٤٣

الحميم الآمن المطمئن ، فقد (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) لأن الخلق لم ينطلق من شعور ، بل من موقع الحكمة التي تحرك الوجود في اتجاه غاية عظيمة تفيض بالرحمة على الأشياء لتصل بها إلى غايتها ، ولذلك كانت الرحمة في حركة الوجود ، وفي حيويّة الحياة ، وما فيها من نعم وألطاف ، وكانت أيضا في تنظيم حياة الإنسان على أساس المسؤولية ليحميه من نفسه ويحمي غيره منه .. وبذلك كان البعث للحساب لونا من ألوان الرحمة التي لا تعني العاطفة ، بل تعني مصلحة الإنسان في وجوده وذلك لجزاء المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته ، ولذلك أتبع الرحمة التي كتبها على نفسه بقوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) فذلك يحقق للوجود غايته في مواجهة نتائج العمل في الدنيا ، وهو الذي يحقق للإيمان قوّته. عند ما يتحول إلى حركة مستقيمة تربط النتائج بمقدماتها ، وتشير إلى النهاية من خلال انطلاقة البداية.

وهناك يقف الناس جميعا يوم القيامة بين يدي الله ، ليواجهوا حساب المسؤولية بدقة ، وليأملوا الحصول على رحمته الواسعة ، إلا فريقا من هؤلاء الذي لا يتعلّقون برحمته بشيء ، وهم الذين لا يؤمنون به ولا يعترفون بتوحيده ، فهؤلاء (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وأيّ خسارة أعظم من خسارة الإنسان نفسه ، وذلك بخسرانه الأساس الوحيد لخلاصه وهو رحمة ربّه المرتبطة بخط الإيمان في الحياة؟! وهكذا يربط القرآن بين عدم الإيمان بالله وبين خسارة الإنسان نفسه .. وقد يفهم الإنسان منها أن القضية لا تعيش في النطاق الأخروي فقط ، بل تمتد إلى النطاق الدنيويّ لما يفرضه ذلك من ظلمة في التصوّر والرؤية والعمل ، في مقابل ما يحصل عليه المؤمن من إشراق الروح في ذلك كله.

* * *

٤٤

لله ما سكن في الليل والنهار

وتقترب الصورة من حياة الإنسان لجهة ما يحيط به من موجودات (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) فإذا بنا نلتقي بالليل والنهار كما لو كانا كونين للأحياء وللأشياء ، وما يهبط أو يصعد ، وما يغفو أو يستيقظ ، وما يتحرك أو يسكن ، وما يختزن الأفكار والمشاعر أو يبدعها ويحركها ويفجّرها ينابيع فكر وعاطفة وحياة ، وما يسترخي استرخاء الجمود الصامت أمام كل عوامل الحركة والحياة ، فلا يحركه شيء من هذا أو ذاك .. ولكنها تلتقي جميعا في خضوعها الإرادي والتكويني لله الذي يملكها ويملك منها ما لا تملكه من أنفسها ، ولذلك فهي تتعبّد له بوجودها إن لم تتعبّد له بإحساسها وتعبيرها ، فهو الذي خلقها وأودع فيها السنن الحكيمة المبدعة التي تحفظ لها سر وجودها ، (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الذي يسمع كل همساتها وتجاوبها ، ونبضات قلوبها ، وخفقات مشاعرها ، وخطرات وجدانها ، وحركات كيانها ، ويحيط بها بعلمه ، فلا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء.

* * *

ولاية الله واقع حيّ وهاجس شعوري

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) وهل يصلح غيره للولاية ، وهل يمكن أن يتولى الولاية من لا يملك من أمره شيئا ، وهو المخلوق الذي يحتاج في وجوده إلى الخالق ، وفي استمرار حياته إلى من يغذيه ويطعمه وينميه ويرعاه ، وكيف يمكن أن يتولّى رعاية المحتاج الضعيف محتاج ضعيف مثله؟

إن الولاية تمثل الإشراف والرعاية والاحتواء في كل ما يحتاجه الإنسان من شؤون القوة والحركة والحياة ، مما يفرض القدرة التي تتحرك في أكثر من اتجاه ، وتلتقي بأكثر من مجال ، وتواجه كل المواقف بما يناسبها أمام كل التحديات المباشرة وغير المباشرة .. وهل هناك غير الله (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

٤٥

الذي أبدعها بكل ما فيها من مخلوقات حيّة وجامدة ، فهو الغني عن كل شيء فيها ، إذ لا شيء في الوجود إلا خلقه؟! (وَهُوَ يُطْعِمُ) فمنه كل غذاء الإنسان والحياة والنبات والجماد ، (وَلا يُطْعَمُ) لأنه ليس جسما يحتاج إلى التغذية والتنمية ، بل هو الذي خلق الغذاء والنمو في داخل حركة الجسم.

وهكذا تتمثل الولاية من الله واقعا حيّا يعيشه الإنسان كهاجس في الشعور الداخلي ، وكطاعة في ممارسته لحركة الإيمان. وها هو يواجه الكون كله بالطاعة للأمر الإلهي بالإسلام لله بأن يكون أول من أسلم : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) وذلك هو مظهر العبودية الحقة ؛ أن لا يكون لك موقف أو كلام أو انتماء خارج نطاق أمر الله ونهيه ، بل أن يكون كيانك كله لله في استسلام خاضع خاشع حتى الانسحاق أمامه ، وإذا كان الحديث في الآية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما يناجي به نفسه ، فإنه يمتد إلى كل موجود حيّ عاقل بأن يتمثل الموقف في إسلام الأمر لله في الفكر والشعور والحياة ، فلا ينتظر من الآخرين أن يسبقوه ، بل يحاول أن يكون هو الذي يتسلم زمام المبادرة لتسليمه بالحقيقة الواضحة التي تفرض نفسها عليه.

وينتقل الحديث من أسلوب الغيبة في الحديث عن الله إلى الخطاب ، ليتمثل الله بكل حضوره العظيم الضاغط على الكون ، وهو يحذّر الإنسان من الشرك الذي يرهق حسّ الصفاء الروحي للوحدانية في الفكر والشعور : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

* * *

الفوز المبين للطائعين المنيبين

ويتحرك خط الإيمان الوجل الخائف من موقع الإحساس بالعظمة الموحية ، إلى الشعور بالمسؤوليّة ، فلا بد من أن يسلم الإنسان أمره إلى الله في كل شيء ويطيعه في كل ما أمر وشرع ، لأن الانحراف عن ذلك يعرّض

٤٦

الإنسان إلى العذاب العظيم الذي ينتظره في اليوم العظيم ، يوم القيامة ، (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وفي هذا الجو المسؤول ، يتجسّم الأمل الكبير في نفس المؤمن في أن يصرف عنه عذاب الله برحمته ، لأن من علامات الرحمة ، أن يبتعد به عن آلام العذاب (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ). وأيّ فوز أعظم من فوز الإنسان برحمة الله ورضوانه والبعد عن عذابه؟!

* * *

الله وحده كاشف الضرّ

ويتصاعد الإيحاء القرآني للإنسان بالحاجة إلى الله ، ليحس بذلك في حياته اليومية ، في ما يصادفه من مشاكل وآلام وأضرار ، وليرجع إليه ويستعين به في إيمان عميق مستغرق في عظمته ، صادق في مشاعره ، واثق بأن الله هو الذي يكشف عنه الضر الذي يصيبه من خلال طوارئ الحياة المسيّرة بقدرته ، المتحركة بحكمته ، فلا كاشف له إلا هو.

ثم يتطلع إلى كل مواقع الخير في الحياة ، في داخل ذاته وخارجها ، ويتلفّت إلى كل من يقومون بأعمال الخير في ما يعطون ، وفي ما يمنعون ، وفي ما يقومون به من أعمال وخدمات ، ثم يحدّق في الآفاق الرحبة للروح فيجد أنهم لا يمثّلون أيّة استقلالية في حياتهم وفي نشاطهم ، بل كل ما هناك ، أنهم أدوات بيد الله يسخرها كيف يشاء ، فلا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا إلا بإرادته. وبذلك كانت أجواء الخير بيد الله ، فلا يملكها إلا هو كما لا يكشف الضر إلا هو : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وما يجدر ملاحظته هنا ، هو أن الله تحدّث في مواقع الضرّ عن أنه الوحيد القادر على كشفه ، بينما تحدّث في مواقع الخير عن قدرته المطلقة ، وربما كان السبب في ذلك أن تطلعات الإنسان في حالات الضرّ تتجه نحو

٤٧

الخلاص ، وذلك بقصد من يملك بيده سبيل الخلاص. أمّا في حالات الخير فإنه يتطلع إلى الزيادة والاستمرار في ما يعيشه من هناء وراحة ، فيناسب ذلك الحديث عن القدرة التي تملأ نفسه بالثقة بالمستقبل الخيّر في ظلال القدرة التي تملك أمر ذلك كله.

* * *

ضعف الإنسان المطلق أمام قوة الله المطلقة

ويخشع الوجود بكل قواه ، وبكل مظاهره ، وينطلق في رحاب الله ، فلا يجد إلا الضعف المطلق أمام القوة المطلقة ، المهيمنة عليه ، القاهرة له ، فكل ما في الوجود مملوك له ، محتاج إليه ، فلا يملك مع الله شيئا في قليل أو في كثير. (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) ويلاحظ استعمال كلمة (فَوْقَ) للإيحاء بالهيمنة والسيطرة تماما ككل شيء فوق أيّ شيء آخر ، وذلك بدلا من كلمة «القاهر لعباده» لأنها لا تعطي مثل هذا الإيحاء الذي تفرضه طبيعة الحاجة إلى حشد الجو النفسي بالسيطرة المطلقة لله ، (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) فلا يتصرف في قدرته القاهرة من موقع السيطرة ، بل من موقع الحكمة التي يحيط بمواقعها ومصادرها في الحياة وفي الإنسان ، لأنه الخبير بما خلق ومن خلق ، تعالى شأنه عن كل المخلوقين.

ومن الطريف أن البعض ممن لا يفهمون أساليب البلاغة في التعبير حاولوا أن يستفيدوا من هذه الفقرة : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) الفوقية المكانية التي توحي بالتجسد لله ، باعتبار أنه يجلس في المكان الأعلى الفوقي بالنسبة إلى عباده.

ولكن التأمل الفنّي البلاغي يدل دلالة واضحة على أن الآية واردة في مقام تأكيد السلطة المطلقة لله على العباد من خلال هذه الفوقية المعنوية السلطوية التي تمثل القاهرية الشاملة ، تماما كما هي قاهرية «الفوق» على «التحت» من خلال إشرافه وتسلّطه عليه بما يملكه من قدرة الإطباق ، وهو ظاهر.

* * *

٤٨

الآية

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (١٩)

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ في قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) الآية ، قال الكلبي : إن رؤساء مكة قالوا : يا محمد ، ما نرى أحدا يصدقك بما تقول من أمر الرسالة ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ، فأرنا من يشهد لك أنك رسول كما تزعم ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

ونلاحظ أن سياق الآية لا يوحي بذلك ، فإن القضية المطروحة بين

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ١١٩.

٤٩

النبي والمشركين هي قضية التوحيد والشرك ، وهذا ما أثاره النبي ـ في الأسلوب القرآني ـ في الشهادة بهذه القضية ، وهي : أن مع الله آلهة أخرى فيرفض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك بقوله ـ في إيحاء الله له ـ (قُلْ لا أَشْهَدُ) ويؤكد التوحيد بقوله : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

وقد انطلقت الآية لتقدم أكبر شهادة على التوحيد من خلال الدلائل الواضحة المتناثرة في آفاق الكون وفي أنفسهم ، وهي الشهادة الأكبر ، لأنها منطلقة من الله الذي يؤمنون به من حيث المبدأ ، ولكنهم يشركون به غيره. ومن خلال هذه الشهادة الإلهية يتحدث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مسئوليته في إنذارهم بالقرآن ليبتعدوا عن الشرك الذي يؤدي بهم إلى الهلاك ليكون ذلك وسيلة من وسائل الضغط على تفكيرهم بما تثيره من الخوف على المصير ، الأمر الذي يجعل القضية بعيدة عن الترف الفكري والجدل العقيم الذي يثيرونه أمام الدعوة بأساليبهم الخاصة.

ولا ينافي ما ذكرناه في الملاحظة ما جاء في الآية (٢٠) من الحديث عن معرفة أهل الكتاب بالنبي ، أو بالقرآن ، لأنها متصلة بالحديث معهم لا مع المشركين ليكون ـ كما يقول سبب النزول ـ أنه إثبات لما نفوه من عدم شهادتهم برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن معرفتهم التي لا تتحول إلى إقرار لا تصلح حجة على المشركين الذين طلبوا الشهادة ـ حسب الرواية ـ والله العالم.

* * *

من أساليب القرآن في مواجهة المشركين

وهذا أسلوب من أساليب القرآن في مواجهة المشركين من ناحية نفسية للتأثير على مشاعرهم ، من خلال ما يؤمنون به من قضايا ، ثم إعطاء المؤمن

٥٠

موقع الحسم في رفض كل الأفكار الإشراكيّة المضادّة .. فتبدأ هذه الآية في إثارة التساؤل : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) لتستثير الإيمان بالله الكامن في أعماقهم في ما يعيشونه من تعظيم لله ، وذلك لأن إشراكهم في الغالب ليس شركا عقيديا بل هو شرك عبادي باعتبار قرب هذه الآلهة من الله مما يجعلها تمنحهم القرب منه ، بحكم العلاقة الوثيقة بينها وبينه .. فإذا كانوا لا يريدون الوصول إلى القناعة من خلال الفكر ، فإن هناك طريقة أخرى لإثبات القناعة وهي الشهادة في ما يمكن أن يكون للحس طريق إليه ، ممن يملك إمكانيّة الاطلاع على الموضوع بشكل دقيق واسع.

ومن هو الشاهد الأكبر الذي يحيط بالأشياء كلها ، ويعرف كل أسرارها ودقائقها؟ ولا تنتظر الآية جوابا من هؤلاء ، بل تبادر إلى الجواب الذي يمثّل الحقيقة الكامنة في وعيهم : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فهو الذي يمثّل في قوله الحقيقة المشرقة الواضحة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، وهو الذي أنزل هذا القرآن لينذركم ويحملكم المسؤولية في ما تعتقدون وما تعملون ، ويحمّلها للناس الآخرين الذين يبلغهم هذا القرآن من الأجيال القادمة ، فلا بد لهم من دراسة هذا القرآن فكرا وشريعة وأسلوب حياة ، ليعرف الإنسان منه معنى التوحيد وحركة النبوّة في الحياة. وهكذا يحاصرهم هذا الأسلوب ، ليحيط بهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، لأنه يطرح أمامهم شهادة الله من خلال القرآن ، ليفكروا في ذلك كله.

* * *

القرآن منذر الإنسان

(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) أي : من بلغه القرآن في حركة الدعوة الموجهة إلى الإنسان كله في كل زمان ومكان ممن تنطلق الرسالة لتصل إليه بالطريقة التي يفهمها ، وبالوسائل التي تلتقي عند ظروفه ، وباللسان

٥١

الذي يتكلم به كما جاء في حديث الإمام جعفر الصادق عليهم‌السلام ـ في رواية الحلبي عن أبيه عنه ـ قال : سئل عن قول الله عزوجل : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) قال : بكل لسان (١). وهذا ما يفرضه القرآن على الدعاة إلى الله أن يبلّغوا رسالاته ويخشوه في حركتهم التبليغية بالوعي لما يبلغونه والصدق فيه من أجل أن تقوم الحجة به على الناس ، لأن الذين لا تبلغهم الدعوة لا حجة لله عليهم وهذا ما جاءت به الرواية ـ في تفسير المنار ـ قال : أخرج أبو الشيخ عن أبيّ بن كعب قال : أتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسارى ، فقال لهم: هل دعيتم إلى الإسلام قالوا : لا ، فخلى سبيلهم ثم قرأ : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) ثم قال : خلّوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم لأنهم لم يدعوا (٢).

وقد انطلقت كلمة الإنذار انسجاما مع موقف العناد الذي اتخذه المشركون من الرسول والرسالة أو الذي يمكن أن تتخذه القوى المضادة أمام الدعوة الإسلامية ، وربما كان هذا ما أبعد كلمة «التبشير» إلى جانب الإنذار ، وقد يكون ذلك من جهة أن الإنذار في الموقف الجاحد يوحي بالتبشير في الموقف الإيماني ، مما جعل المسألة تتحرك لمعالجة الموقف الفعلي الذي يراد من خلاله الضغط على هؤلاء ليتراجعوا عن جحودهم وشركهم بما يتضمنه الإنذار من العذاب الأخروي كمحاولة لتحطيم حالة الجمود الفكري لديهم ، ولكنهم لا يسمعون ولا يعقلون ويصرّون على عنادهم فيتركون شهادة الله ، ليشهدوا شهادة مضادة لها ، لأن هذا النهج هو نهج الآباء والأجداد ، بعيدا عن عالم الفكر والروح.

* * *

__________________

(١) البحار ، ج : ٢٥ ، ص : ١٣٣ ، باب : ٤ ، رواية : ٥ ، طبعة طهران.

(٢) نقلا عن : تفسير الميزان ، ج : ٧ ، ص : ٤٣ ـ ٤٤.

٥٢

الرسول يشهد شهادة الحق في مواجهة المشركين

ويتساءل ، لينكر عليهم هذا الأمر : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) وكأنه يوحي لهم بأن ذلك أمر لا يرتكز على أساس ، ولذلك فإنه يقف في الموقع القوي الرافض في المجابهة بين شهادة الحق وشهادة الباطل : (قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فذلك هو الذي يفرضه العقل ويلتقي به الوجدان .. وتتأكد معه القناعات وينطلق من خلاله الرفض الحاسم للشهادة المضادة ، والاعتراف الواضح بالحقيقة الثابتة بوحدانية الله والإعلان الصارخ للبراءة من كل هذه الأصنام التي تتجسّد فيها رموز الشرك وخطوطه ومناهجه.

وربما كان من الضروري للعاملين في سبيل الله ، استيحاء هذا الأسلوب في المواقف التي قد لا تسمح بالكثير من الجدل الفكري ، حيث ينتهي فيها الحوار إلى طريق مسدود ، بالحواجز النفسية المتنوّعة التي تجرد الحديث المنطلق من القلب المفتوح من تأثيره ، فقد يكون من المفيد الدخول في حالة اقتحام نفسي على المواقف الحاشدة بالإشارة إلى الشهادات التي يلتقي فيها أهل الحوار من دون انتباه للنتائج التي تنتهي إليها ، ليكون الحوار منطلقا جيدا للوصول إلى تلك النتائج الحاسمة من أقرب طريق.

* * *

٥٣

الآيات

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٤)

* * *

معاني المفردات

(فِتْنَتُهُمْ) : جاء في مجمع البيان : «قال الأزهري : جماع الفتنة في كلام العرب الامتحان ، مأخوذ من قولك : فتنت الذهب والفضة : إذا أذبتهما بالنار وأحرقتهما ، وقد فتن الرجل بالمرأة ، وافتتن ، وقد فتنته المرأة وأفتنته» (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٣٥٦.

٥٤

الكافرون خسروا أنفسهم

هل كان أهل الكتاب يجهلون النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليحتاجوا في معرفة نبوته إلى برهان ، وليثيروا حوله جدلا عقيما يتناوله كإنسان ، ويتناول صفته كرسول وموقعه كداعية إلى الله؟ إن القرآن ينفي ذلك ، لأن التوراة تحدثت عن صفاته ، والتاريخ الذي يتداولونه كان يؤكد لهم ظهوره أو خروجه للأجيال اللاحقة ، ولهذا كانوا يستفتحون به على الكافرين قبل ظهور أمره. ويثير القرآن القضية على أساس وضوحها الكامل الذي يجعل من الاقتناع بها أمرا غير قابل للجدل ، فأهل الكتاب يعرفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يعرفون أبناءهم من حيث الذات والصفة ، فلذلك لا يمكن لمن يحترم نفسه منهم إلا أن يعرفه كما يعرف أولاده : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

ولكنهم لم يلتقوا مع أنفسهم في خطّ هذا الوضوح المشرق للحقيقة ، بل ركنوا الى العقد النفسية المظلمة التي تحكّمت في داخلهم على أساس الأطماع والشهوات ، وبذلك خسروا أنفسهم ، لأن قضية الربح والخسارة في الحياة لا تخضع لمقاييس الامتيازات الذاتية الطارئة التي تذوب وتزول في ما يذهب من أوضاع الحياة الفانية ، لأنها لا تمثّل هدفا للحياة بقدر ما تمثل حاجات عادية لها ، ولهذا ، فإنها لا تصل إلى مستوى القيمة التي يضع الإنسان نفسه في موازينها ، بل إن قضية الربح والخسارة تحددها المبادئ الأساسية التي تحكم مسيرة الحياة في جوانبها المادية والمعنوية ، وتمثل ـ في طبيعتها ـ حركة الرسالة ، فتفتح للإنسان ، نافذة على الدنيا المسؤولة من جهة ، ونافذة على الآخرة المطمئنة من جهة أخرى ، وهذا ما عبّر عنه القرآن في دعوته الحاسمة في قوله تعالى : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين : ٢٦].

ولن يحصل الإنسان على ذلك كله إلا بالإيمان بالله ، الذي هو بداية كل خير ، ومنطلق كل صلاح وإصلاح ، والمنهج الذي يجمع له الدنيا والآخرة

٥٥

في ميزان واحد ، من دون أن يطغى جانب منه على جانب ، لأن ذلك هو معنى التوازن في إنسانية الإنسان وواقعية الحياة. ولهذا فرّع القرآن عدم الإيمان على الخسارة ، أو اعتبره مظهرا لها ، فإذا فقد الإيمان فقد النور الذي يشرق في فكره وقلبه ، والهدى الذي يفتح عيونه على الصراط المستقيم ، والنهج الصالح الذي يخطط له الحاضر والمستقبل. وهكذا كان الموقف المتعنّت لهؤلاء في ما رفضوه من حقيقة المعرفة للرسول خسارة لهم في داخل حياتهم وخارجها ، لما تمثله خسارة الإيمان من ضلال وضياع في ظلمات التيه.

* * *

خسارة النفس أفظع أشكال الظلم

وليست قضية الخسارة هنا مجرد خسارة ذاتية ، ولكنها أفظع أشكال الظلم ، وأيّ ظلم أعظم من أن يظلم الإنسان ربّه؟ لا ظلم القوّة ، لأن الإنسان يمثّل الضعف كله أمام الله ، ولكنه ظلم الافتراء والكذب ، والإساءة إلى مقام الله الذي خلقه ورزقه وتعهّده في كل حياته ، بالرحمة والرعاية التامّة ، في ما ينسبه إليه من الباطل ، وفي ما يكذّبه من آياته .. ثم هو الظلم الكبير للحياة وللإنسان ، في ما يشوّهه من الحقائق ، ويهدّمه من القضايا ، ويضلّله من الخطوات ، فليست الأكاذيب التي يفتريها هؤلاء مجرد كلمات تتحرك في الهواء ، وليست المواقف التي يقفونها ضد شريعة الله مجرّد مواقف تتجمد في حياة أصحابها ، ولكنها تتحول إلى شريعة من شرائع الباطل التي يدين بها الناس باسم الحق ، أو سنّة يقتدي بها الناس في ما يقتدون به من سنن الأولين ، لأن أصحابها يمثّلون انتماء دينيا ، له قداسة الدين في ما يعتقده الناس ، ويملكون موقعا كبيرا له احترامه العميق في ما يعيشه الناس من احترام المقامات الكبيرة ، ولهذا كانت القضية تشكل خطرا مستقبليا على مستوى الفكر والعمل ، مما جعل من ممارستها ممارسة لأكبر أنواع الظلم ، لأنّ أيّ ظلم ، غير هذا اللون من الظلم ، يأخذ لنفسه حجما محدودا ، ولا

٥٦

يستوعب الحياة التي تتحرك في مسيرتها صعودا وهبوطا من خلال مفاهيم الحق والباطل ، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ).

* * *

الظالمون المفترون الكاذبون لا فلاح لهم

ولكن هل يتصور هؤلاء أنهم قد ربحوا الجولة الأولى ، وربحوا معها أنفسهم ، وأفلحوا في الوصول إلى السعادة؟ إن الله يواجههم بالحقيقة المرّة الصارخة : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) فسيواجهون نتائج أعمالهم السيّئة في الدنيا والآخرة ، وسيتبخر في الهواء كل ما بنوه من أحلام ، وكل ما حصلوا عليه من امتيازات .. وسيقفون غدا بين يدي الله ، في وقفة حساب وحوار : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أين الآلهة التي كنتم تدعونها من دون الله ، أو تعبدونها معه؟ ففي يوم القيامة فقط تتكشّف المواقف الحقيقية دون لفّ أو دوران ، لأن كل إنسان ينزع عن نفسه أو ينزع عنه القناع الذي كان يلبسه لإخفاء شخصيته ، على أساس ما يملك من مال أو جاه أو امتياز خاصّ أو عامّ ، ويقف عاريا لا يملك إلّا صفاته وأعماله.

ويتحداهم السؤال في ضغط الموقف عند ما يواجهون عذاب الله ، فلا يجدون منفذا للخلاص ، ولا مجالا للهرب إلا بالإنكار ، (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) إنه الموقف الصعب ، الذي يمثل فتنة واختبارا لصلابة القاعدة التي يخضع لها الإنسان مواقفه ، فتبدو مجرّد رماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف ، فانهارت أمام ذلك كل القناعات التي كانوا يلتزمون بها في أوضاعهم الاستعراضية ، فبينما كانوا يتبجّحون بالشرك في دنياهم ، إذا بهم يهربون من مجرد نسبته إليهم في أخراهم ، وذلك بتأكيد النفي بالحلف بالله ربّهم ، كمظهر من مظاهر الضعف النفسي للمشركين أمام مواقف المواجهة الحاسمة.

٥٧

(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ويوجّه الله الخطاب إلى النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى كل ناظر ، ليستعرض بوعيه ما يمثله الشرك من ضعف أمام الحق ، فيضطر أصحابه إلى الكذب ، ومحاولة الهروب ، فقد (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) وعاشوا حالة هروب من أنفسهم ، وهروب من أفكارهم ، وتلك هي الخسارة الكبرى ، أن يفقد الإنسان نفسه وفكره ، ليصبح مجرد شبح ضائع تتلاقفه ظلمات التيه من كل جانب ، من دون أن يصل إلى أية نتيجة إيجابية على مستوى المصير.

* * *

من وحي الآيات

ونستوحي من ذلك أن على الناس الذين يستسلمون للرموز الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التي قد تملك بعض مظاهر القوة أو بعض أوضاعها ، فيطيعونهم في معصية الله ، ويستغرقون في ذلك كله تماما كاستغراق العبيد بالآلهة ، ثم تتبدل الأمور وتتغير ويتحول هؤلاء «الطواغيت» أو الأقوياء إلى أناس عاديين لا يملكون لأنفسهم ضرّا ولا نفعا ، ويقف الناس الذين سقطوا أمامهم في عملية استسلام وانبطاح ليواجهوا الموقف الجديد في حالة الإحباط النفسي والاجتماعي ، ليدخلوا في دائرة الاعتذار والتبرير ، لأنهم لا يريدون أن يتحملوا المسؤولية بما عملوه وما تحركوا فيه. إن مثل هذا الاختلاف بين البداية والنهاية في الآخرة كما في الدنيا ، يفرض على الإنسان الوعي لمواقفه على أساس حسابات العواقب ، حتى لا يقف في نهاية المطاف الموقف الصعب الذي يواجه فيه دمار كل شيء بناه في ماضيه ليجد نتيجة ذلك في مستقبله.

إن البدايات لا تمثل معنى حركة الإنسان في الحياة ، لأنها قد تتحوّل إلى نهايات مأساوية ، لذلك لا بد للإنسان من أن يدرس طبيعة النهاية إذا أراد أن يبدأ طريقه في نقطة البداية.

* * *

٥٨

الآيتان

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٢٦)

* * *

معاني المفردات

(أَكِنَّةً) : الأكنّة : جمع كنان ، وهو ما وقى شيئا ، وستره ، مثل : عنان وأعنّة ، قال الليث : كل شيء وقى شيئا فهو كنانه وكنّه ، والفعل منه ، كننت وأكننت ، والكنّة : امرأة الابن أو الأخ لأنها في كنّه ، واستكنّ الرجل من الحر واكتنّ : استتر (١).

(وَقْراً) : الوقر : الثقل في الأذن ، والوقر ـ بالكسر ـ الحمل.

(يُجادِلُونَكَ) : الجدال : الخصومة ، سمّي بذلك لشدّته ، وقيل : إنه مشتق من الجدالة ، وهي الأرض لأن أحدهما يلقي صاحبه على الأرض.

(أَساطِيرُ) : خرافات وأكاذيب. وأساطير : واحدتها أسطورة وأسطارة ، مأخوذ من سطر الكتاب (٢).

(وَيَنْأَوْنَ) : أي : يبعدون ، والنأي : البعد ، يقال : نأيت عنه أنأى

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٣٥٧.

(٢) (م. ن) ، ج : ٤ ، ص : ٣٥٧.

٥٩

نأيا ، ومنه : أخذ النّؤي ، وهو الحاجز حول البيت لئلا يدخله الماء.

* * *

مناسبة النزول

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ قال ابن عباس في رواية أبي صالح : إن أبا سفيان بن حرب ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وعتبة وقيس ابني ربيعة ، وأمية وأبيّا ابني خلف ، استمعوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ، ما يقول محمد؟ قال : والذي جعلها بيته ، ما أدري ما يقول ، إلا أني أرى يحرك شفتيه يتكلم بشيء وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى وكان يحدث قريشا فيستملحون حديثه. فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

ونلاحظ أن الآية تتحدث عن جدال بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبينهم ، وعن الآيات الدالّة على الإيمان التي قدمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم ، وعن أحاديث متنوّعة تتصل بقضايا الرسالة فكرة وتاريخا مما يجعلهم يستمعون إليه ويعونه ولكنهم لا يصدقونه ، وليست المسألة ـ كما تقول الرواية ـ عن النضر أنه لم يسمع منه شيئا ، كما أن ذلك يتنافى مع قوله : إنها أساطير الأولين ، إلّا إذا كان يتحدث عما سمعه سابقا من أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إن الآية ـ حسب سياقها ـ تتحدث عن الأجواء التي كانوا يعيشونها من رفض الاستماع إلى الأفكار ومناقشتها من موقع المسؤولية الفكرية ، فهم يواجهونها مواجهة اللامبالاة ، كما لو كانت عقولهم مقفلة ، وآذانهم مغلقة ، مما يجعل كلمة الأساطير التي يلصقونها بحديث النبي مجرد كلمة استهلاكية للهروب من الحوار القائم على التفكير الجدّي المسؤول.

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ١١٩.

٦٠