تفسير من وحي القرآن - ج ٩

السيد محمد حسين فضل الله

ولا لطروء التغير والانتقال في وجوده ، بينما لا يملك أي مخلوق هذه الخصوصية.

* * *

استغراق الإنسان في كفر نعم الله

٥ ـ إن قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ ، لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) يشير إلى الحالات الصعبة أو شبه اليائسة التي يعيش الإنسان فيها الإحساس بالخطر الداهم أو المحقق عند ما يواجه الشدائد والأهوال في حياته في البرّ والبحر ، فلا يجد أمامه أحدا من الناس الذين اعتاد الاستعانة بهم ، ولا يملك وسيلة معينة يعتمد عليها ، فيلجأ إلى الله بفطرته النقية الصافية التي تفرض نفسها عليه بشكل عفوي بكل آماله وتمنياته وثقته ، ويطلب إليه أن ينجيه من هذه المشكلة أو البلية في وعد أكيد أنه سينتقل من حالة الكفر العملي بالنعمة ، إلى الشكر له فيها ، المتمثل بالعودة إلى خط الإيمان والعمل الصالح في حالة من التضرع الذي يوحي بالتعبير عن الحاجة والمسكنة النفسية في أسلوب علنيّ يرتفع بالشكوى والصراخ ، أو في أسلوب خفيّ يهمس به القلب واللسان .. وينجيه الله من ذلك كله ، فيخرج من البلاء معافى ومن الخطر سالما ، ويبتعد عن كل الهمّ والغمّ والحزن الذي كان يعيشه في حياته ، فينقلب من مشكلته مسرورا ، وينسى مشكلته في غمار هذه النتائج الإيجابية الطيبة.

وينسى ربه ، ويستغرق من جديد في الناس الذين اتخذهم شركاء من دون الله ، ويعود إلى الكفر بنعمة الله ، ويخرج من تلك الصحوة الإيمانية التي انفتح فيها على الله وآمن فيها بوجوده وتوحيده من خلال هذه الهزّة العنيفة لحياته ، ليعود إلى الغفلة المطبقة والنوم العميق.

ولعلّ هذا الحديث عن إجابة الله للدعاء في إنجائهم من البلاء الذي

١٤١

حلّ بهم ، يوحي للإنسان بالإجابة الإلهية الحاسمة لكل من دعاه إذا أخلص في دعائه وإن ابتعد بعد ذلك عن أجواء الدعاء.

* * *

على الإنسان أن يحذر عذاب الله

٦ ـ في آية : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) إشارة إلى أن عليهم الحذر من العذاب الذي يمكن أن يبعثه الله عليهم عقوبة على كفرهم وعصيانهم وتمرّدهم ، لأنهم يستحقونه ، فهو القادر على ذلك بكل الوسائل وفي جميع الاتجاهات ، فقد يأتيهم العذاب من فوقهم ، كما في الرياح العاصفة والأمطار الشديدة والصواعق المحرقة ، ومن تحت أرجلهم ، كالزلازل والبراكين والفيضانات ، والانشقاقات الأرضية ونحو ذلك ، كما قد يتمثل ذلك في ممارسات المستكبرين ضد المستضعفين وفي ابتعاد الناس عن مسئولياتهم في حماية نظام الناس ، مما قد يؤدي إلى الإضرار بهم ، وفي وسائل الحرب المدمّرة التي تحرق البلاد والعباد التي تقصفهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم.

* * *

التمزق شيعا بلاء إلهيّ

٧ ـ قوله : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) إشارة إلى التمزقات الاجتماعية التي يتحول فيها المجتمع إلى فرق متناثرة لا يجمع بينها شيء من خلال اختلاف الكلمة ، وتوزّع الآراء ، وتشتُّت المواقف ، مما يؤدي إلى دمار اجتماعي وأخلاقي واقتصادي لا يقلّ خطورة عن الدمار المادي الذي يمثله العذاب المادي المذكور في الآية.

ولعل من الطبيعي ـ في وعي هذه المسألة ـ أن يكون البلاء الإلهي ـ

١٤٢

في ذلك ـ ناشئا من الواقع الذي يعيشونه في الاختلاف الناشئ من حالة البغي فيما بينهم ، والفساد الكامن في داخل نفوسهم وأوضاعهم ، وتغليب المصالح الشخصية على المصالح العامة.

وإذا كان الحديث في هذه الآية عن المشركين ، فإنها قد تمتد إلى المسلمين الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا ، فتحزبوا للباطل في مذاهبهم وفي اتجاهاتهم ، وفي أوضاعهم العامة والخاصة ، مما أدّى إلى تمزيق الوحدة الإسلامية والاستعانة بالكافرين على المسلمين.

* * *

الرسول يدعو إلى الله وينبذ أهواء المشركين

وهذه صورة رائعة من صور الرسول الداعية في مواجهته للمشركين ، في ما يريد أن يثيره لديهم من قضايا العقيدة ، في انطلاقة التوحيد أمام الشرك ، من خلال التصوّر الرحب لما هو الله ، في الفكر والقلب والضمير ، حيث يفرّغ كل شيء غير الله من أيّ معنى يتّصل بالألوهيّة ، أو يقترب منها ، أو يلامسها ، ولو من بعيد ، لأن الأشياء لا تملك ـ في عمق وجودها ـ أيّ لون من ألوان الاستقلال الذاتي ، فكيف تملك إعطاء الوجود لغيرها؟!

وهكذا يتجلّى الرسول في إشراقة الموقف الحق ، فنراه وهو يرفض كل دعواتهم للشرك ، ويجابه كل تحدياتهم واقتراحاتهم التعجيزيّة ، ولكن لا من ناحية تدّعي لنفسها الاحاطة في نطاق المعرفة بل من ناحية الشخصية المتحركة في خط العبودية لخالقها ، العالم بكل شيء المدبّر لأمور عباده ، فيأمرهم بما يرى أنه الصلاح ، وينهاهم عما يرى أنه الفساد.

وبذلك يقف الرسول ـ العبد لله ، في موقف الخاضع لنواهيه ، ليقول لهم : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) فقد آمنت بالله على قاعدة

١٤٣

الفطرة ، التي أثبتت أن لا إله غيره .. وها أنا ذا أحسّ إحساس العبد الخاشع أمام ربّه بأنّ العبودية هي لله وحده ، فلا مجال لعبادة أو طاعة غيره ، في ما نهاني عنه ممن تدعون من دونه من غير قاعدة أو برهان .. فإنكم لم تنطلقوا في دعوتكم لغيره إلا من أهوائكم المنطلقة من الشهوات ، فكيف يختار العاقل الواعي لنفسه أن يتّبع الهوى ، ويترك الحجّة والدليل والفطرة والوجدان؟ (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) فإن ذلك يؤدي إلى الضلال والضياع بعيدا عن خط الهدى ، (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) وهذا ما لا يمكن أن أختاره لنفسي ، مهما اشتدت الضغوط ، وكثرت التحدّيات.

(قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) فليس لديَّ أيّ شك أو ريب ، لأن الحقيقة تفرض نفسها في فكري وقلبي وشعوري ، كما تشرق الشمس في الفضاء في رأد الضحى .. فكيف يترك الإنسان وهج الحقيقة ، إلى ظلام الباطل؟

(وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) من دون برهان ، ولذلك لم تستطيعوا إثارة أيّة فكرة علميّة مضادة ، ولم تستطيعوا مناقشة أيّ دليل للإيمان ، بل كل ما فعلتموه هو إطلاق كلمة التحديّ ، بأنه إذا كان هذا هو الحق من عندك فأرسل لنا العذاب ، وأمطر علينا الحجارة من السماء ، وهذا هو شأن الضعفاء المهزومين الذين لا يملكون قوّة المواجهة الفكرية ، الحجة بالحجة ، والوجدان بالوجدان ، وهم يعلمون أن قضايا العذاب ليست بيد الرسل والأنبياء ، وليس هذا هو دورهم ، فلم يمنحهم الله ـ سبحانه ـ إمكانات التصرّف في الكون بالطريقة التي تحلو لهم ، أو تطلب منهم ، بل كل ما هناك أن الله كلفهم إبلاغ رسالته ، وإقامة الحجة على الناس ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حيي عن بيّنة .. وهذا هو كل شيء .. أما إنزال العذاب فهو شأنه ، فإذا شاء أن يعذّب فله ذلك ، وإذا شاء أن يعفو فله ذلك ، لأن الحكم له في جميع الأمور ، ما دامت الحياة ملكه .. وما دامت الخلائق طوع إرادته .. (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من العذاب (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) في

١٤٤

كل الأشياء .. فهو الذي يحدّد مواقع الرحمة والنقمة ، (يَقُصُّ الْحَقَ) ليبيّنه للناس فتقوم الحجة عليهم من خلاله ، (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) في ما يفصل به بين الحق والباطل ، والخير والشرّ ، والكفر والإيمان.

* * *

المشركون يتحدون الرسول باستعجال العذاب

(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) إن الكافرين والمشركين يستعجلون العذاب الذي وعدهم الله به تحديا للرسول ، ظنا منهم أنّه لا يستطيع إليه سبيلا ، ليظهروا عجزه أمام الناس ، وليثيروا أساليب السخرية ضدّه .. فكيف واجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا المنطق؟ لقد وقف وقفة الرسول الذي يعرف قدراته جيّدا ، فإنَّ الله لم يسلّطه على مقدّرات الكون ، فيأمرها بإنزال العذاب على هؤلاء أو أولئك ، لأن دوره الأوّل والأخير هو إبلاغ الرسالة ، ثم لما ذا يستعجلون ذلك ..؟ وما ذا يتخيّلون أن يحدث إذا كان الأمر بيده؟ فما ذا يبقى هناك؟ إن الأمر سينتهي إلى الدمار ، وسينتهي الأمر إلى النتيجة الحاسمة فيما بينه وبينهم ، جزاء لظلمهم ، فإن الله أعلم بالظالمين ، الذين يظلمون أنفسهم بالمعصية والانحراف والتمرد عليه.

ثم ، ما هي تصوراتهم عن الله؟ هل يفكرون فيه كما يفكرون ببعضهم البعض كطاقات محدودة مغلوبة في العلم والقدرة ، ليبيحوا لأنفسهم أسلوب اللّامبالاة والابتعاد عن خط المسؤولية في الإيمان به والانسجام مع رسالته ورسوله؟ وكيف يسيرون مع هذا اللون من التفكير الذي ينطلق من ضيق الأفق ، وقلّة التأمّل وسطحيّة النظرة إلى الأمور؟

وتتحرك آيات الله لتقدم الملامح الحقيقية للصورة المشرقة عن ذاته ـ

١٤٥

تعالى ـ حيث يعيش الإنسان الشعور برعاية الله له من خلال الشعور بإحاطة علمه بكل الأشياء دون استثناء حتى الصغير الصغير من الأشياء ، والخفيّ الخفيّ من القضايا .. وفي مساحات الزمن كله ، في الماضي والحاضر والمستقبل .. فهي في علمه سواء ، لأن الموجودات كلها حاضرة لديه من خلال خلقه لها وتدبيره لكل أوضاعها الجزئية والكليّة.

* * *

الله وحده يعلم الغيب

وتبدأ الآية بالحديث عن الغيب ، غيب الزمن ، وغيب الضمائر ، وغيب الأشياء الخفيّة ، فهو الذي يملك مفاتحه ، ولا يملك غيره من ذلك شيئا ، إلا من خلال ما يطلع عباده عليه. (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) فليس لأحد أن يدّعي علم ذلك لأحد بطريقة ذاتية إلا من خلال وسائله المألوفة وغير المألوفة التي يتيحها له ، (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) من كل الموجودات الحيّة وغير الحيّة ، ومن خلال ذلك يدبّر لها حركة وجودها بشكل مباشر وغير مباشر ، فهي خاضعة له مستسلمة لإرادته ، (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) لأنها لا تسقط إلا بإذنه وبإرادته المتحركة في نطاق القوانين الحتمية التي تحكم الكون كله ، (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) عنده ، في ما أحصاه في علمه ، وسجّله في اللوح المحفوظ.

تلك هي الصورة التي يعيش الإنسان معها هذا الامتداد الشامل المطلق في علم الله وإحاطته بالمخلوقات ، فيحس بالأمن والطمأنينة والثقة بالله الذي يحيط بكل شيء ، وبذلك يمكن أن يحفظه من كل شيء ، لأن علم الله ليس علما يكشف الصورة ويوضحها ، بل هو العلم الذي يعطي الأشياء صورتها ، ويحقق لها وجودها ويرعى لها حركتها ، ويهيمن على كل أوضاعها ، إنه علم

١٤٦

الخالق القادر ، وذلك هو ما يضمن إحساس الإنسان بالأمان المطلق معه.

* * *

الله مدبّر حياة الإنسان

وتتحرك الآية الثانية لتثير الإحساس بالتدبير اليوميّ الذي يدبّر به حياة الإنسان بين موت تنبض في داخله الحياة ، فلا يلغي للإنسان حياته ، ولا يحمّله أثقالها المجهدة ، فهي حياة يحسّ معها بطعم الموت في ما يحققه من راحة السكون والغيبوبة عن الوعي ، وذلك هو ما يمثله النوم الذي يطبق على كيان الإنسان في الليل ، وبين بعث تمثله اليقظة من عودة للحياة المتحرّكة التي تضج بالنشاط ، وتحفل بالحركة ، وتنوء بالجهد ، حتّى إذا بدأ نهاره ، انطلقت رقابة الله عليه ، لتوحي له بأنها تحصي عليه كل أعماله التي يكتسبها ويجترحها في سائر الأمور. وهكذا تمتد هذه الدورة الزمنية المتأرجحة بين الموت النابض بالحياة ، وبين الحياة المنطلقة في خط المسؤوليّة إلى أن ينتهي الأجل المسمّى للإنسان ، فيترك هذه الحياة بالموت الكامل الذي يلغي في الجسم كل نبضة للحياة ، ثم يأتي دور البعث الكبير الذي يعيش فيه اليقظة التي لا تتحرك فيها قضية المسؤولية كعمل ، بل تنطلق فيها كنتاج لما أسلف من عمل. فهو الموقف الذي يواجه فيه نتائج المسؤوليّة ، لينتهي إلى مصيره الأخير في الجنة ، أو في النار (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) وهو العمر الذي حدّده الله للإنسان في الحياة ، (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لتواجهوا مصيركم من خلال ذلك.

* * *

(هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ)

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) لما تحمله السيطرة المطلقة والقدرة الشاملة

١٤٧

من هيمنة قويّة لا يملك الناس معها أيّة إرادة أمام إرادته ، فهم مقهورون بفعل امتداد وجودهم منه وحاجتهم إليه ، فمنه يستمدّون القوّة ، لأنهم ـ منه ـ يستمدون حركة الحياة ، وبهذا تفرض الفوقية معناها الضاغط المسيطر ، في ما يعطيه القهر من معنى انسحاق المقهور أمام إرادة القاهر.

(وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) يحفظونكم من كل أسباب الموت ، أو يحفظون أعمالكم في الكتاب الذي يقدمونه غدا بين يدي الله .. وتستمر عمليّة الحفظ ما استمرت الحياة بالناس ، (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) وانتهى أجله المحدّد له (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) الذين أوكل الله إليهم القيام بهذا الدور ، (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) في مسئوليتهم وفي دورهم الذي أراده الله لهم في أمور الموت والحياة. ولا يملك الإنسان شيئا أمام ذلك ، فهو مسيّر في أصل وجوده فلا اختيار له في عمليّة الخلق ، وهو مسيّر في انتهاء وجوده ، فلا اختيار له في عمليّة الموت ، وهو محكوم بعمله فلا بد له من أن يقدّم العمل الذي يرضي الله في الدنيا والآخرة.

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) فهناك يرجع الناس إلى ربهم ليعودوا إليه كما بدأهم أوّل مرّة ، ليواجهوا حكمه المبرم ، فهو الحاكم في يوم القيامة ، ولا حاكم غيره ، لأنه هو المالك ليوم الدين وللناس أجمعين ، (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) وهو أسرع الحسبين فلا يحتاج إلى وقت للحساب ، لأن الأرقام كلّها حاضرة عنده ، مجموعة لديه ، ولا بد للإنسان من أن يتوقف عند كلمة (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) ليختزن في وعيه دائما معنى حاكمية الله في الوجود ، فيستوعب الفكرة كقاعدة للتصور الإسلامي في الانطلاق من أمر الله ونهيه في شرعية الأفعال والكلمات والمواقف والانتماءات ، لأنّ الحكم حكمه ، والشرعيّة شرعيته ، وفي التوجّه إليه في حكاية الثواب والعقاب ، لأن المصير إليه والأمر بيده ، فلا حاكم سواه في يوم الجزاء.

* * *

١٤٨

الله هو المنجي من ظلمات البر والبحر

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) تطرح هذه الفقرة علامة استفهام حول حقيقة بديهية على قلب الإنسان وعقله ، ليستوعبها ويعيها ويحرّكها في وعيه لئلا تغيب عنه لحظة واحدة ، في ضباب الغفلة ، وجلبة الشهوات والمطامع ، ليعيش ـ دائما ـ مع الله كملجأ وحيد ، عند ما تدهم الإنسان ظلمات البرّ ، فتسيطر على مشاعره فترتجف نفسه ، وتهتز ، وتتساقط تحت تأثير أشباح الظلام التي تتراكض في وعيه ، فتوحي إليه ، بكل ألوان الخوف والفزع والحيرة من خيالات الجنّ والشياطين والحيوانات المفترسة والناس القتلة ، وغير ذلك مما يجعل الإنسان يفقد توازنه في التعامل مع الأشياء من حوله ، وربما يفقد عقله معه .. وهكذا عند ما يعيش ظلمات البحر ، في نطاق ظلمة الليل ، وظلمة الأمواج ، وظلمة الخيالات السوداء والأشباح المخيفة التي تتراكض في إحساسه ووعيه ، فتفقده الأمن والطمأنينة ، وتقوده إلى الحيرة والاهتزاز ، فإنه لا يجد ـ في ذلك كله ـ إلا الله الواحد ، ملجأ الخائفين وعصمة المعتصمين ، وغياث المستغيثين ، يتعلق به قلبه ، في إشراقة فطرية هادئة توحي له بالثقة وتبعث في داخله الشعور بالحياة الممتدّة الواسعة ، في خطوات الحقيقة العميقة التي تفرض نفسها على الموقف ، فتطرد أمامها كل الخيالات والأشباح.

وتبدأ الابتهالات والتطلعات في خشوع الخوف ، وخضوع العبادة (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) وهكذا ينطلق الإنسان في ابتهالاته ليعطي الله عهدا على نفسه بالالتزام بخطّ الشكر الذي يعني خط الطاعة المطلقة في كل أوامره ونواهيه ، وذلك في إحساس خفيٍّ بأن الله يحقق للشاكرين رغباتهم وأحلامهم كجزاء على شكرهم.

ويأتي الجواب الإلهي تجسيدا للحقيقة في أسلوب إيحائيّ يؤكد

١٤٩

للإنسان معناها وجها لوجه (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها) فاستعرضوا تاريخكم في ما مضى من عمركم ، وفي ما عاشه الآخرون من رفاقكم ، في غمار تلك الظلمات .. ولن يقتصر الأمر عليها ، فهناك أكثر من مشكلة تمر بكم ، وأكثر من مصيبة تحلُّ بكم ، فينجيكم منها ، (وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) مما يغمّ القلب ، ويكرب النفس ، فيفرج عنكم الغمّ ويكشف الكرب ، ولكنكم لا تلتزمون بعهدكم أمامه ، فسرعان ما تعاودون الكرة فتشركون به غيره في العقيدة تارة ، وفي العبادة أخرى (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ). ولكن هل فكرتم جيّدا في موقع الله في حياتكم؟ فإنَّ القادر على أن ينجيكم من ظلمات البر والبحر ومن كل كرب ، قادر على أن يقلب حياتكم رأسا على عقب ، ويدمّر كل وجودكم ، فكيف تأمنون مكر الله وعذابه ، في ما تستمرون به من شرك وعصيان.

* * *

أسلوب القرآن في فتح قلوب المشركين على الحقيقة

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) فكيف تتفادون ذلك كله إن عصيتم وتمرّدتم؟ ولعلّ الإيحاء بإحاطة العذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم حيث يتساقط عليهم من السماء ، أو يطلع إليهم من أعماق الأرض ، يثير الشعور بالفزع والرعب والهول ، لأن الإنسان لا يملك الوسيلة الذاتية التي تحقق له السيطرة عليه ، أو الهروب منه ، بينما يملك دفع العذاب إذا جاء من طريق اليمين والشمال .. (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) في ما يمثّله ذلك من عذاب يوميّ ، نفسيّ وعمليّ ، متحرك يأخذ على الإنسان كل حياته ليجعلها في قبضة التمزيق ، من خلال ما يثيره تفرق المجتمع إلى شيع وأحزاب من نوازع العصبية البغيضة ، والحقد العميق ، مما يؤدّي إلى التقاتل والتدافع ، ويدفع إلى المزيد من الآلام والخسائر ومظاهر الخراب والدمار ، خاصة إذا ما جاء ذلك من الأيدي

١٥٠

القريبة التي كانت تتصافح بروح الصداقة ، فإذا بها تتقاتل بروح العداوة .. وتلك هي قصة الواقع الإنسانيّ الذي يمثّل لونا من ألوان العذاب الذي ينزله الله على الناس في الدنيا بشكل مباشر أو غير مباشر .. فالبعض منه يتنزل على أساس العقوبة على التمرّد والعصيان ، وفي البعض الآخر ، يحدث كنتيجة طبيعيّة لبعض أنماط السلوك الإنساني المنحرف في ما ينتجه هذا العمل السيّئ أو ذاك.

تلتقي إثارة ذلك كله أمام الناس ، ولا سيّما المكذبين منهم ، بالهدف القرآني الذي يريد أن يفتح قلب الإنسان على الحقيقة من أجل أن يفقه ويتأمّل ويواجه المعرفة الإيمانيّة بجدِّية ومسئولية : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).

ولكنّ هؤلاء القوم الذين أنزل عليهم القرآن ، لم يستجيبوا لهذه الدعوة المنفتحة .. فقد كذّبوا بالقرآن ، وهو الحقّ الذي لا شكّ فيه ، أمّا دور الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه ينتهي عند حدّ الإبلاغ والإنذار ، من خلال صفته الرسوليّة .. (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) فليست له أيّة مسئوليّة مباشرة للضغط عليهم ، فليفعلوا ما يشاءون .. فإنهم يتحملون مسئوليّة أنفسهم ، فسيواجهونها في المستقبل عند ما تتحرك الإرادة الإلهيّة لتصل بالأشياء إلى نهاياتها ويلتقي الناس بنتائج أعمالهم على قاعدة العقاب والثواب ، وبذلك تنفتح لهم آفاق المعرفة ، في ما يحبون ، وفي ما لا يحبون ، (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) ولا بدّ من أن يبلغ قاعدته (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

ويثير هذا الغموض في النفس الإنسانية الكثير الكثير من حالات التهويل في ما يمكن أن يصادفه مما لا يعرف الإنسان طبيعته ولا مداه.

* * *

١٥١

الآيات

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ

١٥٢

وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (٧٣)

* * *

معاني المفردات

(يَخُوضُونَ) : يسترسلون في حديث الباطل ويلعبون ، ويعبثون من خلال التجريح والسخرية وإثارة الشبهات الباطلة المشوّشة بأساليب صريحة أو ملتوية. قال الراغب : الخوض : هو الشروع في الماء والمرور فيه ، ويستعار في الأمور ، وأكثر ما ورد في القرآن ورد في ما يذَّم الشروع فيه (١) ويستعار الخوض للدخول في الباطل والاندفاع في الحديث.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) : انصرف عنهم ، ولا تجالسهم.

(الذِّكْرى) : كثرة الذكر ، وهو أبلغ من الذكر.

(أَنْ تُبْسَلَ) : البسل : ضمّ الشيء ومنعه. ولتضمّنه لمعنى الضمّ أستعير لتقطيب الوجه ، قيل : هو باسل ومستبسل الوجه ، ولتضمنه لمعنى المنع قيل للمحرّم والمرتهن : بسل ، وقوله تعالى : (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) أي : تحرم الثواب. والفرق بين الحرام والبسل : أن الحرام عام في ما كان ممنوعا منه بالحكم والقهر ، والبسل هو الممنوع منه بالقهر. قال عزوجل : (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) [الأنعام : ٧٠] أي : حرموا الثواب (٢).

(تَعْدِلْ) : تفتدي وتدفع بدلا من مال أو غيره. والعدالة والمعادلة ـ كما يقول الراغب ـ : لفظ يقتضي معنى المساواة ... والعدل والعدل

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ١٦١.

(٢) م. ن ، ص : ٤٤.

١٥٣

يتقاربان ، لكن العدل يستعمل في ما يدرك بالبصيرة ، والعدل والعديل في ما يدرك بالحاسة(١).

(حَمِيمٍ) : الماء الحار أحمّ حتى انتهى غليانه ، ومنه : الحمام.

(اسْتَهْوَتْهُ) : استهواه من قولهم : هوى من حالق إذا تردى وسقط في الهاوية ، فلا يهتدي إلى قرار. ويشبَّه به الذي زلّ عن الطريق المستقيم ، كما أن قوله : زلّ إنما هو في المكان ، ثم يشبه به المخطئ في طريقته ، في مثل قوله : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ) فكذلك هوى وأهواه غيره. فيقال : أهويته واستهويته بمعنى ، كما يقال : أزلَّه الشيطان واستزلّه بمعنى (٢).

(أَعْقابِنا) : الأعقاب : جمع عقب ، وهو مؤخر الرجل. وتقول العرب فيمن عجز بعد قدرة : ارتد على عقبيه.

(حَيْرانَ) : الحيران : المضطرب المتردد الذي لا يهتدي إلى قرار ولا يسكن إلى قاعدة ، والمتردد في أمر لا يهتدي إلى المخرج منه ، أو هو التائه الذي لا يدري ما يصنع.

(الصُّورِ) : هو القرن في اللغة ، وقال الراغب «قيل : هو مثل قرن ينفخ فيه ، فيجعل الله سبحانه ذلك سببا لعود الصور والأرواح إلى أجسامها» (٣).

* * *

مناسبة النزول

جاء في مجمع البيان : قال أبو جعفر عليه‌السلام : لما نزلت (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٣٣٦.

(٢) انظر : مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٣) مفردات الراغب ، ص : ٢٩٧.

١٥٤

الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قال المسلمون : كيف نصنع إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم ، فلا ندخل إذا المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام؟ فأنزل الله سبحانه : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ) من أمرهم بتذكيرهم وتبصيرهم ما استطاعوا (١).

روى الطبري عن السدّي في آية : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ) ، قال : «كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن ، فسبّوه واستهزءوا به فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره» (٢). وروي مثل ذلك عن سعيد بن جبير وابن جريج وقتادة ومقاتل.

وروي عن ابن سيرين وغيره أنها نزلت في أهل الأهواء والبدع من المسلمين الذين يؤوّلون الآيات بالباطل لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء (٣).

ولما قال المسلمون : إن قمنا كلما خاضوا ، لم نستطع أن نجلس في المسجد وأن نطوف ، فنزل : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ) أي : يتقون الله من حساب الخائفين (مِنْ شَيْءٍ) أي : إثم إذا جالسوهم.

وهذه الرواية تختلف عن رواية الإمام الباقر عليه‌السلام التي أكدت أنها نزلت في شأن المشركين.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٣٩٥.

(٢) الطبري ، أبو جعفر محمد بن جرير ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ١٤١٥ ه‍ ـ ١٩٩٥ م ، م : ٥ ، ج : ٧ ، ص : ٢٩٨.

(٣) أنظر : في الدر المنثور ، ج : ٣ ، ص : ٢٩٢.

١٥٥

الإعراض موقف احتجاج ضدّ الخائفين بآيات الله

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) كيف يعبّر المؤمن عن إيمانه؟

وكيف يواجه التحديات المضادّة ، الساخرة تارة ، والمهاجمة المعتدية أخرى ، والصادرة من الكافرين ضد القاعدة الفكرية للإيمان وفروعه التفصيليّة؟ وكيف يعلن موقفه الاحتجاجيّ الرافض لذلك كلّه ، إذا لم يتمكّن من المواجهة الفكريّة المباشرة التي ترد التحديّ بمثله؟

هل يقف موقف الحائر الضائع الذي يتساقط فكريّا وشعوريّا أمام حالة العجز الذاتي الواقعي ، أو يستسلم في أسلوب المسالمة الصفراء التي تعبر عن نفسها بالانسجام الواهن الذليل مع الجوّ السائد؟ إن الله يريد من المؤمن أن يقف موقف الاحتجاج السلبيّ الذي يعبّر عن رفضه وسخطه بالانسحاب من الجوّ الذي يثيره الآخرون بالسخرية والتحدي والعدوان .. وهذا ما تعبر عنه الآيات الأولى أصدق تعبير.

فإذا كان المؤمن في مجلس من مجالس الكافرين أو المنافقين الذين يخوضون في آيات الله في ما أنزله من عقائد ومفاهيم وأحكام ، وما أوحى به من غيب الدنيا والآخرة ، فيتناولونها بالتهجم والتجريح والسخرية والاستهزاء ، بمختلف الأساليب الصريحة أو الملتوية .. ولم يستطع ـ كما يوحي جوّ الآية ـ أن يواجه ذلك بشكل مباشر ليناقش الفكر بالفكر ، ويقابل التحدي بالتحدي ، ويواجه السخرية بسخرية مماثلة .. فإن عليه أن ينسحب من المجلس ليعلن ـ بهذه الطريقة السلبيّة الموحية ـ رفضه لذلك كله واحتجاجه عليه ، ويؤكد انفصاله عن حركة المجتمع في هذا الاتجاه .. فإذا استطاع التأثير على الجوّ بهذا الأسلوب ، فتغيّر الحديث تبعا لموقفه ، أو انتهى كلامهم في هذا الجو ، وانتقل إلى جو آخر ، فيمكنه الرجوع إلى

١٥٦

المجلس ، لأن المطلوب ليس مقاطعة هؤلاء ، بل إعلان الموقف الرافض لمثل هذه الأجواء والمواقف المضادّة.

تلك هي الحالة الطبيعية للمؤمن الواعي الذي يعيش حياته اليومية مع الناس الآخرين بيقظة وتمييز للخطوط الفاصلة بين الإيمان والكفر ، ويشعر باختلافه عن الكافرين ، فإن المفروض منه أن يؤكد إيمانه بالتعبير عنه باتخاذ مواقف إيجابيّة أو سلبية ، وذلك من موقع المسؤولية أمام الله.

فإذا غفل عن ذلك ، أو ضعفت إرادته ، فنسي ، استجابة منه للشيطان ولضعفه البشري ، خوفا من الخسائر المادية أو المعنوية أو المشاكل التي تحدث له من قبل هؤلاء إذا ما تعرض لهم ، أو احتجّ عليهم ، أو أعلن التمايز بين موقفه وموقفهم ، فإن عليه أن يستغفر الله من ذلك ، ويفتح قلبه للذكرى المنطلقة من وحي الله في آياته ، ويؤكد موقفه من خلالها ، فيعيش الحذر الدائم ، من الوقوع من جديد في حالة الغفلة والضعف ، فلا يعود مرّة أخرى ، بعد هذه الذكرى ، إلى الوقوع في التجربة الصعبة ، فيستسلم للموقف الضعيف الذي تفرضه عليه مجاملته للقوم الظالمين.

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ثم تعود الآية الثانية لتضع المسألة في نصابها الصحيح .. فليس المتقون مسئولين عما يخوضه هؤلاء من الكفر والضلال ، بل إن الكافرين أنفسهم هم المسؤولون عن ذلك كله ، لأن الله لا يؤاخذ إنسانا بجريرة غيره ، ولكنه أرادها ذكرى لهؤلاء ، وصدمة عمليّة لهم من قبل المتقين عند ما يواجهونهم بالموقف السلبي الرافض الذي يوحي إليهم بأن الأجواء من حولهم ليست ملائمة لتوجهاتهم. فقد يدفعهم ذلك إلى التفكير الواعي العميق ، فيدخلون معه في حسابات جديدة ، تثير أمامهم أجواء التقوى التي أراد الله للناس أن يعيشوا فيها بما تمثله من الصراط المستقيم.

١٥٧

وهكذا نجد أن الله أراد للمؤمن أن يتحرك في موقفه من نقطتين : نقطة الالتزام الذاتي بالفكرة على مستوى الحياة العملية ، ونقطة التذكير الدائم للآخرين بالانحرافات التي تتمثل في خطواتهم العملية ، من أجل أن يثير التقوى فكرا وجوّا وحركة في وعي الإنسان.

* * *

أيها المؤمنون ، ذكِّروا بيوم القيامة

ثم إن الله يوجّه خطابه لعبده المؤمن من خلال توجيه الخطاب لرسوله ، بأن ينفصل عن هذا المجتمع اللاهي اللاعب : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) لأنهم لم ينفتحوا في الحياة على الرسالة الشاملة التي تنظر إلى الحياة بجدّية ومسئولية تؤكّد على الالتزام ، بل اعتبروا دينهم الذي يمثل خطّ سيرهم هو في الانطلاق مع اللّعب واللهو ، في جميع علاقاتهم وانتماءاتهم ومعاملاتهم وأوضاعهم الخاصة والعامة .. ولهذا فإنهم لا يواجهون الدعوة ـ الرسالة مواجهة الفكر للفكر ، والموقف للموقف ، بل مواجهة السخرية والاستهزاء واللّامبالاة ، لا لأنهم لا يقتنعون بها ، بل لأنهم لا يطيقون جدّيتها والتزامها.

(وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بزخارفها وأشكالها وشهواتها وأطماعها ، فاستسلموا لها ، وعاشوا معها ، وغرقوا في بحار اللذّة التي غمرت كل تفكيرهم وواقعهم .. وهكذا تحوّلوا إلى خطّ مضادّ للمسيرة الإلهية التوحيديّة ، مما يفرض على أتباع المسيرة أن يتركوهم وشأنهم ، بعيدا عن حالة التعقيد الذاتي الذي يوحي بالإحباط واليأس.

(وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) وهكذا بدأ النداء الموجّه للمؤمن كي يستمر

١٥٨

بالتذكير والإنذار بالموقف الذي يؤاخذ الله فيه كل نفس بما كسبت من أخطاء وخطايا تمنعها من الحصول على ثوابه ، دون أن تملك ناصرا ينصرها منه أو شفيعا يشفع لها عنده. وإذا كانت في الحياة الدنيا تحاول أن تدفع بدلا من مال ورجال ، فتأمن ، في مواقع الخطر ، فإن الآخرة ليست هي الموقع الذي يتناسب مع ذلك ، فهناك المصير المحتوم الحاسم ، فلهم الشراب الحميم الذي يغلي في البطون ، ولهم العذاب الأليم الذي يفتك بأجسادهم ، كنتيجة طبيعية لكفرهم وتمردهم على الله.

* * *

المشركون ودعوتهم إلى الضلال

ثم يتحرّك الجوّ في مناجاة ذاتيّة ، ينطلق ـ من خلالها ـ المؤمنون في استيحاء أجواء الإيمان ، في مواجهة أضاليل الكفر ، من أجل تسجيل النقاط السلبيّة ضد الكافرين بأسلوب الاستفهام الإنكاري.

ما ذا يريد منهم هؤلاء الكافرون والمشركون ؛ في ما يدعونهم إليه من عبادة هؤلاء الآلهة من دون الله؟ فهل يملكون أساسا لهذه الدعوة؟ هل تنفع هذه الآلهة أو تضرّ؟ ماذا لديها من عناصر القوّة والقدرة لتدافع عن الذين يؤمنون بها أو يعبدونها؟ إن ذلك هو أبسط الشروط للمعبود .. ولكنهم ـ وهذه هي طبيعة الواقع بكل وضوح وبساطة ـ لا يملكون شيئا من ذلك ، لأنهم مجرّد أحجار جامدة لا حسَّ فيها ولا حركة ولا حياة .. فكيف يطلبون منا عبادتها من دون الله الذي هو الخالق لكل شيء ، والقادر على أن ينفعنا ويضرّنا ويحمينا من كل سوء ، وهل يفكر الإنسان العاقل بالتراجع إلى الوراء ، بعد أن انطلق بخطواته إلى الأمام؟ (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) ولا يحمل أيّ مقوّم بسيط من مقومات الألوهية وهي القدرة على

١٥٩

النفع والضرر ، (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) وهل يمكن للإنسان الذي أبصر الهدى بعينين مفتوحتين ، أن يعيش الضلال في أفكاره وخطواته؟ وقد لا يكون من المفروض أن تكون الآية دليلا على وجود ضلال سابق على الهدى لهؤلاء القائلين ، لأن الفقرة واردة على سبيل الكناية في التعبير عن طبيعة الضلال التي تمثل خطوة تراجعية ، في مقابل الإيمان الذي يمثّل خطوة متقدّمة.

* * *

الهدى هدى الله

(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا) وهذا مثل الإنسان الذي يعيش الحيرة الضاربة في الأرض بفعل الإيحاءات التي تلقيها الشياطين في وعيه ، فيفقد التركيز في الرؤية الطبيعية للأشياء ، فيظل يضرب في الأرض يمينا وشمالا ، فلا يهتدي إلى قرار ، ولا يسكن إلى قاعدة ، ولا يستجيب إلى نداء أصحابه الذين يحاولون إنقاذه من حيرته القاتلة عند ما يدعونه للسير معهم حيث إشراقة النور واستقامة الطريق.

ويأتي الجواب حاسما في مواجهة علامات الاستفهام الإنكاري : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) فهو الشاطئ الأمين الذي تقف عنده سفن النجاة ، وهو القاعدة التي تثبت عندها الأقدام ، وهو الأفق الذي تنساب منه إشراقات الضياء ، وما الذي يطلبه الإنسان أكثر من أن يحصل على هداية الله وحده ، فلا خيار له بعد ذلك ، من خلال ما يتحرك به الخطّ الواضح للحقيقة التي فرضت نفسها على كل وجدان الإنسان الذي يقف لينتظر الأمر الذي يوحي به هذا الأفق الواعي للهدى ، (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) فهو الذي بيده الخلق ، وهو الذي بيده الأمر ، وله الحكم ، يأمر العقل أن يهدي ، والوجدان أن يذعن ، والخطى أن تسير ، بما يعنيه ذلك كله من إسلام الفكر والحسّ

١٦٠