شرح كتاب سيبويه - ج ١

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-5251-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

تر فتضرب زيدا ، كما لا يجوز أن تقول : " أخاك إن تأتني أكرم" على معنى : " إن تأتني فأكرم أخاك" ؛ لأن الفعل الذي بعد الفاء لا ينوى به التقديم على حرف الشرط ، وإذا كان النية في الفعل التقديم جاز أن تنصب به الاسم الذي قبل حرف الشرط ، وهو الذي قاله سيبويه : (" أزيدا إن رأيت تضرب") لأن التقدير فيه : أتضرب زيدا إن رأيت وأحسنه أن تقول : " أزيدا إن رأيته تضرب" ؛ لأن التقدير فيه : " أتضرب زيدا إن رأيت" فيشتغل الفعل بضمير الأول ؛ لأنك لم تعمله في شيء ، وهو فعل متعد وقد ذكر مفعوله. وعلى قياس قول أبي العباس : لا يجوز نصب" زيد" ب" تضرب" ؛ لأن النية فيه الفاء ، ولا يجوز عمل ما بعدها فيما قبلها.

قال سيبويه : (فصارت حروف الجزاء في هذا بمنزلة قولك : " زيد كم مرة رأيته").

يعني : أن حروف الجزاء في هذا بمنزلة : " زيد كم مرة رأيته" ، يعني : إذا جعلت ما بعدها شرطا وجوابا له رفعت الأسماء التي قبلها ولم يكن لما بعدها سبيل على ما قبلها ، كما لم يكن لما بعد حروف الاستفهام سبيل على ما قبله ، ولا يكون تفسيرا له.

قال : (فإذا قلت : " إن زيدا تضرب" ، فليس إلا هذا).

يعني : ينصب" زيدا" ب" ترى" وصار بمنزلة قولك : " حين ترى زيدا يأتيك".

لأن" زيدا" وقع بعد الفعل فعمل فيه الفعل ، ولم يقع قبل" أن" و" حين" ، فيمتنع عمل ما بعدهما فيه.

قال : (وصار" زيد" في موضع المضمر حين قلت : " زيد حين تضربه يكون كذا وكذا").

يعني : أن الهاء في" تضربه" ، في موضع نصب ، فإذا جعلت" زيدا" مكانها ولم تذكره في أول الكلام نصبته.

قال سيبويه : (ولو جاز أن تحمل" زيدا" مبتدأ على هذا الفعل لقلت : " القتال زيدا حين تأتي" ، تريد : القتال حين تأتي زيدا).

يعني : أنه لو جاز أن يبتدأ بلفظ" زيد" ، فتحمله على الفعل الذي بعد" أن" ، لجاز

٤٨١

أن يبتدأ بلفظه فتحمله على الفعل الذي بعد" حين" فتقول : " القتال زيدا حين تأتي" ، أو" زيدا حين تأتي القتال". تريد : " حين تأتي زيدا القتال" وقد بيّنا فساد هذا ، و" إن" و" حين" مشتركان في ألا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما.

قال : (وتقول في الجزاء وغيره : " إن زيدا تره تضرب" تنصب" زيدا" ؛ لأن الفعل أن يلي" إن" أولى كما كان ذلك في حروف الاستفهام ، وهي أبعد من الرفع ؛ لأنه لا يبنى الاسم فيها على مبتدأ).

يعني : أنك إذا قلت : " إن زيدا تره" ، نبت" زيدا" بإضمار فعل ؛ لأنك شغلت الفعل الذي بعده بضميره فتقدر : إن تر زيدا تره ، والاختيار نصبه بإضمار الفعل ، كما كان الاختيار في الاستفهام ، بل النصب أوجب في" إن" وذلك أن" إن" وحروف الجزاء لا بد فيها من الأفعال ؛ لأن الشرط لا يكون إلا فعلا ، ولا يصلح أن يليها مبتدأ أو خبر من غير الفعل ، فتقول : " إن زيد قائم أقم". وقد يجوز في الاستفهام أن تقول : " أزيد قائم"؟ ، فقد علمت أن حرف الجزاء أحق بالفعل ، وإضماره فيه ونصب الاسم به أوجب.

قال سيبويه : (وإنما أجازوا تقديم الاسم في" إن" ؛ لأنها أم حروف الجزاء ولا تزال عنه ، فصار ذلك فيها كما صار في ألف الاستفهام ما لم يجز في الحروف الأخر).

قال أبو سعيد : اعلم أن الحروف التي تشترك في معنى واحد قد يكون بعضها أقوى من بعض في ذلك المعنى ، وأكثر تصرفا ، وأشد ثباتا. فمن ذلك ألف الاستفهام يشاركها في الاستفهام" هل" ، و" أين" ، و" كيف" و" من" ، وما أشبه ذلك ، غير أن الألف أقواها كلها في باب الاستفهام ؛ لأنها تدخل في مواضع الاستفهام (كلها) وغيرها له موضع خاص.

ف" من" : سؤال عمّن يعقل.

و" كيف" : سؤال عن الحال.

و" أين" : سؤال عن المكان.

و" هل" : لا يسأل بها في جميع المواضع.

ألا ترى أنك لو قلت : " أزيد عندك أم عمرو" على معنى : " أيهما عندك" ، لم يجز في ذلك المعنى أن تقول : " هل زيد عندك أم عمرو". وإذا قلت : " رأيت زيدا" ، فقال لك قائل مستثبتا : " أزيد منه؟ " و" أزيدا" ، على حكاية كلامك ، لم يجز مكانها" هل"

٤٨٢

فلما كانت الألف هكذا حسن فيها من التقديم والتأخير ما لم يحسن في غيرها ، فحسن أن تقول : " أزيدا ضربته" ، و" أزيدا ضربت" ، ولا يحسن (في متى ، وهل) أن تقول : " هل زيدا ضربت" و" متى زيدا ضربت". وإنما تقول : " هل ضربت زيدا" ، و" متى ضربت زيدا".

و" إن" في باب الجزاء بمنزلة الألف في باب الاستفهام ، وذلك أنها تدخل في مواضع الجزاء كلها ، وسائر حروف الجزاء ، نحو : " من" ، و" ما" ، و" متى" لها مواضع مخصوصة ، فلذلك حسن أن يليها الاسم في اللفظ ، ويقدر له عامل.

وكذلك إن كان مرفوعا كقولك : " إن زيد أتاني أتيته". قال الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ)(١) على معنى : وإن استجارك أحد من المشركين استجارك.

لم أنشد (قول النمر بن تولب :

لا تجزعي إن منفسا أهلكته

وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي) (٢)

نصب" منفسا" بعد" إن" على إضمار : أهلكت منفسا أهلكته.

ويجوز : " إن منفس أهلكته" على معنى : إن هلك منفس أهلكته ، فلا بد من تقدير فعل كيفما تصرفت به الحال.

قال : (وإن اضطر شاعر فأجرى" إذا" مجرى" إن" فجازى بها فقال : " أزيد إذا تر تضرب" ، إن جعل" تضرب" جوابا. وإن رفع" تضرب" نصبه ؛ لأنه لم يجعلها جوابا).

قال أبو سعيد : واعلم أن" إذا" عند سيبويه وأصحابه لا يجازي بها لفظا فتجزم شرطها وجوابها كما يفعل ذلك بحروف الجزاء ، كما قال الشاعر : أي لذي الرمة :

تصغي إذا شدّها بالرّحل جامحة

حتّى إذا ما استوى في غرزها تثب

فرفع" تثب" ، ومع هذا ففيها معنى الجزاء.

__________________

(١) سورة التوبة ، آية : ٦.

(٢) الخزانة ١ / ١٥٢ ، ٤٥٠ ، ٣ / ٦٤٢ ، ٤ / ٤١٠ الكامل للمبرد ٣ / ١٦٧.

٤٨٣

فإذا اضطر شاعر جاز أن يجريها مجرى حروف الجزاء كما قال (الشاعر) :

ترفع لي خندف والله يرفع لي

نارا إذا ما خبت نيرانهم تقد (١)

فإذا اضطر شاعر ، فقال : " أزيد إذا تر تضرب" ، امتنع النصب في" زيد" ؛ لأنه لا يجوز أن يقدر" يضرب" قبل" إذا" ، وقد جزمناها بالجواب ، كما فعلنا ذلك في" إن". وإن رفعنا" تضرب" ونوينا به التقديم نصبنا" زيدا" وصار تقديره : " أتضرب زيدا إذا تر" ، كما فعلنا ذلك في" إن".

وفيه وجه آخر ، وهو أن ترفع فتنوي الفاء التي تكون جوابا ، فإذا قدّرت ذلك بطل النصب في" زيد" ؛ لأنه لا يكون في نية التقديم حينئذ ، وقد ذكرنا ذلك في" إن".

قال : (وترفع الجواب حين يذهب الجزم من الأول في اللفظ والاسم مبتدأ هنا إذا جزمت ، نحو قولك : " أيهم يأتك تضرب" ، إذا جزمت ؛ لأنك جئت ب" تضرب" مجزوما ، بعد أن عمل الابتداء في" أيهم ولا سبيل له عليه ، وكذلك هذا حيث جئت به مجزوما ، بعد أن عمل فيه الابتداء ، وأما الفعل الأول فصار مع ما قبله بمنزلة" حين" وسائر الظروف).

يعني : أنك إذا قلت : " إذا ترى" ، فرفعت فعل الشرط في" إذا" رفعت الجواب ؛ لأن" إذا" إنما يشبهها الشاعر" بإن" ، فإذا رفع شرطها لم يجز أن يجزم الجواب ؛ لأنه قد أخرجها برفع الشرط من شبه" إن" ، فوجب أن يرفع الجواب.

وقوله : (الاسم مبتدأ هنا إذا جزمت).

يعني : إذا جزمت جواب إذا كان الاسم الذي قبل" إذا" مرفوعا بالابتداء ، كقولهم : " أيهم يأتك تضرب" ، لما جزمت" تضرب" بالجواب لم يكن له تسلط على نصب أيهم ، ولو لم يكن مجزوما قلت : " أيهم تضرب" كما قلت : " أزيدا إذا تر تضرب".

وقوله : (لأنك جئت ب" تضرب" مجزوما بعد أن عمل الابتداء في" أيهم" ولا سبيل له عليه).

يعني لا سبيل للمجزوم على الاسم الذي قبل" إذا" كما لم يكن للمجزوم الذي في

__________________

(١) البيت للفرزدق في ديوانه ٢١٦ ، الأعلم ١ / ٤٣٤.

٤٨٤

جواب" أيهم" سبيل عليه.

وقوله : (وأما الفعل الأول فصار مع ما قبله بمنزلة" حين" وسائر الظروف).

يعني : أن فعل الشرط الذي بعد" إذا" ، وهو" تر" ، رفعته أو جزمته لا يعمل فيما قبل" إذا" ؛ لأنه و" إذا" كشيء واحد بمنزلة الحين ولا يصلح تقديمه ، فلم يصلح على كل حال أن يعمل فيما قبل" إذا".

قال : (وإن قلت : " زيد إذا يأتيني أضرب" ، تريد : معنى الهاء ولا تريد : " زيدا أضرب إذا يأتيني" ، ولكنك تضع" أضرب" هنا مثل" أضرب" إذا جزمت ، وإن لم يكن مجزوما).

يعني : أنك تجعل" أضرب" ، جوابا ل" يأتيني" على أحد الوجهين :

إما أن يكون على نية الفاء ، وإما أن يكون على طريق جواب" إن" المجزوم وإن لم يكن هذا مجزوما ؛ وذلك أنّ وضع الكلام وترتيبه لا يختلف من طريق الشرط والجواب وإنما يختلف في جزم" إن" ما بعدها وامتناع" إذا" من ذلك ووضع الكلام وترتيبه على حال واحدة ، ومعنى المجازاة قائم في" إذا" غير أنه يقبح إذا لم يرجع إلى زيد ، وهو مبتدأ وخبره ضمير ، ولم تنو ب" أضرب" التقديم فتنصب به" زيدا".

قال : (وكذلك" حين" ، إذا قلت : " أزيد حين يأتيك تضرب").

يعني : إذا جعلت" تضرب" جوابا ؛ لأن قولك : " حين يأتيك" ، فيه معنى المجازاة ، وهو بمنزلة" إذا" ، وفي" تضرب" الوجهان الأولان ، وفيه القبح الذي ذكرناه من جهة حذف العائد إلى" زيد".

قال : (وإنما رفعت الأول في هذا كله حين جعلت" تضرب" و" اضرب" جوابا ، فصار كأنه من صلته إذ كان من تمامه).

يعني : صار الجواب في" إذا" ، و" حين" كأنهما من صلة" إذا" ، و" حين" فلم يعمل فيما قبلهما.

قال : (ولم يرجع إلى الأول. وإنما تردّه إلى الأول إذا لم يكن جوابا فيمن قال : " إن تأتني آتيك" وهو قبيح ، وإنما يجوز في الشعر وإذا قلت : " أزيد إن يأتك تضربه"

٤٨٥

فليس تكون الهاء إلا" لزيد" ، ويكون الفعل الآخر جوابا للأول ، ويدلل على أنها لا تكون إلا" لزيد" ، أنك لو قلت : " أزيد إن تأتك أمة الله تضربها" لم يجز ، لأنك ابتدأت" زيدا" ولا بد من خبره ، ولا يكون ما بعده خبرا له حتى يكون فيه ضميره).

أما قوله : (وإنما ترده إلى الأول فيمن قال : " إن تأتني آتيك").

على التقدير ، كأنه قال : " آتيك إن تأتني". يعني : إنما تقول : " زيدا إذا يأتيني أضرب" تنصب" زيدا" ب" أضرب" ، إذا نويت ب" أضرب" التقديم ، كما أن من يقول : " إن تأتني آتيك" على التقديم ، كأنه قال : آتيك إن تأتني وهو قبيح في غير" إن" ، وإنما يجيء في الشعر. وقبحه : أن الجواب موقعه بعد الشرط. فإذا وجد في موضعه لم يحسن أن ينوي به غير موضعه. وللكلام في هذا موضع آخر.

وأما قوله : " أزيد إن يأتك تضربه" ، أن الهاء لا تكون فيه إلا لزيد وقد ردّ ذلك عليه وذلك لأنا نقول : " أزيد إن يأتك تضرب عمرا" فيقع موقع الهاء الأجنبي وإنما أنكر عليه ذلك من أنكر من قبل أن" زيدا" قد عاد إليه الضمير الذي في" يأتك" ، فإذا عاد الضمير إليه من الجملة في شيء واحد ، صح الكلام ففي ذلك ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الذي قاله سيبويه : " أزيد إن يأتك تضربه" ، ولا تكون الهاء في هذا إلا" لزيد" ؛ لأنا إن جعلناها لغير" زيد" لم يعد إلى" زيد" شيء من جملة الكلام.

والوجه الثاني : أن سيبويه أراد : أن" زيدا" ، إن أخلى ضميره من جملة الكلام ، بطل رفعه وعبّر بالهاء عنها وعن الضمير المرفوع الذي في" يأتك" لأنهما شيء واحد.

والوجه الثالث : وهو ما قاله أبو إسحق الزجاج : إن هذا ليس من كلام سيبويه.

قال : (وإذا قلت : " زيدا لم أضرب" ، و" زيدا لن أضرب" ، لم يكن فيه إلا النصب ؛ لأنك لم توقع بعد" لم" ، و" لن" شيئا يجوز لك أن تقدمه قبلهما ، فيكون على غير حاله بعدهما كما كان ذلك في الجزاء ، و" لن أضرب" نفي لقوله : " سأضرب" ، كما أن" لا تضرب" نفي لقوله : " أضرب" و" لم أضرب" ، نفي لقوله : " ضربت").

قال أبو سعيد : اعلم أن" لن" ، و" لم" يعمل ما بعدهما فيما قبلهما وذلك أن" لن" نقيض" سوف" ، و" سوف" يعمل ما بعدها فيما قبلها ، كقولك : " زيدا سوف أضرب" لأن

٤٨٦

" سوف" والفعل كشيء واحد. و" لم" مثل" لن" ؛ لأنها وما بعدها من الفعل كشيء واحد نقيض الفعل الماضي ، والفعل الماضي يجوز أن يتقدم مفعوله ونقيض الشيء يقع موقعه وعلى حسب لفظه.

فإن قال قائل : فلم لا يجوز : " زيدا ما ضربت" ، كما جاز : " زيدا لم أضرب"؟ قيل له : ليس طريق" ما" طريق" لم" ؛ لأن" لم" تدخل على الأفعال فقط ، وهي والفعل بمنزلة شيء واحد ، كما كانت" سوف" مع الفعل كشيء واحد.

و" ما" تدخل على الجمل وهي نقيضه" إن" ، يقال : " إن زيدا قائم" فتقول : " ما زيد قائم" ، ألا ترى أن" ما" تكون جوابا للقسم في النفي ، كما تكون" إن" جوابا في الإيجاب ، فلما صارت بمنزلة" إن" لم يعمل ما بعدها فيما قبلها.

قال : (وتقول : " كل رجل يأتيك فاضرب" نصب لأن" يأتيك" صفة ها هنا ، فكأنك قلت : " كل رجل صالح أضرب").

نصب" كلا" بالفعل الذي بعد الفاء ؛ لأن الفاء في الأمر يعمل ما بعدها فيما قبلها ، كقولك : " زيدا فاضرب" ، و" بزيد فأمرر". وله علة نذكرها في موضعها إن شاء الله و" يأتيك" صفة لرجل.

(وإذا قلت : " أيهم جاءك فاضرب" ، رفعته : لأنه جعل" جاءك" في موضع الخبر ، وذلك لأن قولك : " فاضرب" في موضع الجواب و" أي" من حروف المجازاة ، و" كل رجل" ليست من حروف المجازاة).

يعني : أن ما بعد الفاء في قولك : " أيهم جاءك فاضرب" ، لا يعمل في" أيهم" ؛ لأنه في موضع الجواب ، والجواب لا يعمل في الاسم الأول. والدليل على أنه جواب أنك لا تقول : " أيهم جاءك اضرب" إلا بتقدير الفاء على قبح ولو قلت : " كل رجل جاءك اضرب" ، لكان حسنا على تقدير : " اضرب كل رجل جاءك". ولو جعلت" أي" بمعنى" الذي" جاز أن تنصب ، فتقول : " أيهم جاءك فاضرب" ، كما تقول : " الرجل الذي جاءك فاضرب". على ما بيّنا في الأمر إذا قلت : " زيدا فاضرب" ، إذ ما بعد الفاء يعمل ما بعدها في الأمر ، ومثله : " زيد إن أتاك فاضرب" إن جعلت الفاء جوابا رفعت" زيدا" لا غير ، وإن لم تجعله جوابا ، فقدرت : " زيدا فاضرب إن أتاك" نصبت. وكذلك : " أيهم يأتيك تضرب"

٤٨٧

إذا كانت بمنزلة" الذي" ، كأنك قلت : " تضرب أيّهم يأتيك".

قال : (وتقول : " زيدا إذا أتاك فاضرب". فإن وضعته في موضع : " زيد إن يأتك تضرب" رفعت ، فارفع إذا كانت" تضرب" جوابا ليأتك).

يعني : أنك إذا قدرت الفاء قبل" إذا" نصبت ، كأنك قلت : " زيدا فاضرب إذا أتاك" ، وإن قدرتها جوابا لم يصلح إلا رفع" زيد" ، ولكن ينبغي أن يؤتى بضميره ؛ ليعود إليه.

فيقال : " زيد إذا أتاك فاضربه" ، ويكون بمنزلة : " زيد إن يأتك تضرب" في أنه لا يكون إلا مرفوعا ، وكذلك : " زيد حين يأتيك فاضرب" إذا جعلت" فاضرب" جوابا رفعته ، وجعلت فيه الهاء ، وترك الهاء قبيح والأحسن النصب على نية التقديم ، وإنما كان النصب أحسن لضعف ترك الهاء العائدة إلى الابتداء ، كما لا يحسن أن تقول : " زيد ضربت".

ثم قال بعقب هذا الكلام : (والنصب" في زيد" أحسن إذا كانت الهاء يضعف تركها ويقبح ، كما أن الفعل يقبح إذا لم تكن معه الهاء ، أو غيرها من المضمر المفعول أو المظهر فاعمله في الأول).

يعني : أنك إذا رفعت" زيدا" ، ولم يعد إليه من الجملة التي بعده ضمير كان قبيحا ، كما أنك إذا رفعت الاسم ، ثم جئت بفعل ، فلا يحسن أن يتعرى ذلك الفعل من ضميره ، أو من ظاهره فضميره" أنت ضربتك" ، و" زيد ضربته".

وظاهره : " زيد ضربت زيدا" ، كما قال :

(لا أرى الموت يسبق الموت شيء)

أي يسبقه ، وهو قبيح أن تقول : " زيد ضربت" وكذلك يقبح أن تقول : " زيدا إذا أتاك فاضرب".

وفي الكتاب بعد هذا الفصل (وليس هذا بالقياس).

يعني : إذا لم تجزم بها.

لأنها تكون بمنزلة" حين".

٤٨٨

يعني : أن القياس إذا لم تجزم" بإذا" فتجعلها بمنزلة" إن" ، فحكم الفعل أن يعمل فيما قبل" إذا" ، إذا حسن تقديمه نحو قولك : " زيدا إذا أتاك فاضرب" ، و" زيدا إذا يأتيك فأكرم" ، و" زيدا إذا يأتيك اضرب" ؛ لأنه يحسن أن تقول : " زيدا فاضرب إذا يأتيك" ، و" زيدا اضرب إذا يأتيك" ولا شيء يمنع هذا الفعل من التقديم ونصب الاسم به ، فالقياس أن ينصب به في الكلام.

قال : (و" إذا" ، و" حين" لا تكون واحدة منهما خبرا لزيد ، ألا ترى أنك لا تقول : " زيد حين يأتيني" ؛ لأن" حين" لا تكون ظرفا" لزيد").

يعني : أنك إذا قلت : " زيدا حين يأتيني أضرب" ، أو" زيدا إذ يأتيني أضرب" ، فكأنك قلت : " زيدا أضرب" ، فالأجود أن تنصب" زيدا" ؛ لأن" حين" ، و" إذا" كاللغو ، إذا كانا غير خبرين ، ولا يستغنى بهما" زيد" ، ولو جاز أن يكونا خبرين لحسن الرفع في" زيد" ، كقولك : " زيد في الدار اضرب" ، فرفع" زيد" في هذا الموضع أحسن ؛ لأنه قد تم الكلام بالظرف وهو غير محتاج إلى الفعل ، فيكون" أضرب" على كلام آخر ، ولم تكن" بزيد" حاجة إليه.

قال : (وتقول : " الحرّ حين تأتيني" ، فيكون ظرفا لما كان فيه من معنى الفعل).

ولا تقول : " زيد حين يأتيني" وذلك أن" الحر" مصدر ، والمصادر كلها يجوز أن تكون ظروف الزمان أخبارا لها ، كقولك : " القتال يوم الجمعة" ، و" أكلنا عشيا" و" رحيلنا في غد". ولا يجوز أن تكون ظروفا للجثث ، لا تقول : " زيد يوم الجمعة" و" لا أنت غدا" ، والفرق بينهما أن المصادر أشياء حادثة والأزمنة أيضا حوادث لا تبقى فإذا قلنا : " القتال يوم الجمعة" فإنما جعلنا" يوم الجمعة" وقتا لحدوثه ، وإذا قلنا : " زيد يوم الجمعة" ، فلسنا نعني أنه يحدث في" يوم الجمعة" ، ولا أن" يوم الجمعة" وقت له دون سائر الموجودات ، كما أن قولك : " زيد خلفك" اختصاص مكان" زيد" دون سائر من ليس خلفك.

قال : (فإن قلت : " زيدا يوم الجمعة أضرب" لم يكن فيه إلا النصب ؛ لأنه ليس ها هنا معنى جزاء ، ولا يجوز الرفع إلا على قوله :

... كله لم أصنع).

٤٨٩

يعني أن" يوم الجمعة" لغو ، كأنك قلت : " زيدا أضرب" إلا أن تحذف الهاء على الوجه القبيح الذي ذكرناه في" زيد ضربت" و" كله لم أصنع" قال : ولا يجوز أن يكون" أضرب" جوابا" ليوم الجمعة" ؛ إذ ليس فيه معنى جزاء.

والدليل على أنه ليس فيه معنى جزاء (أنك لو قلت : " زيد يوم الجمعة فأنا أضربه" ، لم يجز ، فهذا يدلك أنه يكون على غير قولك : " زيدا فاضرب حين يأتيك").

تحصيل هذا الكلام أنك إذا قلت : " زيدا إذا أتاك فأضرب" ، كان الاختيار النصب ، وجاز فيه الرفع من وجهين :

أحدهما : أن تجعل" اضرب" جوابا ، فيستحيل النصب في" زيد".

والثاني : ألا تجعله جوابا وتضمر الهاء على قول من قال : " زيد ضربت" وإذا قلت : " زيدا يوم الجمعة أضرب" ، فالنصب الوجه ، ويجوز الرفع من وجه واحد ، وهو على قول من قال : " زيد ضربت" إذا كان لا يجوز فيه الجواب.

وقوله : (فهذا يدلك على أنه يكون على غير قولك : " زيدا فأضرب حين يأتيك").

يعني : أنه لما جاز أن تقول : " زيد حين يأتيك فأنا أضربه" ، و" زيد إذا يأتيك فأنا أضربه" فتجعل الفاء جوابا ، ولا يجوز" زيد يوم الجمعة فأنا أضربه" على جعل الفاء جوابا. فدلك ذلك على أن قولك : " زيد حين يأتيك فاضرب" ، قد يكون على غير قولك : " زيدا فأضرب حين يأتيك".

وفي آخر هذا الباب قول لست أدري لمن ، وهو : وهذا عندنا غير جائز إلا أن يكون الأول مجزوما في اللفظ.

يعني : أنك لا ترفع" زيدا" ، إذا قلت : " زيدا إذا يأتيني أضرب" ، إذا كان قولك : " إذا" يأتيني" بمنزلة" يوم الجمعة" حين لم تجزم الفعل ، فإذا جزمت الفعل فقلت : " زيد إذا يأتيني أضرب" رفعت" زيدا" إذا أحللت" إذا" محل" إن" ، وسيبويه يحلها محل" إن" ، وإن كان ما بعدها مرفوعا ؛ لأن فيها معنى الجزاء بالدلالة التي ذكرنا.

٤٩٠

هذا باب الأمر والنهي

" الأمر والنهي يختار فيهما النصب ، في الاسم الذي يبنى عليه الفعل ، ويبنى على الفعل".

قال أبو سعيد : اعلم أن الأمر والنهي هما بالفعل فقط ؛ لأنك إنما تأمر بإيقاع فعل ، وتنهى عن إيقاع فعل ، وربما أمرت باسم هو في المعنى واقع موقع الفعل كقولك : " عندك زيدا" و" دونك زيدا" في معنى : خذ زيدا ، وكقولك : " حذار زيدا" في معنى : احذر زيدا.

فإذا كان الأمر على هذا ، ثم أتيت باسم ، قد بني الفعل بعده على ضميره نصبته ، لإضمار فعل ، على نحو ما ذكرنا في الاستفهام ، فقلت : " زيدا اضربه" ، على تقدير : اضرب زيدا اضربه ، و" زيدا لا تشتمه" على تقدير : لا تشتم زيدا لا تشتمه.

وكان النصب في الأمر والنهي أولى وأقوى من الاستفهام ؛ من قبل أن الأمر والنهي لا يكون إلا بفعل على ما ذكرنا ، وقد يكون الاستفهام بغير فعل ، كقولك : " أزيد أخوك" ، و" أعبد الله عندك".

ومن ذلك أيضا : " أمّا زيدا فاقتله" و" أمّا عمرا فاشتر له ثوبا" ، و" أمّا خالدا فلا تشتم أباه" ، و" أمّا بكرا فلا تمرر به" ، وذلك أن ما بعد" أمّا" كالكلام المستأنف ، فنصبته على ما ذكرنا من النصب في الأمر ، ولم تقدّر الفعل بعد" أمّا" ؛ لأنها لا يليها الفعل ، ولكن تقدّر الفعل بعد الاسم بلا ضمير ، وتعدّيه إلى الاسم وتحذفه ، ثم تأتي بالفعل الواقع على الضمير ، فتفسر به الفعل المحذوف ، فيكون تقديره : " أمّا زيدا فاقتل قاتله" وأمّا بكرا فلا تلق فلا تمرر به ، وأما خالدا فلا تهن فلا تشتم أباه ، ولا بد من الفاء بعد" أمّا".

ومنه : " زيدا ليضربه عمرو" ، و" بشرا ليقتل أباه خالد" ؛ لأنه أمر للغائب فهو كالمخاطب في باب الأمر ، وقد يجوز فيه الرفع ، وذلك قولك : " عبد الله اضربه" و" أمّا زيد فاقتله" ، وذلك أن الأمر فعل ومعه فاعله ، فهو جملة ، فجئت بالاسم مبتدأ ، وجعلت الجملة في موضع خبره ، وأدخلت الفاء بعد" أمّا" ، ولم تدخلها إذا بدأت بالاسم ؛ لأنك جعلت الأمر في موضع الخبر ، فإذا قلت : " زيدا اضربه" كان كقولك : " زيد منطلق" ولو قلت :

٤٩١

" زيد فاضربه" صار بمنزلة قولك : " زيد فمنطلق" ، وهذا لا يجوز ، كما لا يجوز" فمنطلق" ويجوز" أمّا زيد فاضربه" كما يجوز" أمّا زيد فمنطلق".

وإذا لم تجعل في الفعل ضميرا من الاسم ، وقدمت الاسم وأخّرت الفعل ، كنت في إدخال الفاء بالخيار ، إن شئت أدخلتها وهي بمنزلتها في جواب" أمّا" ، وإن شئت أخرجتها وذلك قولك" زيدا اضرب" ، و" زيدا فاضرب" ، فإذا قلت : " زيدا اضرب" فتقديره : اضرب زيدا ، وإذا أدخلت الفاء ؛ فلأن حكم الأمر أن يكون الفعل فيه مقدّما ، فلما قدمت الاسم أضمرت فعلا ، وجعلت الفاء جوابا له ، وأعملت ما بعد الفاء في الاسم ؛ لأنك قدمت الاسم عوضا من الفعل المحذوف ، الذي ينبغي أن يكون مصدّرا به في الأمر. وتقدير الكلام : تأهب فاضرب زيدا ، أو تعمد فاضرب زيدا ، وما أشبه ذلك ، فلما حذفت" تأهب" قدمت" زيدا" ليكون عوضا من المحذوف ، وأعملت فيه ما بعد الفاء ، كما أعملت ما بعد الفاء في جواب" أمّا" فيما قبلها ، وقدمت الاسم على الفاء في جواب" أمّا" عوضا من الفعل المحذوف الذي قامت أمّا مقامه ، وهو قولك : " مهما يكن من شيء فقد ضربت زيدا" فإذا نقلته إلى" أمّا" قلت : " أما زيدا فقد ضربت".

والدليل على ما ذكرنا من عمل ما بعد الفاء فيما قبلها في الأمر ، قولك : " بزيد فامرر" ، فلو لا أنّ ما بعد الفاء عمل فيما قبلها ، ما دخلت الباء على زيد ؛ لأن الباء في صلة المرور ، ولا يصلح أن تضمر مرورا آخر ؛ لأن ما كان من الفعل متعديا بحرف جر لا يضمر ، ولا تشبه الفاء في هذا الفاء في قولك : " عبد الله فاضرب" ؛ لأن قولك : " عبد الله" مبتدأ ، ولا يصلح أن تكون الفاء في خبره.

فإذا قلت : " زيدا فاضربه" فهو على تقديرين : أحدهما اضرب زيدا فاضربه ، وعليك زيدا فاضربه ؛ لأنك قد تقول : " زيدا" ، في معنى : عليك زيدا ، أو تعمد زيدا.

قال : (وقد يحسن ويستقيم أن تقول : " عبد الله فاضربه" إذا كان مبنيا على مبتدأ مظهر أو مضمر ، فأما في المظهر فقولك : " هذا زيد فاضربه" ، وإن شئت لم تظهر هذا ، وعمل كعمله إذا أظهرته كقولك : " الهلال والله فانظر إليه" تريد هذا الهلال والله).

يعني أنك إذا جئت بمبتدأ وخبر ، جاز إدخال الفاء بعدهما ؛ لأن المبتدأ والخبر جملة.

٤٩٢

والفاء تدخل لجواب الجملة ؛ لأنها قد أفادت معنى ، كقولك : " زيد قائم فقم إليه" ، وإن شئت أدخلت الفاء ؛ لعطف جملة على جملة ،

وقال الشاعر :

وقائلة : خولان فانكح فتاتهم

وأكرومة الحيين خلو كما هيا (١)

أراد هذه خولان ؛ فلذلك أدخل الفاء ، ومعنى قوله : " وأكرومة الحيين خلو كما هيا" من قول القائلة ، أرادت أن هذه الفتاة التي أشارت عليه بتزويجها ، هي خلو كما كانت لم تتزوج ، وإنما قال : حيين ؛ لأن" خولان" قد اشتملت على حيين ، وعلى أحياء ، ويجوز نصب" خولان" كما في أول الباب.

قال : (وتقول" هذا الرجل فاضربه" ، إذا جعلته وصفا).

يعني إذا جعلت" الرجل" وصفا لهذا ، وكذلك" هذا زيدا فاضربه" إذا جعلت" زيدا" بدلا من" هذا" أو عطف بيان ، وهو كالنعت ، وإنما نصبته لأن الوصف والموصوف ، والبدل والمبدل منه ، كاسم واحد ، ولو جعلته خبرا لقلت : " هذا زيد فاضربه" فجعلت الفاء جوابا للجملة ، أو عطف جملة على جملة كما ذكرنا.

قال : (وتقول : " اللذين يأتيانك فاضربهما" تنصبه كما تنصب زيدا ، وإن شئت رفعته على أن يكون مبنيا على مظهر أو مضمر ، وإن شئت كان مبتدأ ؛ لأنه يستقيم أن تجعل خبره من غير الأفعال بالفاء ، ألا ترى أنك لو قلت : " الذي يأتيني فله درهم" ، " والذي يأتيني فمكرم محمول" كان حسنا ، ولو قلت : " زيد فله درهم" لم يجز).

قال أبو سعيد : قد تقدم من قول سيبويه أنه لا يجوز أن تقول : " زيد فاضربه" ، كما لا يجوز أن تقول : " زيد فمنطلق"" وزيد فله درهم" والذي أبطل هذا أنّ دخول الفاء لا معنى له هاهنا ، فإذا كان اسم موصول لفعل ما ، ولم يقصد به إلى شخص بعينه ، كان الفعل مستقبلا أو في معنى الاستقبال ، وإن كان لفظه ماضيا جاز أن تدخل الفاء في خبره ، وتذهب بالاسم الأول مع صلته مذهب المجازاة ، وذلك قولك : " الذي يأتيني فله درهم" إذا لم يكن قاصدا إلى واحد بعينه ، وكان استحقاقه للدرهم بسبب إتيانه ،

__________________

(١) الخزانة ١ / ٢١٨ ، ٣ / ٣٩٥ الدرر اللوامع ١ / ٧٩ ، شواهد المغني ١٥٩.

٤٩٣

فيصير هذا بمنزلة قولك : " من يأتيني فله درهم" ؛ لأن الدرهم يستحق بالإتيان ، فإن قصدت" بالذي" وصلته إلى اسم بعينه ، لم يجز دخول الفاء في خبره ، وجرى مجرى" زيد" ، فقلت : " الذي يأتيني له درهم" ، كأنك أردت : زيد الذي يأتيني له درهم ، إذا قدرت أنه يأتيك ، أو وعدك بذلك ولا يستحق الدرهم من أجل إتيانه فيجري مجرى" زيد" إذا قلت : " زيد له درهم".

ومما يجري مجرى الذي" كل رجل يأتيني فله درهم" ؛ لأنك إنما توجب الدرهم بسبب إتيانه ، فتضمر معنى المجازاة ، فدخلت الفاء من أجلها.

فنقول الآن : إن قوله : " اللذين يأتيانك فاضربهما" يجوز فيه الرفع والنصب ، فإن جعلت" اللذين" بمنزلة" زيد" ، ولم تضمر مبتدأ ولا خبرا ، كان الاختيار النصب ، ولم تكن الفاء داخلة لجواب المجازاة ، ولكنها دخلت كما دخلت في الأمر حين قلنا : " زيدا فاضرب" فيكون التقدير : اضرب اللذين يأتيانك فاضربهما ، كما تقول : " زيدا فاضربه".

ويجوز الرفع من وجهين :

أحدهما : أن تضمر مبتدأ وخبرا ، وتجعل الفاء جوابا للجملة ، كأنك قدرت : هذان اللذان يأتيانك ، واللذان يأتيانك صاحباك فاضربهما.

والوجه الثاني : ألا تقصد إلى اثنين بأعيانهما ، وتجعل الضرب مستحقّا بالإتيان ، فكل اثنين أتياه وجب ضربهما. كما قال تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما)(١) فوجب الأذى على كل اثنين يأتيان الفاحشة ، وعنى بالاثنين الذكر والأنثى ، ولم يكن الحكم جاريا على اثنين بأعيانهما دون غيرهما ، ويكون قوله" فاضربهما" خبرا ، ودخلت الفاء للجواب لا للأمر.

ولا يجوز سقوطها على هذا الوجه ، ويجوز سقوطها في النصب ؛ لأنك لم ترد هذا المعنى ، وإن قصدت" باللذين" إلى اثنين بأعيانهما ، لم يجز أن ترفع ، وتدخل الفاء فتقول : " اللذان يأتيانك فاضربهما" وأنت تعني زيدا وعمرا ، كما لم يجز أن تقول : " زيد فاضربه"

__________________

(١) سورة النساء : ١٦.

٤٩٤

إلا بإضمار مبتدأ وخبر على ما بيّنّا.

قال وأما قول عدي بن زيد :

أروّاح مودّع أم بكور

أنت فانظر لأيّ ذاك تصير (١)

ويروى : " لك" فانظر لأيّ حال تصير" ولا شاهد فيه ، وإنما جاء سيبويه بهذا البيت لقوله : " أنت فانظر" ، وهو يشبه : " زيد فاضربه" ، وقد قال : " زيد فاضربه" لا يجوز إلا على إضمار ؛ بسبب دخول الفاء ، وقد دخلت الفاء في قوله : " فانظر" فتأول ذلك على وجوه أراد بها تصحيح دخول الفاء ، وأنها علي غير الوجه الذي أفسد دخولها فيه ، وجملة تأوله ثلاثة أوجه ، وعندي وجه رابع قريب التأويل.

فأما الوجوه التي ذكرها سيبويه ، فأن ترفع" أنت" بفعل مضمر يفسره الفعل المظهر الذي فيه ضميره ، كأنك قلت : انظر أنت فانظر ، كما تقول : " أزيد ضرب عمرا" و" أزيد ضرب غلامه عمرو" ، فرفعت بفعل مضمر ؛ إذ كان الظاهر فيه ضمير مرفوع.

والوجه الثاني : أن تجعل" أنت" مبتدأ ، وتضمر له خبرا ، وتجعل الفاء جوابا للجملة كأنه قال : أنت الراحل ، كما تقول : أنت الهالك ، ثم تحذف فتقول : " أنت" ؛ لدلالة الحال عليه ، كما قال : " إذا ذكر إنسان لشيء قال الناس : أنت ، وقد قال الناس زيد" وهذا في كلام الناس مشهور كثير ، وهو كقولك لمن تخاطب إذا وصفته بالشجاعة : إذا ذكر الناس والشجاعة قال الناس : أنت ، وإذا ذكر النحو قال الناس : الخليل ، أي أنت شجاع ، والخليل نحويّ.

والوجه الثالث : أن تجعل" أنت" خبرا ، كأنك قلت : نويت الراحل أنت ، وجعلت في نيّتك المبتدأ ، وقال سيبويه في هذا الوجه الثالث : " وهذا على قولك : شاهداك ، أي ما يثبت لك شاهداك".

ومعنى هذا أن يتقدم رجلان إلى حاكم أو غيره فيدعي أحدهما على الآخر شيئا فينكره ، فيقول الحاكم : " شاهديك" وإن شاء قال : " شاهداك" فإن قال شاهديك فمعناه أحضر شاهديك ، أو هات شاهديك ، وإن قال : " شاهداك" فمعناه الشيء الذي يثبت

__________________

(١) الخزانة ١ / ١٨٣ ، الدرر ١ / ٧٩ ، الهمع ١ / ١١٠.

٤٩٥

ويصح شاهداك ؛ لأن الدعوى لا تثبت مجرّدة ، وحقيقة هذا الكلام ما يثبت شاهده شاهديك ، لأن معنى قولك : يثبت شاهداك أي تثبت شهادة شاهديك ، ومنه قول الناس : " أثبت فلان في الديوان" ، أي أثبت اسمه ..

قال : (ولا يجوز أن تضمر هذا ؛ لأن المتكلم لا يشير إلى نفسه ، ولا يشار للمخاطب إلى نفسه).

لا تقول : "وهذا أنت" ، ولا "هذا أنا" ، فلذلك لم تضمر هذا أنت فانظر"

وقد قال سيبويه في غير هذا الموضع : (ها أنا ذا وها أنت ذا في معنى هذا أنا ، وهذا أنت" ، فهو يخالف الذي ذكره هاهنا في الظاهر وإذا صرنا إليه فسّرناه هناك إن شاء الله تعالى. وذكر قوله تعالى : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)(١) فخرجه على الوجهين : إضمار المبتدأ ، وإضمار الخبر ، فإضمار الابتداء كأنه قال : أمري طاعة ، وإضمار الخبر قوله : " طاعة وقول معروف أمري").

والوجه الرابع الذي عندي : أن ترفع" أنت" بيكون ؛ لأن المصادر تعمل عمل الأفعال ، فكأنك قلت : أن تروح أنت أم تبكر أنت ، كما قال تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً)(٢) على تقدير أو أن يطعم يتيما ، فكذلك هذا" أم أن تبكر أنت".

وفيه وجه خامس : وهو أن تجعل البكور في معنى باكر ، كما تقول : " زيد إقبال وإدبار" أي مقبل ومدبر.

ويجوز فيه وجه سادس : وهو أن تحذف المضاف ، وتقيم المضاف إليه مقامه ، كأنك قلت : أم صاحب بكور ، حذفت الصاحب كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٣).

وفي البيت : " أرواح مودّع" ، والرواح لا يودّع ، قال الأصمعي : يودّع فيه ، كما قال

__________________

(١) سورة محمد ، آية : ٢١.

(٢) سورة البلد ، آية : ١٤ ـ ١٥.

(٣) سورة يوسف ، آية : ٨٢.

٤٩٦

تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً)(١) أي يبصر فيه ، وتحقيقه من جهة النحو : أرواح ذو توديع ، فبني له من المصدر الذي يقع فيه اسم فاعل ، وإن لم يكن جاريا على الفعل ، كما قالوا : " رجل رامح وناشب" على معنى ذو رمح ونشّاب.

قال أبو الحسن : تقول : " زيدا فاضرب" وبعده كلام قد أتينا عليه.

قال سيبويه : (واعلم أن الدعاء بمنزلة الأمر والنهي ، وإنما قيل دعاء ؛ لأنه استعظم أن يقال أمر ونهي ، وذلك قولك : اللهم زيدا فاغفر ذنبه ، وزيدا فأصلح شأنه ، وعمرا ليجزه الله خيرا. قال أبو الأسود الدؤلي :

أميران كانا آخياني كلاهما

فلا جزاه الله عنّ بما فعل) (٢)

اعلم أن جمهور النحويين لا يسمون مسألة من هو فوقك أمرا وإنما يسمونها مسألة أو دعاء ، وينكرون تسمية ذلك أمرا ، وللأخفش بعينه احتجاج طويل ، ورأيت بعض أهل النظر يسميه أمرا ، ويزعم أن ذلك جائز في الكلام والشعر وأنشدنا فيه بيتا يروى لعمرو بن العاص ، يخاطب فيه معاوية :

أمرتك أمرا جازما فعصيتني

وكان من التوفيق فقدان هاشم (٣)

فزعم عمرو أنه أمر" معاوية" ، ومعاوية فوقه ، قيل له : يجوز أن يكون عمرو رأى نفسه من طريق المشورة ، وحاجة معاوية إليه في رأيه أنه فوقه في هذا الباب ، واحتج أيضا بقول الله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ)(٤) وزعم أن الطاعة إنما تكون للآمر ، وليس أحد في القيامة يسأل غير الله تعالى ، وليس لهم في هذا حجة ؛ لأن نفي الطاعة لا يدل على أن ثمّ آمرا لم يطع ، وإنما المعنى أنهم لا يؤمرون ، وأنه لا أمر فيطاع ، كما قال : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ)(٥) ، وليس ثمّ شفاعة لهم ، وإنما المعنى لا شفاعة لهم فتنفع ، مثله قول أبي ذؤيب :

__________________

(١) سورة يونس ، آية : ٦٧ ، النمل : ٨٦.

(٢) الأغاني ١٢ / ٣١٨.

(٣) رغبة الآمل ٣ / ١١٣.

(٤) سورة غافر ، آية : ١٨.

(٥) سورة المدثر ، آية : ٤٨.

٤٩٧

متفلّق أنساؤها عن قاني

كالقرط صاو غبره لا يرضع (١)

والغبر : بقيّة اللّبن ، أي ليس بها لبن فترضع.

والدعاء وإن كان لا يسمى أمرا على ما ذكرنا فسبيله سبيل الأمر في الإعراب من كل وجه ، وهو أيضا في المعنى مثل الأمر ، وذلك أن الداعي ملتمس من المدعو إيقاع ما يدعوه به ، كما أن الآمر مريد من المأمور إيقاع ما يأمره به.

ويدخل في الأمر : " أما زيدا فجدعا له" ؛ لأنك تريد فجدعه الله ، وإذا كان الدعاء بغير فعل لم ينصب الاسم الأول ، وذلك قولك : " أما زيد فسلام عليه" ، و" أما الكافر فلعنة الله عليه" ؛ لأنه لم يظهر فعل فتجعله تفسيرا لما ينصب.

قال : وأما قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(٢)(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما)(٣).

فهذا عند سيبويه مبني على ما قبله ، كأنه قال : ومما نقص عليكم السارق والسارقة ، والزانية والزاني ، فقد تم الكلام ، ثم قال : فاجلدوا ، فجعل الفاء جوابا للجملة.

قال : ومثله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ)(٤).

فمثل الجنة اسم مرفوع ، وتمامه محذوف ، كأنه قال : ومما نقصّ عليك مثل الجنة ، فقد تم الكلام بهذا.

ثم قال من بعد : (فِيها أَنْهارٌ ،) بعد تمام الجملة الأولى كما قال تعالى : (فَاجْلِدُوا) بعد الجملة الأولى.

قال : " وإنما وضع المثل للحديث الذي بعده".

يعني أنه لما قال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) ـ وقد قلنا : إن التقدير فيه ومما نقصّ عليكم مثل

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ٣٨.

(٢) سورة المائدة ، آية : ٢٨.

(٣) سورة النور ، آية : ٢.

(٤) سورة محمد ، آية : ١٥.

٤٩٨

الجنة ـ توقع السامع الذي وعد بقصصه عليه فقال : (فِيها أَنْهارٌ) وتوقع أيضا حكم الزاني والزانية الذي وعد بقصصه وذكره ، فقال : (فَاجْلِدُوا).

وقال الفراء وأبو العباس المبرد : إن الفاء دخلت للجزاء ، وإنها خبر ، والزانية ترتفع على الابتداء في قول أبي العباس ، و" فاجلدوا" خبره ، وعند الفراء (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) يرتفعان بما عاد من ذكرهما ، ودخلت الفاء ؛ لأن الزانية والزاني ، في معنى التي تزني والذي يزني ، وقد ذكرت هذا في قوله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما)(١).

قال سيبويه مستشهدا على ما قال : لمّا قال الله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها)(٢) قال في الفرائض : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)(٣) ثم جاء" فاجلدوا" فجاء بالفعل بعد أن مضى فيهما الرفع كما قال :

وقائلة : خولان فانكح فتاتهم

وقد مضى الكلام في هذا.

قال : (وقد يجري هذا في زيد وعمرو على هذا الحد إذا كنت تخبر بأشياء أو توصي).

يعني أنك تقول : " زيد فأحسن إليه" إذا أردت : زيد فيمن أوصى به فأحسن إليه ، فيكون بمنزلة (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) وتكون الفاء جوابا للجملة.

قال : (وقد قرأ أناس" والسارق والسارقة" و" الزانية والزاني" وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة)

وهذه القراءة تروى عن عيسى بن عمر ، وهو على : اجلدوا الزانية والزاني ، كما ذكرنا في قولنا" زيدا فاضربه" وهو قوي في العربية ولكن القراءة سنّة منقولة.

قال : (وإنما كان الوجه في الأمر والنهي النصب ؛ لأن حد الكلام تقديم الفعل ، وهو فيه أوجب ؛ إذا كان ذلك يكون في ألف الاستفهام).

__________________

(١) سور النساء ، آية : ١٦.

(٢) سورة النور ، آية : ١.

(٣) سورة النور ، آية : ٢.

٤٩٩

يعني لما كان الاختيار في ألف الاستفهام نصب الاسم على ما شرطنا كان نصبه أولى في الأمر والنهي ؛ لأنهما لا يكونان إلا بفعل ، وقد ذكرنا هذا.

قال : " وقبح تقديم الاسم في سائر الحروف ؛ لأنها حروف تحدث قبل الفعل ، ويصير معنى حديثهن إلى الجزاء ، والجزاء لا يكون إلا خبرا ، وقد يكون فيهن الجزاء في الخبر ، وهي غير واجبة كحروف الجزاء فأجريت مجراها ، فالأمر ليس يحدث له حرف سوى الفعل ، فيضارع حروف الجزاء ، فيقبح حذف الفعل منه ، كما يقبح حذف الفعل بعد حروف الجزاء".

قال : " وإنما قبح حذف الفعل وإضماره بعد حروف الاستفهام لمضارعتها حروف الجزاء ، وإنما قلت : " زيدا اضربه" مشغولة بالهاء والمأمور لا بد له من أمر ؛ لأن الأمر والنهي لا يكونان إلا بالفعل فلا يستغنى عن الإضمار إذا لم يظهر".

وأما قوله : " وقبح تقديم الاسم في سائر الحروف".

يعني سائر حروف الاستفهام سوى الألف ، كقولك : "أين زيدا ضربته" و"أين زيدا ضربت" ؛ لأن الوجه تقديم الفعل حتى يكون هو الذي يليها ، كقولها : "أين ضربت زيدا" وقد ذكرنا هذا فاحتج بأن قال : "إنها حروف تحدث قبل الفعل".

يعني حروف الاستفهام "ويصير معنى حديثهن إلى الجزاء".

يعني أن حروف الاستفهام في المعنى إلى حروف الجزاء ، ومصيرها إلى الجزاء أنها غير واجبة ، كما أن حروف الجزاء غير واجبة وأراد بالجزاء هاهنا حروف شرط الجزاء ؛ لأن قولك : "أين تقوم" غير واجب ، و"هل زيد قائم" ليس بواجب كما أنك تقول : "أين يقوم زيد فأكرمه" فقيام زيد ليس بواجب.

وقوله : "والجزاء لا يكون إلا خبرا".

يعني جواب الشرط إذا قلت : " إن تأتني أكرمك" ؛ لأنه يصح أن يقال : صدق أو كذب.

وقوله : "وقد يكون فيهن الجزاء في الخبر".

يعني يكون في حروف الاستفهام مثل جواب الشرط كقولك : أين زيد أكرمه؟

٥٠٠