تفسير من وحي القرآن - ج ٩

السيد محمد حسين فضل الله

الآيتان

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (١٤٢)

* * *

معاني المفردات

(أَنْشَأَ) : الإنشاء : إحداث الفعل ابتداء لا على مثال سبق وهو كالابتداع ، والاختراع هو إحداث الأفعال في الغير من غير سبب ، والخلق هو التقدير والترتيب.

(جَنَّاتٍ) : جمع جنة ، وهي كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض.

(مَعْرُوشاتٍ) : مرفوعات الأغصان بالدعائم ، الممسوكات على العرش ، والعرش ـ في الأصل ـ شيء مسقّف ، يقال : عرشت الكرم إذا جعلت له كهيئة السقف. ويكنى بالعرش عن العزّ والسلطان والمملكة باعتبار علوّه.

٣٤١

(أُكُلُهُ) : ثمره وما فيه من الطعم والشكل واللون والرائحة. والأكل هو الشيء الذي يؤكل.

(الْمُسْرِفِينَ) : الإسراف : تجاوز الحدّ وقد يكون بالمجاوزة إلى الزيادة ، وقد يكون بالتقصير ، وهو أن يجاوز حدّ الحقّ والعدل.

(حَمُولَةً) : ما يستخدم للحمل والركوب. فتشمل كل الحيوانات الصالحة لحمل الأثقال والأحمال.

(وَفَرْشاً) : ما يستخدم من صوفها ووبرها فراشا. وقيل : الفرش : الحيوانات التي لا تصلح إلا للذبح ولا يمكن الركوب عليها في مقابل الحمولة التي تكون صالحة لذلك.

* * *

كيفية التعاطي مع رزق الله

والله هو الذي خلق الزرع ، على تنوّع أشكاله وألوانه وأثماره ، فهناك البساتين المعروشة المرفوعة الأغصان على دعائم (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) ، وهناك البساتين غير المعروشة ، المتروكة أصولها من غير دعائم (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) ، والنخل والزرع ، كالحنطة والشعير والعدس والرز وغيرها ، أو في طعمه ورائحته ، (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً) يشبه بعضه بعضا ، كثمر الرمان ، وإن كان قد يختلف في طعمه ، من حيث الحلاوة ، والحموضة ، (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) ، يختلف في شكله وطبيعته.

وقد حدّد الله للإنسان ما يفعله فيه في دوائر ثلاث :

الأولى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ). فلأصحابه أن يأكلوا منه من دون حرج ، لأن الله قد أباحه لهم في ما أباح من الطيبات ، وليس لأحد غير الله

٣٤٢

أن يحرّم شيئا منه ، لأن الخلق بيد الله ، فلا معنى لأن يملك أحد أمر التحليل والتحريم غيره.

الثانية : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فهناك حقّ مجعول للفقراء من قبل الله ، يوم حصاده ، ويوم قطعه ولعله اكتفى بالحصاد تغليبا ، وربما كانت هذه الآية بداية لتشريع الضريبة على الزرع في الإسلام ، على سبيل الإجمال ، ثم جاء التفصيل بعد ذلك عند ما قننت الشريعة بشكل تفصيلي الأحكام الشرعيّة ، وقد ذهب البعض إلى أنها الزكاة المشروعة ، ولكن بعضهم اعترض على ذلك ، بأن كثيرا مما ذكر في هذه الآية ، كالزيتون والرمان ونحوهما ممّا ليس فيه زكاة ، وإننا نتحفظ في هذا اللون من الاعتراضات ، لأننا نعتبر أنّ القرآن هو الأساس في معرفة قضايا الشريعة ، فليس من المألوف أن نردّ ظاهر آية ، بوجود حكم على خلافها لدى الفقهاء إلا أن تكون المسألة ناشئة من اعتراض على أصل دلالة الآية ، أو وجود مخصص لعمومها ، أو مقيّد لإطلاقها من دليل آخر.

وقد جاء في الدر المنثور عن ابن عباس في قوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال : نسخها العشر ونصف العشر (١).

ولكن يرد على ذلك ، ما ذكره العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان بعد ذكره الرواية ، قال : أقول : ليست النسبة بين الآية وآية الزكاة نسبة النسخ إذ لا تنافي يؤدي إلى النسخ سواء قلنا بوجوب الصدقة أو باستحبابها (٢).

وقد ذكروا أن حكم الزكاة نزل في المدينة بينما الآية مكية مما يبعد أن تكون الآية متعرّضة لحكم الزكاة ، ولكن لقائل أن يقول : إن هذه الآية قد تكون واردة للحديث عن بعض الأنواع التي تجب فيها الزكاة بطريقة خاصة

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٣ ، ص : ٣٦٧.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ٧ ، ص : ٣٨٢.

٣٤٣

لتكون آية الزكاة الآتية بعد ذلك واردة في بيان الحكم بشكل شمولي لا سيما وأن ظاهر الآية الوجوب.

قد جاء في أحاديث أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ما يوحي بأن الحكم في هذه الآية وارد في الزيادة عن الحق الواجب في الزكاة ، بحيث كان ملحوظا حتى في مورد تشريع الزكاة : ومنها :

ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن شريح قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : في الزرع حقان : حق تؤخذ به وحق تعطيه ، قلت وما الذي أؤخذ به؟ وما الذي أعطيه؟ قال : أما الذي تؤخذ به فالعشر ونصف العشر ، وأما الذي تعطيه فقول الله عزوجل : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) يعني من حصدك الشيء بعد الشيء ولا أعلمه إلا قال : الضغث ثم الضغث حتى يفرغ (١).

وما رواه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فقالوا جميعا ، قال أبو جعفر عليه‌السلام هذا : من الصدقة يعطي المسكين القبضة بعد القبضة ، ومن الجداد الحفنة بعد الحفنة حتى يفرغ ويعطي الحارس أجرا معلوما ويترك من النخل معافارة ، وأم جعرور ويترك للحارس يكون في الحائط العذق والعذقان والثلاثة لحفظه إياه (٢).

وفي ضوء أمثال هذه الروايات ، لا بد من رفع اليد عن ظهور الآية في الوجوب لصراحتها في أن موردها هو مورد الصدقة بمعناها العام الاستحبابي باعتبار أن الحق هنا هو الذي يعطيه لا الذي يؤخذ به.

__________________

(١) الكافي ، ج : ٣ ، ص : ٥٦٤ ، رواية : ١.

(٢) م. ن ، ج : ٣ ، ص : ٥٦٥ ، رواية : ٢.

٣٤٤

وعلى كلّ فإن الآية توحي بأن على صاحب الزرع أن يؤدي هذا الحق للفقراء والمساكين عند حصاده ، وقد جاء في تفسير العياشي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام في الآية قال : أعط من حضرك من المسلمين فإن لم يحضرك إلا مشرك فأعط (١).

وهذا دليل على روح السماحة والعطاء التي يريد الإسلام للإنسان المسلم أن يعيشها مع كل الناس المحرومين سواء أكانوا من المسلمين أم كانوا من المشركين ، بروحية عطاء وإحساس بآلام الفقراء والمساكين ، من أيّ دين كانوا ، وربّما كان التعبير بكلمة (حَقَّهُ) في ما يعطيه الإنسان من الثمر ، سواء أكان واجبا أم كان مستحبا ، دلالة على أن قضية العطاء في الإسلام ليست منحة ذاتية تنطلق من شعور بالفوقية كما يحس به المعطي تجاه الفقير بل هي حقّ يؤديه لصاحبه ، لأن المال لله ، فإذا أراد الله من الإنسان أن يعطيه لأحد ، مستحبا كان أو واجبا فإنه يعطيه من موقع الحق ، لا من موقع التفضّل ، ممّا يحفظ به للفقير كرامته ، وللمعطي روحيته وإيمانه ، وهذا هو المعنى الذي ينبغي للتربية الإسلامية أن تؤكد عليه في ما تستهدفه من بناء الشخصية المسلمة ، فعلى المسلم أن يحسّ دائما بأن عليه حقّا للناس في ماله ، وفي كل ما رزقه الله من طاقة ، على أساس ما لله عليه من حق في ذلك كله ، فهو عند ما يعطي ، فإنما يؤدي حق الله للآخرين.

الثالثة : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). قد يكون الموضوع في هذه الفقرة ، إتيان الحق للفقراء ، في ما جاءت به بعض الأحاديث في أن لا يعطي الإنسان عطاء المسرف الذي لا يبقي لنفسه ولا لعياله شيئا ، فقد روى الطبري وغيره عن ابن جريج قال : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جدّ نخلا فقال : لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له

__________________

(١) نقلا عن : تفسير الميزان ، ج : ٧ ، ص : ٣٨١.

٣٤٥

ثمرة فأنزل الله : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (١) وروي ذلك عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) فقال : كان فلان ابن فلان الأنصاري سماه وكان له حرث ، وكان إذا أجذّ يتصدق به وبقي هو وعياله بغير شيء فجعل الله ، ذلك سرفا (٢).

وربّما كان الأساس في ذلك ، أن الله يريد للإنسان أن يكون واقعيا متوازنا في صدقاته ، ربما يستغني عنها في بعض الحالات ولكنه لن يستطيع الثبات على أساس الاستغناء عنها دائما. فإذا أعطى كل شيء أوّل مرة ، وثاني مرّة ، فإنه سيواجه ردّة الفعل الثالثة أو الرابعة ضدّ الصدقة كمبدإ ، لأن حاجاته ستتحداه وستتكاثر ، بسبب إهماله لها في المرة الأولى والثانية ، وأما إذا أعطى شيئا وأبقى لنفسه شيئا ، فإنه يبقى في خط التوازن الطبيعي للأشياء ، وبذلك يمكن له أن يستمرّ ويبقى على الخط إلى ما شاء الله.

وقد عبّر الله عن ذلك في ما جاء به التفسير في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] من إنفاق الإنسان جميع ماله باعتبار أنه لون من ألوان إلقاء النفس في التهلكة في ما قد يؤدي إليه الإفلاس الكلي من الوقوع في قبضة الهلاك. وقد ورد في بعض الأخبار ، أن الله لا يريد للإنسان أن ينفق كل ماله ويترك أولاده ، من بعد موته ، يسألون الناس ، وهذا كله مما يؤكد الفكرة التي ألمحنا إليها من عدم الإسراف في الصدقة.

ولكن هذا التطبيق التفسيري على هذا المورد الخاص ، لا يعني أن الفقرة تختص به ، لا سيّما إذا لاحظنا ما ذكره بعض المفسرين من أن ثابت بن قيس كان أنصاريا مدنيا ، بينما كانت الآية مكية ، مما يوحي بأن ما ذكر في سبب النزول كان تطبيقيا ، من قبل الرواة ، وليس مناسبة لنزول الآية.

وبقطع النظر عن هذه الملاحظة ، فإن سبب النزول لا يخصص الآية في

__________________

(١) تفسير الطبري.

(٢) البحار ، م : ٣٤ ، ج : ٩٣ ، ص : ٦٣ ، باب : ١٠ ، رواية : ١٧.

٣٤٦

نطاقه الخاص أو العام ، بل يترك الآية في محتواها الشامل. وعلى ضوء هذا فإن من الممكن أن نأخذ منها الفكرة العامة الداعية إلى أن لا يتجاوز المؤمنون الحدود الطبيعية التي تصلح بها أمورهم في ما يتصرفون به من مالهم ، فلا يسرفون ولا يبذّرون فيه ، ولا يضعونه في غير موضعه ، ولا يسرف الفقير الآخذ بتضييعه ، لأن الله يريد للإنسان أن يعرف بأن المال حاجة ، وليس لهوا ، فينبغي له أن لا يتجاوز به حدود حاجته ، وأن الملكية وظيفة ومسئولية ، وليست ترفا وامتيازا ، فينبغي له أن لا يتصرف بها إلا في حدود الوظيفة والمسؤولية الفردية والاجتماعيّة ، ليمكن للحياة أن تسير في مجراها الطبيعي ، وتتوازن في علاقاتها العامة والخاصة ، فلا يذهب شيء من المال هدرا ، ولا يقع شيء منه في غير موضعه ، وبذلك يكون الإنسان منسجما مع إرادة الله وحكمته في تحريك النظام الكوني. وإذا كان الله يريد للإنسان أن لا يكون مسرفا في ماله ، فإنه لا يريد منه أن يكون مسرفا في أكله وشربه ، وفي ممارسة شهواته ، سواء كان ذلك في حياته الفردية أو الاجتماعية.

وربما نجد في بعض الكلمات الواردة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام ، ما يجعل من الإسراف ، طرح شيء مما اعتاد الناس طرحه ، إذا كان هناك منفعة تحصل منه ، وذلك في

ما جاء عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : إن القصد أمر يحبه الله عزوجل وإن السرف أمر يبغضه الله ، حتى طرحك النواة ، فإنها تصلح للشيء وحتّى صبّك فضل شرابك (١). فإن الفكرة الاقتصادية التي نستوحيها من هذه الكلمة ، أن على الفرد أو الأمّة أن تدرس ما في الأشياء التي بيدها من خلال ما فيها من منافع وفوائد ، فتحاول أن تستثمرها في ذلك ، ولا تطرحها في الأرض ، استهانة بها ، أو لأن العادة اقتضت ذلك ، أو لأنها تكسل عن الاستفادة منها ببذل الجهد في ذلك.

ونلاحظ في هذا المجال مثل نواة التمر والزيتون التي يمكن استخدامها

__________________

(١) الكافي ، ج : ٤ ، ص : ٥٢ ، رواية : ٢.

٣٤٧

في بعض المنافع العامة ، ومثل الماء الذي يصبّه الإنسان في الأرض بعد الانتهاء من الشراب ، فإن من الممكن أن يحتفظ به الإنسان ، فلا يصب في كأسه أكثر مما يحتاج إليه ، أو يحتفظ بما في الكأس لشربة جديدة. وهكذا يمكننا أن نعتبر الاقتصاد وترك الإسراف قيمة روحيّة ، كما هي قيمة اقتصادية ، فإذا كان الله لا يحب المسرفين ، فإنه يحب المقتصدين. وبذلك يمكننا ملاحظة هذا التزاوج بين القيمة الروحية والقيمة المادية للأشياء في الإسلام.

* * *

تسخير الأنعام للناس

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) حيث سخّرها الله لنا لنركب على ظهورها ولتحملنا وتحمل أثقالنا إلى بلد لا نبلغه إلا بشقّ الأنفس ، كما ألهمنا الله أن نستخدم من صوفها ووبرها فراشا نجلس عليه ، ورزقنا من لحومها وشحومها وألبانها الرزق الطيب الذي أباح لنا أكله وشربه ، واستطابه لنا ، ولم يحرّم علينا شيئا منه إلا ما كان فيه ضرر على البدن. إنه يدعونا في الآية (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من هذا أو من غيره ، وتلك هي نعمة الله على الإنسان في ما ينمّي به حياته (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) في تحريم ما أحله الله ، أو في استخدام ما رزقكم الله في معصيته ، أو في التعامل به ، بما لا يرضاه ، أو في ممارسة ألوان السرقة والغش والخيانة والغصب ونحوها في تحصيله وكسبه ، فإن ذلك كله من خطوات الشيطان وتسويلاته التي تبعد الإنسان عن جادة الحق وبالتالي عن الله ، ولا بد للإنسان من أن يواجه الشيطان مواجهة العدوّ لعدوّه ، لأنه العدوّ الواضح الذي أعلن عداوته وسخّر كل طاقاته لإضلال الإنسان وإغوائه وإبعاده عن الصراط المستقيم ، إنه يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير. وهذا ما يوحي به قوله تعالى : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

* * *

٣٤٨

الآيتان

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٤٤)

* * *

الظلم الأكبر افتراء الكذب على الله

ويستمر القرآن في تأكيد رفضه لأي تحليل أو تحريم صادر من البشر ، تحت تأثير أيّ وضع من الأوضاع في معرض حديثه عما حرّمه المشركون من الأنعام ومن أجنّتها مما تقدم الإشارة إليه في آية سابقة ، ولكنه يطرح القضية بطريقة التساؤل في معرض الإنكار ، فهناك (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) ، الذكر والأنثى ، (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) الذكر والأنثى ، وهناك (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ) الذكر والأنثى ، (وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) الذكر والأنثى. وهي ثمانية

٣٤٩

أزواج ، وتتساءل الآية : ما هو الذي حرّم من هذا الزوج أو ذاك : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) وهي الأجنّة ما هو أساس التحريم؟ (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) هل هناك علم من شريعة سابقة أو لاحقة؟ (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) عند ما أنزل الله تحريم هذه الأشياء على أنبيائه ، (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ) ليس هناك إلا الافتراء الذي هو أشد الظلم ، لأن فيه اعتداء على حرمة الله في ما يجب له على الناس من الخضوع له والاستسلام إليه ، واعتداء على حرمة الناس في إضلالهم بغير حجّة ، في ما يقتضيه الإضلال من الإساءة إلى مصلحتهم في الدنيا ومصيرهم في الآخرة ..

ويختم الله الآية : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأنّهم أغلقوها على أنفسهم. وقد شاءت إرادة الله وحكمته ، أن يترك الإنسان وجها لوجه أمام مصيره ، تبعا لإرادته واختياره حتى لو كان ذلك في خط الضلال ورفض الهدى ، لأن الله يريد أن يعاقب الضالّين المتمرّدين في الدنيا بتركهم لأنفسهم وضلالهم ، قبل أن يعاقبهم في الآخرة بالنار وبئس القرار.

* * *

٣٥٠

الآيات

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (١٤٧)

* * *

معاني المفردات

(رِجْسٌ) : الرجس : الشيء القذر. قال الراغب : الرجس يكون على أربعة أوجه ، إما من حيث الطبع ، وإما من جهة العقل ، وإما من جهة الشرع ، وإما من كل ذلك كالميتة ، فإنّ الميتة تعاف طبعا وعقلا وشرعا ، والرّجس من جهة الشرع الخمر والميسر ، وقيل : إن ذلك رجس من جهة العقل ، وعلى ذلك نبّه بقوله تعالى : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : ٢١٩] لأن كل ما يوفي إثمه على نفعه فالعقل يقتضي تجنّبه ، وجعل الكافرين رجسا من حيث إن الشرك بالعقل ، أقبح الأشياء قال تعالى : (وَأَمَّا

٣٥١

الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] وقوله تعالى : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [يونس : ١٠٠] قيل : الرجس النتن ، وقيل : العذاب وذلك كقوله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨] وقال : (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) وذلك من حيث الشرع ، وقيل : رجس ورجز للصوت الشديد (١).

(فِسْقاً) : الفسق : الخروج عن حجر الشرع وذلك من قولهم : فسق الرطب إذا خرج عن قشره ، وهو أعمّ من الكفر ، والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير ، لكن تعورف في ما كان كثيرا ، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقرّ به ثم أخلّ بجميع أحكامه أو ببعضه ، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق ، فلأنه أخلّ بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة.

(ظُفُرٍ) : الظفر ظفر الإنسان وفي غيره ، قال : (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) أي : ذي مخالب ، ويعبّر عن السلاح به تشبيها بظفر الطائر إذ هو له بمنزلة السّلاح.

(الْحَوايا) : المصارين والأمعاء لأنها تحوي الفضلات ، وقيل : كل ما تحويه البطن ، وقيل : المباعر.

* * *

الانحراف في مسألة التحريم عند البعض في زمن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)

ويبقى الانحراف في مسألة التحريم يحكم الموقف في آيات الله ، لأنه من القضايا التي تتصل بالمبدأ ، فالمسألة هي مسألة الافتراء على الله ، في مجال التشريع ، أن تقول لشيء لم يحرّمه الله ، إنه حرام ، مستغلا ـ في ذلك ـ جهل الناس وسذاجتهم ، وغموض قواعد التحريم والتحليل في بعض المجالات ، وتلك هي قصة الكثيرين الذين يجعلون من أنفسهم مشرّعين

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ١٩٣.

٣٥٢

باسم الله في ما يلبّسون به على الناس من أمر دينهم ، ويريد القرآن في هذا التدرج والتنوع في أسلوب معالجة القضية أن يوحي بأنها مسألة مهمّة جدا ، وبأن علينا أن نتبع كل الوسائل في سبيل كشف الزيف الذي يقوم به أمثال هؤلاء ، بإثارة علامات الاستفهام التي تحرجهم ، وبالتنديد بهم ، وبمواجهتهم بالحجة القاطعة ـ في نهاية المطاف ـ من أجل إبعاد الساحة عن شياطين الكذب والافتراء ، ليبقى الإسلام بعيدا عن الكذب والتشويه والتمويه ..

وهكذا يقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصفته الرسالية ، في ما يريد الله له أن يقف ، ليؤكّد الأصل في تكذيب كل دعاوى التحريم ، فإنّ الله عند ما يحرّم شيئا على الناس ، فإنه يوحي به إلى رسوله. وقد حدد الله لرسوله عدة محرمات. فلم يجد ما يدّعيه بعض الناس من هذه المحرّمات ، فمن أين جاء هؤلاء من تحريم ما حرّموه؟ هل هناك نبيٌّ آخر؟ هل هناك وحيٌ آخر لم تعرفه النبوّة؟ ليس هناك شيء من هذا ، ولم يدّعه حتى هؤلاء المدّعون.

* * *

بيان المحرمات من الحيوانات

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) في ما يأكله الناس من لحوم الحيوانات ، أو من غيرها مما يشمل ما ادّعى هؤلاء حرمته (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) مات حتف أنفه ، (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) وهو ما يتدفّق من الذبيحة وينصبُّ منها ، أما ما يختلط باللحم ولا يمكن تخليصه منها إلا بجهد فوق العادة ، فهو معفوٌّ عنه مباح ، (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) أي : قذر تستقذره النفس وتنفر منه ، (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وهو ما ذبح على اسم غير الله ، وهو الأصنام والأوثان ، فإنه فسق لأنه قد تجاوز أمر الله في ما أمر به من ذكر اسمه عليه ، والإهلال : رفع الصوت بالشيء ، وهو كناية عن ذكر الاسم الذي تذبح الذبيحة عليه.

٣٥٣

وقد يستوحي الإنسان من التعبير بقوله : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أنه إشارة لما ورد في آية سابقة : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١] بأنهما يفيدان معنى واحدا فيكون المحرّم هو ما أهلّ لغير الله به ، باعتبار أنّ ما لم يذكر اسم الله عليه هو الذي كان يرافقه غالبا ما ذكر اسم غير الله عليه ، وكذلك لأن الذبح كان لا يخلو من أحد الأمرين في ما سبق ، وبهذا قد يفهم الفقيه ، أن التحريم في مثل هذه الموارد ، كان ناشئا من ذبحه على الأوثان ، فلو لم يذبح على هذا الأساس ، بأن لم يذكر فيه اسم الله ، ولا غيره ، إما جهلا أو سهوا ، فيحكم بحلية الذبيحة.

إنه موضوع للتفكير ، لأننا لسنا هنا في بحث فقهي مفصّل. (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى الأكل مما ذكر (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقد تقدم الحديث عن معنى الباغي والعادي وعن بعض ما يتعلق بتفصيلات هذه الأمور في سورة المائدة آية ٢ ، وفي سورة البقرة آية ١٧٣.

وقد يطرح سؤال هنا ، أن الآية ظاهرة في اقتصار التحريم على هذه الأمور ، في الوقت الذي نجد في الشريعة من المحرّمات ما هو أكثر من ذلك ، فكيف نفسر الموضوع؟

ويجاب عن هذا بأن الآية مكية ، وأنها واردة في مقام ردّ هؤلاء الذين ادّعوا تحريم ما حرّموه ، فكانت بيانا لما كان محرّما في ذلك الوقت ممّا أنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المحرّمات ، ممّا لم يتضّمن ما ذكروه ، ومما اقتصر على ما جاءت به الآية ، ثم توسع التحريم ـ بعد ذلك ـ على حسب تدرّج الشريعة في نزول الأحكام ، كما نلاحظ ذلك في سورة المائدة التي هي من السور المدنية ، وكما نلاحظ ذلك في ما ورد من السنة النبويّة من تحريم أشياء غير مذكورة في القرآن الكريم.

ولكن ربّما نلاحظ على هذا الجواب أن مثل هذا الحصر للمحرّمات قد

٣٥٤

ورد في سورة البقرة في آية (١٧٣) بما يقرب من هذا التعبير في قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) وذلك بأسلوب الحصر مع أن سورة البقرة مدنيّة.

وقد يخطر بالبال أن هذه الآية واردة في حصر المتعارف من الحيوانات التي يأكلها الناس في ذلك الوقت فيخرج منها أمثال الحيوانات التي لم يتعارف بينهم أكلها ، كالكلاب والسباع والحشرات ونحوها ، فلم تكن واردة في عنوان الآية : (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) لتخرج منها وليرد إشكال التخصيص بالأكثر ، فيكون الحصر إضافيا لا حقيقيا. وربما قيل : إن الحصر حصر إضافي من جهة أخرى ، وهي أن هذه الآية ناظرة ـ فقط ـ إلى نفي الأحكام الخرافية التي كانت شائعة وسائدة في أوساط المشركين كأن الآية تقول : إن المحرّمات الإلهية هي هذه المذكورة في الآية. ولكنّ ذلك كلّه خلاف الظاهر.

ولا بدّ من التوسّع في بحث هذه المسألة من ناحية فقهية ، لأننا نلاحظ في بعض الروايات الواردة في كتب أهل السنة ، أو في كتب أهل الشيعة ، أن الحرام هو ما حرّم الله في مواجهة روايات أخرى تحرم حيوانات لم يأت ذكرها في القرآن الكريم ، وهو ما قد يرفضه بعض الفقهاء ، أو يعتبره بعض آخر من قبيل التخصيص لعمومات الكتاب ، لما ثبت عندهم من جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد.

ونشير في هذا المجال إلى بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، مما ينفي تحريم غير ما هو مذكور في القرآن ، فقد جاء في تفسير العياشي ـ في ما نقله الميزان عنه ـ عن حريز عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه‌السلام قال : سئل عن سباع الطير والوحش حتى ذكر له القنافذ والوطواط والحمير والبغال والخيل ، فقال : ليس الحرام إلّا ما حرّم الله في كتابه ، وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم خيبر عن أكل لحوم الحمير ، وإنما

٣٥٥

نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوه ، ليس الحمير بحرام. وقال : قرأ هذه الآيات (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ)» (١). وفي روايات أخرى عن الإمامين الباقر والصادق عليهم‌السلام جاء في بعضها : إنما الحرام ما حرّمه الله في كتابه ولكنهم كانوا يعافون أشياء فنحن نعافها» (٢).

وربّما كان تحريم ما حرّمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما ثبت تحريمه بدليل معتبر ، منطلقا من اندراجه تحت عنوان الخبائث الذي أشارت إليه الآية الكريمة الواردة في صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧] كما ذكر في تفسير الميزان (٣).

ولكن قد يخطر بالبال أنّ مفهوم الخبائث من المفاهيم المتحرّكة التي تختلف فيها الأذواق في حياة الشعوب بحسب مدلولها العرفي في إطلاق الكلمة ، فقد يكون الشيء خبيثا لدى جماعة وغير خبيث عند جماعة أخرى وقد لا ينطبق ـ في المفهوم العام ـ على كثير من المحرّمات كالسباع في الطير أو في الحيوانات البحرية ، فلا بد من القول بأن الخارج منها وارد على سبيل التّخصيص الذي لا يلزم منه تخصيص الأكثر باعتبار خروج الكثير بعنوان واحد لا بأسمائها المتعدّدة الكثيرة ، والله العالم.

والمسألة من مسائل الفقه ، فلا بد من الرجوع إلى تفاصيلها في الكتب الفقهيّة ، لأننا هنا بصدد البحث عما يتعلق بالجانب التفسيري من الآية.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٧ ، ص : ٣٨٢ ـ ٣٨٣.

(٢) م. ن ، ج : ٧ ، ص : ٣٨٣.

(٣) انظر : م. ن ، ج : ٧ ، ص : ٣٨٣.

٣٥٦

تحريم كل ذي ظفر

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) ذكر في مجمع البيان ، أن المفسرين اختلفوا في معناه ، فقيل : هو كل ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل والنعام والإوزّ والبط ، عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ومجاهد والسدي ، وقيل : هو الإبل فقط عن ابن زيد ، وقيل : يدخل فيه كل السباع والكلاب والسنانير وما يصطاد بظفره عن الجبائي ، وقيل : كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب عن القتيبي والبلخي (١). ونلاحظ أن الاختلاف هنا في التخصيص والتعميم ، مما هو خارج عن نطاق مدلول الآية في إطلاقها ، لأن الظاهر من كلمة (ذِي ظُفُرٍ) هي ذوات الأظفار بشكل كليّ ، كما تشير إليه كلمة (كُلَ) ، أمّا ما هو غير ذلك ، أو ما يخصص ذلك بمورد خاص فلا بد من الرجوع فيه إلى أحاديث السنّة.

* * *

ما هو محرم من البقر والغنم

(وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) مما هو في أجوافهما (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) من الشحم ، وهو المتّصل باللحم السمين في الظهر (أَوِ الْحَوايا) وهي المصارين والأمعاء ، لأنها تحوي الفضلات ، وقيل الحوايا : كل ما تحويه البطن ، فإن الشحوم المتصلة بها غير محرّمة ، وقيل هي المباعر .. (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) وهو شحم الجنب والإلية لأنه على العصعص ـ وهو عجب الذنب وعظمه ـ.

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) فقد عاقبهم الله على عدوانهم ، بتشديد القيود عليهم في مآكلهم .. فقد كانت أحكام التحريم المتنوعة عقوبة لهم على قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل كما جاء في

__________________

(١) مجمع البيان ، م : ٢ ، ص : ٤٧٠.

٣٥٧

الآية الكريمة : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) [النساء : ١٦٠].

وفي مجمع البيان : وقيل إن ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير والشحوم فحرّم الله ذلك ببغيهم على فقرائهم ، ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره. ويتساءل صاحب مجمع البيان حول موضوع انطلاق التكليف من موقع العقوبة فيتابع قائلا : ويسأل فيقال : كيف يكون التكليف عقوبة ، وهو تابع للمصلحة وتعريض للثواب؟ وجوابه أنه إنما سمي جزاء وعقابا ، لأنّ عظيم ما فعلوه من المعاصي اقتضى تحريم ذلك وتغيير المصلحة فيه ، ولو لا عظم جرمهم لما اقتضت المصلحة ذلك (١).

ونلاحظ على ذلك ، أنّ مثل هذه التعليلات الاعتراضية والجوابيّة ، خاضع للمدرسة العقليّة الفلسفية التي تحاول أن تخضع خطّ التكاليف للمصالح والمفاسد الكامنة في طبيعة الأشياء ، ولكننا نعتقد أن من الممكن أن تكون المصالح والمفاسد كامنة في إصدار الأحكام ، وذلك من ناحية تأديبيّة ، في ما تقتضيه خطّة التأديب التي تفرض على الناس تنفيذها ، إلى مرحلة معينة ، كما نجده في ما حكاه الله عن عيسى عليه‌السلام (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران : ٥٠] وربما كان هذا هو مقصود صاحب مجمع البيان.

(وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في ما نخبركم به من قضايا التحريم في الماضي وفي الحاضر ، (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) واستمروا في ضلالهم وتمرّدهم (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) ومن رحمته أنه لا يعاجل المكذّبين بالعقوبة ، بل يمهلهم ويفتح لهم باب التوبة ، ليرجعوا إليه ويتراجعوا عمّا هم فيه من العصيان والتمرّد ، ولكنه لا يهمل العاصين والظالمين إذا استمروا ، وليس لهم من أحد يدافع عنهم أمام الله ، (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) فسيواجهون عذابه ، إذا أصرّوا على أن يكونوا من القوم المجرمين.

* * *

__________________

(١) م. س ، ج : ٤ ، ص : ٤٧٠ ـ ٤٧١.

٣٥٨

الآيات

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١٥٠)

* * *

معاني المفردات

(الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) : الحجّة البيّنة الواضحة التي تبلغ قطع عذر المحجوج بأن تزيل كل لبس وشبهة عمّن نظر فيها واستدل بها. والحجة : الدلالة المبيّنة للمحجّة المقصد المستقيم.

(هَلُمَ) : جاء في المجمع : قال الزجاج إنها «هاء» ضمّت إليها «لم» وجعلتا كالكلمة الواحدة ، فأكثر اللغات أن يقال : هلمّ للواحد والاثنين والجماعة ، بذلك جاء القرآن نحو قوله هلمّ إلينا ، ومعنى (هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ)

٣٥٩

هاتوا شهداءكم ، ومن العرب من يثني ويجمع ويؤنث فيقول للمذكر : هلم ، وللاثنين : هلمّا ، وللجماعة هلمّوا ، وللمؤنث هلمّي ، وللنسوة : هلممن ، وفتحت لأنها مدغمة كما فتحت ردَّيا هذا في الأمر لالتقاء الساكنين ، ولا يجوز فيها هلمّ للواحد بالضمّ كما يجوز في ردّ الفتح والضم والكسر لأنها لا تتصرف.

قال أبو علي : هي في اللغة الأولى بمنزلة رويد وصه ومه ونحو ذلك من الأسماء التي سميت بها الأفعال ، وفي الأخرى بمنزلة ردّ في ظهور علامات الفاعلين فيها كما يظهر في ردّ ، وأما هاء اللاحق بها فهي التي للتنبيه لحقت أوّلا لأن لفظ الأمر قد يحتاج إلى استعطاف المأمور به واستدعاء إقباله على الأمر ، فهو لذلك يقرب من المنادي ومن ثم دخل حرف التنبيه في ألا يا اسجدوا ألا ترى أنه أمر كما أن هذا أمر ، وقد دخل في جمل أخر نحوها أنتم هؤلاء ، فكما دخل في هذه المواضع كذلك لحقت في لمَّ ، إلا أنه كثر الاستعمال معها فغيّر بالحذف لكثرة الاستعمال كأشياء تغير لذلك نحو لم أبل ولم أدر وما أشبه ذلك مما يغير للكثرة (١).

* * *

المشركون يبررون شركهم بأنّه مشيئة من الله

وتظلّ القضية قضيّة مواجهة هؤلاء المشركين في شركهم وفي تحريمهم ما لم يحرّمه الله في كتابه ، فيحدثنا الله عن منطقهم الذي يبرّرون به ما فعلوه ، ويتخذون منه أساسا للحصول على شرعيّة شركهم وتشريعهم ، فكل ما يحدث منهم هو بإرادة الله ومشيئته ، لأن الله إذا أراد شيئا فإنه يقول له كن فيكون ، وإذا لم يشأ شيئا فإنه لا يمكن أن يوجد ، لأن انتفاء مشيئته في الوجود ، تعني فعلية إرادته في العدم. وفي ضوء ذلك ، تتحرك حجتهم في

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٤٧١.

٣٦٠