تفسير من وحي القرآن - ج ٢

السيد محمد حسين فضل الله

الأماني التلاوة ، يقال : تمنى كتاب الله أي قرأه وتلاه ، وبذلك يكون المراد بالكلمة أنهم لا يعلمونه إلّا ألفاظا يتلونها من دون وعي المعاني ؛ وربما يراد منها الأحاديث المختلقة المتضمنة للتحريف. يقال : أنت تتمنى هذا القول أي تختلقه ، فيكون المقصود أنهم لا يعلمون الكتاب إلا بنحو التحريف الذي هو مجموعة من الأكاذيب التي قد تطرح كما لو كانت مدلولا للكلمات ، وقد يقصد بها الأماني جمع أمنية وذلك على أساس أنهم يتمنون على الله ما ليس لهم ، كقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) أو (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] ليكون المعنى أنهم لا يعلمونه إلا بما يتفق مع تخيلاتهم وأحلامهم وأمنياتهم الخيالية التي لا واقع لها. وفي جميع الحالات فهم لا يملكون اليقين الذي يتحرك في دائرة وضوح الرؤية الذي تسكن إليه النفس وتطمئن إليه الروح ؛ (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) من خلال تخرصاتهم وتخميناتهم التي لا ترتكز على أساس المعرفة اليقينية الحقة.

* * *

اللعنة والويل جزاء المحرّفين

هؤلاء المحرّفون المتاجرون بالدين بتحريف آياته ومفاهيمه ، الذين يقدمون للناس الجاهلين بحقيقة التوراة الأكاذيب والتحريفات ، ثم ينسبونها إلى الله ليصلوا إلى مطامعهم وشهواتهم ... إنهم سيذوقون اللعنة والويل من الله ، جزاء لهم على ما حرّفوه ، وما كسبوه من أعمال سيئة محرمة ومال حرام.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) يحرفونه عن مواضعه ، ويختلقون ما ليس فيه ، ويخلطون في أساليبهم بين الحق والباطل ليوهموا القارئ أنه من الكتاب ، وجاء في الحديث عن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام ـ كما في مجمع

١٠١

البيان ـ أنهم عمدوا إلى التوراة وحرّفوا صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليوقعوا الشك بذلك للمستضعفين من اليهود (١). (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) بحيث يعطونه قداسة الوحي الذي يخضع له المؤمنون ويلتزمون به. (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) من الباطل الذي صوّروه بصورة الحق ، (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) من الخطايا والأعمال الشريرة ، التي لن تجلب لهم إلا الويل ، في الدنيا والآخرة.

* * *

زعم اليهود عدم تخليدهم في النار

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وهذه هي القاعدة النفسية اليهودية المرتكزة على الذهنية المستعلية التي تنظر إلى الناس من الموقع الفوقي ، باعتبار أنهم شعب الله المختار ، وأن الناس يقفون في الدرجات الدنيا ليكونوا خدما لهم يلبّون حاجاتهم وقضاياهم العامة والخاصة. (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) فلن يخلّدنا الله في عذاب النار لأننا أبناؤه وأحباؤه وشعبه المختار ، فلا يعاقبنا إلا كما يعاقب الأب أولاده ، والمحب حبيبه ، بطريقة تأديبية حميمة يمتزج فيها الحب بالعقوبة بشكل خفيف لا يستمر طويلا ، لأن الرحمة تسبق الغضب عند ما يتحرك في مثل هذه المواقع ، وتلك هي التخيّلات النفسية التي تحوّل الأمنية إلى حقيقة في الواقع. (قُلْ) يا محمد لهؤلاء اليهود ، في حوار جدي يناقش القضية من منطق الحجة ، (أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) بأن لا يعذبكم إلا أياما معدودة؟ لتكون القضية قضية التزام إلهي بالعهد الذي قطعه على نفسه (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) ولكن أين هو

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٢٩٢.

١٠٢

العهد؟ وما مضمونه ، وما الحجة فيه؟ ولا نجد لديكم شيئا من ذلك كله ، (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)؟ فتكذبون على الله وتنسبون إليه ما لم ينزل به سلطانا ، وتلك هي الجريمة الكبرى.

* * *

العمل أساس الخلود في الجنة أو في النار

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) يؤكد القرآن في هاتين الآيتين القاعدة للخلود في الجنة أو في النار ، بعيدا عن كل الامتيازات ، أو الاستثناءات المتوهمة للأشخاص أو للأمم ، فليس في الآخرة طبقات على المستوى المعروف لدى الناس في الدنيا ، لأن الطبقية هنا تنشأ من حصول الإنسان على امتياز ماديّ أو معنويّ ، يتميز به عن غيره ، فيجعل له قيمة متميزة لدى سائر الناس ؛ أمّا في الآخرة ، فالجميع متساوون أمام الله ؛ فلا علاقة لأحد بالله أكثر من غيره ، من ناحية ذاتية ، لأنهم مخلوقون له ، ومن ناحية الصفات ، لأنها هبة من الله ، فلا مجال هناك إلا للعمل وحده ، فهو القيمة الأولى والأخيرة التي ترفع مستوى الإنسان عند الله ، ولهذا كانت قضية الجنة والنار خاضعة للعمل لجهة خلود الإنسان في الثواب والعقاب ؛ فأمّا الخالدون في النار فهم الذين واقعوا الخطيئة من قاعدة روحية وفكرية وعملية ، فهي محيطة بهم من كل جانب وليست شيئا طارئا مما يحدث للإنسان ، كنتيجة لنزوة سريعة. إنهم يعتقدونها ثم يعيشونها فكرا وشعورا وعملا ، وهؤلاء هم المجرمون المتمردون الذين يواجهون الحق من موقع الوضوح في الرؤية ، ولكنّهم يصرّون على الابتعاد عنه والتمرد عليه ، والمتاجرة بكلماته بعيدا عن روحه ، والتحريف لآياته ؛ وهؤلاء هم الذين لا يتطلعون إلى الإيمان بالله بروحية منفتحة تخشع أمام ذكره وتخضع لآياته ، وتستسلم لأوامره

١٠٣

ونواهيه ، بل يمرون مرورا سريعا ، تماما كأية فكرة طارئة ، أو وهم زائل ، وهؤلاء هم الظالمون الذين يفسدون في الأرض ويبغون فيها بغير الحق ، وينازعون الله سلطانه وكبرياءه ، عند ما يخيّل إليهم أنهم آلهة صغار ، من خلال نوازع الكبرياء والعظمة الذاتية ، التي توحي بها السلطة في مظاهر القوة والسلطان ، أو الذين يشركون بعبادة الله غيره ، مما يصنعونه بأيديهم من الخشب والحجر وغيرهما ممّا يصنع منه الأصنام ، أو ممّا يصنعونه بطاعتهم وخضوعهم من أصنام اللحم والدم من الطغاة والمستكبرين الذين يصنع منهم الأتباع آلهة وسادة ، ولولاهم ما كانوا شيئا مذكورا.

هذه هي النماذج التي تكسب الخطيئة من موقع القاعدة ، هم أصحاب الخلود في النار ، وهم الذين تنطبق صفاتهم على هؤلاء اليهود الذين لم يتركوا خطيئة إلا ومارسوها بكل قوة وعزم وتصميم ، من التمرد على الأنبياء ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وتحريف كلام الله ، والمتاجرة بالأكاذيب والبدع ... وغير ذلك ، مما يدل على وجود أساس روحي أو فكري للتمرد والطغيان ، أو يوحي بأن علاقتهم بالله لا تمثل شيئا كثيرا في حياتهم ليندفعوا ـ من خلاله ـ في طريق الطاعة والتوبة ؛ فكيف يرون لأنفسهم هذا الامتياز الإلهي الذي يؤمنهم من الدخول في النار؟

وأما الخالدون في الجنة ، فهم الذين عاشوا الإيمان في نفوسهم فكرا وشعورا وروحانية ، فهم يقفون أمام الله موقف المؤمن الذي يحس وجوده بمشاعره ، كما يتعلقه بفكره ، وهم الذين يعيشون الإحساس بالعبودية المطلقة التي تدفعهم إلى الخضوع والخشوع والاستسلام لله في أعمالهم ، ولكنهم قد يخطئون ويتمردون نتيجة نزوة سريعة أو هفوة طارئة مما يدخل في حساب الغفلة والنسيان ووسوسة الشيطان ، من دون أن يكون هناك أساس نفسي أو فكري يشجع على ذلك ويدفع إليه ، ولهذا نجدهم يتراجعون عند أوّل حالة انتباه أو تذكر أو يقظة ضمير ، كما حدثنا الله عنهم في قوله تعالى : (إِنَ

١٠٤

الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١] فهؤلاء هم أصحاب الجنة المتقون ، الذين عاشوا روحيتها في روحيتهم ، وأخلاق أهلها في أخلاقهم في الأرض قبل أن ينتقلوا إليها.

(بَلى) ليس الأمر كما قالوا وزعموا زعما بعيدا عن كل حقيقة ، بل المسألة خاضعة لقاعدة ثابتة في ثواب الله وعقابه ، مما لا يرجع إلى امتيازات ذاتية لإنسان معين أو شعب معين. (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) عميقة الجذور في ذاته بحيث كان لها الدور الكبير في تغيير كل فكره وعمله في الاتجاه السلبي ، ليكون إنسانا محاصرا من كل جهة ، فلا ينفذ إلى عقله شيء من الحق ، ولا إلى حياته شيء من الخير ، فقد أطبقت عليه ضلالته (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) من كل جانب ، فأينما يتوجه ويتحرك فهناك خطيئة في فكره وفي عمله.

ولعل الشرك الذي لا يغفره الله هو التجسيد الحيّ لهذه السيئة التي يكسبها الإنسان فتبعده عن الله في توحيد العقيدة والعبادة ، ويستغرق في الصنمية التي تحوّل حياته إلى جدار مسدود لا مجال فيه للأفق الواسع ، وإلى كهف مظلم لا ينفذ إليه النور من أية جهة ، فيكون هذا الإنسان خطيئة متجسدة في حركة الباطل والشرّ والفساد في واقعة الداخلي والخارجي ، (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لأن مثل هؤلاء لا يرتبطون بالله بأية رابطة تنفذ منها رحمته وينفتح عليهم رضوانه ، مما يجعل الخلود في النار هو النهاية الطبيعية التي ينتهون إليها.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) التي أراد الله لعباده أن يأخذوا بها في حياتهم الفردية والاجتماعية وفي علاقاتهم العامة والخاصة ، فكانوا التجسيد الفكري للحق ، والواقع المتحرك للخير ، الأمر الذي يجعلهم في موقع القرب من الله ، فلا يزدادون إلا خيرا وطاعة ومحبة وانقيادا له ، (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فهم

١٠٥

أهلها ومجتمعها وهم الذين يمثلون أخلاقيتها المنفتحة على الروح والرضوان ، ويجددون لها حيويتها وحركيتها في إنسانيتهم الخيّرة التي عاشت مع الله وانتهت إليه في مواقع القرب عنده.

* * *

العاملون أمام الامتيازات الطارئة

وقد ينبغي للعالمين في حقل التوعية والدعوة الإسلامية ، أن يركزوا على هذا الجانب في المفهوم الإسلامي الأصيل للقرب من الله والبعد عنه ، فلا يسمحوا للامتيازات الطارئة التي توزع الجنة والنار بين الناس على أساس أنسابهم ـ حتى ولو كان النسب مرتبطا برسول الله ـ أو على أساس انتماءاتهم المذهبية من دون أن يكون لذلك أيّ أثر في سلوكهم العملي وتطلعاتهم الروحية ، لأن ذلك يتنافى مع المفهوم القرآني ، الذي يعتبر الأساس في صحة أيّ مفهوم وفساده ، فإذا كان القرآن يطرح القضية في موقع الإيمان والعمل ، فكيف يمكن أن نجرد المقياس من العمل فنعتبره ثانويا ونبقي على جانب الإيمان وحده؟! ثم هل يمكن أن نكتشف الإيمان الحق إلا من خلال العمل؟! أمّا ما يخيّل وجوده لدى بعض الناس من عاطفة إيمانية ، إزاء بعض المقدسات أو الروحيات ، فإنها قد تدخل في نطاق التربية العاطفية ، التي يعيشها الإنسان في طفولته أو في بيئته ، بعيدا عن جانب العقيدة عنده.

وقد يحاول البعض أن يدخل قضية الاستثناءات المطروحة في باب العام والخاص أو المطلق والمقيد ، ممّا اعتاد الفقهاء والأصوليون إثارته في كل قضية من القضايا الشرعية التي يقف فيها الإنسان بين أمرين ، أحدهما يدل على الإطلاق ، والآخر يدل على التحديد ، فيحملون المطلق على المحدود ، فيركزون بذلك الاستثناءات في القاعدة.

ونحن لا نمانع في القضية من ناحية المبدأ ، فإن هذه القاعدة اللغوية

١٠٦

تعتبر من بين القواعد المسلّمة في أساليب اللغة العربية ، لأن أي متكلم قد يجري في أسلوبه على إصدار القاعدة من دون قيود لتكون أساسا عاما يرجع إليه في حالات الشك ، ثمّ يتبعها بالاستثناءات في أدلة مستقلة لتكون دليلا على التقييد. ولكن هذا لا يجري في الحالات التي تدخل في نطاق الضوابط العامة التي يراد منها التحديد المطلق من أجل إعطاء المفاهيم الأساسية العامة ، فقد يدخل ذلك في سياق العموميات أو المطلقات الآبية عن التخصيص أو التقييد ـ كما يقول الأصوليون ـ ولا سيما في أمثال هذه القضايا التي يشعر معها الإنسان ، بأن المفهوم المطروح في الآية ينسجم مع طبيعة العلاقة التي تربط الله بعباده حيث لا أساس لأيّ شيء ذاتي في هذا المجال ، لما ذكرناه من تساوي الخلق أمام الله في كل الامتيازات المتوهمة ، فلا يبقى إلا العمل المستند إلى الإيمان.

أما حديث المغفرة في غير حالة الإشراك بالله ، فهذا لا يدخل في نطاق حديثنا ، لأن حديثنا يرتكز على أساس الاستحقاق. أمّا المغفرة وعدمها ، فإنها تدخل في نطاق التنفيذ ، فقد أخذ الله على نفسه ـ برحمته ولطفه ـ أن يعفو عن المذنبين الذين يستحقون دخول النار أو الخلود فيها ، وذلك بلحاظ بعض الأعمال أو النيّات التي تجعل الإنسان موضعا لرحمة الله.

وخلاصة الحديث ، أن من الضروري التركيز على هذا المقياس في الثواب والعقاب في التربية الإسلامية للمؤمنين ، ليكون ذلك حافزا لهم على تنمية الإيمان والعمل في حياتهم ، ليتقربوا بذلك إلى الله طمعا في نيل رضاه ، ولا يستسلموا للامتيازات الطارئة ، بحيث يتركون العمل ، أو يتهاونون فيه اعتمادا على ما يخيّل إليهم من أسباب الأمان.

* * *

١٠٧

الآيات

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٨٦)

* * *

١٠٨

معاني المفردات

(مِيثاقَ) : الميثاق : أخذ العهد ولا يكون إلّا بالقول.

(وَالْمَساكِينِ) : الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم.

(تَوَلَّيْتُمْ) : أدبرتم وأعرضتم.

(مُعْرِضُونَ) : مدبرون.

(تُفادُوهُمْ) : فاداه مفاداة وفداء : أطلقه وأخذ فديته. وقيل : المفاداة أن تدفع رجلا وتأخذ رجلا ، والفدى أن تشتريه ؛ وقيل : هما واحد.

(خِزْيٌ) : ذلّ وهوان.

* * *

بنو إسرائيل والميثاق الإلهي

في هذا الفصل من حديث بني إسرائيل ، عودة معهم إلى الأصول التي ارتكز عليها التشريع الإلهي في التوراة ، مما كان يدخل في حساب تنظيم الحياة الاجتماعية المرتكز على أساس التوحيد الذي تلتقي عليه كل التشريعات .. ثم يبدأ بالمقارنة بين الصورة كما أرادها الله ، وبين الواقع المتمثل في ممارساتهم العملية وفي علاقاتهم الاجتماعية ، فنكتشف من خلال ذلك الفرق الشاسع بين مستلزمات الإيمان وبين واقع الممارسة.

فقد أراد الله من بني إسرائيل أن يوحّدوه فلا يعبدوا غيره ، وأن تكون علاقاتهم بوالديهم وبأقربائهم وبأيتامهم ومساكينهم مبنيّة على الإحسان

١٠٩

الطيب ، باعتبارهم من الفئات التي تحتاج إلى ذلك ، إمّا من موقع الحاجة الذاتية ، وإمّا من موقع ارتباطها بالجانب الإنساني للعلاقات ... ثم طلب منهم أن يقولوا للناس حسنا في مجال المعاشرة والمحاورة ، لأن للكلمة الطيبة أثرها الكبير في انفتاح القلوب على الخير والمحبة والإخلاص ، وفي انطلاق العقول مع الفكرة بعيدا عن التعصب والتعقيد والعناد والمكابرة ، مما يجعل من الكلمة رسولا حبيبا إلى القلب والعقل ، فترتكز الحياة الاجتماعية ـ من أجل ذلك ـ على قاعدة متينة من التفاهم والتحابب والتعاون.

وجاء بعد ذلك دور إقامة الصلاة ، باعتبارها معراجا لروح المؤمن إلى الله ، حيث ينفتح الإنسان من خلالها يوميا على المعاني الروحية الواسعة الممتدة ، التي لا تضيق بالأعباء الكبيرة التي تفرضها الطاعة أو يوحي بها الجهاد ، ولا ترتبط بالحياة إلا باعتبارها مجالا من مجالات العمل والمسؤولية ، لأن هذا اللقاء بالله يملأ النفس شعورا عميقا بجديّة الحياة وبارتباطها بالحكمة في كل ظواهرها وبواطنها من خلال حكمة الخالق ، مما يجعل من السير في طريق الحق هدفا كبيرا لحياة الإنسان.

أما إيتاء الزكاة ، فإنه يحقق للنفس إنسانية العطاء عند ما لا تختنق في دائرة حاجاتها الذاتية ومطامعها الشخصية في ما أنعم الله عليها من نعم المال ، بل تعيش الشعور بآلام الآخرين وحاجاتهم ومطامحهم ، فتعمل على تلبية حاجات الآخرين ، باعتبار أن المال الذي يملكه الإنسان ليس شرفا وامتيازا له ، بل هو وظيفة ومسئولية في ما يحتاجه أو يحتاجه الآخرون ، وبذلك كانت الزكاة عبادة اجتماعية يشترط في صحتها ما يشترط في كل عبادة من نيّة التقرب بها إلى الله ، كما كانت الصلاة عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله في خضوعه لذاته المقدسة.

وتنتهي هذه المجموعة من التشريعات في هذه الآية لتبدأ عملية

١١٠

المحاكمة والمحاسبة والمقارنة ، وذلك في لفتة سريعة للواقع الذين يعيشونه ، فنلتقي بهم وهم معرضون عن ذلك إلا القليلين منهم ممن آمنوا إيمان الوعي والإخلاص ، فثبتوا على خط الإيمان واستقاموا فكرا وعملا في جانب المعاملة ، أو في نطاق العلاقة العامة والخاصة.

فإذا انتهى هذا الجانب من الميثاق ، بدأ جانب آخر يتصل بعلاقاتهم الداخلية.

* * *

حق الإنسان بالحياة والحرية

وأخذ الله عليهم الميثاق باحترام النفس ، فلا يعتدى عليها بالقتل ، واحترام حرية الإنسان في بقائه في داره ، فلا يخرج منها قهرا بدون حق ... أمّا السرّ في التركيز على هذين الجانبين ، فلأنهما يمثلان ـ في الظن الغالب ـ العنصرين الأساسيين من عناصر الحريات الإنسانية ، وهما عنصر حرية الحياة في امتدادها إلى ما يشاء الله من دون اعتداء ، وحرية بقاء الإنسان في أرضه وداره ، لأن الحريات الأخرى متفرعة عنهما كما يظهر بالتأمل. لقد أخذ الله عليهم الميثاق بالالتزام بهاتين الحرّيتين فيما بينهم ، فما ذا كانت النتيجة؟

إنها تماما كالنتيجة في الميثاق الأول ، فلقد انطبعت حياتهم بالعدوان على النفس ، وبدأت سياسة الغلبة والقوة تتحكم بهم ، فضيّقوا على حرية الضعفاء الذين لا يخضعون لطغيانهم وبغيهم ، فأخرجوهم من ديارهم بالإثم والعدوان. وهنا تأتي المفارقة التي تمثل ازدواجية المواقف إزاء علاقاتهم العامة ، فهم في الوقت الذي يستبيحون قتلهم وإخراجهم من ديارهم ، نراهم في موقف آخر يمارسون سلوكا يوحي باحترام الإنسان ، وذلك عند ما يقع

١١١

هؤلاء الضعفاء أسرى في يد أعدائهم ، فإنهم يعملون على دفع الفداء عنهم لينقذوهم من الأسر. إنها مفارقة تلفت النظر ؛ فإذا كانوا يؤمنون باحترام الإنسان في نفسه وأرضه ، فما معنى السلوك الأول؟ وإذا كانوا لا يؤمنون بذلك ، فما معنى السلوك الثاني؟ إنه السلوك الذي لا يرتكز على قاعدة فكرية ثابتة ، بل يخضع للعوامل الطارئة من العصبية والحميّة وغيرهما من حالات الانفعال الإنساني في العلاقات العامة ، ولهذا ينطلق القرآن ليشجب هذا الواقع ، كما في قوله تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) ، فإن الالتزام بالكتاب يفرض الالتزام بمفاهيمه ومواقفه وتشريعاته ، باعتباره القاعدة الأساسية للتفكير والموقف والعمل.

هذا بالإضافة إلى أن الأخذ ببعض الكتاب والكفر ببعض آخر ، يشوّه الصورة الحقيقية للفكرة ، وذلك كما يفعله بعض الحكام الذين يأخذون بقوانين العقوبات في الإسلام كالحدود ، فيجلدون شارب الخمر ، ويقطعون يد السارق ، ولكنهم لا يأخذون بالتشريعات الإسلامية في العدالة الاجتماعية ، والنظام الأخلاقي ، والتخطيط الاقتصادي ، بحيث لا ينطلق السارق من حاجة اقتصادية ضاغطة بل من عقدة ذاتية مستعصية ، الأمر الذي يعطي الصورة المشوّهة القاسية عن الإسلام من خلال الواقع الضاغط أمام التشريع الصعب.

وربما كانت المسألة تمثل الازدواجية بين العقدة الذاتية المتحكمة في علاقات بعضهم ببعض ، في خلافاتهم العميقة الشديدة التي يمثلها قوله تعالى : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [الحشر: ١٤] وبين الهيكلية الاجتماعية في موقفهم الموحد أمام الآخر الذي يهدد وجودهم فينتصرون لبعضهم البعض في مواجهته.

* * *

١١٢

ما معنى الخزي الدنيوي؟

ثم يعقّب الله على ذلك (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، لأن هذا الواقع سيؤدي ـ حتما ـ إلى اختلال الأسس العامة التي ترتكز عليها بناء المجتمع ، فإذا أصيب بالتحلل والانهيار وضعف عن الامتداد والتماسك ، وقع تحت سيطرة المجتمعات الأخرى ، حيث يعاني في ذلك الخزي والهوان ، فيسقطون تحت تأثير مفاهيمها الكافرة أو الضالة ، ويندمجون في الاستغراق في خطوطها الفكرية والعملية ، فلا يؤمنون بالجهاد لأنه يؤدي إلى تعقيد علاقاتهم بها ، ولا يدعون إلى تحكيم الله في برامجه وشريعته في الحياة ، ولا يعملون على صنع القوة ، فيفقدون الإحساس بوجودهم الحي المتحرك الفاعل الذي يتحول ـ تدريجيا ـ إلى هامش من هوامش وجود الآخرين.

أما في الآخرة ، فإنهم سيردون إلى أشدّ العذاب ، لأن سلوكهم يمثل التمرد والطغيان على إرادة الله ، وهو ما يعني الاستهانة به ـ تعالى ـ والانحراف عن خط العبودية له.

ويختم الفصل بإعطاء القاعدة العامة التي تحكم مثل هذه النماذج ، فهم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ، فلم يعتبروا الآخرة شيئا كبيرا في حياتهم ليواجهوا مسئوليتهم من خلالها ، وأخلدوا إلى الأرض وارتبطوا بمقاييسها ومفاهيمها من اللذة والطمع والبغي والعدوان ... وهكذا ، فإنهم لا يواجهون إلا العذاب الشديد الذي لا يخفف عنهم ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.

* * *

١١٣

تفاصيل الميثاق بين الله وبين بني إسرائيل

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) الذي أردناه الأساس لعلاقتهم بالله في سلوكهم العملي في الحياة ، ليعرفوا أن وجودهم فيها يساوي التزامهم بالتعاليم الإلهية كعهد وثيق بينهم وبين الله ، (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) ، وهذا هو التوحيد الذي يمثل قاعدة الفكر في العقل وحركة الإحساس في القلب ، لتكون حياتهم خط استقامة في خط التوحيد ، بحيث يصدرون في كل مجالاتها عن النظرة التي تجعل كل تطلعاتهم وخطواتهم ومشاريعهم وأهدافهم من خلال الطاعة المطلقة للإله الواحد ، فلا شرك في العقيدة ولا تعددية في العبادة والطاعة. (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) فهما السبب المباشر لوجود الإنسان ، وعليه مبادلتهما إحسانا بإحسان ، (وَذِي الْقُرْبى) الذين يمثلون الرحم القريب الذي هو المجتمع الأقرب للمجتمع الإنساني الأول الذي يتحمل الإنسان مسئولية رعاية أفراده بالإحسان ، (وَالْيَتامى) الذين فقدوا الآباء الذين يقومون برعاية شؤونهم وحمايتهم من كل خطر أو سوء وتوجيههم للحياة الطيبة الكريمة ، مما يفرض على المجتمع أن يقوم بسدّ هذا الفراغ وتعويض هذا النقص النفسي والواقعي ، (وَالْمَساكِينِ) الذين يعانون من الحاجة المادية ويسقطون تحت تأثيرها في دائرة المستكبرين ، ليفقدوا إنسانيتهم أمام ذلك ، الأمر الذي يريد الله فيه للناس تدبير أمرهم ، والإقامة بإعالتهم ، وسدّ حاجتهم ، بالطريقة التي تحفظ لهم كرامتهم.

(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) وهذا هو خط التعامل مع الآخرين على مستوى حركة العلاقات الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، بحيث تكون الكلمة الطيبة والقول الحسن والأسلوب الجميل ، عناوين إنسانية في انفتاح الإنسان على الإنسان الآخر ، لأن القول الحسن في اللفظ والمعنى يفتح

١١٤

القلب ، وينعش الروح ، ويقرب الإحساس ، ويقوي الروابط بين الناس ... وقد جاء عن الإمام الباقر عليه‌السلام في تفسير هذه الفقرة قال : قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم ، فإن الله عزوجل يبغض السبّاب الطعّان على المؤمنين ، الفاحش المفحش ، السائل ؛ ويحبّ الحليم العفيف المتعفف(١). (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) التي هي وسيلة القرب إلى الله.

(وَآتُوا الزَّكاةَ) والزكاة هي المضمون الإنساني للتكافل الاجتماعي في حركة العطاء في الشخصية المتفاعلة مع الواقع الاجتماعي في الحاجات الإنسانية العامة.

وهذه هي المفردات التي تتضمن الأوامر الإلهية في حركة الإيجاب في السلوك الإنساني التي أراد الله لكم إطاعتها والالتزام بمضمونها. (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) عن الوفاء بالعهد والاستجابة للأمر الإلهي في ذلك كله.

وهناك مفردات تتصل بالجانب السلبي في الحياة ، بحيث لا يريد الله صدورها من الإنسان ، لأنها تفسد عليه حياته العامة والخاصة ، وتحطم له نظامه الاجتماعي الذي به يسعد ويتقدم. (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) في الجانب السلبي من السلوك (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) ، لأن الله جعل للدماء حرمتها وللنفوس قداستها في الواقع الإنساني ، فلا حق لإنسان في إزهاق روح إنسان آخر وسفك دمه ، إلا بالحق الذي يمثل التشريع الإلهي في موارد الرخصة في ذلك. (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) لأن الله أراد للإنسان أن يكون آمنا في بيته ، حرّا في اختيار البقاء فيه ، فلا سلطة لأحد في إخراجه منه إلا بالحق في دائرة التشريع الإلهي. (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) على أنفسكم بذلك (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) على ما أخذه الله من الميثاق على آبائكم وعليكم من خلالهم ، مما يفرض

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ٢١٨.

١١٥

عليكم الالتزام به كما هو الأمر بالنسبة إليهم.

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) فيقتل بعضكم بعضا ، وهو نقض للعهد المأخوذ عليكم. وفي التعبير ب «أنفسكم» إيحاء بأن المجتمع يمثل وحدة قائمة بذاتها ، مما يجعل الاعتداء على أيّ فرد منه اعتداء على النفس كما في قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] أي ليسلم بعضكم على بعض. (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) أي تتعاونون فيما بينكم في تجمع عدواني لإخراج بعض الناس في مجتمعكم من ديارهم لتشردوهم ، وهذا ما يوحي بأنكم لا تلتزمون الوحدة المجتمعية القائمة على أساس التضامن والتعاون والاحترام المتبادل. (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) ، فإذا رأيتموهم أسارى لدى جماعة أخرى من غير اليهود من أعدائكم ، فإنكم تفادونهم وتتحملون مسئولية تحريرهم منهم ، وهذا ما يوحي بالتزامكم بهم كجماعة منكم تحملون مسئوليتها الأمنية. (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) فقد جاء التحريم من الله في مسألة إخراجهم ، فكيف تجمعون بين العدوان الذاتي عليهم في داخل مجتمعكم ، ومفاداتهم وتحريرهم من غيركم؟! (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) مما لا ينسجم مع الالتزام الإيماني بالكتاب كله ، الذي يفرض الإيمان به في جميع أحكامه ، باعتبار أنه الوحي الصادر من الله سبحانه. (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) مما يفرضه هذا الواقع من هزيمتكم وانقسامكم وتعرضكم للإذلال من قبل الآخرين من المسلمين وغيرهم ، عند ما تتعرضون للإخراج من دياركم أو لفرض الجزية عليكم. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) جزاء لانحرافكم عن الحق ، وعدوانكم على أهله بعد إقامة الحجة عليكم من خلال رسوله ورسالته. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فهو المطّلع عليكم في كل سركم وعلانيتكم ، والحافظ لكل نشاطاتكم ليحاسبكم عليها ويجازيكم بها. (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) فاستبدلوا

١١٦

الباقي بالفاني ، ورضوا بالعرض المحدود الزائل من المال والجاه واللذات الصغيرة ، بدلا من النعم الكبيرة الواسعة الخالدة والرضوان الإلهي العظيم ... (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) لأنهم أصروا على العناد والاستكبار على الحق ، (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لأن الآخرة ليست فرصة الذين ينتصرون لأنفسهم من عذاب الله بعلاقاتهم البشرية الدنيوية ، لأنه اليوم الذي لا تملك فيه نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله.

* * *

من وحي الآيات

وكخلاصة ، فإننا نستوحي مما تقدم ، ما فيه فائدة لواقعنا العملي حاضرا ومستقبلا ، جملة أمور أبرزها التالي :

١ ـ إن لكل شريعة من الشرائع خطة متماسكة ، تحكم ربط أحكامها وتوزيع مواقعها ، فلا تجزئة ولا انفصال ، بل هي حلقات متصلة في سلسلة واحدة يكمّل بعضها بعضا ، مما يجعل الالتزام الكلي بها أساسا لتحقيق الغاية التي أرادها الله منها ، ولعلنا نستوحي ذلك من الحديث المأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا» (١) ، والحديث الآخر المرويّ في نهج البلاغة : «كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء ، حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم ...» (٢). فإننا نستفيد منهما أن قيمة الطاعة

__________________

(١) البحار ، م : ٢٨ ، ج : ٧٩ ، باب : ١ ، ص : ٥٧٣.

(٢) نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه ، دار التعارف للمطبوعات ، ط : ١ ، ١٤١٠ ه‍ / ١٩٩٠ م ، قصار الحكم / ١٤٥ ، ص : ٣٧٤.

١١٧

تتحدّد بمقدار ما تحقق من هدف الأمر والنهي ، سواء كانت الغاية مربوطة بكيفية أداء الطاعة كما في الصلاة والصوم ، أو كانت متصلة بالواجبات أو المحرمات المرتبطة بهدف واحد ، من حيث علاقتها بتكوين الشخصية الإنسانية على قاعدة واحدة. ولعل الآية التي تحدثنا عنها أبلغ شاهد على الفكرة ، لأن احترام حرية الإنسان في نفسه وفي أرضه ينطلق من فكرة الإيمان بحرية الإنسان المنطلقة من الإيمان بالله في رسالته وشريعته ، فلا معنى لأن يؤمن الإنسان بهذه الحرية في جانب ويكفر بها في جانب آخر ، لارتباط المواقف بعضها ببعض في تحقيق هذا المعنى الكبير في الحياة.

٢ ـ إن من الممكن استيحاء الفكرة التي ترفض ما تعارف عليه بعض المسلمين من المتأثرين بالمبادئ والأفكار الأوروبية ، سواء منها الأفكار الرأسمالية أو الماركسية أو غيرها من الأفكار غير الإسلامية المتعلقة ببعض الجوانب العملية السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وخلاصة ما يثيره هؤلاء أن بإمكاننا أن نأخذ من الإسلام الجانب الروحي والأخلاقي في المفاهيم والتشريعات المتعلقة بالحياة ، ولا سيما ما يتعلق منها بالجانب العبادي أو الأحوال الشخصية ، أمّا التنظيم الاقتصادي والسياسي والتخطيط الاجتماعي ، فلا بد لنا فيه من الرجوع إلى الفكر الأوروبي ، لأن هذا الفكر يرتكز على قواعد علمية مبنية على دراسة الواقع من خلال المعطيات العامة التي أفرزها التطور ، ويقررون ـ في هذا المجال ـ أن التشريعات الإسلامية التي تتصل بهذه الجوانب لا تفي بحاجة الحياة إلى التنظيم والتخطيط ، ولكننا نلاحظ أن هذا اللون من التفكير محكوم بعقلية الانبهار بالفكر الأوروبي الذي قد يعتبره فوق مستوى النقد ، بل هو باعث الحياة المتطورة على صورته ... وربما كان من الأجدر بهم ـ من وجهة الإخلاص للتفكير العلمي ـ أن يدققوا في القواعد العامة الإسلامية التي تضمنتها نصوص الكتاب والسنّة ، وفصّلتها أبحاث الفقهاء المسلمين المستمدة من المصادر

١١٨

الأصيلة للتشريع ، ليطّلعوا على الإمكانات الفكرية والقانونية التي تستطيع أن تدفع بحياة المجتمع إلى الأمام. وقد لا يكفينا ـ في إهمال هذه الجوانب من التشريع الإسلامي ـ أن نلاحظ عدم انسجام الشكل العملي للأوضاع الإدارية والسياسية والاقتصادية التي كانت في الماضي ـ عند ما كان الإسلام يحكم الحياة ـ مع الشكل الموجود الآن ، لأن من الممكن للاجتهاد الإسلامي أن يلاحظ وجود بدائل من قلب التشريع مما يملأ هذا الفراغ.

إن المسلم يحمل في وعيه الإسلامي فكرة إجمالية عن الحقيقة الإسلامية التالية : وهي أن لله في كل واقعة من وقائع الحياة حكما شرعيا محدّدا يصيبه من يصيبه ويخطئه من يخطئه ، وهذه الفكرة وإن كانت صحيحة إجمالا ، فهي لا تتعارض وإمكان وجود فراغ يمارس فيه ولي الأمر حرية التحرك في بعض المجالات العملية العامة ؛ كما يفرض على المفكرين المسلمين متابعة البحث عن الأحكام الشرعية ، في كل ما استحدثه الإنسان من أوضاع الحياة وشؤونها وأساليبها ، في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، لئلا يبقى الإنسان المسلم في حيرة أمام حركة التطور العام في الحياة ، إذ يبقى هذا البحث خاضعا للمبادئ العامة والتصورات الكلية للشريعة ، لا مجرد اجتهاد آخر خال من أي ضوابط مقررة. من هنا ، فإننا لا نبرر اختيار أساليب الفكر المضادّ في بعض الجوانب ، والأخذ بالإسلام في البعض الآخر ، لأننا نكون مصداقا لقول الله في حديثه عن اليهود: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).

٣ ـ إن الله يعتبر الشريعة ميثاقا بين الله وبين عباده ، لأن الالتزام بها يمثل الإقرار بمضمونها ، تماما كما هو الالتزام ضمن أيّ عهد من العهود ، وبذلك يتحول العصيان والتمرد والانحراف إلى عملية خيانة للعهد ونقض له ، مما يجعل الصورة قاتمة في داخل الذات ، فتوحي للإنسان باحتقار نفسه ، كما في أيّة حالة من حالات الخيانة ، وقد يكون من الخير لنا العمل على إثارة هذا

١١٩

الجانب في أساليب التربية الدينية ، لأن الإنسان قد يقبل لنفسه صفة العاصي ، ولكنه لن يقبل لها صفة الخائن ، لما تحمله هذه الكلمة من إيحاءات مسيئة تثقل وجود الإنسان وضميره.

* * *

١٢٠