شرح كتاب سيبويه - ج ١

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-5251-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

" تنوء بالعصبة" أي تنيئها ، كما تقول : " ذهب بزيد" و" أذهبه" ، وكذلك : " ناء به" و" أناءه".

ومعنى هذا عند الفراء : تثقل العصبة وتميلهم من ثقلها. ويقال في قول القائل : " ساءك وناءك" ومعنا : " أناءك" ، وأتبعه" ساءك" ، كما يقال : " هنأني الطّعام ومرأني" إتباعا. وإذا أفردوه قالوا : أمرأني.

ومن ذلك تأخير المضاف إليه عن موضعه الذي ينبغي أن يكون عليه من مجاورة المضاف بلا فصل ، كقولك : " غلام زيد" و" ضارب بكر". فإذا اضطرّ شاعر جاز أن يفصل بينما بالظروف وحروف الجر ، فتشبهها بإن وأخواتها ، حيث فصل بينها وبين أسمائها بالظروف فقط.

قال الشاعر ذو الرمة :

كأن أصوات من إيغالهنّ بنا

أواخر الميس أصوات الفراريج (١)

أراد : كأن أصوات أواخر الميس من إيغالهن بنا.

وقال أبو حية :

كما خطّ الكتاب بكفّ يوما

يهوديّ يقارب أو يزيل (٢)

أراد : بكف يهودي يوما. وقال آخر :

لما رأت ساتيدما استعبرت

لله درّ اليوم من لامها (٣)

أراد : لله در من لامها اليوم.

وقالت امرأة من العرب :

هما أخوا في الحرب من لا أخا له

إذا خاف يوما نبوة فدعاهما (٤)

ولا يجوز هذا عند البصريين إلا في الظروف. وقد أنشد فيه ما لا يثبته أهل الرواية وهو :

فزججتها بمزجّة

زجّ القلوص أبي مزاده (٥)

__________________

(١) البيت في ديوانه ٧٦ ، وخزانة الأدب ٢ / ١١٩ ، واللسان (نقض) ، وابن يعيش ١ / ١٠٣.

(٢) البيت لأبي حية النميري في سيبويه ١ / ٩١ ، والخزانة ٣ / ٤٧٠.

(٣) البيت لعمرو بن قميئة في سيبويه ١ / ٩١ ، والخزانة ٢ / ٢٤٧ ، وابن يعيش ٣ / ٢٠.

(٤) البيت منسوب لدرنا بنت عبعبة في سيبويه ١ / ٩٢.

(٥) البيت في الخزانة ٢ / ٥١ ، وابن يعيش ٣ / ١٩.

٢٤١

أي زجّ أبي مزادة القلوص ، وليست القلوص بظرف.

وقال آخر :

تمرّ على ما تستمرّ وقد شفت

غلائل عبد القيس منها صدورها (١)

أراد : وقد شفت عبد القيس منها غلائل صدورها ، وهذا قبيح جدّا.

وأما قراءة بعضهم ، وهو ابن عامر : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ)(٢) أراد : قتل شركائهم أولادهم ، وهذا خطأ عند النحويين.

والذي دعاه إلى هذه القراءة أنّ مصحف أهل الشام فيه ياء مثبتة في شركائهم فقدر أن الشركاء هم المضلون لهم الداعون إلى قتل أولادهم ، فأضاف القتل إليهم ، كما يضاف المصدر إلى فاعله ، ونصب الأولاد ؛ لأنهم المفعولون ، ولو أضاف المصدر إلى المفعولين فقال : قتل أولادهم ، للزمه أن يرفع الشركاء فيكون مخالفا للمصحف ، فكان اتباع المصحف آثر عنده.

ووجه الآية أن يخفض" شركائهم" بدلا من الأولاد ويجعل الأولاد هم الشركاء ؛ لأن أولاد الناس شركاء آبائهم في أحوالهم وأملاكهم.

ووجه آخر وهو : أن تكون الياء المثبتة في المصحف مضمومة ، وقد تكون بدلا من الهمزة ، على لغة من يقول : شفاه الله يشفيه شفايا ، وهذه لغة غير مختارة في القرآن.

والقول الأول أجود ، وتقدير هذا : وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ، يرفعهم بزّين ، وهذان الوجهان على تخريج خط مصحف أهل الشام. وقراءة ابن عامر لا وجه لها.

وأما قوله :

كميت يزلّ اللّبد عن حال متنه

كما زلّت الصّفواء بالمتنزّل (٣)

ففيه وجهان ؛ أحدهما : أن يكون من المقلوب ، وتقديره : " كما زلّ المتنزّل بالصّفواء" ، وهي الصّفاة الملساء.

__________________

(١) البيت في الخزانة ٢ / ٢٥٠.

(٢) سورة الأنعام ، آية : ١٣٧.

(٣) البيت لامريء القيس في ديوانه ٢٠.

٢٤٢

والوجه الآخر : أن يكون من قولك : " ذهبت به" في معنى : " أذهبته" فيكون" زلّت به" في معنى : " أزلّته".

وقد كان بعض أصحابنا يذهب إلى أن قولك : " ذهبت بزيد" معناه على غير معنى" أذهبت زيدا" ؛ وذلك أن قولك : " أذهبت زيدا" معناه : أزلته ، ويجوز أن تكون أنت باقيا في مكانك لم تبرح. وإذا قلت : ذهبت بزيد ، فمعناه ذهبت معه ، وهذا يحكي عن أبي العباس المبرد.

وبعض الناس ينكر هذا ، ويقول : معناهما سواء ؛ لأن الله تعالى قد قال : (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ)(١) في معنى أذهب الله سمعهم وأبصارهم ، وهو تعالى غير ذاهب ، ويحتج بالبيت الذي أنشدناه أنّ الصّفواء غير زالّة.

وللمحتج عن أبي العباس أن يقول في الآية : إن الله تعالى وإن لم يكن ذاهبا ، فقد وصف نفسه في مواضع من القرآن بالمجيء والإتيان ، فهو أعلم بحقيقة ذلك ، فقال : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)(٢) وقال : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ)(٣).

وأما قول النابغة :

 كأنّ رحلي وقد زال النّهار بنا

بذي الجليل على مستأنس وحد

فإنما يريد غابت الشّمس ، وذهب النهار ، وهم ما زالوا. والمعنى عندي أن النهار أزالهم من مكان كانوا فيه إلى مكان صاروا إليه ، وزال أيضا معهم بأن غابت شمسه وذهب وقته ، فصار بمعنى قولك : " ذهبت بزيد" ، بمعنى" أذهبته" و" ذهبت معه". وقد كان قوم من أهل اللغة يجعلون" الباء" هاهنا في معنى" على" ، فيقولون : زال النهار بنا في معنى علينا ، وهذا غير متحصّل ، والقول فيه ما خبّرتك به.

وأما قول قيس بن الخطيم :

ديار التي كادت ونحن على منى

تحلّ بنا لو لا نجاء الرّكائب (٤)

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٢٠.

(٢) سورة الفجر ، آية : ٢٢.

(٣) سورة البقرة ، آية : ٢١٠.

(٤) البيت في ديوانه ٢٤.

٢٤٣

فإن بعض الناس يتأوله على معنى : تحلّنا وتنزلنا. من غير أن تنتقل إلينا ، على المذهب الذي ذكرناه في : ذهبت به ، من غير أن تذهب معه.

قال أبو سعيد : والأمر عندي على خلاف ذلك ، من قبل أنهم لما رأوا ديارهم اشتاقوا إليها ، وتصوروها ، فصارت بالتصوّر كأنها معهم نازلة في الديار ، فهي قد أنزلتهم ونزلت معهم.

وأما قول الفرزدق :

وما مثله في النّاس إلا مملّكا

أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه (١)

فإن فيه ضروبا من العيوب من التقديم والتأخير. وحق الكلام على ما ينبغي أن يكون عليه اللفظ ؛ وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه ؛ وذلك أن الفرزدق مدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي ، خال هشام بن عبد الملك ، وأبو أم هشام بن عبد الملك أبو إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي ، فقال : " وما مثله" ، يعني إبراهيم الممدوح ، " في الناس حي يقاربه" ، أي أحد يشبهه ، " إلا مملك" ، يعني خليفة ، " أبو أمه" ، يعني أبو أم الخليفة ، " أبوه" ، يعني أبو الممدوح ؛ فالهاء في" أمه" تعود إلى الملك ، وهو هشام بن عبد الله ، والهاء في" أبوه" تعود إلى إبراهيم بن إسماعيل ، ففرق بين المبتدأ والخبر بما ليس منه ، وذلك أن قوله : " أبو أمه" مبتدأ في موضع نعت الملك ، ففرق بينهما بقوله : " حيّ" و" حيّ" هو خبر" ما" ، وفرق بين قوله : " حيّ" وبين قوله : " يقاربه" وهو نعت" حيّ" ب" أبوه" وهو خبر مبتدأ ، وقدم الاستثناء ، وترتيب الكلام مع تقديم الاستثناء أن يقال : " وما مثله في النّاس" إلا مملّكا أبو أمّه أبوه حيّ يقاربه" ، كما تقول" ما مثل زيد إلا عمرا أحد". فلو لم يكن في هذا البيت إلا تقديم الاستثناء فقط ما كان معيبا ، والذي فيه عيبان ، أحدهما : الفصل بين المبتدأ وخبره بخبر" ما" ، والآخر : الفصل بين خبر" ما" ونعته بخبر المبتدأ.

ومن ذلك قول الفرزدق :

هيهات قد سفهت أميّة رأيها

فاستجهلت حلماؤها سفهاؤها

حرب تردّد بينهم بتشاجر

قد كفّرت آباؤها أبناؤها (٢)

وتقديره : هيهات قد سفهت أميّة حلماؤها رأيها ، فاستجهلت سفهاؤها ، فأبدل

__________________

(١) البيت في ديوانه ١٠٨ ، واللسان (ملك).

(٢) البيتان للفرزدق في اللسان (كفر) ، ولا يوجد منهما إلا الأول في ديوانه ص ٨.

٢٤٤

حلماؤها من أميّة ، ورفع سفاؤها باستجهلت ، ووضع الكلام في غير موضعه ؛ لأن قوله : " فاستجهلت" هو جواب لقوله : " قد سفهت" ، وفاعل الفعل الأول حكمه أن يأتي بعد الذي يعمل فيه الفعل الثاني.

الذي يعمل فيه الفعل الثاني.

قال أبو سعيد : وكان حكمه في الظاهر أن يعمل أحد الفعلين ، إما سفهت ، وإما استجهلت ، فأعملهما جميعا بعد الفعل الثاني ، وهذا كقولك : " ضربني وضربت زيدا" و" أعطاني وأعطيت زيدا درهما" ، إذا أعملت الفعل الثاني ، وإن أعملت الأول قلت : " أعطيت وأعطاني إيّاه زيدا درهما" ، فالذي تعمله في الظاهر أحد الفعلين ، ولا يحسن أن تقول : " أعطيت وأعطاني إيّاه زيد درهما" ترفع زيدا بالفعل الثاني ، وتنصب الدّرهم بالفعل الأول.

وتقول أيضا على هذا : " ظنّ عمرو أو قال زيد منطلق". إذا أعملت قال ، فإذا أعملت الظن فالوجه أن تقول : " ظنّ عمرو أو قال هو هو زيد منطلقا" ولو قلت : " ظنّ عمرو أو قال زيد هو إيّاه منطلقا" لم يحسن ، لأن الظاهرين إما أن يفعل فيهما الأول أو الثاني ، ولا يحسن أن يعمل كلّ واحد من الفعلين في واحد من الظاهرين ، وهذا كله إذا وقعت الأسماء بعد الفعلين جميعا ، فإذا وقع كل واحد من الأسماء في موضعه ، لم يحتج فيه إلى هذا واستعمل كما ينبغي ، فلما كانت" حلماؤها وسفهاؤها" بعد" سفهت" و" استجهلت" لم يحسن أن يكونا ظاهرين بعد الفعلين جميعا ، وأحدهما غير الآخر ، ولو كان أحدهما هو الآخر لكان أقرب إلى الجواز ؛ لأنه كان يجعل ظاهره مكان مضمره ، وذلك أنك إذا قلت : " قام فانطلق زيد" ورفعت زيدا بقام ، وجعلت في" انطلق" ضميرا منه ، صار التقدير : " قام زيد وانطلق".

قال أبو سعيد : يجوز على القياس : " قام فانطلق زيد زيد" على أنك ترفع زيدا الثاني بقام ، وترفع الأول بانطلق ، فيكون التقدير : قام زيد فانطلق زيد ، والوجه الإضمار ، وإن كان هذا جائزا. والدليل على جوازه قوله :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (١)

والوجه أن يقول : لا أرى الموت يسبقه شيء.

__________________

(١) البيت منسوب لسوادة بن زيد في سيبويه ١ / ٣٠ ، واللسان (نغص).

٢٤٥

وقوله : " قد كفّرت آباؤها أبناؤها" ، فآباؤها يرتفع بكفرت ، ومعناه : لبست السلاح وتغطت به ، ويرتفع" أبناؤها" بتشاجر ، كما يرتفع الفاعل بالمصدر ، كأنه قال : حرب تردّد بينهم بأن يتشاجر أبناؤها فلبست الآباء السلاح بتشاجر الأبناء ، وقد كان ينبغي أن لا يفرق بين ما قد ارتفع بتشاجر وبين تشاجر بقوله : " قد كفرت" ؛ لأن ما يعمل فيه المصدر بمنزلة الصلة فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

وفي هذين البيتين وجه أقرب من هذا من غير ضرورة ، وهو أن يجعل" حلماؤها" ابتداء و" سفهاؤها" خبرا له ، ومعناه أن حليمهم صار سفيها ، وكذلك" أبناؤها" و" آباؤها" مبتدأ وخبر ، يعني من طول ترددها قد صارت أصاغرها ، ومن نشأ فيها ، كبارا. قال الفرزدق :

فليست خراسان الّتي كان خالد

بها أسد إذ كان سيفا أميرها

فهذا البيت يدخله النحويون في ضرورة الشعر ، ويذكرون أنه يمدح" خالدا" ويذمّ" أسدا ، وكانا واليين بخراسان ، و" خالد" قبل" أسد" ، وتقديره : وليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفا إذ كان أسد أميرها ، ويكون رفع" أسد" بكان الثانية ، و" أميرها" نعت له ، وكان في معنى وقع ، ويجوز أن يكون في كان ضمير الأمر والشأن ، ويكون" أسدا" و" أميرها" مبتدأ وخبرا في موضع خبر الضمير.

وقال أبو سعيد : وهذا عندي كلام فاسد ؛ لأن الاسم لا يرتفع بكان وهو قبله ، والمعنى فيه على غير ما قدّروه ، وليس في البيت ضرورة ، على أنّا نجعل" أسدا" بدلا من" خالد" ونجعله هو خالد ، على سبيل التشبيه له بالأسد ، فكأنه قال : فليست خراسان التي كان بها أسد إذ كان سيفا أميرها ، وتجعل" سيفا" خبرا لكان الثانية ، وتجعل" أميرها" الاسم ، وإن شئت جعلت في كان الثانية ضميرا من أسد وجعلت أميرها بدلا من الضمير و" سيفا" هو الخبر.

وقال الفرزدق :

وترى عطيّة ضاربا بفنائه

ربقين بين حظائر الأغنام

متقلّدا لأبيه كانت عنده

أرباق صاحب ثلّة وبهام (١)

__________________

(١) البيتان في ديوانه ص ٥٨٠.

٢٤٦

أراد : متقلدا أرباق صاحب ثلّة وبهام كانت عنده ، فقدم النّعت على المنعوت ، ولم يكن النعت باسم فيقع الفعل عليه ، وهو "متقلّد" ويجعل المنعوت بدلا منه.

وقال آخر :

صددت فأطولت الصّدود وقلّما

وصال على طول الصّدود يدوم (١)

ووجه الكلام ؛ وقلّما يدوم وصال على طول الصّدود ، وذلك أن الأصل في هذا أن يقال : قلّ وصال يدوم على طول الصدود ؛ لأن" قل" قبل دخول" ما" من حكمها أن لا تليها الأفعال ؛ لأنها فعل ، ولا يلي الفعل فعل ، فأدخلوا عليها" ما" ليوطئوا للفعل أن يليه ؛ لأن الفعل لا يمتنع أن يلي" ما" ، وكان الحكم أن يولوها ما دخلت" ما" من أجله ، وهو الفعل ، فلما اضطرّ قدّم الاسم الذي كان يفعل بعد" قلّ" قبل دخول" ما" وإذا قلت : " قلّ ما يدوم وصال" ؛ فإنّ" قلّ" لم تزل عن فعليتها ، غير أن الذي يرتفع بها : " ما" وهي اسم مبهم ، يجعل في هذا الموضع للزمان ، فكأنه قال : قلّ وقت يدوم فيه وصال ، ويحذف العائد كما قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)(٢) يريد ، تجزي فيه نفس عن نفس. وقد يجوز في "قلّ ما" أن تجعل "ما" زائدة ، ويرتفع "وصال" بقلّ ، فكأنك قلت : قلّ وصال يدوم ، كما قال عزوجل : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ)(٣).

باب تغيير الإعراب عن وجهه

قال أبو سعيد : فمن ذلك قول الشاعر :

سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا (٤)

والوجه في هذا الرفع ، وذلك أن قوله : " سأترك" هو مرفوع موجب ، وما بعده معطوف عليه داخل في معناه ، فحكمه أن يكون جاريا على لفظه ، وإنما ينصب ما كان جوابا لشيء مخالف لمعناه كقولك : " ما تجلس عندنا فنحدّثك" ، وما أشبه ذلك مما يحكم في موضعه ، ولا يقال في الكلام : " أنا أجلس عندكم فأحدّثكم" إنما هو" فأحدّثكم".

وإذا اضطر الشاعر فنصب فيما ذكرنا أن الوجه فيه الرفع يؤوّل تأويلا يوجب

__________________

(١) البيت منسوب لعمر بن أبي ربيعة في سيبويه ١ / ١٢ ، وبلا نسبة في اللسان (طول).

(٢) سورة البقرة ، آية : ٤٨ ؛ ١٢٣.

(٣) سورة النساء ، آية : ١٥٥. والمائدة ، آية : ١٣.

(٤) البيت منسوب للمغيرة بن حبناء الحنظلي في خزانة الأدب ٣ / ٦٠٠.

٢٤٧

النصب ، كالتأويل الذي يتأوّل فيما يخالف آخره أوّله ؛ وذلك أنك إذا قالت : " ما تجلس عندنا فنحدّثك" فتأول : ما يكون منك جلوس فحديث منا ، غير أن المصدر قد يجوز أن يقع موقعه" أن" الخفيفة وفعل ذلك المصدر ، ألا ترى أنك تقول : " يعجبني قيامك" ، و" يعجبني أن تقوم" في معناه. وإذ قد وضح هذا فأنت إذا قلت : " ما تجلس عندنا فنحدّثّك" إنما تنفى جلوسه ، ولست بناف للحديث على كل حال ، كما نفيت الجلوس ، وإنما نقدر في ذلك أحد تقديرين ، إما أن يكون على معنى قولك : " ما تجلس عندنا فكيف نحدّثك" فتكون نافيا للجلوس ومخبرا أن الحديث يتعذر وقوعه مع عدم الجلوس ، أو يكون على تقدير : ما تجلس عندنا محدثين لك ، وقد تجلس عندنا على غير حديث بيننا فتكون نافيا للجلوس الذي يقرن به الحديث ، ولم تعمد لنفي الحديث ، فلمّا خالف الأول الثاني هذه المخالفة ، كرهوا أن يعطفوا الثاني على الأول في لفظه ، فيكون داخلا في معناه ؛ لأنك إذا قلت : " ما تجلس عندنا فتحدّثنا" فأنت ناف لكل واحد من الجلوس والحديث من غير تعلق أحدهما بالآخر ، كما أنك إذا قلت : " ضربت زيدا وعمرا" كنت ضاربا لكل واحد منهما ، من غير تعلق أحدهما بالآخر ، فلما كان الفعل الثاني في" ما" جوابا تضمن معنى يخالف الأول ، وإن كان معطوفا عليه في المعنى ، فقدّر الأول تقدير المصدر ، كأنه قال :

ما يكون منك جلوس ، وقدر في الثاني" أن" فنصب بها الفعل ، ثم كره أن يكون الأول في لفظ الفعل ، والثاني يقترن به ما يصيره اسما وهو" أن" ، فحذفت" أن" ليشاكل الأول الثاني في الفعلية ، ولم يبطل النصب الذي أثّرته" أن" ؛ لئلا يدخل الثاني فيما دخل فيه الأوّل ، فإذا اضطر الشاعر في المتّفقين ، ردّه إلى التقدير الذي يوجب النصب هنا.

ومثل هذا قول طرفة :

لنا هضبة لا ينزل الذّلّ وسطها

ويأوي إليها المستجير فيعصما (١)

والوجه فيعصم. وقال الآخر :

هنالك لا تجزونني عند ذاكم

ولكن سيجزيني الإله فيعقبا (٢)

__________________

(١) البيت في ديوانه ١٥٩ ، وسيبويه ١ / ٤٢٣ ، واللسان (دلك).

(٢) البيت للأعشى في ديوانه ص ٩ ، وسيبويه ١ / ٤٢٣.

٢٤٨

والوجه : الرفع. ومن ذلك قوله :

قد سالم الحّيات منه القدما

الأفعوان والشّجاع الشّجعما (١)

وكان الوجه أن يقول : الأفعوان الشجاع الشجعم ، غير أنّ قوله : " قد سالم الحيّات منه القدما" يوجب أن القدم أيضا قد سالمت الحيات ؛ لأن باب المفاعلة يكون من اثنين كل واحد منهما يفعل بصاحبه مثل ما يفعل به صاحبه. فلما ذكر مسالمة الحيات للقدم دلّ أن القدم أيضا قد سالمت فكأنه قال : وسالمت القدم الشّجاع الشجعما ، فحذف لما ذكرنا.

وكان بعض النحويين يروي هذا البيت بنصب" الحيات" منه ويجعل" القدما" في معنى القدمان ، ويحذف النون ، كما قال تأبط شرّا :

هما خطّتا إمّا إسار ومنّه

وإما دم والقتل بالحرّ أجدر (٢)

أراد : خطتان ، فحذف ، وحمل حذف النون على قوله :

 ... إنّ عمّيّ اللّذا

قتلا الملوك وفكّكا الأغلال (٣)

أراد : اللذان ؛ لأنّ اللّذان يحتاج إلى صلة ، وهي والصّلة كالشيء الواحد فاستطال فحذف.

ومن ذلك :

فكرّت تبتغيه فصادفته

على دمه ومصرعه السّباعا (٤)

على تقدير : صادفت السّباع على مصرعه ، وكان الوجه أن يقول : على دمه ومصرعه السّباع ؛ لأنه لم يعطف السباع على الهاء التي في" صادفته" ، ولو فعل هذا لكان النصب جيّدا ، وكان يقول : صادفته السباع على دمه ومصرعه ، ثم يؤخّر. فلما لم يعطف كان الوجه أن يجعل الجملة الثانية في موضع الحال ، فوجب أن يرفع السّباع لذلك ، فإذا نصبه فهو على مثل الأول الذي جرى ذكره ، وكان أبو العباس المبرد يروي هذا البيت :

فكرّت عند فيقتها فألفت

على دمه ومصرعه السّباعا

__________________

(١) البيت منسوب لعبد بني عبس في سيبويه ١ / ١٤٥ ، وبلا نسبة في اللسان (شجع).

(٢) البيت في الخزانة ٣ / ٣٥٦.

(٣) البيت للأخطل في ديوانه ٤٤ ، والخزانة ٣ / ٤٧٣.

(٤) البيت للقطامي في ديوانه ٤٥ برواية مختلفة ، وسيبويه ١ / ١٤٣.

٢٤٩

ومن ذلك قوله :

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطوائح

فبدأ بفعل لم يسمّ فاعله ، ثم أتى بالفعل أن بنى الفعل بناء ما لم يسمّ فاعله ، وكان الوجه أن يقول : ليبك يزيد ضارع لخصومة. وتقدير الرفع في الثاني وهو" ضارع" : ليبكه ضارع لخصومة ، وذلك أنه لما قال : ليبك يزيد دلّ هذا الفعل على أنه أمر قوما يبكونه ، فقال : ضارع لخصومة ، يعني من أمره بالبكاء ، فأضمر : " لبكه".

ومثل ذلك قراءة بعضهم : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ)(١)

على تقدير : زيّنه شركاؤهم ؛ لأنه قد دلّ" زيّن" على قوم قد زيّنوا ، فرفعهم على ذلك الفعل ، وهم الشركاء ، وليس هذا بالمختار في كتاب الله تعالى ؛ لأنه لا يجري مجرى ضرورة الشاعر.

ومن ذلك قوله :

وجدنا الصّالحين لهم جزاء

وجنّات وعينا سلسبيلا (٢)

فنصب جنّات وما بعدها ، وكان الوجه الرفع عطفا على قوله : "جزاء" ، وإنما فعل هذا واستجازه ؛ لأنه حين قال "وجدنا الصّالحين لهم جزاء" ، دلت على أنه قد وجد الجزاء لهم ، فأضمر وجدنا ونصب "جنات" وما بعدها.

ومن ذلك بيت أنشده سيبويه على وجه الضرورة ويجعله غيره على غير ضرورة ، وهو قول الشماخ :

أمن دمنتين عرّج الرّكب فيهما

بحقل الرّخامي قد عفا طللاهما

أقامت على ربعيهما جارتا صفا

كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما (٣)

قال سيبويه : هذا هو مثل "هند حسنة وجهها" وهذا قبيح ، ولا يجوز في الكلام ، وإنما الوجه أن تقول : "هند حسنة الوجه" أو "حسنة الوجه" وما أشبه ذلك ، إذا لم ترفع

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ١٣٧.

(٢) البيت لعبد العزيز الكلابي في سيبويه ١ / ١٤٦.

(٣) البيتان في ديوانه ٣٠٧.

٢٥٠

"الوجه" لم تجعل فيه ضميرا من الأول ، وإن رفعته جعلت فيه ضميرا من الأوّل فقلت : "حسن وجهها" فإذا اضطر الشاعر فلم يرفع وجعل فيه ضميرا ، فقد وضع الإعراب في غير موضعه ، واحتمل له ذلك للضرورة ، والبيت تقديره على هذا : جونتا مصطلاهما ، بمنزلة : حسنتا أوجههما ، فجونتا بمنزلة حسنتا ، ومصطلاهما بمنزلة : أوجههما. وكان الوجه أن يقول : جونتا المصطلى أو المصطلين ، ولا يجعل فيه ضميرا ، وسنذكر أحكام هذا إن شاء الله تعالى.

باب تأنيث المذكر وتذكير المؤنث

قال أبو سعيد : فمن ذلك قول عمر بن أبي ربيعة :

وكان مجنى دون من كنت أتّقي

ثلاث شخوص كاعبان ومعصر (١)

فحذف الهاء من ثلاثة ، وكان ينبغي أن يقول ، ثلاثة شخوص ، من قبل أنّ الشخص مذكّر ، ولكنه ذهب به مذهب النسوة ؛ لأنهن كن ثلاث نسوة.

وقال آخر :

وإنّ كلابا هذه عشر أبطن

وأنت بريء من قبائلها العشر (٢)

أراد بالأبطن القبائل ، فذهب مذهب القبائل في تأنيثها ، وإلا فقد كان الوجه أن يقول : عشرة لتذكير البطن.

ومما يجري مجرى الضرورة عند كثير من النحويين ، ويذهب أبو العباس إلى تجويزه في غير الشعر : تأنيث المذكّر المضاف إلى المؤنث ، كقولك : "ذهبت بعض أصابعه" ، "واجتمعت أهل اليمامة". قال الشاعر :

وتشرق بالقول الّذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدّم (٣)

وإنما الوجه أن يقول : كما شرق صدر القناة ، لأن الصّدر مذكّر ، والفعل له. ومثله :

إذا بعض السّنين تعرّقتنا

كفى الأيتام فقد أبي اليتيم (٤)

وإنما الوجه أن يقول : تعرّقنا ؛ لأن الفعل للبعض وهو مذكّر.

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ١٠٠.

(٢) البيت بلا نسبة في المذكر والمؤنث للمبرد ١٠٨.

(٣) البيت للاعشى الكبير في ديوانه ٩٤ ، واللسان (شرق).

(٤) البيت لجرير في ديوانه ٥٠٧ ، والخزانة ٢ / ١٦٧ ، وابن يعيش ٥ / ٩٦ ، واللسان (عرق).

٢٥١

وقد ذكر سيبويه هذه الأبيات وغيرها مما يشاكلها في باب بعد هذا. ونحن نستقصى الكلام فيها إذا صرنا إليها.

واحتج أبو العباس في تجويز هذا المعنى ، وجودته في غير الشعر بقوله تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ)(١) فذكر أنه أجرى" خاضعين" على الهاء والميم التي أضيفت إلى الأعناق ، واعتمد على أصحابها فقال : فظلوا لها خاضعين ، فكذلك إذا قلت : شرقت صدر القناة ، كأنك لم تذكر الصدر واعتمدت على ما أضيف إليه الصدر.

وهذه الآية فيها تأويلات غير ما تأول أبو العباس ، منها : أن الأعناق هم الرؤساء ، كما يقال : " هؤلاء رؤوس القوم" و" هؤلاء وجوه القوم" يراد به الرؤساء والمنظور إليهم ، وليس القصد إلى الرؤوس المركّبة على الأجساد ، ولا إلى الوجوه المخلوقة في الرؤوس ، فكأنه قال : فظلّت رؤساؤهم خاضعين.

ومنها أن أبا زيد حكى وغيره أن العرب تقول : " عنق من النّاس" في معنى جماعة. قال الهذلي :

تقول العاذلات أكلّ يوم

لرجلة مالك عنق شحاح

كذلك يقتلون معي ويوما

أؤوب بهم وهم شعث طلاح (٢)

فجعل العنق الجماعة.

وقال الشاعر في تذكير ما ينبغي تأنيثه :

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها (٣)

أراد : ولا أرض أبقلت إبقالها ، وقد كان يمكنه أن يقول : ولا أرض أبقلت ابقالها ، فيخفف الهمزة غير أنه آثر تحقيقها ، فاضطره تحقيقها إلى تذكير ما يجب تأنيثه ، وتأوّل في الأرض المكان ؛ لأن الأرض مكان ، فذكّر لذلك. ومن ذلك قوله :

فإمّا ترى لمّتي بدّلت

فإنّ الحوادث أودى بها (٤)

__________________

(١) سورة الشعراء ، آية : ٤.

(٢) البيتان في ديوان الهذليين ٢٣٧.

(٣) البيت لعامر بن جوين الطائي في سيبويه ١ / ٢٤٠ ، والخزانة ١ / ٢١ ، وابن يعيش ٥ / ٩٤ ، واللسان (ودق).

(٤) البيت للأعشى في ديوانه ١٢٠ ، وسيبويه ١ / ٢٣٩ ، والخزانة ٤ / ٥٧٨ ، وابن يعيش ٥ / ٩٥.

٢٥٢

ذهب بالحوادث مذهب الحدثان.

وهذا الباب إذا تقدم الفعل فيه لم يستقبح تذكير المؤنث فيما ليس بحيوان ، كقوله تعالى : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ)(١) وقوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ)(٢) لأن الفعل إذا تقدم ، فهو عار من علامة الاثنين والجماعة ، فشبهوا تعرّيه من علامة التأنيث بذلك.

وإذا كان الفاعل مؤنثا حيوانا ، وتقدّم الفعل ، لم يحسن التذكير إلا في الشّعر ، لا يحسن أن تقول : " ذهب هند" ولا" ذهب امرأة".

قال جرير :

لقد ولد الأخيطل أمّ سوء

على جار استها صلب وشام (٣)

وقال آخر :

إذ هى أحوى من الرّبعىّ خاذله

والعين بالإثمد الحاريّ مكحول (٤)

وكان ينبغي أن يقول : مكحولة ؛ لأن العين مؤنثة ، فتأول تأويل الظروف.

وقال آخر :

أرى رجلا منهم أسيفا بماله

يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضّبا (٥)

قال سيبويه : " اعلم أنه يجوز في الشّعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف يشبهونه بما ينصرف من الأسماء ، لأنها أسماء كما أنها أسماء ، وحذف ما لا يحذف ، يشبّهونه بما قد حذف واستعمل محذوفا".

قال أبو سعيد : أما قوله : " يجوز في الشعر صرف ما لا ينصرف" فقد ذكرناه.

وقوله : " يشبهونه بما ينصرف من الأسماء" يريد أنهم يشبهون ما لا ينصرف بما ينصرف وتشبيههم له به أنهم يردّونه إلى أصله الذي هو من الصرف بحق الاسمية.

والدليل على أن الاسم الذي لا ينصرف أصله الصرف ، أن الشاعر لا يجوز له أن

__________________

(١) سورة هود ، آية : ٦٧.

(٢) سورة البقرة ، آية : ٢٧٥.

(٣) البيت في ديوانه ٥١٥ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٦٨.

(٤) البيت لطفيل الغنوي في ديوانه ٤٩ ، وسيبويه ١ / ٢٤٠.

(٥) البيت للأعشى الكبير في ديوانه ٨٩ ، وخزانة الأدب ٣ / ١٥٦ ، واللسان (خضب).

٢٥٣

يعمل بالفعل عند الضرورة من التنوين والجر ما يعمله بالاسم الذي لا ينصرف ، فعلمنا أن الذي فرق بينهما أنه يرد الاسم إلى حالة قد كانت له ، وليس للفعل أصل في التنوين والجر يردّه إليه عند الضرورة ، وقد ذكرنا حذف ما لا يحذف في الشعر بما أغنى عن إعادته.

وأنشد سيبويه لخفاف بن ندبة :

كنواح ريش حمامة نجديّة

ومسحت بالّلثتين عصف الإثمد

استشهد في حذف الياء من" كنواح" وكان ينبغي أن يقول : " كنواحي" ، وإنما حذف الياء تشبيها بالياء التي تسقط في الواحد ، لدخول التنوين ، كقولك : " قاض" و" رام" ، والإضافة والألف واللام معاقبتان للتنوين ، فسقطت الياء للإضافة ، كما سقطت مع التنوين.

وزعم أبو محمد التّوّزيّ ، وهو من متقدّمي أهل اللغة من أصحاب أبي عبيدة ، أنه بلغه أن ابن المقفع وضع هذا البيت. وقال أبو عمر الجرمي : هو لخفاف.

وأنشد سيبويه :

فطرت بمنصلى في يعملات

دوامي الأيد يخبطن السّريحا (١)

والوجه : الأيدي. وإنما يصف أنه مضى بسيفه. وهو المنصل ، في نوق فعقرهنّ ، ودميت أيديهن فخبطن السّيور المشددة على أرجلهن ، وهي السّريح الذي ذكره.

وأنشد سيبويه للنجاشي :

فلست بآتيه ولا أستطيعه

ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل

أراد : ولكن.

وأنشد سيبويه لمالك بن حريم الهمداني ، وحريم هو اسم أبيه ، المعروف عند الرواة وأهل اللغة. وكان أبو العباس المبرد يقول : خزيم ، وينسب في ذلك إلى التصحيف.

قال أبو سعيد : وأخبرني أبو بكر بن السراج أنه وجد بخط بعض اليزيديين : حريم وخريم جميعا. قال :

فإن يك غثّا أو سمينا فإنّني

سأجعل عينيه لنفسه مقنعا

أراد : لنفسهي ، وهو يصف ضيفا ؛ يقول : إن كان ما عندي غثّا أو سمينا ، فإنني

__________________

(١) البيت لمضرس بن ربعي الأسدي في اللسان (يدى).

٢٥٤

أبذله وأقدمه إليه كلّه حتى يقنع به. وقوله : " عينيه" يريد : ما تراه عيناه. وأنشد سيبويه لرؤبة :

ضخم يحبّ الخلق الأضخمّا (١)

ويروى : " الإضخمّا" ، و" الضّخمّا" فمن قال : " الضّخمّا" جعله على مثال : " خدبّ" و" هجفّ". ومن قال : " الإضخمّ" جعله على مثال : " إرزبّ" ، وليس الشاهد في واحد منهما ، وإنما الشاهد في" الأضخمّا" لأنه كان ينبغي أن يقول" الأضخم" مثل قولك : " الأعظم" و" الأكبر". وأنشد لحنظلة بن فاتك :

أيقن أنّ الخيل إن تلتبس به

يكن لفسيل النخل بعده آبر

أراد : " بعد هو" وهو يصف رجلا بالشجاعة والإقدام ، يريد أنه قد علم أنه إن قتل أو مات لم تتغيّر الدّنيا ، وكان للنخل من يقوم بها ويصلحها. والآبر : الملقح للنّخل.

وأنشد لرجل من باهلة :

أو معبر الظّهر ينبي عن وليّته

ما حجّ ربّه في الدنيا ولا اعتمرا

يريد : " ربّهو في الدنيا".

وهذا رجل لصّ يتمنى سرقة جمل معبر الظهر ، وهو الذي على ظهره وبر كثير ، وهو سمين لسمنه ينبي عن وليّته وهي البرذعة. وينبي عنها : يزيلها ويرفعها. وقوله : " ما حج ربّه" يريد أن صاحبه لم يحج عليه فينضيه ، فهو يتمناه في أحسن ما يكون.

وأنشد سيبويه للأعشى :

وما له من مجد تليد وما له

من الرّيح فضل لا الجنوب ولا الصّبا (٢)

أراد : " وما لهو".

ومعنى البيت أنه يهجو رجلا ويقول إنه لا خير عنده قليل ولا كثير ؛ وذلك أن الجنوب أغزر الأرواح عندهم خيرا ؛ لأنها تجمع السحاب وتلقح المطر ، والصّبا أقل الأرواح عندهم خيرا ، لأنها تقشع الغيم ، فليس لهذا المهجو خير قليل ولا كثير.

وقال بعضهم : الأرواح التي فيها الخير ونماء الأشياء : الجنوب والصّبا ، فالجنوب

__________________

(١) البيت في ملحق ديوانه ١٨٣ ، وسيبويه ١ / ١١ ، واللسان (ضخم).

(٢) البيت في ديوانه ص ٩٠ ، وسيبويه ١ / ١٢.

٢٥٥

تلقح السحاب ، وتدرّ الأمطار ، والصّبا تلقح الأشجار وتنمّها ، والدّبور تثير العجاج ، والشّمال تطيب النّسيم وتبرد المياه. فالخير إنما هو في الجنوب والصّبا ، فنفى حظّه منهما.

وقال بعضهم : المطر يكون بالجنوب والصّبا وهو الخير ، فنفى حظه منها. والدليل على ذلك قول بشير بن النّكث الكلبي :

الله أسقاك غزيرا بؤقه

جاءت به ريح الصّبا تصفّقه

وأنشد سيبويه للمرار بن سلامة العجلي :

ولا ينطق الفحشاء من كان منهم

إذا جلسوا منا ولا من سوائنا

وكان ينبغي ألا يدخل" من" على سواء ؛ لأنها لا تستعمل إلا ظرفا ، ولكنه جعلها بمنزلة" غير" في إدخال" من" عليها.

وكذلك قول الأعشى :

 ...

وما قصدت من أهلها لسوائكا (١)

و" سواء" و" سوى" معناهما واحد ، فإذا فتحت السين مددت ، وإذا كسرتها قصرت.

وأنشد سيبويه لخطام المجاشعي :

وصاليات ككما يؤثفين

جعل الكاف الثانية بمنزلة" مثل" وأدخل عليها الكاف الأولى.

وأما قوله : " يؤثفين" أي يجعلن أثافيّ.

وقد اختلف النحويون في وزن" يؤثفين" فقال قائلون : إنه يؤفعلن ، والهمزة زائدة ، والثاء فاء الفعل ، وكان ينبغي أن يقول : " يثفين" كما تقول : " يبلين" و" يرضين" غير أنه ردّ الهمزة الزائدة ، التي هي في الماضي للضرورة ، كما يضطر الشاعر فيقول : " يؤكرم" مثل قوله :

فإنه أهل لأن يؤكرما (٢)

ومن قال هذا ، قال : " أثفيّة" وزنها أفعولّة ، ويستدلّ على ذلك بقول العرب : ثفيت القدر : إذا جعلتها على الأثافي.

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ٦٦ وصدره : " تجانف عن جو اليمامة ناقتي" في اللسان (جنف).

(٢) البيت بلا نسبة في اللسان (كرم).

٢٥٦

وقال آخرون : " يؤثفين" وزنه يفعلين بمنزلة" يسلقين". ومن ذلك" سلقى"" يسلقي" ، فالهمزة فاء الفعل. ومن قال هذا ، قال : " أثفيّة" وزنها فعليّة ، واستدل على ذلك بقول العرب : تأثّفني القوم إذا صاروا حولك كالأثافي.

قال النابغة :

لا تقذفنّي بركن لا كفاء له

وإن تأثّفك الأعداء بالرّفد (١)

تأثفك ، تفعّلك ، والهمزة أصلية ، وهي فاء الفعل.

هذا باب الفاعل

الذي لم يتعدّه إلى مفعول والمفعول الذي لم يتعدّ إليه فعل فاعل ولا تعدّى فعله إلى مفعول آخر ، وما يعمل من أسماء الفاعلين والمفعولين عمل الفعل الذي يتعدّى إلى مفعول ، وما يعمل من المصادر ذلك العمل ، وما يجري من الصفات التي لم تبلغ أن تكون في القوّة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري مجرى الفعل المتعدّي إلى مفعول مجراها ، وما أجري مجرى الفعل وليس بفعل ولم يقو قوّته ، وما جرى من الأسماء التي ليست بأسماء الفاعلين التي ذكرت لك ولا الصّفات التي هي من لفظ أحداث الأسماء وتكون لأحداثها أمثلة لما مضى ولما لم يمض ، وهي التي لم تبلغ أن تكون في القوّة كأسماء الفاعلين والمفعولين ، التي تريد بها ما تريد بالفعل المتعدّي إلى مفعول مجراها ، وليست لها قوّة أسماء الفاعلين التي ذكرت ولا هذه الصفات ، كما أنّه لا يقوى قوّة الفعل ما جرى مجراه وليس بفعل.

قال أبو سعيد : اعلم أن هذا الباب يشتمل على تراجم أبواب تجيء مفصّلة بعده بابا بابا بما يتضمّنه من أصوله ومسائله ، ولكنّا نفسّر معنى باب باب جملة ، إلى أن نجيء إلى تفصيله ، فنضع كل شيء في موضعه الذي ذكره فيه.

قوله : " هذا باب الفاعل الذي لم يتعدّه فعله إلى مفعول" بريد به : " قام زيد" و" ذهب عمرو" وسائر ما كان من الأفعال التي لا تتعدى. والمفعول الذي يعنيه هاهنا هو المفعول به ، الذي يصل الفعل إليه بغير حرف جرّ ؛ كقولك : " ضرب زيد عمرا" ، ولا يدخل في معنى ذلك : المفعول فيه ، ولا المفعول معه ، ولا المفعول له ، ولا المفعول

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ٢١.

٢٥٧

المطلق ، وهو المصدر. وأنا أفسر هذا في موضعه ، إن شاء الله تعالى.

وقوله : " والمفعول الذي لم يتعد إليه فعل فاعل ، ولا تعدى فعله إلى مفعول آخر" ، يريد به : " ضرب زيد" فزيد هو مفعول في الحقيقة ، و" ضرب" هو فعل له. وليس يريد أنه على الحقيقة : فعل له أوقعه ، وإنما يريد أنه فعل بني له ورفع به ، وإن كان قد وصل إليه من غيره ، كما يبنى الفعل للفاعل ، وربما لم يكن هو الموقع له ؛ كقولنا : " مات زيد" و" طلعت الشّمس" ، فزيد لم يفعل موته ، ولا الشمس طلوعها ، وإنما الله تعالى أماته وأطلعها ، وقد ينسب الفعل إليهما.

ومما يسوّغ هذا أن الفعل أصله مصدر ، والمصادر قد تنسب إلى فاعليها ومفعوليها ، فنسبتها إلى فاعليها ؛ كقولك : " قيام زيد" و" بناء عمرو" ، ونسبتها إلى مفعوليها قولك : " بناء الحائط" و" دقّ الثّوب".

فمعنى قوله " والمفعول الذي لم يتعدّ إليه فعل فاعل" يعني لم يذكر له فاعل بني الفعل له ، ولا تعدّى هذا الفعل المبنيّ للمفعول إلى مفعول آخر منصوب : كقولك : " كسى عمر جبّة" و" أعطي زيد درهما" ، فقولك : " أعطى زيد درهما" و" كسي عمر وجبّة" فعل مفعول تعدّى إلى مفعول آخر ، فأراد أن يفصل بين" ضرب زيد" و" أعطي زيد درهما" في أن" ضرب" لا يتعدّى المفعول إلى مفعول آخر ، و" أعطى" يتعدّى المفعول إلى مفعول آخر.

وقوله : " وما يعمل من أسماء الفاعلين والمفعولين عمل الفعل الذي يتعدّى إلى مفعول". واعلم أن اسم الفاعل المشتقّ له من الفعل يعمل عمل الفعل : كقولك : " هذا ضارب زيدا" ، فضارب ينصب زيدا ، كما ينصبه" يضرب" ، إذا قلت : " هذا يضرب زيدا" ، وإذا قلت : " هذا معط زيدا درهما" و" هذا حاسب أخاك منطلقا" ، و" معلم زيدا عمرا قائما" فهو بمنزلة : " يعطي" و" يحسب" و" يعلم". وإذا قلت : " هذا معطى درهما" فهو بمنزلة قولك : " هذا يعطي درهما" فيعطي هو فعل مفعول تعدّى إلى مفعول آخر ، و" معطى" اسم المفعول المشتق من هذا الفعل ، فيعمل عمله. وكذلك تقول : " هذا مكسوّ أبوه ثوبا" فيعمل" مكسوّ" عمل" يكسى" ويصير بمنزلة قولك : " هذا يكسى أبوه ثوبا".

وقوله : " وما يعمل من المصادر ذلك العمل". اعلم أن المصدر يعمل عمل الفعل المشتق منه ، كقولك : " أعجبني ضرب زيد عمرا" و" دقّ الثّوب القصّار" و" إعطاء عمرو

٢٥٨

زيدا درهما" و" عجبت من حسبان أخوك منطلقا".

فهذه المصادر تعمل عمل أفعالها ، فتصير بمنزلة قولك : أعجبني أن ضرب زيد عمرا ، وأن دقّ الثّوب القصّار ، وأن أعطى عمر زيدا درهما ، وعجبت أن حسب أخوك أباك منطقا ، تقدّرها أبدا بأن والفعل بعدها.

ويجوز أن تضيفها ، فتخفض الذي تضيفها إليه فقط ، وتجري الباقي على ما يوجبه معناه ، فإن كان فاعلا رفعته ، وإن كان مفعولا نصبته ؛ كقولك" أعجبني ضرب زيد عمرا" و" دقّ الثّوب القصّار" ، وإذا أدخلت عليها الألف واللام ، فهي بمنزلتها منّونة.

وقوله : " وما يجري من الصّفات التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري مجرى الفعل المتعدّي إلى مفعول مجراها" ، يريد : حسن الوجه وبابه ؛ كقولك : " مررت برجل حسن الوجه" و" حسن الوجه" ، فتعمل حسنا في الوجه ، كما تقول : " مررت برجل ضارب زيدا" ، فتعمل ضاربا في زيد ، " وهذا حسن الوجه" كما تقول : " هذا ضارب زيدا" و" معطى درهما" و" مكسوّ جبّة" ، غير أنك لا تقول : " هذا الوجه حسن" فتقدم الوجه ، وتقول : " هذا زيدا ضارب" و" جبّة مكسوّ" ، فالصفة هي قولك : " حسن الوجه" ، وأسماء الفاعلين : " ضارب زيدا" ، وأسماء المفعولين : " مكسوّ جبّة".

ولم يبلغ" حسن الوجه" أن يكون في القّوة كضارب زيدا ، ومكسوّ جبّة ؛ لأن هذا يجوز فيه التقديم والتأخير ، والصّفة لا يجوز فيها ذلك ، وأسماء الفاعلين والمفعولين تجري مجرى الفعل في جميع تصرفه.

والهاء في قوله : " مجراها" تعود إلى أسماء الفاعلين ، وتقدير اللفظ : وما يجري من الصفات مجرى أسماء الفاعلين ، وهي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري مجرى الفعل المتعدي إلى مفعول.

وقوله : " وما أجرى مجرى الفعل ، وليس بفعل ولم يقو قوّته" ، يعني : إنّ وأخواتها وذلك لأن (إنّ وأخواتها) حروف قد عملت عمل الأفعال المتعدّية إلى مفعول ، وذلك أنك إذا قلت : " إنّ زيدا قائم" كلفظ : " ضرب زيدا قائم" ، بمنزلة فعل قد تقدّم مفعوله على فاعله ، وليس له قوة الفعل ؛ لأنه لا يتقدم الاسم عليه ، ولا يتقدم المرفوع الذي هو خبره على المنصوب.

وقوله : " وما جرى من الأسماء التي ليست بأسماء الفاعلين .." إلى آخر الباب ؛ يعني

٢٥٩

به : ما ينصب من الأسماء على طريق التمييز ، كقولك : " هذه عشرون درهما" و" ما في السّماء موضع راحة سحابا" ، فهذا أضعف عوامل الأسماء ؛ لأنه لا يعمل إلا في منكور ولا يتقدّم عليه ما يعمل فيه ، فهذا ليس بمنزلة أسماء الفاعلين ، ولا بمنزلة الصفات ، ولا هي بمنزلة المصادر ؛ لأن المصادر تعمل في المعرفة والنكرة ، ويتقدّم فاعلوها على مفعوليها ، فليست لعشرين درهما وبابه زيادة قوّة شيء من العوامل التي قبلها ، ثم عاد إلى العوامل فقال : " عشرون درهما" وهي ناصبة ولم تبلغ أن تكون في القوة كالنواصب التي قبلها ، فاعرف ذلك.

هذا باب الفاعل

الذي لم يتعدّه فعله إلى مفعول والمفعول الذي لم يتعدّ إليه فعل فاعل ولم يتعدّه فعله إلى مفعول.

وقد فسرنا هذه الترجمة.

قال سيبويه : " والفاعل والمفعول في هذا سواء ، يرتفع المفعول كما يرتفع الفاعل ؛ لأنّك لم تشغل الفعل بغيره ، وفرّغته له كما فعلت ذلك بالفاعل".

قال أبو سعيد : إن قال قائل : لم كان الفاعل مرفوعا ، دون أن يكون منصوبا أو مخفوضا؟

قيل له : في ذلك وجوه ؛ منها : أن الفاعل واحد والمفعول جماعة ؛ لأن الفعل قد يتعدى إلى مفعول ومفعولين وثلاثة ، ويتعدّى إلى المفعول له ، والمفعول معه ، ويتعدى إلى ظرف الزمان والمكان والحال والمصدر ، فكثر فاختير لهم أخفّ الحركات ، وجعل للفاعل إذ كان واحدا أثقلها ؛ لأن إعادة ما خفّ تكريره في الأسماء الكثيرة أيسر مئونة مما يثقل.

ووجه ثان : وهو أن الفاعل أوّل ؛ لأنّ ترتيبه أن يكون بعد الفعل ؛ لأن الفعل لا يستغني عنه ، ويجوز الاقتصار عليه دون المفعولين ، والمفعول بعد الفاعل في ترتيبه ، فلما كان كذلك ، وكانت الحركات مختلفة المواضع ، لاختلاف مواضع الحروف المأخوذة منها هي ، وذلك أن الحركات ثلاث : والفتحة مأخوذة من الألف ، ومخرج الواو من بين الشفتين ، ومخرج الياء من وسط اللسان ، ومخرج الألف من الحلق فأوّل هذه المخارج وأقربها متناولا الواو ، فجعلوا الحركة المأخوذة منها لأوّل الأسماء رتبة ، وآخرها لآخرها رتبة ، وهاتان علتان مرضيتان.

٢٦٠