تفسير من وحي القرآن - ج ٢

السيد محمد حسين فضل الله

حولهم ، واتجاه الحياة المحيطة بهم ، بالإضافة إلى مسئوليتهم في عبادة الله. (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) ، فرجعتم إلى السلوك الوثني الذي يعود إلى تاريخكم المنحرف في حياتكم مع فرعون ، مما يوحي بأنكم لم تنفتحوا على الرسالة الإلهية التوحيدية من موقع العمق الفكري والروحي والاستقامة العملية ، (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) لأنفسكم من خلال النتائج السلبية للوثنية الجديدة في الدنيا والآخرة. (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) لتعودوا إلى الخط المستقيم واليقظة الروحية في حركة التوبة النفسية والإخلاص العملي ، (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على هذه النعمة التي فتحت لكم الفرصة الجديدة للعودة إلى التوازن في طاعة الله ومرضاته.

وإذا كان الخطاب موجها لليهود المعاصرين للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين لم يعبدوا العجل ، فذلك لاعتبارهم امتدادا لأولئك كفريق واحد يمتد في الحاضر من خلال امتدادات التاريخ ، مما يجعل الخصائص التاريخية لأسلافهم بمثابة الخصائص الذاتية لهم.

* * *

إنزال الكتاب والفرقان على موسى

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

يثير الله ، في هذه الآية ، أمام بني إسرائيل مسألة إنزال الكتاب والفرقان كنعمة عظيمة من النعم الكبيرة التي يمنّ الله بها عليهم ، باعتبار أنه سبيل

٤١

الهداية إلى الحق ؛ الأمر الذي يوحي بأن الاهتداء إلى الطريق القويم نعمة عظيمة كبيرة ، وأيّ نعمة أعظم من النعمة التي تفتح للإنسان مجالات الحياة السعيدة الرخيّة المرتكزة على قاعدة ثابتة من المبادئ الحقة والقيم الكبيرة ، وتسيّره نحو المصير الآمن الذي لا يخاف فيه شيئا ، وتجعله يسير في النور عند ما يفكر وعند ما يعمل أو يتعاون مع الآخرين.

والظاهر أن كلمة الفرقان ، التي تعبّر عن الفارق بين الحق والباطل ، تعتبر تفسيرا لكلمة الكتاب ، على سبيل العطف التفسيري الذي يراد به توضيح الصفة العلمية للكتاب.

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) الذي يفصل بين الحق والباطل في مفاهيمه وشرائعه ومناهجه ، بحيث يحقق لكم الثقافة الواعية التي تعرف حدود الأشياء في سلبياتها وإيجابياتها. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بآياته في إيحاءاتها وأفكارها وخطوطها الواضحة للمسيرة الإنسانية في الحياة.

* * *

التركيز على الجانب المعنوي في الرسالات

ونستوحي من هذه الآية أنّ على الدعاة أن يركزوا على طبيعة النعم التي أنعم بها الله على الإنسان ، فلا يقتصرون على النعم الحسية التي يمارس الإنسان من خلالها شهواته ولذّاته ومطامحه الذاتية ، بل يثيرون أمامه النعم التي تتصل بفكره وخطواته العملية ومصيره في الدنيا والآخرة ، في ما يتصل بقضايا الحق والباطل من القيم الروحية والإنسانية الكبرى ، التي ترتفع بمستوى

٤٢

الإنسان الروحي والاجتماعي. وسنجد في الآيات القرآنية المقبلة كثيرا من هذه اللفتات التي تركز على الجانب المعنوي في النعم المعنوية ، كما تؤكد الجانب المادي في النعم المادية ، ممّا يدخل في طبيعة تكوين الشخصية الإسلامية التي يمتزج فيها الجانب الروحي بالمادي من دون ازدواجية أو انفصال.

ولعل القيمة في هذا التوجيه التربوي ، هي أنه يمنح الإنسان المسلم شعورا بالغبطة والسعادة أمام الصعوبات والتحديات التي تواجهه في مسيرته نحو إقرار شريعة الله في الحياة ، باعتبار أنها لا تعني شيئا أمام نعمة الله في التشريع المرتكز على أساس الحق والعدل في جميع جوانب الحياة المادية والروحية ، ويخلّصه من كثير من سلبيات الطريق الصعبة.

* * *

خطورة التمرد والموقف الحاسم

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

لم يترك موسى القصة من دون عقاب ، لأن القضية ليست قضية طارئة بسيطة ، بل هي من القضايا التي تهدد المسيرة في مجتمعها الذي يمكن أن يتلاعب به أي إنسان منحرف بفعل بعض الأساليب الشيطانية الخادعة ، مما يجعل الجبهة مفتوحة أمام كل القوى المضادة في أيّ موقف من مواقف الصراع ؛ فأراد أن يثبّت الموقف بتعميق الإحساس بالذنب في نفوسهم ، باعتباره ظلما للنفس وإساءة لها بتحويلها من خط الإيمان إلى خط الكفر ،

٤٣

وتعريضها للعقوبة في الدنيا والآخرة ، وذلك هو أبشع أنواع الظلم.

وكانت الخطة ـ في ما توحي به الآية ـ أن يدعوهم إلى التوبة ولكن بطريقة جديدة مرعبة ، وهي أن يقتلوا أنفسهم ، إمّا بأن يقتل كل واحد نفسه ، وإما بأن يستسلم بعضهم لبعض ، حسب اختلاف فهم المفسرين ؛ ويروون في هذا المجال ، أن موسى أمرهم بأن يقوموا صفّين ثم أن يغتسلوا ويلبسوا أكفانهم ، وجاء هارون باثني عشر ألفا ممن لم يعبدوا العجل ومعهم الشفار المرهفة لتبدأ عملية القتل ، فلما قتلوا سبعين ألفا تاب الله على الباقين وجعل قتل الماضين شهادة لهم.

وإذا أردنا أن نأخذ بظاهر الآية ، ونحمل القتل على معناه اللغوي ، فقد يكون السبب في هذه العقوبة الصعبة أن الموقف يمثل أوّل تمرّد للقوم على النبوّة ، في بداية تحرّكها العملي ، من أجل الانتقال من دور الدعوة والتبليغ إلى دور التنظيم والتشريع ، والاتجاه إلى بناء الفرد والمجتمع على أساس المفاهيم الدينية الجديدة التي أوحى الله بها إلى موسى في صيغة تشريعية متصلة لا تترك أي مجال للفراغ الفكري والعملي ، فكان لا بد من موقف يساوي حجم التمرّد ، ليكون ضربة قوية للطبيعة المتمردة التي بدأت تحكم مسيرة الدين الجديد في مجتمعة ، وليمنع حدوث أيّ تحرك أو تصرف من هذا القبيل ، لأن الموقف مرتبط بالتوبة ، فلا مجال لها إلا بهذا الأسلوب الصعب ، إذ إن هناك فرقا بين خطأ ينطلق من الغفلة والجهل والاندفاع العفوي ، وخطأ ينطلق من موقع التمرد والجحود مع وعي الموقف كله وما يترتب عليه ، لا سيما مع وجود هارون واحتجاجه عليهم ومواجهته الموقف بكل قوة.

وقد أثار بعض المتكلمين من المفسرين جدالا كلاميا فلسفيا حول علاقة هذه العقوبة باللطف الإلهي ، ومدى انسجامها مع مفهومه الذي يرتبط بالمستقبل لا بالماضي. ونحن لا نريد الخوض كثيرا في هذا الموضوع ، ولا

٤٤

نظن وجود مشكلة في أساس القضية ، لأن الذي أثاروه يتصل بقضية اللطف في موضوع التكليف الشرعي ، الذي يقصد من خلاله دفع المكلف إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية ، مما يقتضي تسهيل الفعل عليه بالمستوى الذي لا يقع فيه المكلف في مشقة وحرج غير عادي ، أمّا القضية هنا فإنها تتصل بالعقوبة على المعصية ، وهي حقّ الله يضعه أين يشاء وكيف يشاء ، ونحن لا نعقل فرقا بين الأمر للقاتل بالاستسلام لوليّ المقتول ليجري عليه القصاص وبين هذا الأمر الموجود في هذه الآية ، كما لا نجد فرقا بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة ، فلا استبعاد ولا مخالفة لرحمة الله وعدله وحكمته.

وربما يلوح للبعض أنّ القتل هنا لم يرد بمعناه الحقيقي ، وهو إزهاق النفس ، بل المراد منه قتل شهواتها المحرّمة وصفاتها الذميمة وأوضاعها السيئة ، تماما كما يعبّر بعض المرتاضين الروحيين عنه بإماتة النفس ، ويقصد بذلك إماتة كل شهوة أو كلّ اندفاع للشهوة المحرمة فيها ، وقد يؤيد ذلك باعتباره أسلوبا من أساليب التوبة التي توحي بالندم على ما مضى والعزم على تصحيح المسيرة في المستقبل ، مما يفرض وجود مجال بعد التوبة ، وربما يجد هذا البعض في إلحاق صفة الرحيم بالتوّاب ما يوحي بأنّ الموقف يتناسب مع الرحمة الإلهية في مفهوم العاصي ، مما لا ينسجم مع الأمر بالقتل.

أمّا تعليقنا على ذلك ، فهو ما ألمحنا إليه في حديث سابق ، وهو أنّ الخط التفسيري الذي نسير عليه ، هو العمل بظاهر القرآن في ما توحيه طبيعة الكلمة في معناها الموضوع لها أو في القرائن المحيطة بالكلمة ، إلى أن يثبت خلاف ذلك من عقل أو نقل ، ونحن لا نجد في ما ذكره هذا البعض دليلا على إرادة خلاف الظاهر ، لأن من الممكن أن تكون التوبة بالاستسلام للقتل نظير القصاص ، ولا ضرورة لوجود مجال للحياة في المستقبل ، لأن الحدود الشرعية في حالة القتل أو الزنى للمحصن أو غير ذلك تعتبر وسيلة للتوبة

٤٥

وللتطهير ، أمّا موضوع الرحمة ، فقد تكون متصلة بقبوله التوبة وعدم إغلاق وسائلها بوجه الإنسان.

* * *

محاورة موسى لقومه حول سلوكهم المنحرف

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) وهو يحاورهم حول السلبيات السلوكية الصادرة منهم في انحرافهم العملي ، ليثير فيهم الشعور بعقدة الذنب الذي قد يؤدّي بهم إلى القيام بعملية التصحيح والعودة إلى خط الاستقامة في خط الرسالة في الفكر والعمل (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) وورطتموها في السير بها إلى مواقع الهلاك الأخروي ، وذلك بحركة التمرد على الخط التوحيدي في العبادة لله (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) معبودا بعد أن بيّنت لكم الأسس العقيدية التي يرتكز عليها التوحيد في الالتزامات العملية المتحركة في دائرة الالتزام الفكري في توحيد الله ، وذلك بإخلاص العبادة لله وعدم الإشراك به في هذا المجال. (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) أي خالقكم الذي يملك كل وجودكم ، الذي هو سر النعمة الكبرى في إنسانيتكم ، مما يفرض عليكم العودة إليه بعد الرحلة الضالة في الابتعاد عنه ، فذلك هو الأمر الطبيعي الذي تفرضه طبيعة الأشياء التي تقتضي عودة الإنسان إلى مبدع وجوده ، ليحصل على رحمته ويمتد معه في نعمته ، وليعبر بذلك عن شكره وانقياده له ، ولا سيما أن الأمر بالتوبة ليس أمرا شخصيا من موسى ، بل هو من خلال صفة الرسالة التي تجعل أمره أمرا صادرا من الله. وفي التعبير بكلمة : «بارئكم» إشارة إلى عمق الموضوع ، للإيحاء بالمعنى الذي يوحي للإنسان بضرورة الانضباط في خط التوبة. (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) كعقوبة حاسمة للواقع الشركي الذي ابتعدتم فيه كثيرا عن الخط

٤٦

التوحيدي المستقيم ، فتمردتم على الله ونسيتم نعمه ، ورجعتم إلى الوثنية المتخلفة التي انطلق كل الجهاد ضد فرعون من أجل تحريركم منها ، لأن القضية في حركة الرسالات التوحيدية ، ليست هي في تحرير الإنسان من الوثنية الخارجية المتمثلة في الحجر أو البشر الذي يعبده الناس من دون الله ، بل هي في تحريره من ذهنية الصنمية ، بحيث لا يبقى لها جذور في الوعي الفكري للإنسان ، فلا يعود إليها عند توفر الظروف الملائمة لها في الواقع الخارجي.

وهذا ما جعل العقوبة على هذا الجرم الكبير قاسية متمثلة بالإعدام الجماعي الذي يقتل فيه بعضهم بعضا ، بحيث يقتل المذنبون بعضهم البعض أو يقتل الأبرياء المجرمين ، فذلك هو السبيل الوحيد في الشريعة آنذاك للتوبة التي تتوخى غفران الله لهم وتوبته عليهم. (ذلِكُمْ) أي القتل ، الذي هو وسيلة التوبة ، (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) لأنه يحقق لكم الحصول على رضاه ، من خلال دلالته على صدق التوبة في عمق الإحساس بالندم ، ويؤدي بالتالي إلى السعادة الكبرى في النجاة من النار ودخول الجنة. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) بذلك ، (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) على المذنبين التائبين ، (الرَّحِيمُ) بالخاطئين المنيبين.

* * *

هل الأمر بقتل أنفسهم امتحاني؟

جاء في تفسير الميزان : إن قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) يدل على نزول التوبة وقبولها ، وقد وردت الرواية أن التوبة نزلت ولمّا يقتل جميع المجرمين

٤٧

منهم. ومن هنا يظهر أن الأمر كان أمرا امتحانيا نظير ما وقع في قصة رؤيا إبراهيم عليه‌السلام وذبح إسماعيل : (أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [الصافات : ١٠٤ ـ ١٠٥] ، فقد ذكر موسى عليه‌السلام : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) وأمضى الله سبحانه قوله عليه‌السلام ، وجعل قتل البعض قتلا للكل وأنزل التوبة بقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) (١).

ونلاحظ على هذا الرأي ، أن هناك فرقا بين الأمر الصادر لإبراهيم وإسماعيل الذي لم يكن منطلقا من إرادة جدية في تحقيق الفعل ، بل كان وسيلة من وسائل إظهار عمق الإسلام الروحي والعملي في موقف إبراهيم وإسماعيل ، الأمر الذي لا علاقة له بالفعل بل بمقدماته ؛ وبين الأمر الصادر لهؤلاء الذي كان في أقصى درجات الجدية ، ولذلك أريد له أن يتحول إلى واقع امتثالي ، غير أن الله سبحانه اكتفى بما حصل من القتل وعفا عن الباقين الذين لم يمتثلوا ذلك ، فأسقط التكليف عنهم باعتبار أن المقصود هو التوبة المنطلقة من الإسلام الروحي ، المنضمة إلى الفعل ، ولا معنى لأن يكون الأمر امتحانيا بالنسبة إلى الباقين الذين لم يقتلوا أنفسهم ، لأن الأمر لم يصدر إليهم بخصوصياتهم ليتميز أمرهم عن أمر غيرهم ، ولعلنا نستفيد من الآية السابقة (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أن هناك عفوا عن الجريمة.

* * *

الارتباط اللاواعي

من خلال هذه الآيات المتقدمة نستطيع استيحاء موقف يرى أن قوم موسى لم ينطلقوا معه من موقع الإيمان برسالته والوعي لمفاهيمها التي تفرض

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ١٨٩.

٤٨

عليهم مسئولية الفكر والحركة ، بل كانوا يسيرون معه من موقع الانتماء القومي من جهة ، ومن موقع الحاجة إلى التخلص من ظلم فرعون من جهة أخرى ، ولم تكن قضية الإيمان إلا وسيلة من وسائل تأكيد هاتين الجهتين بعيدا عن كل اعتبار للحقيقة في الموقف ، مما جعلهم ينحرفون عند أيّ منعطف للانحراف ، ويبتعدون عن الجو لدى أوّل غياب لموسى عليه‌السلام عنهم ، لأنهم كانوا خاضعين للتأثير القويّ لشخصيته القوية وإحساسهم بالاعتراف بالجميل ؛ وهذا ما يظهر تراجعهم السريع وشعورهم العميق بالذنب عند مواجهتهم لموسى بعد رجوعه من ميقات الله.

* * *

مهمة القيادة في دراسة خلفيات القاعدة

ومما نستوحيه أيضا من هذه الآيات درسا جديدا للعاملين في سبيل الله ، وخلاصته : إن على العاملين في سبيل الله ، سواء أكانوا في موقع الدعوة ، أم كانوا في موقع العمل والحركة ، أن لا يتأثروا بالمظاهر الانفعالية للإيمان فيمن يتعاونون معهم أو من يتبعونهم ، بل عليهم أن يدرسوا بعمق طبيعة العوامل الداخلية والمؤثرات الخلفية التي استطاعت أن تربط هؤلاء بالقيادة أو بالخط العملي ، أو بالفكرة الشاملة ؛ فقد تكون المؤثرات خاضعة لطبيعة القائد في قوته الفكرية ، أو جاذبيته الشخصية ، أو انتماءاته العائلية والقومية أو الإقليمية ... وقد تكون الأسباب متصلة ببعض الأجواء العاطفية للقضية ، أو ببعض ردود الفعل ضد حركات معينة ، أو قيادات خاصة تقف في الموقف المعاكس لهذه الحركة أو هذه القيادة ، مما يجعل من الارتباط بها تنفسيا عن عقدة أو تفجيرا لغيظ. وربما تكون العوامل المؤثرة مرتبطة ببعض المواقف

٤٩

السياسية أو الاجتماعية التي تمثلها حركة الدعوة إلى الله في مسيرتها الطويلة ، بحيث يعتبر الارتباط بالدعوة الإسلامية مرحليا من أجل الوصول إلى الموقف السياسي أو الاجتماعي المحدّد ؛ وقد لا تكون القضية نابعة من ذلك كله ، بل هي منطلقة من خط الإيمان الحق بالفكرة والخط والهدف ، فلا بد للعاملين من دراسة ذلك كله ، لتكون مواقفهم مبنية على معرفة عميقة للأرضية التي يقفون عليها ، وللمجتمعات التي يتعاملون معها ويتحركون فيها ، لأن ذلك قد يكلّف العمل وجوده ، عند ما تختلف حسابات الموقف أمام النماذج القلقة التي تتكشف عنها التجارب في صورة غير منتظرة.

* * *

٥٠

الآيتان

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٦)

* * *

معاني المفردات

(جَهْرَةً) : علانية.

(بَعَثْناكُمْ) : نشرناكم بعد موتكم.

* * *

تمرّد جديد لبني إسرائيل واستمرار نعم الله عليهم

وهذا موقف آخر يحدثنا الله فيه عن طبيعة التمرد التي كانت طابع أفراد هذا الشعب ، فلم يسكنوا إلى ما أفاضه الله عليهم من النعم ، وأراهم من الدلائل والبيّنات ، وخلّصهم من المآزق والأزمات ، مما يوحي بعظمة الله

٥١

ورحمته المتمثلة في ذلك كله ، بل أعلنوا الموقف المتمرد الذي يهدف إلى التحدي ولا يهدف إلى الإيمان.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) أي عيانا ، تماما كما يشاهد

أحدنا الآخر ، وهو ما يدل على أنكم لم تنطلقوا من وعي المسألة الإلهية في أبعادها الحقيقية التي لا تلتقي بالتجسيد المادي الذي يجعل الإله خاضعا للحاجات الجسدية ، مفتقرا إلى عناصرها المادية ، فهو الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] و (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] وهو الذي تنطلق الفطرة من أعماق الإنسان لتلتقي به ، ويتحرك الوجدان في بداهة العقل ليتحسس وجوده ، فيرى في كل خلق من خلقه دليلا عليه وشاهدا على عظمته.

وربما كانت مسألتكم في ما تطلبونه من رؤية الله عيانا ، أسلوبا من أساليب العناء والتعجيز لموسى ، لأنكم تعرفون أنه غير قادر على الاستجابة لطلبكم هذا ، لأنه طلب المستحيل ، لتبتعدوا بالبسطاء من الناس عن وعي الإيمان في رسالة النبي ، من خلال الحالة الساذجة التي تلعبون عليها.

(فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) التي أرسلها الله عليكم في برقها ورعدها وزلزالها ، للإيحاء لكم بأنكم إذا لم تملكوا حياتكم في مواجهة هذه الظاهرة التي هي خلق من قدرة الله ، فكيف تملكون النظر إليه سبحانه لو كان ذلك ممكنا. (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) مدهوشين مذهولين بالمستوى الذي سقطتم فيه صرعى من دون حياة ولا حراك .. (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) لتعرفوا مدى قدرة الله على تحريك الحياة بإرادته ، وإنزال الموت بقوته ، وإعادة الحياة بقدرته في الدنيا والآخرة ... وربما كان في هذه التجربة ـ في إعادة الحياة بعد الموت في الدنيا ـ ما يرفع الاستبعاد عن فكرة الرجعة من حيث المبدأ.

وقد حاول البعض تفسير الموت بالغيبوبة ، ليكون البعث عبارة عن

٥٢

اليقظة ، أو تفسير الموت بانقطاع النسل ، والبعث كثرته ، ونحو ذلك مما لا دليل عليه ، مع مخالفته للظاهر القرآني.

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) النعمة الجديدة في البعث بعد الموت ، مما لم يحدث لغيركم من الناس في التاريخ ، وتلك هي النعمة والتي لا تدانيها أية نعمة مادية في الدنيا ، بحيث تفرض الشكر الذي لا يدانيه شكر.

* * *

٥٣

الآيات

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٦١)

* * *

٥٤

معاني المفردات

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) : سخّرناه ليظلّلكم.

(الْمَنَ) : أصل المنّ : «الإحسان إلى من لا يستثيبه ... فالمنّ الذي كان يسقط على بني إسرائيل هو مما منّ الله به عليهم ، أي أحسن به إليهم» (١) كما جاء في مجمع البيان.

(وَالسَّلْوى) : طائر كالسماني ، طائر معروف.

(رَغَداً) : رغد عيشه : طاب واتسع ، فهو رغد ورغد ورغيد.

(حِطَّةٌ) : الحط : النزول والهبوط.

(رِجْزاً) : الرجز هنا العذاب ، وأصله الاضطراب.

(اسْتَسْقى) : الاستسقاء : طلب الماء.

(مَشْرَبَهُمْ) : مكان شربهم.

(تَعْثَوْا) ؛ العيث والعبث : أشد الفساد.

(وَقِثَّائِها وَفُومِها) : القثاء : الخيار ؛ والفوم : الثوم أو الحنطة ، وهو البر الذي يعمل منه الخبز.

(وَباؤُ بِغَضَبٍ) : انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال «باء» إلّا موصولا إما بخير أو بشرّ.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٢٤٢.

٥٥

نعم تتوالى وتمرد يتجدد

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) توحي هذه الآية أنّ بني إسرائيل كانوا يعانون من حرّ الشمس في الصحراء في رحلتهم الطويلة ، فأرسل الله إليهم الغمام ليظلّلهم ، وأنهم كانوا يشكون من الجوع ، فأنزل الله عليهم المنّ ، الذي قيل بأنه إما طعام يسقط على الشجر أو جميع النعم التي منّ الله بها عليهم. والسلوى الذي قيل : إنه طائر أبيض يشبه السماني أو هو السماني. ولكنهم لم يشكروا ، بل ظلوا على تمردهم وظلمهم وبغيهم الذي أساؤوا به إلى أنفسهم ، لأن ذلك لا يضر الله شيئا ، فهو الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضرّه معصية من عصاه ... وهذا ما أراد أن يثيره القرآن في وعي الناس في ما يكلفهم الله به من تكاليف في ما يفعلون وفي ما يتركون ، ليعرفوا أن الشأن في ذلك كله هو هداية الإنسان لما يصلحه وإبعاده عما يفسده ، مما يجعل من المعصية ظلما للنفس لا ظلما لله.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) في رحلتكم الطويلة في الصحراء اللاهبة التي تشتد فيها حرارة الشمس ، فتثقل مسيرة السائرين وتكلفهم جهدا كبيرا وعناء عظيما وآلاما شديدة ، فكان الغمام الذي يحجب حرارة الشمس ويخفف من تأثيرها ، ويستبدل الجو الحار المحرق بجو ظليل منعش يمنح السائرين الإحساس بالاسترخاء الجسدي من خلال برودة الهواء ووداعة الظلال.

(وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) مما تتغذون به في هذه المسيرة الطويلة ، لئلا تواجهوا الجوع القاتل. والتعبير بالإنزال ، هنا ، يتضمن الإيحاء بالموقع الأعلى الذي يتمثل في الله على عباده الذين هم في المنزلة الدنيا ، وليس بالتالي من الضروري أن يكون تعبيرا عن الإنزال المادي وإن كان محتملا.

٥٦

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) فقد هيأ الله لكم طيبات الطعام من كل الأصناف الشهية مما أحله لكم ، ودعاكم إلى التمتع بها ، لأن الله لا يريد لكم حرمان أنفسكم منها ، فليست القيمة في الحياة أن تجرعوا أو تظمأوا أو تلبسوا اللباس الخشن ... في ذاتية الجوع والظمأ والخشونة ، بل القيمة هي الإرادة الإنسانية القوية الواعية التي يملك الإنسان فيها نفسه في مواقع السلب أو الإيجاب ، بحيث لا يكون عبد الطيبات والملذات ، بل يكون سيّدها من حيث هو سيد نفسه في قوة إرادته.

(وَما ظَلَمُونا) في انحرافهم عن خط الإيمان والعمل الصالح ، بالمعنى الذي توحي به كلمة الظلم من النتائج السيئة التي تصيب المظلوم من تصرفات الظالم ، لأن الله هو الغني بذاته الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه أو إيمان من آمن به ، ولا تضره معصية من عصاه أو كفر من كفر به ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأن الكفر والانحراف يمثلان خطين من الخطوط المنحرفة عن القيمة الكبرى التي ترتفع بالإنسان إلى الدرجات العليا في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة ، مما يؤدي إلى الهلاك العاجل والآجل معا.

* * *

إنزال الرجز على الفاسقين

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) والظاهر أن المراد بيت المقدس الذي أريد له أن يكون المستقر الذي تتحرك فيه الرسالة من موقع القوة بعد خروج موسى من مصر ، باعتبار أن وجود قاعدة الانطلاق في أيّ مشروع رساليّ عام ، أمر ضروري في موازين القوى في ساحة الصراع بين الحق والباطل في واقع الحياة العامة ، (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) من خلال القوة القاهرة التي تملكونها في سيطرتكم على مواقع الجبارين الذين يستضعفون الناس ويبغون في الأرض

٥٧

يغير الحق ، لتكون لكم الحرية في الأخذ بما تشاؤون من النعم الموجودة فيها والأكل مما تشتهونه من ثمارها وطيباتها في سعة من العيش الهني.

(وَادْخُلُوا الْبابَ) ، الظاهر أنه باب البلد ، (سُجَّداً) شكرا لله على نعمته في انتصاركم على الجبارين الظالمين الذين يكفرون به ويصدون عن سبيله كل المؤمنين الصالحين ؛ (وَقُولُوا حِطَّةٌ) وابتهلوا إلى الله في اعتراف صادق بالتوبة والندم عن كل التاريخ الخاطئ الذي عشتموه في خطاياكم ، وقولوا ـ في ابتهالاتكم ـ : اللهم حطّ عنا خطايانا ، فإن الله سوف يستجيب لكم ذلك ويغفر لكم خطيئاتكم ، (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) لتتحرروا من ثقل الخطيئة وعقدة الإحساس بالذنب ؛ ولن يقتصر اللطف الإلهي على غفران الخطايا ، بل يمتد إلى الزيادة لكم في أعماركم وأموالكم جزاء لإحسانكم ؛ (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) الذين أحسنوا القول والعمل ، بالإضافة إلى الإحسان في خط العقيدة والإيمان.

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالانحراف عن الخط المستقيم (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) فاستبدلوا الدعاء بالحط عن الخطايا ، بإعلان الإصرار على التمرد على الله ، والتواضع للحق بالاستكبار عليه ، والاحترام للرسول والرسالة وللرساليين بالسخرية والاستهزاء ، (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) ؛ والظاهر أن المقصود به العذاب ، وقيل : إنه الطاعون (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) لأن العذاب ، دنيويا كان أو أخرويا ، لا ينطلق من فراغ ، بل ينطلق من السبب الواقعي الذي يتمثل في الفسق العملي في حركة الإنسان على صعيد الانحراف.

وفي هذا إشارة إلى العلاقة الوثيقة بين العمل الشرير المنحرف عن الحق ، وبين النتائج السيئة التي تطال المنحرفين الأشرار من خلال الرابطة العضوية بين السبب والمسبّب ، أو المقدمة والنتيجة في نطاق السنن الإلهية

٥٨

التي أودعها الله في حركة الواقع الطبيعي في نظام الكون.

* * *

استسقاء موسى لقومه

وطلب موسى الماء لقومه ، ولم يكن هناك أثر للماء ، وضاق بهم العطش ، وتعرضوا للهلاك ، فدعا ربّه أن يسقيهم ، واستجاب الله لطلبه بمعجزة ، وأمره أن يضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، بعدد أسباط بني إسرائيل ، حتى لا يختلفوا أو يزدحموا على الماء ، فاتّجه كل سبط إلى العين المخصصة له ، وقيل لهم : لا تسعوا في الأرض فسادا ، فإن ذلك هو الشكر العملي للنعمة التي أفاضها الله عليكم ، ولكنهم لا يشكرون.

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) في مسيرة التيه ، وأرادوا منه أن يسقيهم الماء في الوقت الذي لم تكن هناك أية بوادر توحي بوجود الماء في المناطق المحيطة بهم ، لأنهم شاهدوا في تجربتهم معه أنه يملك الموقع المميّز عند الله بالدرجة التي يستطيع أن يطلب فيها من ربه الحصول على ما يريده في مهمته الرسالية العامة بطريقة غيبية على أساس المعجزة ، كما حدث في عبورهم البحر ونحوه ، وهكذا أرادوا له أن يحقق لهم ما يريدونه بمعجزة ، واستجاب الله نداءه ودعاءه ، (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) أي حجر كان ، فليس المراد به حجرا معينا ، وهذا ما يؤكد المعجزة ، باعتبار أن القضية ليست تحديد مكان معين يوجد فيه الماء دون مكان آخر ، بل هي خلق الماء من العدم ؛ (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) لكل جماعة منهم عين معينة في عملية توزيع عادلة تمنع النزاع والاختلاف ، وكانوا ـ كما يقال ـ اثني عشر سبطا وهم ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر. (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) من خلال التحديد الذي حدده لهم موسى في قضية توزيع الحصص فيما بينهم. (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ

٥٩

رِزْقِ اللهِ) مما رزقكم الله من غير جهد وعناء ، واشكروا الله على ذلك في إصلاح أمركم في الإيمان والقول والفعل ، لتوظفوا نعم الله الكثيرة في هذا وفي غيره في ما يرضاه الله من إصلاح البلاد والعباد ، (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ، لأن الله لا يريد للإنسان أن يحرك طاقاته في الفساد والإفساد في كل مجالات الحياة.

* * *

ضرب الذلة والمسكنة على بني إسرائيل

وبدأ الملل يتسرب إليهم ، فلم يستريحوا إلى هذه الألطاف التي أغدقها الله عليهم في ما يأكلون ويشربون ، فاشتاقوا إلى طعامهم المفضل الذي كانوا يأكلونه في مصر ، وفقدوا الصبر على هذه الحياة الهنيئة الرخيّة ، واعترض عليهم موسى بأن الحياة التي يعيشونها أفضل من الحياة التي فقدوها ، لأنها الحياة التي ترتاح في الأجواء الروحية الخالصة ، فكيف يستبدلون الذي هو أقل بالذي هو أفضل؟!. واستجيب لهم طلبهم وقيل لهم : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) فيها من طعام وشراب. وفقدوا القاعدة التي ترتكز عليها الحياة العزيزة الكريمة ، وهي الإيمان بالله والسير على هداه ، وفضلوا الأشياء المادية الصغيرة على ذلك كله ، واستسلموا لشهواتهم والملذات ، وقادهم ذلك إلى الخضوع للقوى التي تملك سبيل الشهوات والملذات ، فباعوا أنفسهم وحياتهم للطغاة والمستبدين ، فأذلوهم وقهروهم (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) ، وذلك هو سبيل كل المجتمعات التي تعيش لشهواتها وأطماعها ، فتستسلم لكل القوى التي تؤمّن لها ذلك ، ولو على حساب كرامتها وعزتها ومبادئها ، ويمتد بها هذا السلوك ، حتى تنحرف عن خط الله المستقيم ، فترجع بغضب الله وسخطه ، لأن ذلك يؤدي بها إلى الكفر بآيات الله عنادا وضلالا ، وإلى الوقوف ضد رسالاته ورسله ، كما فعل بنو إسرائيل الذين كانوا

٦٠