تفسير من وحي القرآن - ج ٩

السيد محمد حسين فضل الله

ونجيب عن ذلك ، بأنّ الله أجرى الأمور على السنن الحتمية في الوجود .. ولكنه أراد لها أن تخلق ـ بحسب طبيعتها ـ حالة وجدانية في داخل الإنسان ، فتذكّره بالحاجة إلى الارتباط به ، على أساس أنه مصدر القوة ، ومرجع كل شيء ، لأن الله جعل منابع الوعي الإنساني لقضايا الإيمان خاضعة في وجودها ونموّها واستمرارها لما أبدعه الله في الكون من دلائل عظمته ، ومن أسرار خلقه ومواقع رحمته وحكمته .. فإذا أخذ الإنسان بإيحاءاتها أمكنه أن يلتقي بالله من أوسع الأبواب ، أما إذا أغفلها وتناساها وابتعد عن خطّها الأصيل ، فإنه سيلتقي بالعذاب والهلاك في الدنيا والآخرة.

وربما يطرح سؤال كيف تحدّث الله في الآيتين السابقتين عن رجوع هؤلاء الكافرين إليه ، ودعائهم له بما عداه ، ونسيانهم لما يحرك مشيئته ـ تبعا لحكمته ـ في كشف العذاب عنهم ، بينما يتحدث في الآيات الأخيرة عن رفضهم التضرع له والعودة إليه ، بفعل قسوة قلوبهم ، وتزيين الشيطان لهم أعمالهم؟

هل هذا إلا تناقض في المضمون؟ وهل الحلّ هو في التفريق بين الناس الذي عاشوا مع الرسول ـ (عليه الصلاة والسلام) ـ والناس الذين عاشوا قبل ذلك؟ إننا نستبعد ذلك ، لأن الظاهر من أجواء الآيات ، أن الحديث عن الخط الشركي هو في نماذجه السابقة واللاحقة ، باعتبار أنهم فريق واحد في المنطلقات والممارسات. وقد يجيب البعض ، بأن الآيتين السابقتين تتحدثان عن الحالة الفطرية العفوية التي يتحرك فيها الإنسان بطريقة لا شعورية تماما كما هي اليقظة السريعة التي تندفع بعيدا عن الغفلة لتلتقي بالله بشكل عابر من دون أن ينعكس ذلك على الخط العملي الطويل ، بينما تتحدث الآيات الأخيرة عن الموقف الحاسم المستمر الذي يمثل الابتعاد عن

١٠١

خط الضلال واختيار السير في خط الهدى ، مما يريد الله لهم الأخذ به فلا يستجيبون له. ولكن هذا غير ظاهر ، فإن الآية واردة في رفض هؤلاء للمبدأ وهو الإقبال على الله بالدعاء والتضرع إليه ليكشف عنهم ما حلّ بهم.

وربما كان الأولى بالجواب ، أن الآية الأولى واردة في الحديث عن أن الله هو وحده الذي يمكن أن يدفع عنهم العذاب في مقام تأكيد الوحدانية الفطرية التي تفرض عليهم التحرك في هذا الاتجاه إذا التفتوا إلى حركيّتها في داخل النفس لأنها تعيش في العمق من الذات حتى إذا ما أذهلتها الصدمات استيقظت وخرقت كل الحواجز الموضوعة فوقها كمثل القشرة السطحية ، فإذا بالله ـ وحده ـ هو الذي يهزّ كل كيان الإنسان ليفزع إليه ، وهذا ما يوحي به قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فقد يكون المراد من الصدق وعي الحقيقة الفطرية التوحيدية التي تختزنها عقولهم وقلوبهم.

أمَّا الآيات الأخيرة فإنها تتحدث عن الواقع الذي عاشه هؤلاء في التمرد على الفطرة والبعد عن إيحاءاتها انطلاقا من الحواجز التي توجب قسوة القلب وتزيين العمل.

وهناك ملاحظة أخرى ، وهي أن الله يتحدث في قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) مما يعني أن الله يمنحهم الخير الكبير الواسع بعد نسيانهم له.

فكيف نفسر ذلك؟

ربما كانت القضية ابتلاء آخر يختبرهم الله به ليرى هل يشكرون فيرجعون إليه أو يكفرون فيستمرون في ضلالهم. وربما كانت استدراجا لامتحانهم في التجربة الجديدة التي يواجهونها بالرخاء بعد أن عاشوا وسقطوا أمام التجربة السابقة بالبلاء.

١٠٢

وقد جاء في الدر المنثور في حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) الآية والآية التي بعدها (١).

وقد جاء في الحديث عن الإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة «يا بن آدم إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره» (٢).

وقد روي عن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام قال : إن قنبرا مولى أمير المؤمنين عليه‌السلام دخل على الحجاج بن يوسف ، فقال له : ما الذي كنت تلي من علي بن أبي طالب؟ فقال : كنت أوضّيه ، فقال له : ما يقول إذا فرغ من وضوئه ، فقال : كان يتلو هذه الآية : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ* فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). فقال الحجاج: أظنه كان يتأولها علينا؟ قال : نعم» (٣).

* * *

وهكذا نجد في هذه الآيات إيقاظا وتوعية وإيحاء لكل الكافرين والظالمين والمستكبرين أن لا يعتدوا بما لديهم من المال والجاه والقوّة والسلطة والرزق والمتاع ، فإنّ ذلك قد يكون نوعا من البلاء الذي يستدرجهم

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٣ ، ص : ٢٧٠

(٢) نهج البلاغة ، قصار الحكم / ٢٥.

(٣) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ، الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، م : ١٤ ، ج : ٤٢ ، ص : ٨٢ ، باب : ١٢٢ ، رواية : ١٦.

١٠٣

الله من خلاله لينظر إليهم هل يرجعون إليه أو يستمرون في طغيانهم يعمهون ، فليس لهم أن يطمئنوا إلى ذلك أو ينفتحوا عليه كما لو كان ذلك دليل خير وعلامة سعادة.

أما ختام الآيات بالحمد لله رب العالمين فيمكن فهمه من خلال ما جاء به الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام يقول : «من أحب بقاء الظالمين فقد أحب أن يعصى الله وإن الله حمد نفسه على إهلاك الظالمين فقال : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٣٧٧.

١٠٤

الآيتان

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (٤٧)

* * *

معاني المفردات

(نُصَرِّفُ) : ننوّع الأساليب ، ونكثر الوجوه ، لتكون أكثر إدراكا ، وأعمق تأثيرا ، وأشد تصديقا ، والصرف ردّ الشيء من حالة إلى حالة ومن أمر إلى أمر ، وتصريف الرياح: هو صرفها من حال إلى حال.

(يَصْدِفُونَ) : يميلون عنه ويعرضون عن تأمل الآيات ، يقال : صدف عن الشيء صدوفا إذا مال عنه ، والصدف والصدفة : الجانب والناحية ، والصدف : كل بناء مرتفع ، وفي الحديث : كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا مرّ بصدف مائل

١٠٥

أسرع المشي (١).

(بَغْتَةً) : فجأة.

(جَهْرَةً) : أي : علانية ، قال في مجمع البيان : إنما قابل البغتة بالجهرة ، لأن البغتة تتضمن معنى الخفية لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون وقيل : البغتة أن يأتيهم ليلا والجهرة أن يأتيهم نهارا ، عن الحسن (٢).

* * *

مناسبة النزول

جاء في تفسير القمي في قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً) الآية. قال : إنها نزلت لما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة وأصاب أصحابه الجهد والملل والمرض ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله : (قُلْ) ـ لهم يا محمد ـ (أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) أي لا يصيبكم إلا الجهد والضرّ في الدنيا ، فأما العذاب الأليم الذي فيه الهلاك فلا يصيب إلا القوم الظالمين. وقد علق في الميزان على هذه الرواية قائلا : الرواية على ضعفها تنافي ما استفاض أن سورة الأنعام نزلت بمكة دفعة ، على أن الآية بمضمونها لا تنطبق على القصة والذي تمحّل به في تفسيرها بعيد عن نظم القرآن (٣). أقول : وهذا صحيح فإن دراسة السياق العام للآية لا يوحي بأن الخطاب للمسلمين ، بل هو وارد

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٣٧٨.

(٢) م. ن ، ج : ٤ ، ص : ٣٧٩.

(٣) تفسير الميزان ، ج : ٧ ، ص : ١١٠.

١٠٦

في مخاطبة الكافرين ، والله العالم.

* * *

النظر في آيات الله يقود إلى الإيمان

ويفرض الإيمان نفسه من خلال علامات الاستفهام التي يثيرها أمام الإنسان ، فمن ذا الذي يملك سمع الإنسان وبصره وقلبه ، أليس هو الذي خلق له ذلك كله؟ فإذا أخذ الله سمع الإنسان فأصبح بلا سمع ، أو أخذ بصره ، فأصبح بلا بصر ، أو ختم على قلبه ، فعاد بلا وعي ، فإلى أين يتجه ليؤمِّل أن يرجع ذلك كله ، ومن هو الذي يملك القدرة على ذلك ، هل هناك إله غير الله؟! ويدعو الله الإنسان من خلال رسوله ، إلى التأمُّل والنظر في الآيات التي ينوعها ويكثر وجوهها لتكون أكثر إدراكا وأعمق تأثيرا وأشد تصديقا ، ولكن هؤلاء الكافرين والمرتابين يعرضون عن ذلك كله ، ثم ماذا هناك ، هل يفكر هؤلاء بعذاب الله الذي يمكن أن يفاجئهم من دون انتظار ، أو يواجههم علانية من خلال الأجواء المنظورة ، فمن الذي سيواجه ذلك ، هل هم المؤمنون ، أو هم الظالمون ، إنهم هم الذين سيهلكون بعذاب الله فما ذا يفعلون؟

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) من خلال ما تعلمونه من قدرة الله عليكم وعلى الوجود كله ، فلا يعجزه شيء من أوضاعكم كما لم يعجزه خلقكم في البداية ، الأمر الذي يجعل القضية واضحة لديكم في مستوى العلم واليقين (إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) ففقدتم النور الذي تبصرون به في عيونكم والقوة التي تسمعون بها في آذانكم ، فصرتم صمّا وعميا؟

(وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) وذهب بعقولكم فلم يبق لكم عقل في مستوى الوعي

١٠٧

للأشياء لتفكروا به وتتعرفوا من خلاله حقائق الأمور (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) من هؤلاء الذين تعبدونهم من دونه ، وتتخيلونهم في درجة الآلهة (يَأْتِيكُمْ بِهِ) أي : مما أخذ منكم من السمع والبصر والعقل فيردّها عليكم؟ إنكم تعلمون جيدا أنهم لا يملكون من ذلك ولا من غيره شيئا ، لأنهم يمثلون العجز كله حتى في رعاية أوضاعهم الخاصة (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) في تنويع الأساليب والإيحاءات وتبيين الحقائق بالوسائل المتنوعة ، من رفق وعنف وتذكير وإنذار بما يفتح للإنسان آفاق الفكرة ويربطه بحركيتها (ثُمَّ هُمْ) هؤلاء المعاندون الكافرون (يَصْدِفُونَ) أي يعرضون عن التأمل والتفكير في الرسالة ومضمونها الفكري والحركي غفلة وتمردا وضلالا لأن الإنسان الواعي لا بد من أن يتحرك بفكره نحو كل وسائل المعرفة التي تقدّم إليه.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) الذي ينزله الله بكم جزاء لأعمالكم السيئة التي قدمتموها في ضلالكم وكفركم وانحرافكم؟ (بَغْتَةً) على سبيل المفاجأة السريعة (أَوْ جَهْرَةً) علانية في وضح النهار (هَلْ يُهْلَكُ) به (إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر فاستحقوا العذاب انطلاقا من قيام الحجة عليهم من الله الذي أنذرهم وبشّرهم فأعرضوا عن ذلك كله. وتلك هي النتائج السيئة التي تصيبكم في مستقبل الدنيا والآخرة.

* * *

١٠٨

الآيتان

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٤٩)

* * *

معاني المفردات

(يَمَسُّهُمُ) : المسّ : كاللمس ، لكن اللمس قد يقال لطلب الشيء وإن لم يوجد ، كما قال الشاعر :

وألمسه فلا أجده

والمسّ يقال في ما يكون معه إدراك بحاسة اللمس ، وكنّي به عن النكاح ، فقيل : مسّها وماسّها ، والمسّ يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى.

(يَفْسُقُونَ) : قال الراغب : فسق فلان : خرج عن حجر الشرع وذلك من قولهم فسق الرطب إذا خرج عن قشره ، وهو أعمّ من الكفر. والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير ، ولكن تعورف في ما كان كثيرا ، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به ثم أخلّ بجميع أحكامه أو ببعضه ، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق ، فلأنه أخلّ بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة. (١)

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٣٩٤.

١٠٩

دور المرسلين بتبشير الناس وإنذارهم

إنّ على الناس مواجهة مصيرهم من خلال وعي رسالات المرسلين ، (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) فها هم الأنبياء يبشّرون الناس بالجنّة التي وعد الله بها عباده المتقين ، وينذرونهم النار التي توعّد الله بها الكافرين والظالمين ، وهم لا يدّخرون جهدا في ما يثيرونه أمامهم من دلائل الإيمان وبراهينه ، وعناصر القناعة الفكرية والروحيّة ، بالمستوى الذي لا يترك هناك شبهة إلّا وأوضحها ، ولا يدع مشكلة إلّا وحلّها. وبذلك تبرز أمامهم قصة المصير واضحة جليّة ، (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ) حياته ومسيرته (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فإنه سيقف موقف الآمن الفرح المطمئن .. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أما الذين كذّبوا بالإيمان وبآيات الله في وحيه (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) فإنهم ينتظرون العذاب كنتيجة طبيعيّة لكل أفكار الفسق وخطواته العملية في الحياة. وما ذا يبقى للإنسان بعد ذلك إلا أن يختار مصيره بنفسه ، في الجنة أو في النار ، من خلال خطّ الفكر والعمل؟

إنّ قضية الرسالات تتحرك من أجل إيجاد تفاعل فكري وروحي وعملي بين الرسل والناس من خلال الرسالة التي تبشّر بالنتائج الطيبة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وتنذر بالنتائج السيئة للمكذبين بآيات الله ، لينطلق الناس في عملية فكر وتأمل وحوار من أجل مواجهة مصيرهم الذي يتحدّد بالموقف الإيجابي أو السلبي من الرسالة.

وهذا هو دور الرسالات ، فهي تعمل من أجل إثارة الفكرة وإيجاد الدوافع النفسية نحو الحركة على أساس العناصر الحية التي تخاطب فيها الرسالات وعي الإنسان في قناعاته وفي مصالحه الحيوية في حاضره ومستقبله.

* * *

١١٠

الآية

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (٥٠)

* * *

معاني المفردات

(خَزائِنُ اللهِ) : الخزن : حفظ الشيء في الخزانة ، ثم يعبر به عن كل حفظ كحفظ السرّ ونحوه. والمراد به ـ هنا ـ قيل : مقدوراته التي منعها الناس لأن الخزن ضرب من المنع ، وقيل : جوده الواسع وقدرته.

وقيل ـ كما في تفسير الميزان ـ هو المقام الذي يعطي بالصدور عنه ما أريد من شيء من غير أن ينفد بإعطاء وجود ، أو يعجزه بذل وسماحة ، وهذا مما يختص بالله سبحانه ، وأما غيره ، كائنا ما كان ومن كان ، فهو محدود وما عنده مقدّر إذا بذل منه شيئا نقص بمقدار ما بذل ، وما هذا شأنه لم يقدر على إغناء أيّ فقير ، وإرضاء أيّ طالب وإجابة أيّ سؤال. (١)

والظاهر أن المراد بها خزائن رحمته وقدرته وملكه وإرادته مما يعتبر بالكناية عن كل خصائص الألوهية في عطائها للخلق بما يملكه الله من القدرة

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٧ ، ص : ٩٧.

١١١

المطلقة والإرادة المطلقة والملك المطلق في ما يصدر منه ، ولعل هذا ما يريده المفسرون مع اختلاف التعبير.

(الْغَيْبَ) : كل غائب عن الحاسة وعما يغيب عن علم الإنسان بمعنى الغائب ، والمراد هنا ـ كما يقول الراغب ـ ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداية العقول ، وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم‌السلام ، وبدفعه يقع على الإنسان اسم الإلحاد (١).

والظاهر أن المراد به العلم بخفايا الأمور وقضايا المستقبل التي لا يملك الإنسان الوسائل إلى معرفتها مما يحتاج فيه إلى إعلام الله ، ولا يشمل الأمور التي يمكن للناس أن يعرفوها بوسائلهم الخاصة مثل القضايا التاريخية التي هي في معرض العلم وإن لم يعلم بها الإنسان فعلا ، كما ورد في قوله تعالى ، في قصة يوسف : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) [يوسف : ١٠٢] وقوله في قصة مريم : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران : ٤٤] وقوله ـ بعد قصة نوح ـ : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩]. فإن هذا كان غيبا عن الرسول ، لكنه «يدخل في مصطلح علم الغيب».

(مَلَكٌ) : قال الراغب ـ في المفردات ـ : وأما الملك ، فالنحويون جعلوه من لفظ الملائكة ، وجعل الميم فيه زائدة وقال بعض المحقّقين : هو من الملك. قال : والمتولّي من الملائكة شيئا من السياسات يقال له : ملك ، بالفتح ، ومن البشر يقال له : ملك بالكسر ، فكل ملك ملائكة ، وليس كل ملائكة ملكا ، بل الملك هو المشار إليه بقوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) [النازعات : ٥](فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) [الذاريات :](وَالنَّازِعاتِ) [النازعات : ١] ونحو ذلك ، ومنه ملك الموت ، قال : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقة: ١٧](عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ)

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٣٨١.

١١٢

[البقرة : ١٠٢] (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السجدة : ١١] (١).

والمراد به ـ هنا ـ هو الملك الذي يصدق على الملائكة وهم المخلوقات الخفيّة السماوية التي تتمتع بقدرات ووظائف في الكون مما أوكل الله أمره إليهم ، وهذا ما جعل العرب يفكرون بأنهم هم ـ أي الملائكة ـ الذين يستحقون اسم الرسول والنبيّ لأن الرسولية والنبوة من المواقع المرتبطة بالله مما لا بد أن يكون الشخص المتّصف بها ممن يملك القدرات والقرب من الله كالملائكة لا ممّن لا يملك ذلك كالبشر.

* * *

النبي يؤكّد بشريته

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) وهذه هي الصورة المشرقة الواقعية للشخصية النبويّة التي يريد الله للنبيّ أن يقدّم بها نفسه إلى الناس ، فهو لا يريده كائنا غيبيّا يبرز إليهم من خلال الجوّ الغيبي الضبابي الذي يوحي بكون ذاته سرا خفيا مقدسا بعيدا عن التصوّر البشريّ الطبيعي ، ولا يريد له أن يبدو في نظرهم شخصية أسطورية تملك في حوزتها كل خزائن الله الذهبيّة والفضية ونحو ذلك مما يدخل في عالم التقييم المادي ، بالمستوى الذي يستطيع فيه غرف ما يشاء من المال لمن يشاء من الناس ، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ولا يريده إنسانا يقف بين الناس ليتحدث عن أسرارهم الكامنة في صدورهم وعمّا ينتظر كل واحد منهم من أحداث المستقبل ، على أساس ما يحمله من علم الغيب الإلهيّ ، كما هو دور النبي في تصوّر الكثيرين ، الذين يربطونه بشخصية الكاهن الذي كان يمثّل بعضا من ذلك ... (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) ولا يريد له الشخصيّة الملائكيّة ليأخذ بألباب الناس فيدهش العقول بأجنحته المتنوّعة المتعدّدة ، وقدرته الأسطوريّة الخارجة عن كلّ حدّ ، لأنَّ الله يريد للناس أن يؤمنوا به من خلال رسالته بعيدا عن كل أشكال الضغط النفسي أو

__________________

(١) م. س ، ص : ٤٩٣ ـ ٤٩٤.

١١٣

المادي ، وعن كل ألوان الإغراء أو الاستعراض ، الذي يوحي للإنسان بالانجذاب العاطفي ، والانسحاق الشعوري ، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) وهكذا أراده أن يقف بينهم عبدا خاشعا بين يديه ، لا يملك أيّة مقوّمات ذاتية كبيرة ، أو أيّة قدرات شخصية مطلقة ، رسولا أمينا على الدور الذي أوكله الله إليه ، فهو ينتظر أمر الله ووحيه في كل صغيرة أو كبيرة ليتبعه ويبلّغه للناس ، وربما كان الحديث عن الاتباع موحيا بالصفة المطيعة المتواضعة التي تجسدها شخصيته ليكون في ذلك بعض الإيحاء لهم بالطاعة لله والاستغراق في دور العبد المطيع الذي يتمثل حركة العبد ـ النبيّ ، في شخصية العبد ـ المؤمن ، وإذا كان التوجيه الإلهيّ يفرض على الرسول أن يقدم نفسه إلى الناس بهذه الصفة فقد نجد فيه الدرس الفكري الذي يريدنا أن لا نغرق أنفسنا بالأسرار العميقة التي يحاول البعض أن يحيط بها شخصية النبيّ ، للإيحاء بأنه يرتفع فوق مستوى البشر في إمكاناته الذاتية وقدراته الكبيرة ، بل بصفته الرسالية من حيث أخلاقه وخطواته ومشاريعه المتصلة برسالته.

وذلك هو السبيل للتعامل مع شخصية الأنبياء والأولياء ، بالأسلوب القريب إلى الوعي الإنساني العاديّ ، في ما يمكن للإنسان أن يعيشه ويتصوّره ويتمثله في نفسه ، ليشعر بأن النبي قريب منه بصفاته البشريّة المثلى التي يمكن أن تكون أساسا للتمثّل والاتّباع والاقتداء. وفي ضوء ذلك ، نجد في الأبحاث السائرة في هذا الاتجاه ، انحرافا عن الخط القرآني الذي يرسم للناس في دراستهم لشخصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) وهكذا وقف النبيّ ليقدّم نفسه للناس من خلال شخصيته الرساليّة ، التي تسعى لفتح عيونهم على الحقيقة الإلهيّة في الفكر والعقيدة والتشريع ، وليوحي إليهم بأن الذين لا ينفتحون على الإشراق المنبعث من داخلها ، مثلهم كمثل الأعمى الذي لا يبصر شيئا ، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .. (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) وليختم ذلك بالدعوة إلى التفكير الواعي العميق الذي يربطهم

١١٤

بالحقيقة من أقرب طريق.

* * *

النبوة وعلم الغيب

وهنا نقطة ، وهي مسألة نفي النبي في حوارة مع المشركين علمه بالغيب ، فقد جاء في الميزان ، قال : المراد بنفي علم الغيب ، نفي أن يكون مجهّزا في وجوده بحسب الطبع بما لا يخفى عليه معه ما لا سبيل للإنسان بحسب العادة إلى العلم به من خفيات الأمور كائنة ما كانت (١). وهذا هو التصور القرآني الصحيح الذي يؤكد نفي الفعلية لعلم الغيب من الناحية الوجودية بمعنى أن يكون مجهّزا في تكوينه البشري بالقدرة الخاصة لعلم الغيب بحيث يتحرك نحوه ـ في فعليته ـ بشكل طبيعي ، بل المسألة هي أن الله قد يطلعه على بعض غيبه مما يحتاجه في نبوته من أمور المستقبل ومن خفايا الأمور كما في قصة عيسى عليه‌السلام : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران : ٤٩] ونحو ذلك ، ولعل هذا هو الذي أشار إليه أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في إخباره بالمغيبات عن سؤاله «هل هذا علم بالغيب؟» ـ في تصورهم للمعنى الذاتي للعلم من خلال القدرات الخاصة التي يملكها في ذلك ـ فأجاب «وإنما هو تعلُّم من ذي علم» (٢) وهذا هو الذي عبر عنه بعض المفسرين «هو علم الغيب بالعرض» أي تعلم من عالم الغيب.

وخلاصة الفكرة : هي أن الله كان يطلع رسله بطريقة التعليمات التدريجية المحدودة على الغيب كما في قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) [الجن : ٢٦] ولم يكن علم الغيب منطلقا من قدرة تتحرك بالفعلية ليعلم بالغيب كل ما أراد من خلالها بحيث إن الله أعطاه ذلك من خلال القاعدة المنتجة للعلم في نفسه. والله العالم.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٧ ، ص : ٩٧.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة / ١٢٨.

١١٥

الآيات

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (٥٥)

* * *

معاني المفردات

(بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) : الغداة والغدوة : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والعشيّ : من المغرب إلى العشاء.

١١٦

(فَتَنَّا) : ابتلينا وامتحنّا واختبرنا من خلال التفاوت والاختلاف في الطاقات والإمكانيات ، وقد مرّ معنى الفتنة سابقا.

(سَلامٌ) : جاء في مجمع البيان ، قال المبرّد : السلام في اللغة أربعة أشياء : مصدر سلمت سلاما ، وجمع سلامة ، واسم من أسماء الله عزوجل وشجر في قوله «لا سلام وحرمل ، ومعنى السلام الذي هو مصدر أنه دعاء للإنسان بأن يسلم من الآفات ، والسلام اسم الله تأويله ذو السلام ، أي الذي يملك السلام الذي هو التخلص من المكروه ، وأما السلام الشجر فهو شجر قوي سمّي بذلك لسلامته من الآفات ، والسلام الحجارة ، سمّي بذلك لسلامتها من الرخاوة ، والصلح يسمى السلام والسلم لأن معناه السلامة من الشرّ ، والسلم : الدلو التي لها عروة واحدة لأنها أسلم الدلاء من الآفات (١).

(بِجَهالَةٍ) : الجهالة : السفه.

(وَلِتَسْتَبِينَ) : حتى تتضح وتظهر وتنكشف بصورة بيّنة ، يقال : استبان الشيء إذا وضح وظهر ، والبين : هو الكشف عن الشيء.

(الْمُجْرِمِينَ) : أصل الجرم قطع الثمرة عن الشجر ، ورجل جارم ، وقوم جرام ، وثمر جريم ، والجرامة : رديء الثمر المجروم ، وأجرم صار ذا جرم ، وأستعير ذلك لكل اكتساب مكروه ، وبهذا أطلقت كلمة المجرم والمجرمين على الذين يقومون بالجريمة وهي العمل السيئ أو الشرير الذي يقوم به الإنسان أو الناس من قتل أو جرح أو خيانة أو سرقة أو نحو ذلك مما لا يملك الإنسان الحق فيه.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٣٨٤.

١١٧

مناسبة النزول

جاء في الدر المنثور ، أخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن مسعود قال : مرّ الملأ من قريش على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده صهيب ، وعمار ، وبلال ، وخباب ، ونحوهم من ضعفاء المسلمين ، فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك منّ الله عليهم من بيننا؟ أو نحن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ، فأنزل فيهم القرآن : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) إلى قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) (١) إلخ.

وجاء في رواية أخرى في الدر المنثور ، أخرج ابن أبي شيبة ، وابن ماجة ، وأبو يعلى ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن خباب ، قال : جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري ، فوجدا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاعدا مع بلال ، وصهيب ، وعمار ، وخباب ، في أناس ضعفاء من المؤمنين ، فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به ، فقالوا : إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا ، فإن وفود العرب ستأتيك فنستحي أن ترانا العرب قعودا مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ، فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت قال : نعم ، قالوا : فاكتب لنا عليك بذلك كتابا ، فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب ، ونحن قعود في ناحية ، إذ نزل جبرئيل بهذه الآية (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) إلى قوله ـ (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) فألقى رسول الله الصحيفة من يده ، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ، فكنا نقعد معه ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ، فأنزل الله :

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٣ ، ص : ٢٧٢.

١١٨

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف : ٢٨] الآية. قال : فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها ، تركناه حتى يقوم (١).

* * *

تعليق السيد الطباطبائي على الروايات

قال العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان ـ تعليقا على أمثال هذه الروايات ـ : «الرجوع إلى ما تقدّم في أول السورة من استفاضة الروايات على نزول سورة الأنعام دفعة ، ثم التأمّل في سياق الآيات ، لا يبقي ريبا أن هذه الروايات إنما هي من قبيل ما نسميه تطبيقا بمعنى أنهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الانطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعدّوا القصة سببا لنزول الآية ، لا بمعنى أن الآية إنما نزلت وحدها ودفعة لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة ، كما ترتفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها ، كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ) الآية فإن الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرّة بعد كرّة وعنده في كل مرة عدة من ضعفاء المؤمنين ، وفي مضمون الآية انعطاف إلى هذه الاقتراحات أو بعضها.

وعلى هذه الوتيرة كانوا يذكرون أسباب نزول الآيات بمعنى القصص والحوادث الواقعة في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما لها مناسبة ما مع مضامين الآيات الكريمة من غير أن تكون للآية مثلا نظر إلى خصوص القصة والواقعة

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٣ ، ص : ٢٧٣.

١١٩

المذكورة ، ثم شيوع النقل بالمعنى في الأحاديث والتوسّع البالغ في كيفية النقل ، أو هم أن الآيات نزلت في خصوص الوقائع الخاصة على أن تكون أسبابا منحصرة ، فلا اعتماد في أمثال هذه السورة من السور التي نزلت دفعة على أزيد من أنها تكشف عن نوع ارتباط للآيات بالوقائع التي كانت في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا سيّما بالنظر إلى شيوع الوضع والدسّ في هذه الروايات والضعف الذي فيها وما سامح به القدماء في أخذها ونقلها.

وقد روى في الدر المنثور عن الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن عمر بن عبد الله بن المهاجر أن الآية نزلت في اقتراح بعض الناس أن يطرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الضعفاء من أصحاب الصفّة عن نفسه في نظير من القصة ويضعفه ما تقدم في نظيره أن السورة إنما نزلت دفعة وفي مكة قبل الهجرة (١).

* * *

ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي

وهذا هو المجتمع الذي يريد الله لرسوله أن يدخل عليه بالدعوة إليه ، وليس المجتمعات الغنيّة اللاهية المستكبرة التي أغلقت قلوبها عن كل النداءات التي ترهق الإحساس ، وتحرّك الشعور ، وتقود الإنسان إلى خط المسؤولية النابضة بحركة الحياة المسؤولة ، والتي ابتعدت عن كل الأجواء الروحية التي تدفع الخطوات في طريق السلام الأمين .. فإن هذه المجتمعات لا تمثل في حساب الدعوة ، القيمة الكبيرة ، في ما يتداوله الناس من حسابات القيم ، لأن الإسلام لا يعطي القيمة للجهات المنتفخة بالكبرياء والخيلاء ، بل يعطيها لتلك الجهات الجدّية المنفتحة على المستقبل في قلق

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٧ ، ص : ١١٢ ـ ١١٣. وقد وردت الرواية الأخيرة في : الدر المنثور ، ج : ٣ ، ص: ٢٧٤.

١٢٠