تفسير من وحي القرآن - ج ٩

السيد محمد حسين فضل الله

ومشاكل معقدة في حياتهم ، واجهوا ذلك كله بالإيمان والصبر والمسؤولية العالية حتى استطاعوا أن يقدّموا من أنفسهم النموذج الأمثل للإنسان المؤمن الصابر أمام المصاعب والتحديات ، والواثق بالله في ما ينتظره من فرج وانتصار.

وقد قدم الله سبحانه لكل نموذج من هؤلاء وصفا خاصا يتناسب مع طبيعة الدور الذي أوكله إليه .. فمع النموذج الأوّل جاءت فقرة : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) في ما تفرضه حركة السلطة العادلة ، والقوّة المسؤولة من إحسان للناس في تقديم العدالة لهم ، وتقوية ضعفهم ، وفي النموذج الثاني ، جاءت فقرة : (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) في ما توحي به كلمة الصلاح من معان روحيّة تلتقي بالصفاء والوداعة والربّانية في القول وفي العمل ، والزهد في مواجهة شهوات الدنيا .. وفي النموذج الثالث : (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) لما يحتويه البلاء من اختبار للطاقة الروحية ، وفي ما ينتهي إليه من انتصار على تحدياته ومشاكله ، وفي ما ينطلق معه من مواقف وتطلعات ، مما يعطي معنى الفضل على الجوّ الذي يحيط بهم ، والتفضيل على الناس الذين يعيشون معهم.

وعلى ضوء هذا ، يمكننا أن نقرر أن المراد بالعالمين هنا ، هم الناس الذين يعاصرونهم ، وليس تفضيلهم على جميع الناس ممن تقدمهم أو تأخر عنهم ، لأن ذلك يستلزم أن يكونوا أفضل من جميع الأنبياء ، حتى أولي العزم ، وهذا مما لم يلتزم به أحد ، أمّا احتمال أن تكون الفقرة راجعة إلى جميع الأنبياء فهو خلاف ظاهر التنويع الذي ألمحنا إليه في كل آية مع كل نموذج تعرضت إليه الآيات ، والله العالم.

* * *

كيف نفهم التنويع في نماذج الأنبياء؟

وقد يقول قائل : إن الالتزام بهذا التنويع في نماذج الأنبياء قد يعني

٢٠١

التوزيع في مقومات الشخصية لدى الأنبياء بين زاهد لا يملك السلطة ، وسلطان لا يعيش الزهد ، ومبتلى لا يحمل المسؤولية ، وهذا مما قد لا ينسجم مع طبيعة الرسالة التي يحملها كل واحد منهم من أجل تغيير المجتمع في الواقع الأخلاقي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي على هدى الله في ما يأمر به أو ينهى عنه ، مما يفرض أن لا يترك الرسول أيّ فراغ في حياة الناس ، لئلا تبقى النظرات المختلفة بمثابة نقاط ضعف في حركة الإنسان في الحياة ، ولذلك فإن من المفروض أن تكون مهمة الرسول شاملة ، مما يفرض أن تكون شخصيته متكاملة في طبيعتها وأخلاقيتها ودورها العملي.

ويجاب عن ذلك ، بأن إبراز دور معيّن في شخصية هذا النبي أو ذاك ، لا يعني تحديد هذه الشخصية ، بل كل ما يعنيه هو تميّز المرحلة التي يعيشها ، بهذا الدور لحاجتها الواقعية إليه .. وبذلك فلا مانع من اشتراكهم في مستوى حمل المسؤولية أمام الله تجاه الناس ، وفي الصفات الذاتية التي تمثّل العمق الروحيّ في طبيعة الشخصية ، وفي الحركة العملية في الدعوة إلى الله وفي الجهاد في سبيله.

إن التنوّع في الخصوصيات الذاتية تابع لتنوع الأدوار والظروف التي يعيشها الإنسان في ساحة الواقع ، وهذا مما يمكن أن نستفيده في مجال حركة العاملين في سبيل الله ، فقد يعيش البعض منهم في منطقة تفرض عليهم ظروفها أن يدخلوا في إطار عمليّ قويّ يمارسون فيه السلطة والحاكميّة ، لأن قضية التحديات تفرض المواجهة على هذا المستوى ، وقد يعيش البعض منهم في منطقة أخرى تفرض عليهم ظروفها أن يعيشوا الزهد في المظهر والانقطاع عن الدنيا في حركة الحياة ، لأن هذا هو السبيل الموحي بالروحية الصافية التي تحرّك المشاعر ، وتثير الأفكار ، وتحقّق الثقة ، وتوصله إلى الهدف الكبير في إيصال الرسالة إلى أفكار الناس ومشاعرهم ..

وقد تفرض عليهم الظروف أن يعيشوا المشاكل والتحديات وصنوف

٢٠٢

البلاء والحياة الصعبة ليدلّلوا على إمكانية الثبات أمام صعوبات الحياة ، وعلى واقعية الرسالة أمام تحديات الكفر والانحراف.

وهكذا تكون قضية التنوع مرتبطة بالجانب البارز من شخصية كلّ منهم ، مع توفر العناصر الأخرى في شخصية كل منهم.

* * *

ذلك هدى الله يهدي به من يشاء

وإذا كان الله قد أعطى هؤلاء الأنبياء الهداية ، فقد منحها للمحيط الذي عاشوا فيه ، والبيئة التي انتموا إليها ، من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم الذين عاشوا الخط الإلهي فكرا وأسلوبا وعملا مما أدّى إلى نمو الأجيال داخل هذه المجتمعات نموّا طبيعيّا ، فيجتبيها الله بما عرفه من هداها الذي سارت عليه ، وطريقها المستقيم الذي عاشت فيه ..

وهذا هو الخط الواحد الذي يتميز بطبيعة الوحدانية في العقيدة والعمل ، مع كل ما تفرضه من مفاهيم ومسئوليات وعلاقات ، (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ، من خلال الوسائل التي هيّأها لهم ليجرّبوا ويختبروا ، بعيدا عن الإكراه والجبر والقهر .. فإن الله لا يهدي عباده بطريقة قسريّة ، كما لا يضلّهم كذلك ، بل يحقق لهم كل ذلك ، بالأسباب الاختياريّة التي توصل إلى الهدى ، فتؤدي بهم إلى رضى الله عليهم وقبوله لعملهم.

(وَلَوْ أَشْرَكُوا) أمّا إذا تمرّدوا على هدى الله ، وانحرفوا عن خطّ التوحيد ، وأشركوا به ما لم ينزّل به سلطانا ، (لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فإن الله سيحبط كل أعمالهم ويحوّلها إلى رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، لا فرق في ذلك بين إنسان وآخر .. فلا امتيازات ولا طبقيّة ، فيمن يرضى

٢٠٣

عنه الله ، أو يغضب عليه ، بل الأمر كله خاضع للقاعدة الوحيدة ، وهي العمل في طريق الخير ، أو العمل في طريق الشرّ ، فهي القاعدة التي ترفع الأنبياء والأوصياء والأولياء ، وهي القاعدة التي تضع الشياطين والكافرين والأشقياء.

* * *

الأنبياء يحكمون الحياة

ثم يعود بنا إلى الأنبياء (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) الذي يبين للناس خط الحياة الفكري والعملي (وَالْحُكْمَ) والحكم الذي يمثل الميزان الفاصل بين الحق والباطل والخير والشر ، ليقوم الناس بالقسط (وَالنُّبُوَّةَ) .. وبذلك لا تكون مسئولية الأنبياء هي التبليغ والإنذار فقط ، وإنما تمتد إلى التطبيق والتنفيذ ، بل هناك دور آخر ، وهو الحكم بين الناس في ما يختلفون فيه ، وفي ما يتنازعون عليه ، ويتحركون فيه من شؤون وشجون.

وليس الكتاب الذي آتاهم إياه شأنا ذاتيا ينطلقون فيه من خبرة ذاتية وثقافة شخصية ، بل هو ممتد من خط النبوّة التي آتاهم الله إيّاها ، فيما أوحى به إليهم من آياته وشرائعه وإحكامه.

وهكذا يلتقي في شخصية النبيّ الذي اختاره الله ، دور النبيّ الذي يحمل الكتاب وحيا من الله ، ويعيش النبوّة رسالة في حركة الحياة من حوله ، لما يفرضه ذلك الدور من وصل بين عالمي الحس والغيب في حياة الإنسان إضافة إلى ذلك دور الحاكم الذي يحرّك الرسالة في الواقع التنفيذي الذي تلتقي فيه النظرية بالتطبيق ، في ما أراده الله للإنسان من القيام بالقسط في مجالات حياته العامة والخاصة ، فكان الكتاب هو الذي يخطط شرعة العدل ، وينظّم ركائزه وقواعده ، وكان النبيّ هو الذي يطبّق وينفّذ ويحكم ، ليتحول الخط إلى حركة حياة ، وبرنامج عمل ، وخط سير.

٢٠٤

وفي ضوء ذلك ، نعرف أنّ الحكم لا ينفصل عن دور النبوّة ، كما يخيّل للبعض الذي يحاول أن يثير في الفكر الإسلامي قضيّة الفصل بين الرسالة والحكم ، ليوحي بأنّ دور الأنبياء هو الإبلاغ والإنذار والتبشير والتذكير ، لا دور التنفيذ والتطبيق والضغط ، بل ربما نستوحي من المهمة النبويّة أنها تقود عملية التغيير بالفكر والممارسة والحركة ، ولا تكتفي بالإيحاء الفكري بذلك ، لأن الأنبياء في وعيهم للخطّة الفكرية أو التشريعية ، هم من يعرف خطة التطبيق ، فهم أولى الناس بهذا الدور في ما يراد له من حفظ سلامة الخط ووضوح الرؤية.

وإذا كان بعض الأنبياء لم يبلغوا هدفهم في تغيير الواقع على أساس قضية الحكم الشامل ، فليس ذلك من جهة أنّ الهدف لا يلتقي بمواقع الحكم ، بل لأنّ الظروف الموضوعية المحيطة بهم لم تحقّق لهم الوصول إلى النتائج المرجوّة ، لأنّ أدوات التغيير لم تستكمل عملية الإعداد والتنفيذ ، أو لأنّ الساحة العملية لم تحفل بالامتداد الذي يعطي للحكم سعة الأفق وامتداد التجربة ، لأن القضايا التي تتحرك في حياة الناس ، والمشاكل التي تتحدى أوضاعهم ، كانت تنطلق من مواقع محدّدة ، ومشاكل ضيّقة ، لا مجال معها لبروز الحكم في صورته الواسعة ، بما قد يوحي للآخرين بأن الحكم لا يمثّل هدف المسيرة النبويّة.

* * *

سيرة الإيمان لا تتوقف بكفر الكافرين بها

وهذه هي المسيرة التي أراد الله للناس أن يسيروا معها ويؤمنوا برسالتها ، وينطلقوا مع أهدافها على أساس ما قدّمه لهم الأنبياء من بيّنات وبراهين (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) المشركون ، ويتمرّدوا عليها فإن المسيرة لن

٢٠٥

تتوقف ، والرسالة لن تموت ، لأن قضية حياة الرسالة ليست قضية فئة ، تتحرك بحياتها وتموت بموتها ، بل هي قضية انفتاح القلوب على إشراقة الإيمان في داخلها ، في كل جيل وفي كل مكان ، مما يحقق للإيمان الانتصار في هذا الجيل أو ذاك ، أو في هذه المرحلة أو تلك .. ويكفل لمسيرة الإسلام أن تتقدم. وهذا ما عبر عنه الله سبحانه بقوله : (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ).

ووقف المفسرون أمام هذه الفقرة ليحدّدوا شخصية هؤلاء الذين وكّلهم الله بالرسالة ، واختلفوا حول هذا الأمر. ونحن لا نظن بأن الآية واردة في مجال الإشارة إلى أشخاص معينين ، أو فريق معين ، بل هي واردة في مجال الحديث عن عدم سقوط الرسالة ، وانتهاء المسيرة بكفر الكافرين من هؤلاء ، لأن الله يرسل من عباده أناسا يؤمنون بها ويحملون شعاراتها ، ولا يكفرون بمبادئها ، وهم الذين انطلقوا مع الرسالة في كل مراحلها في حركة الحياة. وربما انطلق الكثير مما حدّدوه ، من موقع الحدس والتخمين ، لا من موقع الرواية واليقين.

وتنطلق خاتمة الفصل بالآية التي تدعو النبي إلى أن يقتدي بهذا الهدى الذي أرشد الله إليه هؤلاء الأنبياء ، فيهتدي به ، على أساس أنه هدى الله الذي تتحرك به الحياة فتحتوي كل مراحلها في خطّة موحّدة لا سبيل معها للانحراف أو التبديل ، لأنه يمثّل الحلّ الرسالي لمشكلة الإنسان ، بعيدا عن الخصوصيّات ، ولذلك كانت التغييرات والتبديلات في شرائع الأنبياء لا تمس المبادئ العامة ، بل تتعرض للتفاصيل التي لا تمثل إلا اختلافا في التطبيقات والهوامش والشكليات ، وهذا هو قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).

وفي ضوء ذلك ، كانت الرسالة الإسلامية تؤكد في دعوتها إلى الإيمان ، على الإيمان بما أنزل إلى الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى الأنبياء الذين

٢٠٦

سبقوه ، انطلاقا من وحدة الرسل في وحدة الرسالة.

* * *

الأنبياء : رسالات متواصلة

قد نستوحي من هذه الآية ، أن الله لا يريد لرسله وللعاملين في سبيله ، أن يتحركوا في دعواتهم من منطلق ذاتيّ يؤكد على الجانب الشخصيّ الذي يستدعي انطلاق كل واحد منهم من نقطة البداية بعيدا عن خطوات الآخرين الذين سبقوه ، لأنه لا يريد أن يوحي بالفكرة التي تقول إنه بدأ من حيث انتهى الآخرون ، أو إنه يسير على الهدى الذي ساروا عليه ، لأن ذلك ينقص من شخصيته التي تبحث عن الاستقلال الذاتي ، في ما تطرحه من قضايا ، أو تدعو إليه من دعوات وإن اتفقت مع ما يطرحه الآخرون أو مع ما يدعون إليه ، بل يريد لهم أن يتحركوا من منطلق الرسالة ، فهي القاعدة ، والمسار ، والهدف ، وهي التي تعطي للشخصيات معنى وقيمة وامتيازا ، فهي التي ترتقي بهم إلى الدرجات العليا ، وليسوا هم الذين يرتقون بها.

وعلى هذا الأساس ، فإنّ النبيّ لا يعيش همّ الذات في حركته ، بل يعيش همّ الرسالة في منطلقاته ، مما يجعل من موقعه في حركة الرسالة موقعا يكمل السلسلة في خطواتها ، لا موقعا يعطي الذات دورا مميّزا منفصلا عن الأدوار الأخرى. وهذا ما جعل عيسى عليه‌السلام يقول ـ في ما روي عنه ـ جئت لأكمل الناموس ، وما دعا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول : إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق ، انطلاقا من الهدى الذي جاء به الأنبياء في مكارم الأخلاق (١) ، وجاء به في رسالته التي تكمّل خط السير.

وربما كان لنا أن نستوحي من ذلك ، أن الله يريد أن يعلمنا أن لا

__________________

(١) البحار ، م : ٦ ، ج : ١٦ ، ص : ٤٠٨ ، باب : ٩.

٢٠٧

نستغرق في الأنبياء كأشخاص ، بل أن نستغرق فيهم كخطّ وكهدى وكرسالة .. وأن لا نقول إن هذا النبي أفضل من ذاك ، ليكون ذلك مبعث خصام وخلاف وانقسام في ما بيننا ، لأنهم لم يعيشوا في حياتهم هذا الهاجس ، ولم يتحركوا من أجل تأكيده ، وإن كان الله قد فضّل بعضهم على بعض ، لكن ذلك لا يباعد بين خطواتهم ، بل كل ما هناك هو السير على الخط الذي ساروا عليه ، في اتجاه الهدف الأسمى ، لأن الله هو الذي يفاضل بينهم في الدرجات ، بعد أن فاضل بينهم في مسئوليات الحياة ، وليس لنا في ذلك دخل من قريب أو من بعيد ، فلنقف حيث يريد الله لنا أن نقف ، ولنوفّر على أنفسنا جهد البحث في ما لا سبيل لنا للإحاطة به ، ولا فائدة لنا في الوقوف عنده ، ولندّخر تفكيرنا لما أرادنا الله أن نخوض في معرفته ، وللجهاد في سبيله ، من خلال قيادة الرسول فكرا وحركة وعملا.

* * *

الأنبياء لا يسألون الناس أجرا

وماذا بعد ذلك؟ إن هدى الله الذي سار عليه الأنبياء كان يقدّم نفسه إلى الناس منحة وعطيّة من دون أجر ، بكل محبة وإخلاص ، لأن الله أراد للحقيقة أن تعيش في حياة الناس كالنور والماء والهواء ، لينفتحوا عليها ، بكل بساطة وعفويّة ، لتلامس أرواحهم وأفكارهم ومشاعرهم من دون حواجز أو عقبات لأن الإنسان الذي يشعر بأنه يدفع الأجر لمن يدعوه إلى اتباع ما يحمله من رسالة ، قد يعيش الشعور السلبي بالمعنى التجاري للرسالة ، في ما تعنيه قضية التجارة من معنى السلعة للمعوّض ومعنى الثمن للعوض ، ومعنى التاجر لمن يقدّم السلعة ، ودور المشتري لمن يدفع الثمن ، ثم قد تقف مثل

٢٠٨

هذه العملية التجاريّة حجر عثرة في حركة الرسالة ، في خضوع قضية الانتماء إليها والإيمان بها ، لقوانين العرض والطلب والانفراج أو الانكماش الاقتصادي ، في ما تعيشه حياة الناس من أزمات أو انفراجات.

إن الله يريد للرسالة أن تدخل في وعي الناس ، من خلال روحيّة الرسول الذي يعيش العطاء بدون مقابل ليعيش الناس الإحساس بأنها حقّهم كما هي مسئوليتهم ، ولذلك فلن يكون الأجر منهم هو ما يستهدفه الرسول ، بل الإيمان الذي يحقق له محبة الله ورضاه ، ولن تكون قدرتهم على دفع الأجر هي التي تفتح لهم باب الإيمان ، وتدفع الرسول إلى أن يقدم إليهم آياته وبراهينه ، بل قدرتهم على الاستماع والتفكير والحوار والاستعداد للسير في خط الهدى المستقيم.

وهذا ما جعل شعار الأنبياء كلهم أمام أممهم (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) لأنهم لا يملكون شيئا مما يقدمونه للناس ، بل هو ملك الناس الذي وهبه الله لهم ، كما وهب لهم الحياة ، والذي أراد لهم من خلاله أن يخرجوا من غفلتهم ويتذكروا دائما كيف يحركون حياتهم في اتجاه الله ، حيث الحق والخير والعدل والإيمان ، فلا حقّ للنبي بالأجر ، في ما أعطاه الله ، (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ).

إن هذه الروحيّة التي عاشها أنبياء الله ، هي روحية الرسالة التي تحمل همّ الناس في وعيهم للحقيقة ، وفي انفتاحهم على الحياة ، وفي إخلاصهم لله ، مما يدفعها إلى أن تحطّم الحواجز في سبيل ذلك ، وأن تدفع الثمن من جهدها وحياتها ، بعيدا عن كل ما يوحي بالعوض ، أو يثير قضية الأجر.

وهذا ما نحتاجه في سلوك العاملين من أجل الرسالة ، ليعيشوا رساليّة العمل ، ولا يغرقوا في تفصيلات المهنة ، فإذا واجهتهم المشاكل بالتحديات ، وقفوا أمامها بوعي الرسالة ، وقوة الإيمان ، وإذا أثقلتهم المسؤوليات ، عاشوا

٢٠٩

مع الله فوهبهم منه القوّة ، التي تخفّف عنهم ما يحسونه من ثقل فيشعرون كما لو كانوا يطيرون في خفة النسيم وزهو الشعاع المتدفق من ينابيع الشروق. فهم مع الله ـ دائما ـ على موعد ، كلما كان لهم موعد مع الناس في حركة الرسالة ، لأن ذلك ما يوحي إليهم بالروحيّة الفيّاضة بالرحمة والمحبة والحنان. وبذلك كان لهم هذا الامتداد في حياة الناس ، من خلال امتدادهم الروحي في حجم الرسالة ، ليعيش ذلك كله تاريخا وإيمانا يتحرك للحياة ليركزها على قاعدة جديدة ، من الاهتمام بأمور الناس والتفاعل مع قضاياهم ومشاكلهم ، في وعي يبعد الذات عن الساحة ، لتبقى الساحة للرسالة في كل المجالات.

* * *

إشكالية نسب ابن البنت إلى الجدّ

وهنا مسألة أثارها المفسرون في استيحاء قوله تعالى : (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى) حيث ذكر عيسى عليه‌السلام من ذرّية إبراهيم عليه‌السلام ، مما يدل على أن ابن البنت هو من ذرّية الجدّ ، فلا ينحصر النسب بالقرابة الحاصلة من جهة الأب. وقد انطلق التدقيق في هذه المسألة من خلال الجدل الذي دار حول انتساب الحسن والحسين عليه‌السلام إلى رسول الله ، باعتبار أنهما ابنا ابنته فاطمة عليها‌السلام.

فقد جاء في تفسير العياشي عن أبي حرب عن أبي الأسود قال : أرسل الحجّاج إلى يحيى بن يعمر قال : بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي تجدونه في كتاب الله ، وقد قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره فلم أجده. قال : أليس تقرأ سورة الأنعام؟ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) حتى بلغ

٢١٠

(وَيَحْيى وَعِيسى) قال : أليس عيسى من ذرية إبراهيم؟ قال : نعم قرأت (١).

وفي الدر المنثور : أخرج أبو الشيخ ، والحاكم ، والبيهقي عن عبد الملك ابن عمير قال: دخل يحيى بن يعمر على الحجاج ، فذكر الحسين ، فقال الحجاج : لم يكن من ذرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال يحيى : كذبت. فقال : لتأتيني على ما قلت ببيّنة ، فتلا : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) إلى قوله (وَعِيسى وَإِلْياسَ) فأخبر تعالى أن عيسى من ذرية إبراهيم بأمه. قال : صدقت (٢).

وقد انطلق القرآن في قضية النسب في القرابة من خلال الواقع التكويني الذي يشد الوالد إلى من تولد منه بالواسطة أو بشكل مباشر وهذا ما نلاحظه في قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] وقال : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ٧] وقال في آية المحارم : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) [النساء : ٢٣] إلى قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤] ومن المعروف أن بنت البنت ترث في غياب البنت تماما كما هو ولد الولد ، وأن بنت البنت محرمة على الجد بلحاظ شمول كلمة البنت لها.

وقد جاء الحديث عن أبي جعفر ـ محمد الباقر عليه‌السلام ـ مما رواه في الكافي بإسناده عن عبد الصمد بن بشير عن أبي الجارود قال : قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : يا أبا الجارود ، ما يقولون لكم في الحسن والحسين عليه‌السلام؟ قلت : ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فأيّ شيء احتججتم عليهم؟ قلت : احتججنا عليهم بقول الله عزوجل في عيسى بن مريم عليها‌السلام :

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٧ ، ص : ٢٧٠ ـ ٢٧١.

(٢) الدر المنثور ، ج : ٣ ، ص : ٣١١.

٢١١

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى) فجعل عيسى بن مريم من ذرية نوح عليه‌السلام.

قال : فأي شيء قالوا لكم؟ قلت : قالوا : قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون من الصلب ، قال : فأيّ شيء احتججتم عليهم؟ قلت : احتججنا عليهم بقول الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) [آل عمران : ٦١] قال : فأيّ شيء قالوا؟ قلت : قالوا : قد يكون في كلام العرب أبناء رجل وآخر يقول : أبناؤنا ، قال : فقال أبو جعفر عليه‌السلام يا أبا الجارود لأعطينكها من كتاب الله جل وتعالى أنهما من صلب رسول الله عليه‌السلام لا يردها إلا الكافر ، قلت : وأين ذلك جعلت فداك؟ قال : من حيث قال الله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ) الآية إلى أن انتهى إلى قوله تبارك وتعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) فسلهم يا أبا الجارود هل كان يحلّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نكاح حليلتيهما؟ فإن قالوا : نعم ، كذبوا وفجروا ، وإن قالوا : لا فهما أبناه لصلبه (١).

* * *

__________________

(١) الكافي ، ج : ٨ ، ص : ٣١٧ ، باب : ٨ ، رواية : ٥٠١.

٢١٢

الآيات

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٩٤)

* * *

٢١٣

معاني المفردات

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) : أي ما عرفوا الله حق معرفته وما عظموه حق عظمته ، والقدر والتقدير تبيين كمية الشيء وقدر الشيء كميته من عظم أو صغر ونحوهما واستعمل في المعاني بمعنى العطية. يقال : قدر فلان عند الناس يعني عظمته في أعين الناس ووزنه في مجتمعة ويلزم ذلك الوصف والمعرفة.

(قَراطِيسَ) : جمع قرطاس : وهو ما يكتب فيه من ورق وجلد وغيرهما.

(مُبارَكٌ) : جاء في مفردات الراغب : أصل البرك صدر البعير وإن استعمل في غيره ، ويقال له : بركة ، وبرك البعير ألقى ركبه واعتبر منه معنى الملزوم فقيل : ابتركوا في الحرب أي ثبتوا ولازموا موضع الحرب وبراكاء الحرب وبروكاؤها للمكان الذي يلزمه الأبطال ، وابتركت الدابة وقفت وقوفا كالبروك وسمّى محبس الماء بركة. والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء قال تعالى : (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦]. وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة والمبارك ما فيه ذلك الخير ، على ذلك (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) تنبيها على ما يفيض فيه من الخيرات الإلهية. قال : ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة ، وإلى هذه الزيادة أشير بما روي أنه لا ينقص ماله من صدقة ، لا إلى النقصان المحسوس حسب ما قال بعض الخاسرين حيث قيل له ذلك فقال بيني وبينك الميزان. ثم أنهى كلامه أن المراد بتباركه تعالى اختصاصه

٢١٤

بالخيرات.

* * *

(أُمَّ الْقُرى) : مكة ، سميت بذلك إما لأنها قبلة أهل القرى أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس ، فكأن القرى نشأت منها ، أو لأن الدعوة ابتدأت منها ، فكأن القرى في العالم تتفرع منها وترجع إليها كما هي الأم بالنسبة إلى أطفالها ، ولهذا كانت مكة هي المركز ، وتوصف المدن والبلدان بالأقصى والأولى تبعا لدنوها وبعدها منها ، وهذا ما جاء في قوله تعالى : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) [الروم : ١ ـ ٣].

(افْتَرى) : أصل الافتراء القطع من فريت الأديم أفريه فريا ، فكأن الافتراء هو القطع على خبر لا حقيقة له ، والفترة الغشية ، شدائد تحيط بصاحبها وتغمره فتولّد السكرات.

(غَمَراتِ) : جمع غمرة وغمرة كل شيء معظمه وغمرات الموت شدائده ، وأصله الشيء يغمر الأشياء فيغطّيها ، وجعل مثلا للجهالة التي تغمر صاحبها «الجهل المطبق» وسمي من يرمي نفسه في الحرب مغامرا.

(الْهُونِ) : ـ بضم الهاء ـ الهوان ، والهون ـ بفتح الهاء : الدعة والرفق ومنه (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان : ٦٣].

(فُرادى) : جمع فرد ـ وهو الذي لا يختلط به غيره فهو أعم من الوتر وأخص من الواحد ـ كما يقول الراغب (١).

(خَوَّلْناكُمْ) : التخويل الإعطاء وأصله تمليك الخول كما أن التمويل تمليك الأموال ، وخوّله الله أعطاه مالا.

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٣٨٩.

٢١٥

(بَيْنَكُمْ) : البين : مصدر بان يبين إذا فارق. قال أبو زيد : بان الحيُّ بينونة وبينا إذا ظعنوا وتباينوا أي تفرقوا بعد أن كانوا جميعا.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ في الآية (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) قال سعيد بن جبير : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف ، فخاصم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟» ، وكان حبرا سمينا ، فغضب وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء ، فقال له أصحابه الذين معه : ويحك ولا على موسى؟ فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

وقال ابن عباس ـ في رواية الوالبي ـ قالت اليهود : يا محمد ، أنزل الله عليك كتابا ، قال : نعم ، قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتابا فأنزل الله تعالى : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) وقال محمد بن كعب القرظي : أمر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل أهل الكتاب عن أمره وكيف يجدونه في كتبهم فحملهم حسد محمد أن كفروا بكتاب الله ورسوله ، وقالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) فأنزل الله تعالى هذه الآية (٢) : وذكر في رواية أخرى أن آية (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) يعني مشركي قريش (٣).

ونلاحظ أن اختلاف هذه الروايات يوحي بأن القضية لم تكن رواية عن

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ١٢٢.

(٢) م. ن ، ص : ١٢٢.

(٣) انظر : الدر المنثور ، ج : ٣ ، ص : ٣١٤.

٢١٦

الحسّ في حضورهم في وقت نزول الآية أو روايتهم عمن عاش في تلك الحالة ، بل كانت اجتهادا شخصيا في محاولة لتطبيق الآية على حادثة أو واقعة مفروضة عندهم ، ويؤيد ذلك التكلف في أسلوب الروايات ، والله العالم.

وقد نلاحظ على هذه الروايات أنه ليس من الطبيعي إنكار اليهود إنزال الكتاب على بشر في الوقت الذي يلتزمون التوراة ككتاب أنزله الله على موسى عليه‌السلام. وقد ردّ العلامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ في الميزان بأنه لا يمنع أن يتفوه به بعضهم تعصّبا على الإسلام أو تهييجا للمشركين على المسلمين ، أو يقول ذلك عن مسألة سألها المشركون عن حال كتاب كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعي نزوله عليه من جانب الله سبحانه ، وقد قالوا في تأييد وثنية مشركي العرب على أهل التوحيد من المسلمين ... إلى آخر ما قال (١).

ولكن هناك فرقا بين الموقف من المسلمين أو من بعض التفاصيل وبين إنكار إنزال الكتاب على بشر أيا كان ، فإن ذلك يؤدي إلى إنكار أساس دينهم مما لا يتناسب مع إصرارهم بأنهم هم الذين يمثلون الشرعية الدينية من قبل الله وأنهم وحدهم أهل الكتاب ؛ والله العالم.

كما أن رواية القرظي لا تنسجم مع طبيعة الأمور إذ لا نعقل وجها لتكليف الله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن يسألهم عن صفته في كتبهم ليجيبوا بنفي وجود كتاب منزل من الله من حيث الأساس.

وقد جاء في أسباب النزول للواحدي في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ) الآية ، نزلت في مسيلمة الكذاب الحنفي كان يسجع ويتكهن ويدعي النبوة ويزعم أن الله أوحى إليه (٢).

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٧ ، ص : ٢٨٠.

(٢) أسباب النزول ، ص : ١٢٢.

٢١٧

وجاء فيه في قوله تعالى : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد تكلم بالإسلام ، فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم يكتب له شيئا ، فلما نزلت الآية التي في المؤمنين : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ) أملاها عليه ، فلما انتهى إلى قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤] عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان ، فقال : تبارك الله أحسن الخالقين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هكذا أنزلت عليّ ، فشك عبد الله حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ، ولئن كان كاذبا ، لقد قلت كما قال ، وذلك قوله : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) وارتدّ عن الإسلام ، وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي (١).

وجاء في مجمع البيان أن قوله : (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه كان يكتب الوحي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان إذا قال له : اكتب عليما حكيما ، كتب غفورا رحيما ، وإذا قال له : أكتب غفورا رحيما كتب عليما حكيما وارتد ولحق بمكة وقال : إني أنزل مثل ما أنزل الله ، عن عكرمة وابن عباس ومجاهد والسدّي ، وإليه ذهب الفراء والزجاج والجبائي وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام (٢).

وقد نلاحظ على رواية مسيلمة أنه لم يكن في مستوى يشكل خطورة على الدعوة البارزة التي تؤدي إلى الخطورة بحيث ينزل الله فيه قرآنا ليردّ عليه قوله أو ليبعد الناس عنه. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن هذه السورة مكية بينما ظهر مسيلمة في آخر حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة ، إلا أن يقال : إن هذه الآية نزلت في المدينة ثم ضمّت إلى السورة بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قال بذلك بعض القائلين.

__________________

(١) م. س ، ص : ١٢٢ ـ ١٢٣.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٤١٧.

٢١٨

وهكذا نتساءل عن شخصية عبد الله بن أبي سرح كيف اعتمده النبي كاتبا للوحي في الوقت الذي لم يكن مؤتمنا على الوحي ، وكيف يمكن أن ينطق بآية قرآنية قبل أن يلقيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه ، لتكون المسألة من قبيل توارد الخاطر بينه وبين الوحي. إن هذه الملاحظات تبعث على الاستغراب ؛ والله العالم.

وجاء في مجمع البيان أن آية (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) الآية نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة حين قال : سوف يشفع لي اللات والعزى ، عن عكرمة (١).

ونلاحظ على ذلك أن سياق الآية وارد في تحديد النتائج النهائية للمستقبل الذي يواجهه المشركون بشكل عام من خلال المنطق الذي يثير في شفاعة الأصنام لهم على طريقة (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] فهو منطق عام وليس حديثا فرديا ليكون حدثا بارزا يؤدي إلى نزول الآية ؛ والله العالم.

* * *

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)

وهذا حديث مع اليهود ، ومع جميع المنحرفين عن خط الدعوة إلى الله ، في ما كانوا يثيرون من كلمات غير مسئولة ، لا ترتكز على أساس من فكر وعقل. وسنلاحظ أنّ هذه الآيات تتنوّع في مناقشة بعض الأفكار ، وإثارة بعض علامات الاستفهام التي لا يقصد منها السؤال الساذج ، بل التسجيل الدقيق للمعلومات الحقيقيّة التي يتنكّر لها هؤلاء ، ثم إدخال إلى الجو في

__________________

(١) م. س ، ج : ٤ ، ص : ٤٢٠.

٢١٩

روحيّة الموعظة التي تفتح القلب على الله في أجواء التأملات الذاتية الهادئة أمام قضية المصير.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) بل وقفوا أمامه وقفة الإنسان الذي لا يحس بأجواء العظمة في ما توحيه ذاته من الخشية والرهبة والخضوع ، فكانوا ـ في موقفهم هذا ـ كمن يستهين بعظمة الله وسطوته وقوّته وقدرته ، فلم يشعروا بالمسؤولية في ما يواجهون به رسله من التحديات ، أو يؤمنون به من أفكار ، وفي ما يثيرونه من شبهات ويتخذونه من مواقف ، ولم يخافوا من نتائج مواقفهم تلك.

إن الذين يخافون الله هم الذين يقدّرون تصرفاتهم لجهة ما يأخذون وما يتركون ، تبعا للمواقع التي ينتظرونها في مواقفهم أمامه في اللحظات الحاسمة للحساب ، أمّا الذين لا يبالون بما يصدر منهم من قول أو فعل ، من حيث ارتباطه بحركة المسؤولية في حياتهم ، فهم الذين لا يقدرون الله حق قدره ، وهذا ما يتمثّل في موقف هؤلاء (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) ، لأن مثل هذا القول يدلّل على افتقادهم للوعي المسؤول ، لأنهم لا يملكون أيّة حجة عليه ، مما يعرّضهم لسخط الله وعذابه الذي توعّد القائلين عليه بغير علم ، بالعقاب والعذاب الأليم.

وكيف يملكون الحجة على النفي ، في ما لا يستطيعون الإحاطة به من فعل الله؟! فإن صعوبة إقامة الحجة على النفي تزيد كثيرا عن إقامتها على الإثبات ، لأن الإيجاب محدود بحدود الفعل من حيث الزمان والمكان ، بينما يشمل السلب المطلق كل آفاق الموضوع.

وربما كان المعنى أن تقدير الله حق قدره يفرض إيمانهم بحقيقة الألوهية في خصائصها الربوبية من حيث إرسال الرسل وإنزال الكتب التي تقود الناس إلى ما يصلح أمرهم وشؤونهم الروحية والأخلاقية ، والمعارف

٢٢٠