تفسير من وحي القرآن - ج ٩

السيد محمد حسين فضل الله

على الإسلام في تحريمها ، ولهذا فقد يكون ما ذكر اجتهادا من الرواة في مناسبة النزول ، لا برواية عن الواقع في نزول الآية.

* * *

أنموذج من نماذج الالتزام بالخط الإلهي

وهذا أنموذج من نماذج الالتزام بالخط الإلهيّ ، بعيدا عن أكثر من في الأرض الذين يضلّون عن سبيل الله ، وذلك لأن المؤمن الحق ، هو الذي يقف عند حدود الله ، في ما حلّله وحرّمه ، بعيدا عن أيّ اعتراض مما قد يعترض به الآخرون وعن أيّ سوء فهم مما قد يخطر في البال ، أو عدم فهم مما قد تشتبه فيه الأمور ، لأنه (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب : ٣٦] فهو التسليم المطلق لله. فإذا كان الله قد رخّص في شيء ، فإنّ علينا أن نستجيب لرخصه ، من دون أن نتعقّد من ذلك ، وإذا كان قد حرّم شيئا ، فإن علينا أن نمتثل لنهيه من دون أن نعترض على ذلك ، ثم نحاول أن نفهم سرّ الرخصة هنا وسرّ التحريم هناك ، على أن لا يغيّر ذلك شيئا من طبيعة الأمور ، في خطّ التزام الإيمان.

وقد أراد الله للمؤمنين التحرك في هذا الاتجاه في بعض الأمور التي كانت تقع موضعا للجدل بين المؤمنين والمشركين ، وربما أحس المسلمون ، أو بعضهم ، بشيء من الضعف في موقفهم أو في موقف الدفاع عن الحكم الشرعي الذي يلتزمون به ، فقد كان المشركون يعلّقون على ما يلتزم به المسلمون من أكل الحيوان المذكّى الذي ذكر اسم الله عليه ، وامتناعهم عن أكل الميتة ، فيقولون لهم : أتأكلون ما قتلتم أنتم ولا تأكلون ما قتله الله؟ وكأنّهم ـ بذلك ـ يعترضون على إخلاصهم لقضية الإيمان بالله ، لأن ما يعملونه قد يعني ـ في ما يعنيه ـ أنهم يحترمون شرعيّة أفعالهم أكثر مما

٣٠١

يحترمون شرعية فعل الله ، فكانوا يحسّون بشيء من عقدة القلق الخفيف ، في هذا الجو.

وقد جاءت هذه الآيات لتبعد عنهم هذه الأوهام التي أثارها المشركون في أنفسهم ، فهم لا يستحلّون ما يستحلّونه مما يذبحون من الحيوان ، احتراما لفعلهم ، بل تعظيما لله في ما شرّعه لأنه أباح لهم أكل الحيوان الذي ذبح على اسمه ، فكانت شرعيته منطلقة من اسم الله الذي يوحي لهم بالشرعية ، باعتبار أنه بداية كل شيء في حياة المؤمن ونهايته ، ولذلك حرّم عليهم ما لم يذكر اسمه عليه ، أو ذكر اسم غيره عليه ، لأنّه مما لم يأذن به الله .. وهكذا نعرف معنى تحريم الميتة ، لأن فعل الله في إماتته للحيوان ، لا يعطي للأكل منه شرعيّة ، ما لم يصدر منه الإذن في ذلك ، في ما يوحيه الإذن من وجود منفعة للإنسان فيه.

* * *

الأكل مما ذكر اسم الله عليه

أمّا أسلوب الآيات ، فقد عالج المسألة ، من خلال الخطّ الذي ينبغي للمؤمن أن يتحرك فيه ، وهو خط الالتزام بما شرّعه الله ، حراما أو حلالا ، لأن ذلك هو علامة الإيمان : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) لأن الإيمان بآياته يفرض العمل بمضمونها ، فإذا جاءت الآيات بتحليل شيء فإن من المفترض على المؤمن أن يمارسه في عمله ، من موقع هذا الحكم ، ثم لا يمتنع عنه تحت تأثير أيّة شبهة ؛ (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) في ما فصله من المحرمات في كتابه ، فإنه لم يذكر فيها تحريم ذلك ، فكيف تتوقفون فيه لمجرّد كلمة تسمعونها من مشرك؟! (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) وهذا هو الاستثناء من كل ما حرّمه الله ، لأن قضية الاضطرار تعني الحالة التي تتوقف عليها حياته ، بحيث لو لم يفعل هذا

٣٠٢

أو يترك ذاك لهلك ، فإن قيمة الحياة في استمرارها تعلو كل قيمة أخرى سلبيّة أو إيجابية ، لأن الله قد حرّم ما حرّم من أجل الحفاظ على سلامة حياة الإنسان ، فإذا كان الالتزام بالحلال يهدد حياته ، فلا بد من الالتزام به أن يتأخر ، لتتقدم حياة الإنسان.

وربما يخطر في البال أن معنى الاضطرار لا يتوقف على أن يصل الأمر إلى حدّ الهلاك ، فيمكن أن يشمل صورة وصوله إلى حدّ الحرج الذي يواجه فيه الإنسان وضعا غير محتمل ، من ناحية صحيّة أو عمليّة ، في نطاق الظروف المحيطة به ، وهذا ما يمكن أن يصدق عليه الاضطرار في مفهوم العرف. وقد نستطيع تأكيد ذلك في ما تحدثت عنه الآية الكريمة : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] و (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] فإننا نستبعد أن يكون هناك تعدّد في العناوين الرافعة للتحريم ، لا سيما بلحاظ اقتراب المفهومين من بعضهما البعض ، وتلاقيهما في أكثر من مورد ، إننا نسجل هذا الاحتمال ، من أجل أن نضعه موضع التفكير ، في خطّ الاجتهاد الفقهي ، لأن الوصول به إلى نتيجة حاسمة ، قد يحقق لنا الكثير من النتائج الفقهية على مستوى حياة الناس العمليّة.

(وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) فيثيرون الشبهات أمام أحكام الله وتعاليمه ، لمجرّد إرباك الموقف ، وتضليل الخطى ، ولا مانع من الشبهات إذا كانت منطلقة من قاعدة علميّة مستندة إلى تحليل فكريٍّ للأشياء ، لأنّ المنطق العلميّ يمكن أن يؤدّي إلى نتيجة إيجابيّة في مجال الحوار ، لأن هناك قاعدة محددة يمكن أن يلتقي عليها المتحاورون ، في ما يمكن أن يتحاوروا فيه من موازين العلم وقضاياه ، أمّا الشبهات التي تثار على أساس الأهواء والشهوات ، فلا مجال لإدارة الحوار حولها ، لأنها لا تستند إلى أساس للأخذ والردّ ، بل كل ما يحمله دخولها هو المزيد من الأوهام والضباب والدخان ، الذي يحجب الرؤية قليلا ، ثم يضيع في الهواء.

٣٠٣

وفي هذه الحالة ، لا بدّ من أن يرجع الإنسان إلى قاعدة إيمانه وفكره ، فيخلو إلى نفسه ، ليعرف ـ من خلال ذلك ـ كيف تتبخّر كل هذه الشبهات في الفضاء من دون حاجة إلى جهد كبير ، لأن المسألة تتحوّل ـ في حركة الساحة ـ إلى عدوان على الحق ، لا إلى فكرة تبحث من خلال الشبهات عما هو الحق ، في هذا الجانب أو ذاك ؛ وإذا كانت القضية قضية عدوان على حدود الله .. فإن على المؤمن أن لا يتراجع عن خط الدفاع عن إيمانه وعما يفرضه هذا الإيمان من حدود ، ولن يضرّه أحد ـ في ذلك ـ شيئا ، لأن كل ما يحدث هو في علم الله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) وهو الذي يتولّى حسابهم في الآخرة.

* * *

ترك الإثم قاعدة إيمانية

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) وتلك هي القاعدة الإيمانية التي تؤكد للإنسان أن يدع الإثم كله ، في ما يمثله من المحرمات ، لأن إرادة الله تفرض عليه ذلك ، سواء كان هذا الإثم ظاهرا واضحا لا يمكن أن تقترب إليه الاحتمالات الخفيّة ، أو كان باطنا يعرفه بعض الناس وينكره بعض آخر ، فإنّ مثل هذا اللّون من الاختلاف لا يغيّر شيئا من طبيعة الإثم من حيث ما يتمثل فيه من مضرّة للإنسان وسخط لله.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) الذي توحي به شهواتهم ، وتدعوهم إليه أطماعهم ، فينسون الله وينسون أنفسهم ، حتى يظنوا أنهم بعيدون عن سيطرة الله الواحد القاهر ، فيأخذون حرّيتهم ويمتدّون في الإثم كما يشاءون ، ويكسبونه بكل جهدهم وطاقتهم ، فيحسبون أن المسألة قد انتهت ، تماما ، فلا عقاب ولا عذاب ، ولكن الله لا ينسى إذا نسوا ، ولا يغفل إذا غفلوا ، في ما اقترفوا (سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) من ظاهر الإثم وباطنه.

* * *

٣٠٤

خط فاصل بين الحرام والحلال

ويعود الحديث من جديد إلى المسألة التي أثارها المشركون ، في موضوع الذبائح (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وهذا مما يؤكّد الخط الأساس في موضوع حلّ الذبيحة حيث يكون الخط الفاصل بين الحرام والحلال ذكر اسم الله وعدمه ، (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) لأنه يمثل التجاوز عن خط الشريعة التي أنزلها الله على رسوله. وذلك هو مظهر الفسق في حياة الناس ، والمعصية لله من موقع الإصرار عليها ، وهناك عدة أحاديث فقهية حول هذه المسألة ، من حيث كفاية ذكر اسم الله في حلّية الذبيحة ، أو إضافة شرط إسلام الذابح إلى ذلك ، ونحو ذلك من الأمور التي أفاض فيها الفقهاء ، مما لا نجد مجالا للحديث عنه في التفسير ، فليترك ذلك إلى كتب الفقه.

* * *

إطاعة أولياء الشياطين شرك

(وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) من الكافرين والمشركين الذين يتقنون إثارة الشبهات في ما يمكن أن يستلب الشعور ، ويأخذ العقل ، لا لشيء إلا لما يعيشونه من عقدة مرضيّة تجاه الإيمان (لِيُجادِلُوكُمْ) بأسلوب مماثل للذي ألمحنا إليه حيث كانوا يحاولون الإيحاء إليهم أن قتيل الله أولى بالأكل من قتيلهم.

وربما كان من بين أساليبهم إثارة الشبهة حول ما يعنيه اسم الله في موضوع الحلّ ، ما دام ذلك لا يغيّر شيئا من طبيعة الذبيحة وعناصرها النافعة والضارّة ، ولكنهم ينظرون إلى القضية من جانبها المادي الذي يتعامل مع الأشياء من منظور مادّيٍّ لا مكان للروح فيه ، ولكن الإسلام يريد أن يربّي الإنسان على وجود جانب فوق المادة لا بد من أن يمارسه في مأكله ومشربه

٣٠٥

ومطعمه وملذاته ، فإذا أراد أن يذبح الحيوان ويأكله ، وهو مخلوق مثله ، فعليه أن يتحسّس في ذلك ، أنه لا يأكله من خلال صفة الحاجة الطبيعية فيه فحسب ، بل من خلال إذن الله وأمره له بذلك ، فهو يتحرّك في كل مجالاته بإذن الله وأمره ، ليتأكد فيه هذا الإحساس العميق بعلاقته بالله. وبهذا نفهم كيف تحرّك الأدب الإسلامي في استحباب ذكر اسم الله على كل بداية أو نهاية في قضايا الطعام والشراب والجنس والعلاقات العامة للإنسان ... حتى يكون ذلك بمثابة إيحاء دائم للإنسان بعلاقته بالله ، وبارتباطه به في كل شيء. وبذلك يكون الشيء خبيثا عند ما يفقد اسم الله ، وطيّبا عند ما يذكر اسم الله عليه.

* * *

(وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) إشراك العبادة الذي يعني الطاعة والخضوع. فإذا كان هناك وحي الله ، ووحي الشيطان ، واختار الإنسان غير وحي الله ، فإن ذلك يعني التمرد على الله والخضوع لغيره ، وذلك هو الشرك غير المباشر ، لأن قضية التوحيد ليست مجرد فكرة تعيش في العقل ، كما تعيش المعادلات الرياضية المجرّدة ، بل هي فعل إيمان يتحرك في الفكر ليحرّك المشاعر والأفعال والأقوال والمواقف لتكون ـ كلها ـ صورة حيّة له ، لتتحول الحياة من حوله إلى فعل إيمان بالله وبطريقه.

* * *

٣٠٦

الآيات

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) (١٢٤)

معاني المفردات

(جَعَلْنا) : حكمنا حكما تكوينيا بحسب النظام الكوني والأسباب والمسببات وصراع الإرادات. وقد مر سابقا.

٣٠٧

(أَكابِرَ) : جمع الأكبر وقد قالوا : الأكابرة والأصاغرة ، كما قالوا : الأساورة والأحامرة.

(لِيَمْكُرُوا) أصل المكر : الفتل ، ومنه : جارية ممكورة ، أي : مفتلة البدن ، فكان المكر معناه الفتل إلى خلاف الرشد.

(أَجْرَمُوا) : الاجرام : الإقدام على القبيح بالانقطاع إليه ، لأن أصل الجرم القطع ، فكأنه قطع ما يجب أن يوصل من العمل. ومنه قيل للذنب : الجريمة.

(صَغارٌ) : ذل وهوان. والصاغر : الراضي بالمنزلة الدنيّة.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ قال ابن عباس في آية : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) يريد حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل ، وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفرث ، وحمزة لم يؤمن بعد ، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه ، وبيده قوس ، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ، ويقول يا أبا يعلى ، أما ترى ما جاء به؟ سفه عقولنا وسبّ آلهتنا وخالف آباءنا؟! قال حمزة : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله ، أشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

وقيل ـ كما جاء في مجمع البيان ـ إنها نزلت في عمار بن ياسر حين آمن وأبي جهل ، عن عكرمة ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام. وقيل :

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ١٢٥.

٣٠٨

نزلت في عمر بن الخطاب ، عن الضحاك ، وقيل : إنها عامّة في كل مؤمن وكافر عن الحسن وجماعة ، قال الطبرسي : وهذا أولى لأنه أعمّ فائدة فيدخل فيه جميع الأقوال المذكورة (١).

والظاهر أن ما ذكره الطبرسي في المجمع هو الأقرب ، وذلك لأن الروايات الواردة في مناسبة النزول ليس فيها ما يدلّ على أن هناك مشكلة في التساوي والتفاضل بين شخص وشخص ، لتكون الآية متعرضة لتفضيل هذا الشخص المؤمن على ذلك الشخص الكافر. فإن الروايات جاءت لتتحدث عن صراع بين شخصين أحدهما في موقع الكفر والآخر في موقع الإيمان من دون وجود أيّ حديث آخر حول نسبة أحد الموقعين إلى الموقع الآخر ، ولهذا فإننا نتصور أنها واردة في مورد الآيات التي تفضل الإيمان على الكفر ، كقوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [السجدة : ١٨] ، أو التي تفضل العالمين على الجاهلين ، كما في قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] في سياق الحديث عن القاعدة الحاكمة على الواقع من حيث المبدأ ، والله العالم.

وجاء في مجمع البيان في نزول قوله تعالى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ) قال : نزلت في الوليد بن المغيرة ، قال : والله لو كانت النبوّة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا (٢).

ونلاحظ على هذه الرواية أنها تتحدث عن كبر السنّ أساسا للتفضيل في إنزال النبوة عليه ، ولا تتحدث عن إنزال الوحي عليه كشرط للإيمان بما جاء به النبي.

وقيل : نزلت في أبي جهل بن هشام قال : زاحمنا بني عبد مناف في

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٤٤٦.

(٢) م. ن ، ج : ٤ ، ص : ٤٤٩.

٣٠٩

الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبيّ يوحى إليه ، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، عن مقاتل (١).

* * *

انفتاح المؤمن على الله وانغلاق الكافر على ذاته

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) في هذه الآيات وما بعدها ، حديث عن الجوّ الداخليّ الذي يعيشه الإنسان المؤمن ، في الانفتاح على الحياة من خلال الانفتاح على الله ، في مقابل الجوّ المنغلق الذي يعيشه الإنسان الكافر ، وذلك من خلال الحديث عن الإنسان الذي كان ميتا فأحياه الله وجعل له نورا يمشي به في الناس ، ولكن كيف نتمثل هذه الصورة؟

إن الموت هنا لا يعني الموت المادي ، وهو انعدام الحياة في الجسد بل هو فراغ الإنسان من حركة الفكر والشعور والإيمان ، وذلك عند ما يعيش بدون فكرة أو قضيّة ، ولا يعرف ما يريد ، ولا ما ذا يراد به ، فلا مجال لأيّة حركة للحياة في أعماقه ولا من حوله ، لأن قضية الحياة والموت في الجانب الروحي والفكري في الإنسان تتمثّل في ما ينطلق به من آفاق وأوضاع وأفكار ومشاريع وعلاقات ، فإذا كان الإنسان مؤمنا ، بالمعنى الواسع للإيمان ، فإنه ينفتح على الله ، وعلى كل المعاني الخيّرة ، والقيم الكبيرة ، والآفاق الروحية ، في حركة الامتداد والعمق ، أمّا إذا كان كافرا ، فإنه ينغلق على ذاته ، ولا ينفتح على أيّ شيء آخر ، إلا من خلال المادة ، فهي ساحة الحركة الضيقة عنده ، لأنه لا يملك الفكرة الكبيرة التي تربطه بتلك الآفاق ، فالمادّة هي كل طموحاته ، وكل شيء في الحياة يخضع

__________________

(١) م. س ، ج : ٤ ، ص : ٤٤٩.

٣١٠

للحسابات المادية ، حتى العواطف والمشاعر والعلاقات ، فلا يعطي إلا بمقدار ما يأخذ. إنه يستمر في الدوران حول نفسه ، فيختنق ـ في النهاية ـ داخل ذاته.

ثم إن الإيمان ـ في شخصية المؤمن ـ يوحي له بأنه لا يمثّل ـ كما لا يمثل أيّ شيء في الحياة ـ كيانا مستقلّا منفصلا عن الله ، بل يعتبر كل شيء موصولا به ، ومنطلقا منه. وبذلك كانت الحياة ساحة خاضعة لله ومشدودة في علاقاتها إليه ، فإذا فكّر الإنسان ، فإن الفكر يتحرك من حيث يريد الله له أن يتحرك ، ليكون الفكر المسؤول ، كما أن العمل يتحرك في خط المسؤولية العامة في حياة الناس ، كل شيء عنده بحساب ، ولكنها ليست حسابات التبادل المادي التجاري مع الناس ، بل هي حسابات الإنسان مع الله ، وبذلك لا تكون التضحية حركة ضائعة في الفراغ ، بل هي انطلاقة في علاقة الدنيا بالآخرة ، في حسابات الله.

وفي ضوء ذلك ، كانت الحياة عنده تعني الرسالة التي هي الهدف الكبير ، فلا ضياع ولا فراغ ، ولا قلق ، لأن الإنسان المؤمن يعتقد أن بداية الحياة من الله ، ونهايتها إليه ، وبين البداية والنهاية هناك خطّ واضح للمسؤولية ، وبرنامج عملي للإنسان ، ينير له الطريق ، ويخط له حدود المستقبل على الصراط المستقيم ، وذلك ما تعنيه الكلمة القرآنية : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠] التي تسير فيها نقطة البداية إلى خط السير وذلك هو ما تعنيه كلمة النور الذي يمشي به بين الناس ، فهو الذي يحقق له الوضوح في كل أوضاعه وعلاقاته العامة والخاصة ، فلا ظلام ولا ضباب ، بل هي الإشراقة الدائمة في روحه وقلبه وخطاه.

أمّا الإنسان الكافر ، فمثله مثل الإنسان الذي يعيش في الظلمات ، فلا يخرج من ظلمة إلّا إلى أخرى .. ليس هناك نافذة واحدة يطل منها على النور .. فقد أغلق جميع نوافذ النور على نفسه .. وبقي يتخبّط في متاهات الظلام .. فليس عنده أيّ تصوّر يحدّد له نقطة الانطلاق ، ونقطة الانتهاء ..

٣١١

فهو لا يدري كيف نشأت الحياة ، ولا يدري كيف ستنتهي ، وما بعد ذلك ، ولا يعرف الأساس الذي يحدّد من خلاله برنامجه لأن خطة الحياة تخضع للأهواء وللشهوات التي تتغيّر وتتبدل تبعا للظروف ، من العدم انطلق ، وإلى العدم يعود .. ويتحرك الوجود معه في أجواء العدم.

وفي كل يوم شهوة جديدة ، وهوى جديد ، فإذا أقبلت الأزمات والمشاكل في ظلمات بعضها فوق بعض ، فإنه يعيش معها التخبّط والقلق والعقد النفسيّة ، لأنه لا يملك نورا يملأ قلبه ويضيء طريقه .. وهكذا تنطبق عليه الآية : (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها).

ولكن مشكلته أنه لا يعي معنى النور ليفهم معنى وجوده في الظلام ، فهو يملك صورة خاطئة عن النور والظلام ، فقد يحسب النور ظلاما ، كما يحسب الظلام نورا ، لأن القضية ليست قضية الوجود المادي لهما ليستطيع أن يحدد طبيعة ما هو فيه ، على أساس إشراقة النور في عينيه ، وإحساسه به في وجوده ، ولكن القضية قضية الوجود المعنوي ، الذي قد يختلط فيه الأمر ، على أساس المفاهيم التي يحملها ، كما نلاحظ في ما نواجهه في عصرنا هذا ، من التسمية المعروفة عنه بأنه عصر النور ، على أساس انطلاق الرؤية فيه من اتجاه واحد دون بقيّة الاتجاهات ، مما قد يختلط فيه ميزان العقل بميزان الشهوة ، فيخيّل للإنسان أنه يتحرك بعقله وفكره ، بينما هو يتحرك بشهوته ومزاجه ، وبذلك يختلط لديه عنصر الظلمة بعنصر النور.

* * *

زين للكافرين ما كانوا يعملون

وهذا ما توحيه الفقرة التالية في الآية : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فإن الإنسان إذا اعتقد شيئا أحبّه وأخلص له ، وإذا اندمج فيه ، واستغرق في داخله ، ولم يكتشف فيه الجانب الأسود السيّئ ، خيّل له أنه

٣١٢

الحسن الذي لا قبح فيه ، وتزيّن له كلُّ شيء فيه ، حتى لا يسمع فيه نقدا ولا يقبل فيه نقاشا. وتلك هي الغريزة الإنسانية التي تتعامل في ما تصدره من أحكام سلبيّة أو إيجابيّة مع الجانب المشرق الذي تلتقي فيه الفكرة المحبّبة بالمشاعر الجميلة ، بينما ترتبط المشاعر السيّئة ، بالفكرة البغيضة.

ولكنّ الغريزة لا تلغي في الإنسان إرادة التغيير ، لأن الله جعل العقل قائدا لها ومنظّما لمشاعرها وحركاتها وحرّك الإرادة لتقف بها في نقطة التوازن ، فإذا أهمل الإنسان عقله ، وجمّد إرادته ، فإنه يهمل مصيره من حيث يقيم الله الحجة عليه في ذلك ، ومن هنا كانت عمليّة التزيين هذه التي تشير إليها الآية ، لا تعني الجانب المباشر من الفعل ، بل تعني الجانب الطبيعيّ في ما ركّب في الإنسان من طبائع وغرائز ، من أجل أن تبني له حياته ، كما يحب ، ويريد ، مع التأكيد على المسؤولية في الجانب العقلي والإرادي منها.

وفي هذه الآية إيحاء للإنسان بأن عليه أن يثير الحياة في نفسه ، ويخرجها من الموت الفكري والروحي الذي يجرّه إلى تخيّل أنّ قيمة الإنسان في أطماعه وشهواته ، وذلك بأن يعيش الإيمان بعمق ليشعر بامتداد الحياة في نفسه إلى كل شيء حوله ، من خلال إحساسه بالمسؤولية عن الأرض والناس ، وعن النبات وغير ذلك في المدى الذي تتسع فيه قدرته .. وبهذا يحصل الإنسان على نوع فريد من التفاعل بين الإيمان وسعة الشخصية. فكلّما عاش الإيمان أكثر ، كلما تحركت شخصيته في الجانب السليم أكثر. أمّا إذا غفل عن إيمانه ، واستسلم لما حوله ولمن حوله ، فإنه يستسلم للجانب السلبيّ من حركة الواقع في ما يعيشه من حالة القلق والضياع والارتباك والتخبّط التي تفرزها مفاهيم الكفر في عقل الإنسان. وهذا هو العنصر الذي يقود إلى الخبث والمكر والجريمة ، وغير ذلك من المعاني التي تتمثل في الشخصيات التي تعيش لذاتها ، فلا تتفتق عبقريتها إلا عن أفكار الشرّ ، ولا تتحرك قوتها إلا في طريق الصدّ عن الخير وعن سبيل

٣١٣

الله فيفسدون الحياة بمكرهم. ولكن القضية ترتدّ عليهم ، في نهاية المطاف ، لأن الله لم يجعل لهم السلطة المطلقة التي يحققون فيها لأنفسهم ما يشتهون وما يريدون ، بل وضع لهم حدا مقيدا يقفون فيه حيث تقف حدود قدرتهم ، وحيث تبدأ العناصر الأخرى في الساحة بمواجهة فسادهم مواجهة قويّة حاسمة.

* * *

في كل مجتمع مترفون يمكرون فيها

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) ففي كل مجتمع صغير أو كبير فئة من المترفين الذين يعتبرون أنفسهم في الطبقة العليا من المجتمع ، ويرون لأنفسهم الحق في أن يخططوا للناس حياتهم ويفرضوا عليهم سلطتهم ، ولذلك فهم يعملون للجريمة في نطاق الدين والسياسة والاجتماع والاقتصاد ، بكل ما يملكون من وسائل المكر الذي يعبّر عن التدبير الخفيّ الذي يوهم الآخرين بأنه خير ، في الوقت الذي يمثل أبشع أنواع الشر ، (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) لأن الجريمة إذا تحوّلت إلى تيار اجتماعي ، فإنها تتسع في حركتها حتى تعود لتفتك بالناس الذين دبّروها ، فهي لا تتجمد في أيدي صانعيها ، بل تمتد لتنتقل إلى أيدي الناس الذين لا تتفق أطماعهم ومصالحهم مع الناس الآخرين ، فيرتدون عليهم ليصنعوا بهم ما صنعوه بغيرهم.

ثم ماذا بعد الجريمة؟ فليذهب هؤلاء يمينا وشمالا ، وليربحوا ما شاءت لهم أطماعهم من أرباح الحياة الدنيا ، فإنهم سيقفون أمام الله ، إن عاجلا أو آجلا ، وسيشعرون هناك بأنهم خسروا أنفسهم ، وأن مكرهم الذي صنعوا منه الجريمة قد تحوّل إليهم ، ليجدوا أنفسهم ـ معه ـ وجها لوجه أمام النار ـ وبئس القرار .. وتلك هي الحقيقة التي ستواجههم غدا نتيجة ما

٣١٤

فعلوه ، ولكنهم يفعلون ما يفعلون بأنفسهم (وَما يَشْعُرُونَ) بالنتائج التي ستتمخّض عنها في الدنيا والآخرة.

ويأتي السؤال في كل آية مماثلة جاء فيها قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) فإذا كان الله هو الذي يجعل ، فأين يكمن عنصر الاختيار الإنساني في صنع الجريمة؟

وقد أجبنا عن ذلك ، بأن الجعل هنا ليس بالطريقة المباشرة ، ولكن بالطريقة غير المباشرة الموجودة في النظام الكوني الذي أودعه الله في الكون وربط فيه الأسباب بمسبباتها ، وجعل من بين الأسباب إرادة الإنسان واختياره بالإضافة إلى الظروف الموضوعية المحيطة به ، مما لا يشلّ قدرته ، ولا يعطّل إرادته ، وبذلك صحّت نسبة الجعل إلى الله ، باعتبار علاقة الفعل بالنظام العام الذي خلقه الله ، وترك للإنسان أن يتحرك في نطاقه بملء إرادته وحرّيته.

* * *

أساليب الكافرين في المكر

ويتحدث الله لنا في الآية الثالثة عن بعض أساليبهم في المكر ، فهم لا يرتبطون إلا بالجانب الحسّي في حياتهم ، أمّا العقل والفكر وما يتطلبانه من تأمّل وحوار ، فليس لهما مكان في حياتهم. ولذلك فهم لا يطلبون الإيمان من خلال حركة الفكر ، بل من خلال حركة الحس ، وإذا طلبوه من خلال الحس ، فإنهم يطلبون الشيء الذي اعتادوه أو سمعوا عنه ، فلا يقبلون نموذجا آخر ، مما لم يمر عليهم ، ولم يحدثهم الآخرون عنه ، (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ) من معجزة ترتكز على الجانب العقلي ، أو تتفق مع طبيعة الظروف والأوضاع المحيطة بهم ، (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) فقد سمعوا أن موسى عليه‌السلام جاء بالعصا ، وأن عيسى عليه‌السلام جاء بإحياء الموتى

٣١٥

وإبراء الأكمه والأبرص فأرادوا آيات كهذه ، ولكنهم لم يفكروا ، لحظة واحدة ، في أن قصة المعاجز ليست موضوعا خاضعا للتمنيات والافتراضات ، وليست عمليّة منفصلة عن طبيعة التحدي التي تواجهها الرسالات ، فقد أرسل الله موسى عليه‌السلام بالعصا ردّا على التحدي الكبير لفرعون الذي استعمل وسائل السحر كما أن الله أرسل عيسى عليه‌السلام بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، ردا على التحدي الذي كان يشكل فيه الطب في زمنه نوعا من أنواع التحدي. وليست المعاجز سبيل هدى ، فللهدى وسائله التي تنفذ إلى العقل ، ولكنها سبيل قوّة في مواجهة القوّة المضادّة ، ولهذا فلا معنى لما طلبوه ، بل عليهم أن يفكروا في ما قدمه إليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما يبعثهم على التفكير ، ويدعوهم إلى المناقشة والحوار.

* * *

الله أعلم حيث يجعل رسالته

وهذا الوجه الذي ذكرناه مبني على القول الذي فسّر الآية ، بأن أكابر المجرمين من العرب اقترحوا على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتيهم من المعجزات مثل ما أوتي موسى عليه‌السلام من فلق البحر وعيسى عليه‌السلام من إحياء الموتى ، وهناك قول آخر إنهم قالوا له : لن نؤمن حتى ينزل علينا الوحي كما أنزل على الأنبياء ، وربما كان هذا القول أقرب إلى جوّ الآية في ما جاء بعد هذه الجملة التي أرادها الله ردّا عليهم : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فليست قضية الرسالة امتيازا ذاتيا يمنحه الله لأيّ شخص كان ، بل هي قضية اصطفاء واختيار وكفاءة ، في ما يعلمه الله من قابليات عباده وقدرتهم ، فمنهم الذي تميّز بسعة الفكر ، وصفاء الروح ، وطيبة القلب وقوّة الإرادة ، وعناصر القيادة ، ومنهم الذي تميّز بضيق الأفق ، وقلق الروح ، وخبث النيّة ، وضعف الإرادة ، فاختار من النموذج الأول أنبياءه ورسله ، وترك الآخرين في موقع

٣١٦

القاعدة وأرادهم أن يهتدوا بهدى الأنبياء وأن يجاهدوا في سبيل الوصول إلى ذلك ، وسهّل لهم سبيل الإيمان ، بما يتفق مع قابلياتهم وإمكاناتهم ، فليس لهم أن يطلبوا لأنفسهم ما لا يملكون عناصره ، لأن الرسالة ليست مجرد كلمات يتلقفها الإنسان ويحفظها ثم يبلّغها للآخرين ، بل هي قضية قيادة الحياة في جانبها الفكري والروحي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي .. وتغيير الإنسان على أساس هدى الله ، بالكلمة وبالأسلوب وبالقدوة الحسنة ، بحيث تعيش الرسالة في شخصية الرسول جسدا يتحرّك بكل أخلاقياتها ومعانيها ، وروحا تصفو وتهفو وتحنو وترقّ وترعى ، فيحسّ الناس معها بالرحمة التي تحيط بهم من كل جوانب حياتهم ، ويعيشون معها برد السلام وهدوء الطمأنينة.

إنّ حركة الرسالة في شخصية الرسول تعني أن يعيش هذا الإنسان في فكره وروحه وكيانه كله مع الله ، ليستطيع ـ من خلال ذلك ـ أن يحتوي كل آفاق الرسالة ومعانيها في كل مراحل حياته في الدعوة وفي الحكم وفي الجهاد ، وبذلك كان الرسول يأخذ من الرسالة وحيا تنفتح منه نفسه على الله ، ويعطيها من طاقاته الروحية والفكرية ، ومن قوّة إرادته عنصر قوّة يدفعها إلى الأمام ، ولذلك لم تكن الرسالة خاضعة لاختيار الناس وتمنياتهم ، بل هي خاضعة لإرادة الله واختياره ، فهو (أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ، في ما يعلمه من الطاقات الروحية والفكرية والعملية والقيادية الكامنة في ذواتهم مما لا يعلمه الناس من أنفسهم ، ولا يعلمه غيرهم منهم.

فأين يذهب هؤلاء في تفكيرهم؟ إنها عقدة الكبرياء التي تكبر في صدورهم عند ما يتطلعون إلى الأنبياء فيجدونهم في الطبقة السفلى ، من الهرم الاجتماعي ، فيدفعهم ذلك إلى احتقارهم ، واحتقار دورهم ، وتكذيبهم ومحاولة تحدّيهم بأيّة طريقة ، حتّى بالأمور التي لا تثبت أمام النقد ، ولذلك فإن الله سيجزيهم عن هذه المشاعر وهذه الادعاءات وذلك الكبرياء ، صغارا وذلا واحتقارا وعذابا ، (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) في ما يظهرهم به

٣١٧

أمام الخلائق يوم القيامة من حالة الذل والانسحاق (وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) لأن مكرهم وانحرافهم لم ينطلق من حالة فكريّة ، قد تبرّر لهم ذلك ، بل من حالة شيطانية ، يفهمون كل خطواتها ومنطلقاتها ودوافعها ، ممّا يجعل من تصرفاتهم ، حالة إجرامية معقّدة تستوجب العقوبة الشديدة والعذاب الأليم.

وقد يلاحظ البعض أن الصّغار الذي يصيب المستكبرين في الحياة الدنيا هو بلحاظ أن الآية تتحدث عن الحياة الدنيا ونتيجة الصراع في الأرض ، ولا مانع من أن يكون عامّا في الدنيا والآخرة ، مما يفرض التركيز على واقع الحياة الدنيا في نتائج الأفعال ، حيث ينزل الله الهوان والعذاب الدنيوي بمعنى البلاء الذي يصيبهم بفعل سلوكهم المنحرف وموقفهم المضادّ.

وإننا في الوقت الذي لا نجد مانعا من استنطاق هذه الآية في المعنى الشمولي للصّغار الدنيوي والأخروي من حيث المبدأ في نتائج المواقف التي يتمثّل فيها التمرّد على الله والعدوان على رسله ورسالته من موقع الاستكبار الذاتي الذي يحكم كل أقوالهم وأفعالهم ، ولكن ظاهر الآية في الحديث عن الصغار والعذاب على مستوى المستقبل قد يوحي بأن المسألة تتحدث عن الآخرة في ما يلاقونه في يوم القيامة ، وقد جاء عن الزجّاج في تفسيره لهذه الفقرة قال :

أي سيصيبهم عند الله ذلّ وهوان وإن كانوا أكابر في الدنيا (١). انتهى.

وهذا ما يؤكّد أن المراد به هو المقابلة بين كبريائهم في الدنيا الذي يدفعهم إلى إنكار الحق والاستعلاء على أهله ، وصغارهم في الآخرة بما يلاقونه من الهوان والعذاب بين الخلائق. وفي بعض الروايات ، كما جاء في تفسير الكاشف : أن المتكبرين يحشرون في صورة الذر يطأهم الناس بأقدامهم جزاء على تعاظمهم في الدنيا (٢). والله العالم.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٤٥٠.

(٢) تفسير الكاشف ، م : ٣ ، ص : ٢٦٠.

٣١٨

الآيات

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٧)

* * *

معاني المفردات

(حَرَجاً) : الحرج : أضيق الضيق ، وأصل الحرج والحراج : مجتمع الشيء وتصوّر منه ضيق ما بينهما ، فقيل للضيق حرج ، وللإثم حرج.

(يَصَّعَّدُ) : يصعد بتكلّف ومشقّة. وأصله : يتصعّد ، أي : يتكلّف الصعود. والصعود : الذهاب في المكان العالي. والصعود والصعد يقال للعقبة ويستعار لكل أمر شاق. وهذا التعبير يرسم حالة الاختناق وتضايق الأنفس كلما ارتفع في السماء بسبب خفة الضغط الجوّي.

(دارُ السَّلامِ) : هي دار السلامة من المنغّصات والكروب ، والمراد بها ـ هنا ـ الجنة.

(وَلِيُّهُمْ) : أي : من يتولّى أمورهم.

* * *

٣١٩

انشراح صدر المؤمن وضيق صدر الكافر

تصوّر لنا الآية الأولى شعور الإنسان المؤمن تجاه دعوة الإسلام ، قبل أن يلتزم بالإيمان وشعور الإنسان الكافر في الموقف نفسه ، بكل دقّة ، (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) فنجد الإنسان المؤمن إنسانا منفتحا لا يشعر بأيّة عقدة من أيّ فكر ، مهما كان لونه ، بل يشعر ـ بدلا من ذلك ـ بالحاجة إلى الالتقاء بكل الأفكار والاتجاهات ، ليتعرّف منها وجه الحق ، ووجه الباطل ، ليدخل في أجواء الحوار الموضوعي الهادىء ، ليؤمن استنادا إلى قناعة يقينية ركيزتها البرهان والحجة الواضحة ، ويرفض ـ حين يرفض ـ للأساس نفسه ، فكلما انفتحت أمامه أبواب المعرفة كلما انشرح عقله وفكره وصدره للحقيقة المتحركة منها .. وكلّما أحسّ بالفرح الروحي يأخذ عليه كل حواسّه ومشاعره ، فإذا جاء الإسلام إليه من موقع الفكر الذي يقوده إلى الإيمان بالله وبرسله ، ومن موقع الوحي الذي يؤكد له المفاهيم الإنسانية والقيم الروحية التي أوحى الله بها إلى أنبيائه ، انفتح قلبه له ، واهتزّت مشاعره لوحيه .. وعاش مع الله في نشوة روحيّة حقيقيّة.

إنّه الإنسان الذي يعيش حريّة الفكر مع نفسه ، فلا يغلق عليه أبواب الفكر ولا يتعقّد من أيّة دعوة ، بل يعتبر كل شيء قابلا للتفكير ، كما يعيش حرية الفكر مع الآخرين ، فكل شيء عنده قابل للحوار ، وبذلك فهو يعيش انشراح الصدر باعتباره انفتاحا على العقل والروح والحياة.

(وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) أمّا نموذج الإنسان الكافر ـ الضال ، فهو إنسان معقّد ، لا يطيق الفكر ولا يجد للمعرفة أيّة أهمية ، ولا يشعر بالحاجة إلى أن يتعب نفسه في سبيل الإيمان ، يتعامل مع العقيدة ، من موقع اللّامبالاة ، ويتناول الفكرة الجاهزة المتحرّكة في بيئته ، تماما كما يتناول المأكولات الجاهزة ، فإذا التزم بشيء من ذلك ، أغلق فكره وقلبه عن أيّ شيء آخر ، فلا يسمح لأيّة دعوة أخرى أن تنفذ أو تحاول النفاذ إلى

٣٢٠