شرح كتاب سيبويه - ج ١

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-5251-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

حرف المضارعة لما حذفت" أن" مع الفاء والواو ، والدليل على ذلك أن الشاعر إذا اضطر إلى حذفها حذفها ، وبقي سائر الكلام على حاله ، أنشد الأخفش :

محمد تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من أمر تبالا (١)

أراد لتفد نفسك كل نفس.

وقال آخر :

فقلت ادعي وأدع فإن أندى

لصوت أن ينادي داعيان (٢)

أراد : ولأدع

وقد أنكر" أبو العباس محمد بن يزيد" البيت الأول ، وقد أنشده كثير من الناس إلا أنا أردنا أن نبين أن حذف العامل لو كان على ما زعموا ، لم يوجب تغيير الصورة من المعمول فيه.

فإن قال قائل : " إنما كان الأصل فيه : " لتقم" ، و" لتذهب" في فعل الأمر إلا أنه كثير في كلامهم ، فحذفوه استخفافا ، كما قالوا : " أيش" و" يلّمة" ، والأصل" أي شيء" ، و" ويل أمّه" ، وقالوا : عم صباحا ، والأصل : أنعم صباحا من نعم ينعم ، ويقال : نعم ينعم ، ونعم ينعم" و" عم صباحا" من المكسور العين ، وحذفوا النون التي هي فاء الفعل استخفافا ، لما كثر في كلامهم التحية بهذا ، وغير ذلك من المحذوفات.

قيل هذا قياس مطرح ، وتشبيه بين شيئين لا يشتبهان ؛ وذلك من قبل أن المحذوف إنما يكون في شيء إذا كثر الكلام (به) والترداد له ، ولا يكون في نظائره إذا نقص عن مثل حاله في الكثرة التي جاز معها الحذف ، وقد رأينا فعل الأمر فيما كثر استعماله وما قل من الأفعال إذا أمروا به صاغوه هذه الصيغة نحو قولهم : اعرنزم ، واحرنجم ، ونحو هذا من الأفعال التي هي أقل من ذا أو مثله في القلة ، يطرد فيه الحذف ، فلو كان ذا على ما زعم الزاعم ، لاختص الحذف بالكثير الدائر المستعمل في كلامهم ، وما كان يتعدى الحذف إلى ما يقل ويشذ حتى يصير بابا مطردا وقياسا لازما.

ألا ترى أنا لا نقول قياسا على : " لم يك" ، في معنى : لم يكن : " لم يص"" ولم يه" في

__________________

(١) في شرح الكافية منسوب إلى حسان بن ثابت ٢ / ٢٥٢ ، ونسبه صاحب الشذور إلى أبي طالب.

الخزانة ٣ / ٦٢٩ ، شرح ابن يعيش ٧ / ٣٥.

(٢) اختلفوا في نسبته. شرح ابن يعيش ٧ / ٣٣ ، سيبويه ١ / ٤٢٦.

٤١

معنى : لم يصن ، ولم يهن ؛ لكثرة لم يكن. ولا نقول قياسا على" لم يبل" ، في معنى : يبال : " لم يعط" ، " ولم يجز" ـ في معنى لم يعاط ، ولم يجاز ، فتبين الفصل فإنه واضح إن شاء الله".

فإن قال قائل : فلم قالوا : " اقض" ، فحذفوا الياء كحذفهم إذا قالوا : " لم يقض" ، وهذا الحذف يكون للجزم ، و" اضربا" كما كقالوا : " لم يضربا" ، و" اضربوا" كما قالوا : لم يضربوا"؟

فإن الجواب في ذلك أنه لما استوى المجزوم غير المعتل ، وفعل الأمر ، غيّر المعتل كقولك : " لم يذهب" و" اذهب يا زيد" ، وإن كان أحدهما مجزوما معربا ، والآخر مسكنا على أصله ، سوىّ بينهما في المعتل وفي التثنية والجمع ، وحمل ذلك أجمع على الواحد الصحيح.

وذكر" المازني" لفظا يؤول إلى ما قلنا ، فقال : إنما قالوا اقض ، وارم ؛ لمضارعة الجزم السكون ، وهذا هو المعنى الذي أردناه ، إلا أنا لخصنا هذا المعنى وبيناه.

فإن قال قائل : لم جعلوا في إعراب الأفعال الجزم دون الأسماء؟ قيل له : قد تقدم قولنا في امتناع دخول الجزم على الأسماء ، ونبين الآن : لم ساغ دخوله على الأفعال ، فنقول وبالله التوفيق :

إن الاسم لما كان هو المستحق للإعراب في أصل الكلام ، استحق جميع الحركات ؛ لقوته ، ولما ستراه في موضعه ، إن شاء الله. وضارع الفعل الاسم فجرى مجراه ، واستحال دخول الحركة التي هي الجر عليه ؛ لما تبين لك من فساد ذلك في موضعه ، فجعل مكان تلك الحركة ـ التي هي الجر ـ الجزم ؛ ليكون معادلا للاسم في إعرابه ؛ لتمام مضارعته له.

قال سيبويه : " وليس في الأفعال المضارعة جرّ ، كما أنه ليس في الأسماء جزم".

قال أبو سعيد : إن سأل سائل : فقال لك لم لم يكن في الأفعال المضارعة جر؟ فإن في ذلك أجوبة منها :

إن الجر إنما يكون بأدوات يستحيل دخولها على الأفعال ، وهي حروف الجر ، وبالإضافة المحضة ، وليس لدخول ذلك على الأفعال معنى يعقل. ألا ترى أنك لو قلت : هذا غلام يضرب ، أو مررت بيضرب ، ونحو ذلك فسد الكلام.

ووجه ثان : إن المضاف إليه يتعرف به المضاف ، أو يخرج به من إبهام إلى

٤٢

تخصيص على مقدار خصوصه في نفسه ، كقولك : " هذا غلام زيد" فيتعرف الغلام بزيد وتقول : " هذا غلام رجل صديق لك" ، فيخرج الغلام عن حد الإبهام الذي في قولك :

" هذا غلام" حتى ينحصر ملكه على صديق له ، دون سائر الناس ، وصديق له أخص من واحد من الناس مبهم.

ووجه ثالث : إن الفعل لا يكون إلا نكرة ، ولا يكون شيء منه أخصّ من شيء ، فإذا كانت الإضافة إنما ينبغي لها زيادة معرفة المضاف ، ولا سبيل إلى أن يعرف المضاف إليه ، حتى يكون مقصورا إليه معروفا ، فيتعرف المضاف بذلك ، لم يصح.

ووجه رابع : وهو أن الفعل والفاعل جملة ، ولا يجوز أن تقول : " هذا غلام زيد يقوم ، كذلك لا تقول : " هذا غلام يقوم زيد" ؛ لأنه جملة كالابتداء والخبر.

ووجه خامس : إن الفعل إنّما هو اللفظ الدال على حدث في زمان ماض أو غير ماض ، فلو أضفنا إلى الفعل كنا قد أضفنا إلى الحدث والزمن ، لا إلى أحدهما ، ولا يصح الإضافة إلى زمان غير متحصل ، وإنما يضاف إلى الزمان الدال على وقت منه بعينه ؛ لأن الزمان الماضي يقع على" أمس" وما قبله ، من الأزمنة التي لا يحصلها وقتا وقتا ، وعلى ما بعده من الأوقات إلى ما يلينا من أقربها ، فلا يتبين المضاف إليه من الزمان ، ولا يتخلص من غيره.

ويدل على صحة هذا الوجه أن الزمان المستقبل قد يكون ماضيا ، وقد كان الماضي مستقبلا ، فلا معنى للإضافة إلى زمان لا يختص لنفسه حالا يتبين بها من غيره ، والإضافات إنما حكمها والفائدة فيها : إخراج المضاف من حالة مبهمة إلى ما هو أخصّ منها.

وذكر أبو الحسن الأخفش في ذلك علّتين :

إحداهما : أنه قال : لو أضفنا إلى الفعل لاحتجنا بعده إلى الفاعل ، وقد علمنا أن المضاف إليه يقوم مقام التنوين ، ولم يبلغ من قوة التنوين عنده أن يقوم مقامه شيئان.

والعلة الثانية ، زعم أن الأفعال أدلّة على غيرها ، يعني على الحدث والزمان وعلى فاعليها ومفعوليها.

وزعم أن المضاف إليه مدلول عليه ؛ قال : والأفعال أدلة ، وليست بمدلول عليها ، فلا يضاف إليها ؛ لأن الإضافة إلى المدلول عليه لا إلى الدليل.

٤٣

فإن قال قائل : فقد أضيفت أسماء الزمان إلى الأفعال ، كقولك : " هذا يوم يقوم زيد ، وساعة يذهب زيد ورأيته يوم قام زيد"!

فإنما جازت إضافة أسماء الزمان إلى الأفعال ؛ لأن الأفعال لا بد لها من فاعلين ، والفعل والفاعل جملة ، والزمان يضاف إلى الجمل ، كقولك : " رأيته يوم زيد أمير" ، " ورأيته زمن أبوك غائب" ، ونحو ذلك ، فأضيف اسم الزمان إلى الفعل والفاعل ، كما يضاف إلى الابتداء والخبر ، ويكون المعنى في ذلك كالمعنى في إضافة الزمان إلى المصدر ، فإذا قلت : هذا يوم يقوم زيد فكأنك قلت : هذا يوم قيام زيد.

فإن قال قائل : فلم خصّ الزمان بالإضافة إلى الجمل دون غيره؟

فالجواب في ذلك أنا رأينا الزمان قد تشتق له أفعال ، تدل على وقوع الجمل في أوقاته المختلفة ، نحو : كان ، ويكون ، اللذين هما عبارتان عن الماضي والمستقبل من الزمان ، وتليهما الجمل : ونحو : أصبح وأمسى اللذين هما عبارتان عن وقتين معلومين من الزمان ويليهما الجمل ، فمن حيث جاز أن يضاف المكان والزمان والمصدر وغير ذلك إلى الفاعلين ، وكانت الجملة كالفاعل من حيث صيغ لها من لفظ الزمان ما يدل ، عليها أضيف الوقت إليها ـ أعني الجمل ـ كما صيغ للوقت ما يدل عليه.

وزعم" الأخفش" أنهم أضافوا أسماء الزمان إلى الأفعال ؛ لأن الأزمنة كلها تكون ظروفا للأفعال والمصادر ، لا يمتنع شيء منها من ذلك فعوّضوا من كون جميعها ظروفا أن أضافوها إلى الجمل والأفعال. ومما يدل على هذا : أن الزمان الماضي بمعنى" إذ". والزمان المستقبل بمعنى" إذا" والأزمنة ماضية ومستقبلة ، فلما كانت" إذ" تضاف إلى الجمل : المبتدأ والخبر والفعل والفاعل ، أضيف الزمان الذي في معناها إلى الفعل والفاعل ، والمبتدأ والخبر.

ولما كانت" إذا" تضاف إلى الفعل والفاعل فقط ، أضيف الزمان الذي في معناها إلى الفعل والفاعل فقط ، فلا تقول : أتيتك زمان زيد قائم ؛ لأنك لا تقول : أتيتك إذا زيد قائم.

ومما يدل على صحة ما بينا أن الفعل مشتق من المصدر في زمان ماض أو مستقبل ، وليس بدال على وقت من الماضي معين ولا من المستقبل ، فصار الزمان كبعض الفعل ؛ إذ كان الفعل يدل على شيئين : أحدهما : الزمان ، والآخر : المصدر ، فإذا أضفنا

٤٤

الزمان إليه فقد أضفناه كما يضاف البعض إلى الكل كقولنا : " ثوب خزّ"" وخاتم حديد" وفي إضافتنا إليه فائدة ، إذ كان يتحصل فيها غير الزمان ولا يضاف إليه المصدر ؛ لأن الفعل معه الفاعل ، فقد دل على أن المصدر له ، فلم يضف إليه.

فإن قال قائل : فقد يضاف إلى الفعل غير الزمان ، وهو قولهم : ائتني بآية قام زيد ، أراد : بعلامة قام زيد ، قال الشاعر :

بآية يقدمون الخيل زورا

كأن على سنابكها مداما (١)

وقولهم : " اذهب بذي تسلم" ، و" اذهبا بذي تسلمان" ، " واذهبوا بذي تسلمون" ، " واذهبي بذي تسلمين" ، و" اذهبا بذي تسلمان" ، و" اذهبن بذي تسلمن".

فالجواب في ذلك أن يقال : أما" آية" فإنما جاز إضافتها ؛ لأنها بمنزلة الوقت ، وذلك أن الوقت إنما جعل ؛ ليعلم ترتيب الحوادث في كونها ، وما يتقدم منها ، وما يتأخر ، وما يقترن وجوده بوجود غيره ، والمقدار الذي بين وجود المتقدم منها والمتأخر ، فصار ذكر الوقت علما له ، وقع أم لم يقع ، وما يقرن وجوده بوجود غيره ، يكون كون أحدهما علامة لكون الآخر وقتا له.

ويدل على هذا أنك قلت : " إذا أذّن المؤذن فأتنى" فيصير أذان المؤذن وقتا لإتيانه وعلامة له ، كما أنك لو قلت : " إذا كان يوم كذا فأتنى" فقد جعلت ذلك اليوم وقتا لإتيانه ، وعلامة متى وجدها امتثل أمرك عند كونها ، وكذلك إذا قال : " بآية يقوم" فقد جعل" يقوم" وقتا لما يريده فيصح أن يضيف العلامة إلى الفعل ، كما تضيف الوقت ؛ لأنهما في التحصيل فيؤولان إلى شيء واحد.

وأما قولهم : " اذهب بذي تسلم" ففسر العلماء معناه ، فقالوا : معناه : اذهب بسلامتك ، والذي جوّز عندي إضافته إلى الفعل ، أن معنى : ذي ، إنما هو لذات الشيء ، كما تقول : مررت برجل ذي مال ، فذي هو الرجل وهو نعت له ، وأضفته إلى" مال" ، فإذا قلت : " اذهب بذي تسلم" فكأنك قلت : اذهب بيوم ذي تسلم ، أو بوقت ذي تسلم ، فذو هو اليوم والوقت ، فلذلك جاز إضافته إلى تسلم ، وأقمته فقام اليوم ، فافهم هذا فإنه لطيف جدا.

__________________

(١) اختلفوا في نسبته. الخزانة ٣ / ١٣٥ ، سيبويه ١ / ٤٦٠.

٤٥

وقال بعض أهل العلم : إن" ذي" بمنزلة" الذي" كأنك قلت : " اذهب بالذي تسلم" والهاء محذوفة وهو مصدر تقديره بالسلامة التي تسلمها ، وذكر لأنه أراد السلامة وإن لم يستعمل.

وجملة قول" سيبويه" أن الأفعال لم يضف إليها ؛ لأن المضاف داخل في المضاف إليه : فقد أضفناه كما يضاف البعض إلى الكل كقولنا : ثوب خزّ ، وخاتم حديد ، وفي إضافته إليه فائدة ؛ إذ كان يتحصل منها غير الزمان ، ولا يضاف إليه المصدر ؛ لأن الفعل معه الفاعل ، فهو يدل على أن المصدر له فلم يضف إليه ، فاعرف ذلك إن شاء الله.

وأيضا فإن الأول يضم الثاني إليه ، وزيادته عليه تدل على ما يدل عليه منفردا ، غير أنه في الإضافة له اختصاص بشيء قد كان متوهما فيه وفي غيره كالألف واللام ، ويكون اختصاصه على حسب ما للثاني من التعريف والتخصيص ، فلما لم يختص المضاف بإضافته إلى الفعل ـ كما ذكرنا ـ بطلت الإضافة.

فإن سأل سائل فقال : أخبرونا عن قوله : " وليس في الأفعال المضارعة جر ، كما أنه ليس في الأسماء جزم" لم منع دخول الجر على الأفعال ، حيث امتنع دخول الجزم على الأسماء؟ وكيف صار امتناع دخول الجزم على الأسماء أصلا لمنع دخول الجر على الأفعال ، وما وجه رد أحدهما على الآخر؟

فإن الجواب في ذلك أنه لم يجعل امتناع الجزم في الأسماء علة منع بها دخول الجر على الأفعال ، وإنما أراد أن كل واحد منهما ممتنع في بابه للعلة التي تمنعه ، والمعنى الذي يحيله ، فتعرّف ذلك إن شاء الله.

فإن قال قائل : فما معنى قوله : " لأن المجرور داخل في المضاف إليه"؟ إلام عادت الهاء في إليه؟ وكيف تلخيص هذا الكلام وترتيبه؟

فإن الجواب في ذلك : أن قوله : " لأن المجرور" ، يريد : المضاف إليه ، وهو الثاني ، داخل في المضاف إليه ، يعني : داخلا في الصف الأول الذي قد أضيف إلى المجرور. والهاء تعود إلى المجرور ؛ فكأنه قال : لأن الثاني المجرور داخل في الأول المضاف إلى الثاني ، فاعرفه إن شاء الله.

فإن سأل سائل ، فقال : لم عاقبت الإضافة التنوين؟

فالجواب في ذلك أن التنوين إنما دخل عندنا ؛ للفرق بين ما ينصرف

٤٦

وما لا ينصرف ، ومتى أضيف الاسم أخرجته الإضافة إلى حكم المنصرف ، فزال المعنى الذي له دخل للفرق.

وقوله : " وليس ذلك في الأفعال" ، يعني : وليس المعنى الذي تجر به الاسم في هذه الأفعال ، يعني في الأفعال المضارعة ، وقد ذكرنا المعنى الذي ينفرد به الاسم في الجر بما أغنى عن إعادته.

قال سيبويه : " وإنما ضارعت أسماء الفاعلين".

يعني ضارعت الأفعال المضارعة أسماء الفاعلين ، وأضمرها لتقدم ذكرها أنك تقول : " إن عبد الله ليفعل" ، فيوافق قوله : " لفاعل" ، حتى كأنك قلت : إن عبد الله لفاعل ، فيما تريد من المعنى.

إن سأل سائل ، فقال : إذا قلنا : " زيد فاعل" و" إن زيدا لفاعل" ، أو" فاعل" ، هل دل هذا على وجود المعنى الذي ذكره في وقته ، أو هو مبهم لا يوقف عليهم؟

فإن الجواب في ذلك أن الإخبار عن الأشياء كلها أولى الأوقات بها الوقت الذي وقع فيه الخطاب في المعنى ؛ لأن اللفظ صيغ له ، وذلك أن المتكلم إذا قال : زيد قائم ، فإنما يريد إفادة المخاطب ، وتعريفه من أمر زيد ما خفي عليه ، وإن لم يكن في حاله قائما ، فهذا الوصف غير لازم له ، والمعتاد في الخطاب أن يكون للحال ، فعلم من جهة المعنى أن الوصف متى ما عرّي من النسبة إلى وقت بعينه ، كان مقصورا على وقت التكلم به والإخبار ؛ لما بينا أن حكم الخطاب إفادة المخاطب به ما يحتاج إلى معرفته.

فإن قال قائل : فإذا قلت : " إنّ زيدا ليقوم" فهل الفعل لأحد وقتين مبهمين ، أم هو للحال؟

فالجواب في ذلك : إن أصحابنا على قولين ، قال بعضهم : اللام تقصر الفعل المضارع في خبر إن على الحال ، واستدل على ذلك بقول سيبويه : حتى كأنك قلت" إن زيدا لفاعل" فيما يريد من المعنى ، فقال : قد علمنا أنا إذا قلنا : " إن زيدا لفاعل" فإنما يريد به الحال ؛ وقد قال لنا : إن قولنا : " إن عبد الله ليفعل" ، كقولك : " إن عبد الله لفاعل" ، فصح بهذا الكلام أن اللام تقصر الفعل المضارع على الحال.

وقالت طائفة أخرى من أصحابنا : إن اللام تقصر الفعل المضارع على الحال ، وأجازوا أن تقولوا : " إن عبد الله لسوف يقوم" واستدلوا على صحة ذلك بقوله عزوجل :

٤٧

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(١) فقالوا : لو كانت اللام تقصر الفعل على الحال لم يجز أن تقول : " ليحكم بينهم" كما أن السين وسوف لما قصرتا الأفعال المضارعة على الاستقبال ، لم يجز أن يقول القائل : " إن زيدا سوف يقوم الآن" لأنه يجمع بين معنيين متضادين.

فإن قال قائل : فأنت تقول : إنا إذا قلنا" زيد قائم" فأولى الأشياء بهذا الكلام أن يكون للحال ، ومع ذلك فقد يجوز أن تقول : " زيد قائم غدا" وكذلك : " إن زيدا ليقوم" ، هو للحال ، ومع ذلك يجوز ؛ أن تقول : " إن زيدا ليقوم غدا".

فإن الجواب عن ذلك أن قول القائل : " زيد قائم" لم يدخل عليه لفظ لوقت دون وقت ، وهو مبهم الصيغة يجوز أن يكون للماضي والحال والمستقبل ، غير أنا نجعله للحال ، إذا عرّي من غيره ، لما ذكرنا من فائدة المخاطب به. واللام فيما زعم هذا الزاعم تدخل على الفعل المضارع الذي يصلح لوقتين ، فتقصره على أحدهما ، كما تدخل السين وسوف عليه فتقصره على الآخر ، فقلنا : لو كانت اللام هي التي قصرت الفعل على أحد الوقتين ، فإذا قصرته على أحد الوقتين لفظا لم يجز أن تجعله للآخر ، فتقول : " إن زيدا ليقوم غدا" مع دخول اللام ، كما لا يجوز أن تقول : " إن زيدا سوف يقوم الآن" : لأن" سوف" قد أخرجت الفعل إلى المستقبل وقصرته عليه ، وهذا القول الثاني أقرب عندي.

فإن قال قائل : فما معنى قول سيبويه : " حتى كأنك قلت إن زيدا لفاعل فيما تريد من المعنى" فالجواب في ذلك أنا إذا قلنا إن زيدا ليفعل ، صلح أن تريد به الحال وصلح أن تريد به المستقبل ، فإذا أردنا به الحال فكأنما قلنا إن زيدا لفاعل الآن ، وإذا أردنا به المستقبل ، فكأنا قلنا إن زيدا لفاعل بعد ، فجاز أن يقع (فاعل) مكان (يفعل) وإن كنت في أحدهما تحتاج إلى زيادة لفظ للبيان فاعرف ذلك إن شاء الله.

قال سيبويه : " وأما الفتح والضم والكسر والوقف ، فللأسماء غير المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس باسم مما جاء لمعنى ليس غير".

إن سأل سائل فقال : أخبرونا عن النصب والرفع والجر والجزم ، هل يقال لها فتح وضم وكسر ووقف؟

فالجواب في ذلك أن يقال : نعم.

__________________

(١) سورة النمل ، آية ١٢٤.

٤٨

فإن قال : فلم خصّ سيبويه تسمية الفتح والضم والكسر والوقف للأسماء غير المتمكنة ، وقد زعمتم أن المعرب يقال له ذلك؟

فالجواب في ذلك : أن سيبويه وسائر النحويين فصلوا بين الضم الذي بعامل والضم الذي بغير عامل في التسمية والتلقيب ، إنما أرادوا تقريب معرفته على المخاطب ليتناول علم ذلك من قرب ، ولا فرق بين المعرب والمبني في النطق ، ولكنهم جعلوا الفتح المطلق لقبا للمبني على الفتح ، والضم المطلق لقبا للمبني على الضم ، وكذلك الكسر والوقف ، وجعلوا النصب لقبا للمفتوح بعامل ، وكذلك المرفوع والمجرور والمجزوم ، لا يقال لشيء من ذلك مضموم مطلقا ، وإنما يخبر عنه بتقييد لئلا يدخل في حيز المبنيات المسميات بهذه الأسماء المطلقة ، والدليل على أن كل ذلك يجمعه اسم الفتح والضم والكسر والوقف ، أن سامعا لو سمع لفظين مفتوحين أحدهما بعامل والآخر بغير عامل لم يفصل بينهما بنفس السمع واستويا عنده في النطق ، حتى يرجع فيعرف ما أوجب ذلك له من عامل أو غير ذلك.

وقوله : " فللأسماء غير المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس باسم مما جاء لمعنى ليس غير". قوله : " فللأسماء غير المتمكنة" ، فهي للأسماء المبنية عندهم ، يعني المشابهة عندهم الحروف التي جاءت لمعنى ليس غير.

فإن قال قائل كيف تعرب" غير" في هذا الموضع؟

فإن أبا العباس كان يقول : " غير" مبني على الضم ، مثل قبل وبعد ، كذلك إذا قلنا لا غير ، وكذلك القول في سائر الحروف التي جرت مجرى هذا إذا حذف منها المضاف إليه وكان معرفة مثل : قدام ، وخلف ، وتحت ، وأمام ، ووراء ، وفوق ، قال الشاعر :

ينجيه من مثل حمام الأغلال

وقع يد عجلى ورجل شملال

قبّا من تحت وريّا من عال (١)

وقال آخر :

... ولم يكن لقاؤك إلا من وراء وراء (٢)

__________________

(١) اللسان ١٤ / ١٥ ، ١٩ / ٣٦ نسبه لدكين بن رجاء السعدي.

(٢) قائله عتي بن مالك العقيلي. شرح ابن يعيش ٤ / ٨٧.

٤٩

وهو كثير.

فإن قال قائل : فما معنى قوله : ليس غير ، وما موضع غير؟ فإن الجواب في ذلك أن ليس دخلت هاهنا للاستثناء ، كقولك : " جاءني القوم ليس زيدا" تريد : ليس بعضهم زيدا ، واسم ليس مضمر في النية ، وموضع غير منصوب بخبر ليس ، كما كان زيد منصوبا في قولك : أتاني القوم ليس زيدا ، كأنك قلت ليس شيء غير ذلك ، فحذف منه المضاف وبني على الضم ، والعرب تفعل ذلك فيما عرف معناه ، يقولون : " أتاني زيد ليس إلا" ، " وأتاني القوم ليس إلا" أي ليس إلا هذا الذي ذكرت.

وتقدير قوله : " المضارعة عندهم ما ليس باسم مما جاء لمعنى ليس غير" ، كأنه قال : المشابهة للحروف التي جاءت لمعنى ليس غير ذلك المعنى ، أي ليس ما جاءت فيه غير ذلك المعنى ، فجعل الاسم في النية وحذف المضاف إليه وغيّر بناؤه.

وأما الزجاج فإنه كان يقول إذا قلت : " ليس غير" أو" لا غير" فأدرجته ، نونته ، ويكون التقدير : مما جاء لمعنى ليس فيه غير ، وهو يريد : غير ذلك المعنى ، وكذلك لا غير ، يريد لا فيه غير لذلك المعنى ، ويحذف الخبر ، وحجته في ذلك أنه بمنزلة أي وكل وبعض أنهن منونات ، وإن حذف ما أضفن إليه : كقولك : أي قام ، وكقولك : تخلّف بعض وجاءني بعض ، ونحو ذلك. وفي القولين جميعا نظر ، والله الموفق.

قال : " والأفعال التي لم تجر مجرى المضارعة".

الأفعال التي لم تجر مجرى المضارعة هي الأفعال الماضية المبنيّة على الفتح وأفعال الأمر المبنية على الوقف ، فأما أفعال الأمر فقد مرت ، وأما الأفعال الماضية فسنراها إن شاء الله.

قال : " وللحروف التي ليست بأسماء ولا أفعال ولم تجئ إلا لمعنى" ، يعني : الفتح والضم والكسر والوقف للأسماء المبنية وللأفعال غير المضارعة وللحروف.

وقوله : " فالفتح في الأسماء نحو قولهم حين وأين وكيف".

قال أبو سعيد : اعلم أن الأسماء المبنية كلها لا يخرج بناؤها من أن يكون لمشابهة الحروف ومضارعتها ، أو للتعلق بها وملابستها ، أو لوقوع المبني موقع فعل مبني ، أو لخروجه عما عليه نظائره وخلافه لباب أشكاله ، وأنا مبين جميع المبنيات بما يحضر لي من شرحها وإبانتها بعللها ، وبالله التوفيق.

٥٠

فنبدأ من ذلك ما ذكره سيبويه في هذا الباب ونشفعه بسائر المبنيات ، فأول ذلك" حيث" اعلم أن حيث فيها أربع لغات ، يقال حيث وحيث ، وحوث ، وحوث ، وهي مبنية في جميع وجوهها والذي أوجب بناءها علتان :

إحداهما أنها تقع على الجهات الست ، وهي : خلف ، وقدام ، ويمنة ، ويسرة ، وفوق ، وأسفل ، وتقع على كل مكان. وكل واحد من هذه الجهات تقع مضافة إلى ما بعدها ، وأبهمت" حيث" فوقعت عليها كلها ولم يخص مكانها دون مكان ، فشبهوها لإبهامها في الأمكنة" بإذ" المبهمة في الزمان الماضي كله ، فلما كانت" إذ" مضافة إلى جملة موضحة لها ، أوضحت" حيث" بالجملة التي أوضح بها" إذ" من ابتداء وخبر وفعل وفاعل ، فلما استحقت الإضافة ومنعتها ، صارت بمنزلة قبل وبعد ، إذ حذف المضافتان إليه وبنيت كما بنيتا.

والعلة الثانية : أنه ليس شيء من غير الأزمنة ، وما في معناها يضاف إلى الجمل إلا" حيث" ، فلما خالفت أخواتها" حيث" بأنها قد أضيفت إلى الجملة بنيت لمخالفتها أخواتها ودخولها في غير بابها ، أعني في مشابهة إذ من الإضافة إلى الجمل ، واستحقت أن تبنى على السكون ؛ لأن المبني على حركة من الأسماء هو ما كانت له حالة في التمكن ، مثل : قبل ، وبعد ، وأول ، ومن حل ، ويا زيد ، وكان حكم آخره أن يكسر لالتقاء الساكنين.

وسنبين لما وجب الكسر في التقاء الساكنين دون غيره إذا انتهينا إلى موضعه إن شاء الله ـ فلم يكسر وفتح استثقالا للكسرة مع الباء. فإن قال قائل : فقد قالوا : جير وويب ووهيت فكسروهن ، فإن الجواب في ذلك أن الحرف على مقدار كثرة استعماله تختار خفته وتؤثر سهولته ، فلما كثر استعمال حيث مع العلة التي ذكرنا من اجتماع الكسر والياء آثروا الفتحة لذلك ، فأما من ضم" حيث" فإنما ضمها لما كانت مستحقة للإضافة ومنعتها كما فعل بقبل وبعد ، ونحن نبين علة الضم في قبل وبعد إذا انتهينا إليه إلا أن الضم في حيث لالتقاء الساكنين ، وفي قبل وبعد للبناء في أول أمره.

وقد حكى الكسائي عن بعض العرب أنهم يكسرون" حيث" فيقولون (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)(١) فيضيفونها إلى جملة ويكسرونها مع ذلك ، والأمر في هذه اللغة عندي أنهم

__________________

(١) سورة الأعراف ، آية ١٦. سورة القلم ، آية ٤٤.

٥١

شبهوها بأسماء الزمان إذا أضيفت إلى غير متمكن ، فيجوز بناؤها وإعرابها ، كقوله عزوجل : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ)(١) ويومئذ كما قال النابغة :

على حين عاتبت المشيب على الصّبا

وقلت ألمّا تصح والشيب وازع (٢)

ويروى : على حين ، فمن قال : على حين ، جره بعلى ، ومن قال : على حين بناه ؛ لأنه أضافه إلى غير متمكن.

وفي كسرة" حيث" وجه آخر يجوز عندي ، أن يكون الذين كسروها فعلوا ذلك لالتقاء الساكنين ، لا للعامل على ما يجب في التقاء الساكنين من الكسر ، فاعرف ذلك إن شاء الله.

ومن العرب من يضيف حيث فيجرّ ما بعدها ، أنشد ابن الإعرابي بيتا آخره :

حيث ليّ العمائم (٣)

فهذا بناه وأضافه كما قال : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)(٤).

فإن قال قائل : إنما ضم" حيث" لأنها يشتمل معناها على شيئين ، كما ضم" نحن" حين دلت على التثنية والجمع ، وكما ضمت الضاد من" ضرب" حين اشتملت على الفاعل والمفعول.

فالجواب في ذلك أن ما ذكره كله خطأ لا يثبت في حجاج ، ولا يستمر على نظر ؛ لأنه لو كان على ما زعم لوجب أن تضم" إذ" لاحتياجها إلى شيئين بعدها واشتمالها عليهما كقولك : قام زيد إذ قام عمرو ، ووجب أن لا يضم : قبل ، وبعد إذ بنيا. لاشتمالهما على شيء واحد. يدل على فساد هذا القول أيضا أنا متى أضفنا شيئا من أسماء الزمان إلى فعل وفاعل فبنيناه لم يجز ضمه ، وإن كان قد اشتمل على شيئين ، ولو تقصينا الوجوه التي تفسد هذا القول لطال الكتاب ، بينما الغرض غيره.

وأما" أين" فإنه اسم من أسماء المكان ، وهو يستوعب الأمكنة كلها ، متضمنة لمعنى الاستفهام ، والحكمة في ذلك أن سائلا لو سأل عن مكان فقال : " أفي الدار زيد؟ أو في

__________________

(١) سورة هود ، آية ٦٦.

(٢) قائله : النابغة الذبياني ، ديوانه : ١٨ ، الخزانة ٣ / ١٥١.

(٣) الخزانة ٣ / ١٥٤.

(٤) سورة النمل ، آية ٦.

٥٢

السوق ، أو في المسجد". ولم يكن في واحد منها ، قال المسؤول" لا" ويكون مجيبا ، ويكون صادقا في ذلك ، وليس عليه أن يجيب عن مكانه وإن كان عالما به لأنه لم يسأل إلا عن كونه في هذه الأمكنة فقط ، ولو ذهب السائل فعدد الأمكنة مكانا مكانا في الاستفهام قصّر عن استيعابها وطال عليه بلوغ غايتها ، فأتى بلفظة تشتمل على الأمكنة كلها وتقتضي الجواب عن كل واحد منها ، وتتضمن معنى الاستفهام ، وهي" أين" ووجب أن تبنى على السكون لوقوعها موقع حروف الاستفهام ، إلا أنه التقى في آخره ساكنان ، الأول منهما ياء فآثروا الفتح من أجل الياء التي قبلها ولأنها كثيرة الدّور في كلامهم ، ولم يحملوه على قياس ما يجب في التقاء الساكنين من الكسر استثقالا للياء والكسرة بعدها ؛ لأن الكسرة كبعض الياء ألا ترى أنك إذا أشبعت الضمة صارت واوا ، وإذا أشبعت الكسرة صارت ياء ، وإذا أشبعت الفتحة صارت ألفا.

وقد اختلف الناس في الحركات والحروف المأخوذة منها الحركات ؛ فقالت طائفة إن الحروف مركبة من الحركات ، كأنهم جعلوا الواو مركبة من ضمة مشبعة وكذلك أختاها ، وقالت طائفة : إن الحركات مأخوذة من الحروف ، قالوا : والدليل على ذلك أنا رأينا هذه الحروف الثلاث لها مخارج كمخارج سائر الحروف ، فعلمنا أنها غير مركبة من شيء سواها ، والحركات مأخوذة منها ، ويدل على أن الحركات مأخوذة منها أنا إذا أردنا تحريك حرف بإحدى الحركات الثلاث ، أملنا ذلك الحرف إلى مخرج الحرف المأخوذة منه تلك الحركة.

فإن قال قائل : ولم زعمتم أن التقاء الساكنين يوجب كسر أحدهما ، دون أن يوجب ضمه أو فتحه؟ قيل له : في ذلك علتان :

إحداهما : أنا رأينا الكسرة لا تكون إعرابا إلا باقتران التنوين بها ، أو ما يقوم مقامه ، وقد تكون الضمة والفتحة إعرابين فيما لا ينصرف بغير تنوين يصحبهما. ولا شيء يصحبهما يقوم مقام التنوين ، وإذا اضطررنا إلى تحريك الحرف حركناه بحركة لا يوهم إنها إعراب وهي الكسرة.

والعلة الثانية : أنا رأينا الجر مختصا بالأسماء ، ولا يكون في غيرها ، ورأينا الجزم الذي هو سكون مختصا به الأفعال دون غيرها. فقد صار كل واحد منهما في لزوم بابه والاختصاص به مثل صاحبه ، فإذا اضطررنا إلى تحريك الساكن منهما حركناه

٥٣

بحركة نظيره.

ووجه آخر وهو أن المجزوم الساكن قد تلقاه ساكن بعده ، فلو حركناه بالضم أو بالفتح لتوهّم أنه فعل مرفوع أو منصوب.

فإن قال قائل : قد رأينا الساكنين إذا اجتمعا حرك الأول منهما أو حذف إن كان مما يحذف ، ورأينا التغيير يلحق الأول منهما فألا ألحقتم التغيير الياء من أين دون غيرها؟

قيل له : لعمري كان حكم اجتماع الساكنين أن يلحق التغيير الأول ، إذا لم تكن علة مانعة ، نحو قولك : قامت المرأة ولم يذهب الرجل ، وقد يلحق الثاني التغيير إذا لم يمكن في الأول ، كقولك : رجلان ، وغلامان ، ومسلمون ، وصالحون ، وما أشبه ذلك.

والذي منع الأول في" أين" من التحريك هو أنا لو كسرنا الياء كانت الكسرة فيها مستثقلة ، ولو فتحناها فقلنا" أين" وجب أن نقلبها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها على حكم التصريف ، كقولنا : باع وجاد ، ولو قلبناها ألفا وجب تحريك النون أو حذف الأول ، فكان يلزم فيه تغيير بعد تغيير ، فتجنبوا ذلك.

فإن قال القائل : فلم وجب في التقاء الساكنين تغيير الأول دون الثاني؟ قيل له : من قبل أن سكون الأول يمنع من التوصل إلى الثاني ، وبتحريكه يتوصل إلى النطق بالثاني ، فصار بمنزلة ألفات الوصل التي تدخل متحركات ليتوصل بها إلى ما بعدها من الساكن.

فإن قال قائل : فقد رأينا في كلامهم ، نحو : جير ، وحيص بيص في بعض اللغات ، وحروف قد جاءت مكسورة على مثال أين وفيه من استثقال الكسر بعد الياء مثل ما ذكر تموه في أين ، فكيف ساغ لكم الاحتجاج في فتح أين وأخواتها بما ذكرتموه ، وقد جاء ما ينقض ذلك من هذه الأسماء الذي ذكرناها؟

قيل له : إنما كسرت هذه الأسماء على أصل ما يجب لالتقاء الساكنين ، وقلّت في كلامهم فلم يحفلوا بكسرها لقلتها وقلة معالجتهم لها ، وأين وأخواتها كثيرات الدور في الكلام ؛ لأنها يستفهم بها عن الأشياء العامة ، فاختير لها أخف الحركات لما فيها من الياء ، وثقل الكسر معها على ما وصفنا ، فاعرف ذلك إن شاء الله.

وأما" كيف" فإنه يستفهم بها عن الأحوال ، ووقعت موقع ألف الاستفهام ، كأنك إذا قلت كيف زيد فقد قلت : أصحيح زيد أم سقيم؟ أم غير ذلك من أحواله؟ إلا أنك لو نطقت بأحواله واحدة واحدة طال عليك أن تأتي على آخرها ، ولم تكن مستوعبا للغرض

٥٤

المقصود ، ألا ترى أنك لو قلت : أأسود زيد؟ أم أبيض؟ أم أشقر؟ جاز أن يكون على لون خلاف هذه الثلاثة ، فلا يجب على المسؤول إجابتك عنه ولا شرحه لك ؛ لأنك لم تأت بلفظ يقتضي جوابه ، فجاءوا بكيف مشتملة على الأحوال كلها جملة وتفصيلا ، ووقعت موقع الحال متضمنة ألف الاستفهام فوجب بناؤها على السكون والتقى في آخرها ساكنان : الياء والفاء ، فحركوا الفاء إلى الفتح استثقالا للياء والكسرة ، وقد بيّنا هذا مستقصى في أين.

فإن قال قائل : أليس إذا قلنا : أين زيد؟ وجب على المسؤول أن يخبر عن مكانه الذي هو فيه لا يجزم شيئا مما اشتملت عليه المسألة إذا أراد أن يوفيها حقها.

قيل له : نعم ، فإن قال : فينبغي إذا قيل : كيف زيد ، أن يجيبه عن أحواله التي هو عليها في وقت المسألة ، لأن له أحوالا كثيرة ، قيل له قد ـ لعمري ـ يجب ذلك في ظاهر المسألة كما وجب في" أين" ، وكما يجب في" متى" ، إلا أن الشيء لا يكون له إلا مكان واحد في حال المسألة ، وكذلك لا يكون له إلا وقت واحد في حال المسألة ، فالجواب منه يمكن غير متعدد ولا مستثقل ، ويكون له أحوال كثيرة لا يأتي المحصي على تعدادها في حالة واحدة إلا بعد طول ومشقة ، ألا ترى أنه في وقت واحد : أسود طويل صحيح متكلم سميع بصير ؛ وغير ذلك من الأحوال ، ولا يكون في حال واحد في السوق وفي المسجد ، ولا يحدث الشيء الواحد في زمانين مختلفين حدوثا واحدا ، فيجب أن يكون الجواب لكيف ما يقّر المسؤول أنه غرض السائل من أحوال المسؤول عنه.

فإن قال قائل : ألستم تقولون : من أين جئت؟ وإلى أين تذهب؟ وكذلك : منذ متى؟ وإلى متى؟ فتدخلون حروف الجر على الأسماء المستفهم بها ، فلم امتنع دخول ذلك على كيف ؛ فتقولون : من كيف ، وإلى كيف ، فالجواب في ذلك ـ وبالله التوفيق ـ أن" أين" لما كانت استفهاما عن الأمكنة ونائبة عن اللفظ بها ، وكنا متى ذكرنا الأمكنة جاز أن يدخل عليها الحروف فنقول : أمن السوق جئت أم من البيت؟ وإلى السوق تذهب أم إلى المسجد؟ جاز أن تدخلها على ما قام مقام هذه الأشياء التي يجوز دخول الجر عليها ، وكذلك سائر الأشياء المستفهم بها ، هي نائبة عن أسماء تدخل عليها حروف الجر فجاز أن تدخل الحروف عليها هي.

وأمّا" كيف" فإنما هي مسألة عن الأحوال ، والأحوال لا يجوز دخول حروف الجر

٥٥

عليها في الاستفهام ، لا تقول : أمن صحيح أم من سقيم؟ وكذلك سائر الأحوال ، فلم تدخل على كيف ، كما لما لم تدخل على ما ناب عنه كيف.

فإن قال قائل : ولم لم يدخل على ما ناب عنه كيف ، كما دخل على ما ناب عنه أين وأخواتها؟

فإن الجواب في ذلك أن كيف هو الاسم الذي بعده ، وأين هو غير الاسم الذي بعده ، وإنما هو مكانه وفي تقدير الظروف له ، ومعنى ذكرنا اسمين وأحدهما هو الآخر. فإن الكلام غير محتاج إلى حرف ، كقولك : زيد أبوك وزيد قائم ، وإذا كان أحدهما غير الآخر فلا بد من حرف ظاهر أو مقدر ، كقولك : زيد في الدار ، وعمرو من بني تميم ، وخالد خلفك ، والتقدير : في خلفك ، والقتال يوم الجمعة ، والتقدير : في يوم الجمعة.

قال قائل : لم يكون الجواب عن الأسماء التي يستفهم بها معرفة ونكرة؟ كقولك : أين زيد؟ فيقول المسؤول عنه : مكانا طيبا ، وتقول في حال : خلفك فيكون معرفة مرة ونكرة أخرى ، ولا يكون الجواب في كيف إلا نكرة.

فالجواب في ذلك أن" كيف" على ما بينا هو الاسم الذي بعده ، فلو جعلناه معرفة لكان السائل إذا قال : كيف زيد ، فقال : المسؤول : القائم أو الصحيح ، كان قد أجابه عن إنسان بعينه لا عن حال ، وإنما هو جواب من إذا قلت : " من زيد" فيقول : القائم أو القاعد ، ونحو ذلك. فلما كان التعريف يخرجه إلى الجواب عن الذوات ، بطل أن يجاب عن" كيف" بمعرفة ، وأما" أين" فإنما يجيب عن مكانه ، وقد يكون مكانه معرفة ونكرة كما بينا. وفي كيف لغة أخرى ، يقال : كيف ، وكي في معنى كيف ، قال الشاعر :

أو راعيان لبعران لنا شردت

كي لا يحسّان من بعراننا أثرا (١)

أراد كيف لا يحسان ، فمنهم من يقول : أنه حذف للشعر ، ومنهم من يقول : إنها لغة.

فإن قال قائل : لم جاز أن يجازي بالأسماء التي يستفهم بها ، ولا يجوز المجازاة بكيف؟ ففي ذلك جوابان : أحدهما أن الأسماء التي يجازي بها ويستفهم بها لا شيء منها إلا ويجوز أن يكون معرفة ونكرة ، ويكون جوابه معرفة ونكرة ، والمجازاة به على تقدير

__________________

(١) غير منسوب ، الخزانة ٣ / ١٩٥ ، شرح ابن يعيش ٤ / ١١٠.

٥٦

حرف الجزاء فيه ، وذلك أنك إذا قلت : أين زيد آته ، فكأنك قلت : أين زيد إن أعرف مكانه آته ، ففي أيّ مكان كان وجب عليك إتيانه بعد معرفته ، وكذلك إذا قلت : أين تكن أكن ، كأنك قلت : إن تكن في السوق أكن فيها ، أو تكن في مكان غيرها أكن فيه ، فلمّا كانت مشتملة على الأسماء التي تقع بعد حرف المجازاة جاز أن يجازي بها ، إذا كانت مساوية لها. وأما كيف فلا يقع إلا على نكرة ، ولا يكون جوابها إلا نكرة ، فخالفت حروف الجزاء فيما يقع عليه فلم يجاز بها لقصورها عن بلوغ معاني حروف الجزاء ، فهذه علة أبي العباس.

والجواب الثاني : أنك إذا قلت : " أين يكن زيد أكن" ، فقد شرطت على نفسك أنك تساويه في مكانه ، وتحل في محله ، وهذا معنى ممكن غير متعذر وقوع الشرط عليه ، وإذا قلت : " كيف تكن أكن" ، فقد ضمنت أن تكون عن أحواله وصفاته كلها ، وهذا متعذر وقوعه ، وبعيد اتفاق شيئين من جميع جهاتهما في جميع أوصافهما.

قال سيبويه : " والكسر فيها نحو ألاء وحذار وبداد".

قال أبو سعيد : يعني الكسر في الأسماء المبنية ، فأما ألاء : ففيه ثلاث لغات أشهرها ألاء ممدود مكسور على مثال غراب ، وألى مقصور على وزن هدى وقد زادوا فيه هؤلاء.

فإن قال قائل : لم وجب الكسر في ألاء؟ قيل له : في ذلك وجهان : أحدهما أنه إشارة إلى ما بحضرتك مادام حاضرا فإذا زال لم يسمّ بذلك ، والأسماء موضوعة للزوم مسمياتها ، ولما كان لهذا غير لازم لما وضع له صار بمنزلة المضمر الذي يعتقب الذكر إذا جرى ولا يؤتى به قبل ذلك ، فهو اسم المسمى في حال دون حال ، فلما وجب بناء المضمر وجب بناء المبهم لذلك.

فإن قال قائل : فأنت إذا قلت متحرك وساكن وآكل وشارب ، فإنما يقع هذا الاسم عليه في حال أكله وشربه وحركته وسكونه ، فإذا زال عن ذلك لم يسم به ، فكذلك المشار إليه يسمى بأسماء الإشارة ما دام حاضرا فإذا زال لم يسم بها ، فلم بال أسماء الإشارة وفيها ما في المتحرك والساكن من زوال التسمية عنه إذا زال عن الفعل؟ قيل له : الفصل بينهما أن المتحرك والساكن اسمهما لازم لهما في كل أحد حاضر وغائب ، والمشار إليه لا يجوز أن يقول له" هذا" إلا من كان حاضرا ، ومن غاب عنه لم تسمه بذا ، فعلمنا أن هذا الاسم غير لازم له فصار بمنزلة الضمير الذي يضمره من ذكر الاسم إذا ذكر عنده ولا

٥٧

يسميه به غيره.

ووجه ثان : أن الإشارة مبهمة واقعة على كل شيء من حيوان وجماد وإنسان فوجب أن سكن آخر" أولاء" ، فالتقى فيه ساكنان ، فكسر الثاني منهما لامتناع كسر الأول. فإن قال قائل : ولم وجب بناء هذه الأسماء لمشاكلة الضمير؟

قيل له : إنما وجب بناؤها وبناء الضمير معها لمشاكلتها لحروف المعاني ؛ لأنه لا شيء إلا وحروف المعاني داخلة عليه غير ممتنعة في شيء دون شيء ، فلما كان الضمير والإشارة داخلين على الأشياء كلها لدخول الحروف عليها ، وجب بناؤها.

فإن قال قائل : فأنت قد تقول : " شيء" فيكون واقعا على الأشياء كلها ؛ فهذا وجب بناؤه لوقوعها على الأشياء كلها.

قيل له : الجواب عن ذلك أن شيئا هو اسم المسمى لازم له في أحواله كلها ، والكناية والإشارة والحروف هي أعراض تعرض في الأشياء كلها ، وليس شيء منها إلا يزول فافترق المعنيان وتباين الحكمان ، وصار" شيء" للزومه ما سمى به وإن كان عاما كلزوم رجل وفرس وسائر الأشياء المنكورة لما سمي بهن وتصرف في وجوه الإعراب كتصرف الأشياء المنكورة ، وأما من قصر فإنه بناء لمثل العلة التي ذكرنا إلا أنه لم يلتق في آخره ساكنان.

وأما من قال : " هؤلاء" ، فإنه كان الأصل : هاؤلاء ، فها للتنبيه ، وأولاء للإشارة ، وكثر في كلامهم حتى صار ككلمة واحدة ، فخففوه ، وقالوا هؤلاء ، قال الشاعر :

تجلّد لا يقل هؤلاء هذا

بكى لما بكى ألما وغيظا (١)

ويقال في واحد" أولاء" ، للمذكر : ذا ، وللمؤنث : تا ، وتي ، وذي ، وذه. والكلام في بنائهن كالكلام في بناء أولاء.

فإن قال قائل : أخبرونا عن هذه الوجوه التي في المؤنث ، هل هي أصول كلها؟ أم بعضها أصول وبعضها فروع؟

فالجواب في ذلك أن : تا ، وتي ، وذي هي أصول ، و" ذه" هاؤها مبدلة من الياء ، وهو الشائع من قول أصحابنا ، واستدلوا على ذلك بأن قالوا : رأينا التأنيث قد يكون بالياء في

__________________

(١) غير منسوب. الخزانة ٣ / ٤٧ ، شرح ابن يعيش ٣ / ١٣٦.

٥٨

حال ، في قولك : اضربي ، ولم نر الهاء تكون للتأنيث ، فإذا جاءت اللغتان في شيء الهاء والياء فيه ، وقد رأينا الياء للتأنيث في أصل ، ولم أر الهاء للتأنيث في شيء جعلنا الياء هي الأصل في التأنيث.

فإن قال قائل : فقد رأيناهم جعلوا الهاء للتأنيث في قولهم : قائمة ، وشجرة ، إذا وقفوا عليها. قيل له : ليست هذه هاء في أصلها وحقيقتها ، وإنما تأنيث الاسم بالتاء ، وإنما يوقف عليها بالهاء ليفرق بين تأنيث الاسم وتأنيث الفعل ، وأيضا فإن هذه الهاء تنقلب تاء في الدرج ، والكلام إنما هو في حقيقته على ما يدرج عليه الكلام ، ألا ترى أنا نقلب من التنوين ألفا في النصب ، وحقيقته تنوين على ما يدرج عليه الكلام.

ويدل على ذلك أيضا أن من العرب قوما وهم من طيئ يقفون على التاء في مثل هذا ، فيقولون : شجرت ، وحجفت ، يريدون : شجرة ، وحجفة ، فإذا ثنيت شيئا من هذا أدخلت حرف التثنية ، وهو ساكن ، فاجتمع ساكنان وليس الألف مما تحرك بحال لإبهامها فسقطت ، فتقول : ذا ، وذان ، وتا ، وتان ، وذي ، وتان ، وذه ، وتان يجتمعن في التثنية على تا وسقط الحرف الأول لاجتماع الساكنين ولأنه مبهم لا يحرك بحال.

فإن قال قائل : فأنتم تقولون : رحا ورحيان ، وقفا وقفوان فتقلبون الألف واوا أو ياء في التثنية لاجتماع الساكنين وتحركونها ، فهلا فعلتم ذلك في تثنية ذا وتا؟

قيل له : إنما فعل هذا برحا وقفا ؛ لأن الألف منهما في موضع حركة ، والدليل على ذلك أن مثلهما في الصحيح متحرك كقولهم حمل وجبل وأشباه ذلك.

فإن قال قائل : فأنتم تقولون : حبلى وحبليان وحباري وحباريان ، وألف التأنيث لا حركة لها في أصلها فهلا فعلتم في ذلك في تين وذين؟

فالجواب في ذلك أنا رأينا ألف التأنيث في حكم الحركة ، ولو كانت متحملة للتحريك لكانت محركة ولم تكن مسكنة كما تسكن المبهمات ، والدليل على ذلك أن حمراء وصفراء وخنفساء متحركات الهمزة ، وهمزتهن مبدلة من ألفات التأنيث ، فلما كان الهمز محتملا للحركة حركته بما كان يستحق الألف من الحركة وليس ذلك في ذين وتين.

فإن قال قائل : فأنتم إذا صغرتم : ذا ، وتا ، قلتم : ذيا ، وتيا ، فقلبتم هذه الألف ياء وحركتموها ، فهلا فعلتم ذلك في التثنية؟

فإن الجواب في ذلك أن باب التصغير لا يشبه شيئا مما ذكرناه ، وذلك أنا إذا

٥٩

صغرنا اسما على أقل من ثلاثة أحرف رد التصغير الحرف الذاهب ، فلما صغرنا" ذا" لم يكن بد من تتمة ثلاثة أحرف وتحريكهن ، ولم تكن هذه الألف بأضعف من حرف ليس في الاسم يرده التصغير ويوجب تحريكه ، فكأنما جعلناه بمنزلة حرف معدوم فرده التصغير وحركه ، ولا توجب التثنية ذلك ، ألا تراهم قالوا : يد ، ويدان ، وقالوا : يديّة ، وقالوا : دم ، ودمان ، ودمي.

فإن قال قائل : لم أجمعوا في تثنية المؤنث على إحدى اللغات الثلاث ، فقالوا : تان. فالجواب في ذلك أنهم لو قالوا تان وذان في تثنية ذي التبس المذكر بالمؤنث في لغة الذين يقولون ذي ، فاستعملوا في التثنية لغة الذين يقولون : تا ، لزوال اللبس وإيضاح المقصود بالتثنية.

فإن قال قائل : فلم استوى المذكر والمؤنث في قولك : أولاء عند الإشارة؟

فالجواب في ذلك أن أولاء وقع على جمع أو جماعة ، فكأنه قال : أشير إلى هذه الجماعة ، أو إلى هذا الجمع ، فلما كانت في مذهب الجمع والجماعة ، وكان الجمع والجماعة يقع على الرجال والنساء والحيوان والجماد والمذكر والمؤنث والأجسام والأعراض وقع على ذلك كله أولاء وهؤلاء ، فاستوى المذكر والمؤنث ، قال جرير :

دم المنازل بعد منزلة اللوى

والعيش بعد أولئك الأيام (١)

وقال بعض الأعراب :

ياما أميلح غزلانا شدن لنا

من هؤليائكن الضال والسمر (٢)

فجاء بأولاء للأيام وللضال والسمر ، ومما يشبه هذا المعنى أن جمع المذكر والمؤنث إذا كان مكسرا فهو مؤنث ولا يختلف باختلاف واحده ؛ لأنه ذهب بهما مذهب الجماعة ، فكذلك ذهب بالإشارة مذهب الجماعة والجمع ، فاعرف ذلك إن شاء الله.

فإن قال قائل : فلم دخلت النون في تثنية : ذا ، فإن في ذلك جوابين ، أحدهما : أن النون عوض مما حذف لالتقاء الساكنين وهو الألف التي كانت في ذا ، وكذلك المبهمات

__________________

(١) قائله : جرير ، ديوانه ٥٥١ ، الخزانة ٢ / ٤٦٧.

(٢) اختلفوا في نسبته. شرح ابن يعيش ١ / ٧٣ ، الخزانة ١ / ٤٧.

٦٠