شرح كتاب سيبويه - ج ١

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-5251-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

فنفتح النون ، لالتقاء الساكنين ، ثم يقول : " إن الله أمكنني فعلت" فنكسر النون لالتقاء الساكنين ، وقبل كل واحدة منهما كسرة ، وذلك من قبل أنّ" من" كثرت في كلامهم ، وكثر دخولها على ما فيه الألف واللام ، فطلبوا خفّة اللفظ بها ، فلم يكسروا النون فتجتمع كسرتان مع كثرة اللفظ بها ، ففرّوا إلى الفتح ، وقلّت" إن" مع الألف واللام ، فكسروها على ما ينبغي من الكسر لالتقاء الساكنين.

وقوله : " ولا أدر" كان ينبغي أن يقال : " لا أدري" ؛ لأنه في موضع رفع ، والأصل" لا أدري" فاستثقلت الضمة على الياء ؛ لانكسار ما قبلها ، فسكنت ، فأشبهت بسكونها المجزوم ؛ لأن المجزوم ساكن. فحذفوا الياء منها كما تحذف من المجزوم مع كثرة الكلام بها ، ودلالة الكسر عليها.

فإن قال قائل : لم خص سيبويه هذا الحرف بالشّذوذ ، ونحن نرى الياء قد تحذف من أواخر الأسماء والأفعال ، إذا كان ما قبلها مكسورا في غير هذا الحرف ، كما قرأ بعضهم : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) (١) (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٢) و (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ)(٣)؟

قيل له : إنما أراد سيبويه في هذا الموضع ـ والله أعلم وأحكم ـ أن يبيّن أن كثيرا من العرب ، الذين لغتهم إثبات الياء في مثل هذا ، يحذفونها من" لا أدر" ولغتهم : " لا أرمي" و" لا أبري" و" لا نشتري" ، فخصوا هذا الحرف بالحذف لكثرته في كلامهم ، وإن كان من لغتهم الإثبات.

ولقول سيبويه وجه آخر ، وهو أنه أكثر من غيره في الحذف ، فإن جاز في كل ما كان نظيرا لهذا الحرف حذف الياء منه ، فليس يخرجه ذلك من أن يكون على غير القياس ، الذي ينبغي أن يكون الكلام عليه.

قال سيبويه : " وأما استغناؤهم بالشيء عن الشيء ، فإنهم يقولون : يدع ، ولا يقولون : ودع ، استغنوا عنه بترك. وأشباه ذلك كثيرة".

قال أبو سعيد : اعلم أن" يدع" في معنى" يترك" و" يذر" مثلها. غير أنهم يقولون :

__________________

(١) سورة الكهف ، آية : ٦٤.

(٢) سورة الفجر ، آية : ٤.

(٣) سورة الرعد ، آية : ٩.

١٨١

" ترك يترك تركا فهو تارك" ، ولا يقولون : " ودع يدع ودعا فهو وادع" ولا" وذر يذر وذرا فهو واذر" وإنما يقولون : " يدع" و" دع" في الأمر ، و" يذر" و" ذر" ؛ لأن الأمر مستقبل أيضا ، وخصّوا المستقبل ؛ لأن الكلام بالمستقبل أكثر منه بالماضي : لأن الاستقبال يصلح لزمانين ، وفعل الأمر مستقبل أيضا ، فكان استعماله فيما كثر أولى ، وقد جاء في الشّعر ماضيا.

قال الشاعر ، وهو أبو الأسود الدؤلي :

ليت شعري عن خليلي ما الذي

غاله في الحبّ حتى ودعه (١)

وقال سويد أبي كاهل :

فسعى مسعاته في قومه

ثم لم يبلغ ولا عجزا ودع (٢)

وقد قيل في البيتين جميعا إن" ودع" بمعنى : " ودّع" مخفف من التشديد.

قال سيبويه : " والعوض قولهم : زنادقة ، وزناديق ، وفرازنة وفرازين ، حذفوا الياء وعوضوا الهاء".

قال أبو سعيد : اعلم أن كل اسم على خمسة أحرف ، ورابعها حرف زائد من حروف المدّ واللين ؛ فإنك إذا جمعته جمع التكسير ، فتحت أوّله ، ودخلت ألف الجمع ثالثة ، وكسرت ما بعد ألف الجمع ، وقلبت ذلك الحرف الذي كان رابعا في الواحد ياء ساكنة ، إن كان في الواحد واوا أو ألفا ، وأقررته ياء إن كان في الواحد ياء كقولك في" صندوق" : " صناديق" ، وفي" كرباس" : " كرابيس" وفي" قنديل" : " قناديل". وهذا القياس المطّرد ، وقد أبدلوا من هذه الياء هاء ، فقالوا : " زنديق" و" زنادقة" ، والأصل" زناديق" مثل" قنديل" و" قناديل" ، وقالوا : " فرازنة" و" فرازين" والأصل" فرازين" ؛ لأن الواحد" فرزان" مثل" سرحان" و" سراحين" و" كرباس" و" كرابيس".

قال سيبويه : وقولهم : " أسطاع يسطيع ، إنما هو أطاع يطيع ، زادوا السّين عوضا من ذهاب حركة العين ، وقولهم : اللهم ، حذفوا" يا" وألحقوا الميم عوضا".

قال أبو سعيد : أما قوله أسطاع يسطيع ومصدره إسطاعة ، فإن فيه أربع لغات :

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ٣٦ ، واللسان (ودع).

(٢) البيت منسوب لسويد بن أبي كاهل في خزانة الأدب ٣ / ١٢٠ ، واللسان (ودع).

١٨٢

أسطاع يسطيع إسطاعة والألف في هذه مقطوعة في الفعل الماضي منه وفي المصدر ، وحرف المضارعة مضموم ؛ واستطاع يستطيع استطاعة ، والألف موصولة في الفعل الماضي والمصدر والأمر وأول المستقبل مفتوح ؛ واسطاع يسطيع اسطاعة ، فالألف موصولة في الفعل الماضي والمصدر والأمر ، وأول المستقبل مفتوح ، واستاع يستيع استاعة ، بوصل الألف فيهما. ومعنى الجميع القدرة على الشيء واشتقاقه من الطاعة ؛ لأنك إذا استطعت الشيء ، وقدرت عليه ، فالشيء منقاد لك ، فكأنه مطيع ، وتصريف الفعل من ذلك.

أما أسطاع يسطيع ، فأصله أطوع يطوع ، ومن حكم أفعل في الفعل ، إذا كان موضع العين منه واوا أو ياء أن تلقى حركة العين على الفاء ، فتقلب الواو ألفا والياء ألفا ، كقولك" أجار يجير وأقام يقيم" و" ألان يلين" والأصل : أقوم وألين ، فألقوا حركة الياء والواو على ما قبلهما ، وقلبتا ألفين ؛ فلهذا القياس وجب أن يقال في" أطوع"" أطاع" ، ثم زادوا السين في" أطاع" عوضا من إلقاء حركة الواو على الطاء.

وقد طعن قوم على سيبويه في قوله : زادوا السين عوضا من ذهاب حركة العين ، والعين هي الواو في" أطوع" ؛ لأنها عين الفعل ؛ فقالوا : الحركة ما ذهبت ، وإنما ألقيت على ما قبلها.

والجواب عن سيبويه : أنه أراد جعلوا السّين عوضا من ذهاب حركة العين من العين والحركة قد ذهبت منها ، وإن وجدت في غيرها ، فكأنّ تحصيله أنهم جعلوا السين عوضا من نقل الحركة.

ومن قال : " استطاع" فهو استفعل ، من الطاعة ، كما تقول : " استجار" و" استمال".

ومن قال : " اسطاع" فإنه حذف تاء الاستفعال ، لما كثر الكلام بهذا الحرف ، وكان الطاء والتاء من مخرج واحد ، وثقل موالاتهما بلا فاصل.

ومن قال : " استاع" فإن الأصل أيضا" استطاع" وحذف الطاء ؛ لأن الطاء أثقل من التاء ، لما فيها من الإطباق. وقال يعقوب بن السكيت : استاع واسطاع من القلب والإبدال ، جعلوا التاء مكان الطاء ؛ وهذا بعيد جدّا ، وذلك أن قولنا : اسطاع ، إن لم نجعله من استطاع ، خرج من أن يكون له نظير في الفعل ، ولا يكون له اشتقاق ، وهو قول فاسد

١٨٣

بيّن الفساد ، ولم يجئ في استفعل حذف التاء الزائدة وفاء الفعل إلا في هذا الحرف ، ولا يجيء التعويض من إلقاء حركة العين على الفاء إلا في أسطاع يسطيع ، ونظيره" أهراق"" يهريق" ، ولم يجئ غيرهما.

وفي" أهراق" ثلاث لغات : يقال : هراق يهريق هراقة ، وأهراق يهريق إهراقة. وأراق يريق إراقة ؛ فمن قال : أهراق يهريق ، فإن الأصل : أروق يروق ، ثم ألقى حركة الواو ـ على ما قدمنا ـ على الراء ، وقلب الواو ألفا ، وعوض لنقل حركة الواو إلى الراء الهاء.

ومن قال : هراق يهريق ، فإنه أراد به : أراق ، فجعل مكان الهمزة هاء ، كما قالوا إياك وهيّاك ، وأما والله وهما والله.

فإن قيل فينبغي أن تسقط الهاء التي هي عوض من الهمزة في المستقبل ، كما يسقطون الهمزة ؛ لأنك تقول في المستقبل : يريق بإلقاء الهمزة التي في أراق.

قيل له : إنما حذفنا الهمزة في يريق من أراق ، لئلا يجتمع همزتان في فعل المتكلم إذا قال أؤريق وأؤكرم ، كما تقول : " أدحرج" ، والهاء ليست كذلك ، فإذا عوّضوا من الهمزة هاء في الماضي فإنّ المستقبل ليس يجتمع فيه همزتان ، فيحتاج إلى حذف.

ومن قال : أراق يريق فهو بمنزلة أقام يقيم.

فإن قيل : لم كان العوض في أسطاع سينا ، والعوض في أهراق هاء؟

فإن الجواب في ذلك أن يقال : السين والهاء هما من الحروف الزوائد والبدل ، فإذا عوّضوا حرفا فقد وصلوا إلى ما أرادوا من التعويض ، أي حرف كان ؛ لأن الغرض التعويض ، لا الحرف بعينه ، ومع ذلك فمحتمل أن تكون زيادة السين للعوض في أسطاع ، لأن يشاكل سائر اللغات فيها التي السّين مزيدة في بنائها ، وزيادة الهاء في" أهراق" ليشاكل" هراق" الذي الهاء فيه مبدلة من الهمزة.

وأما قولهم : " اللهم" فإن الميم زيدت عوضا من" يا" وشدّدوا الميم ، لأن يكون على عدة" يا" ، لأن" يا" حرفان ، وخصوا الميم ؛ لأنها تقع زائدة في أواخر الأسماء نحو : " زرقم" و" ستهم" و" دلقم". ولا يقع هذا الحرف إلا في النداء.

وقال الفراء : إن الأصل في هذا الحرف : يا الله أمنّا بخير ، وكثر في كلامهم حتى ألقوا الهمزة وطرحوا ضمتها على الهاء ، وحذفوا حركة الهاء.

وهذا عند البصريين غير جائز ، من قبل أن هذا الاسم يس تعمل في المواضع التي

١٨٤

لا يحسن فيها هذا التقدير ؛ من ذلك أنا نقول : اللهمّ أمّنا بخير ، ولا نقول : يا الله أمّنا بخير ، ونقول في الدعاء على غيرنا : اللهم عذّب الكفّار ودمّر عليهم ، ولا يحسن في مبدأ مثل هذا الدعاء : يا الله أمنّا بخير عذّب الكفّار.

واحتج الفراء في إبطال من يقول : إن الميم عوض من" يا" بأن قال : قد يجيء في الشعر" يا" مع" اللهمّ" كقول الشاعر :

وما عليك أن تقولي كلّما

سبّحت أو صلّيت يا اللهمّا

اردد علينا شيخنا مسلّما (١)

وهذا عند البصريين في ضرورة الشعر جائز أن يعوّضوا من حروف ، ثم يردونه مع بقاء العوض ، فمن ذلك قولهم : يا رجل ، ويا غلامان ، فتكون" يا" عوضا من الألف واللام ، ويتعرّف المنادى بيا ، كما يتعرف بالألف واللام ، ثم يضطر الشاعر فيجمع بينهما ، فمن ذلك قوله :

فيا الغلامان اللذان فرّا

إيّاكما أن تكسباني شرّا (٢)

وقوله :

من أجلك يا التي تيمت قلبي

وأنت بخيلة بالودّ عنّي (٣)

ومن ذلك أنهم جعلوا الميم في فم بدلا من الواو ، ثم يضطر الشاعر فيردّ الواو مع بقاء الميم. قال الفرزدق :

هما نفثا في فيّ من فمويهما

على النّابح العاوي أشدّ رجام (٤)

هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة

قال سيبويه : " فمنه مستقيم حسن ، ومحال ، ومستقيم كذب ، ومستقيم قبيح ، وما هو محال كذب".

__________________

(١) وردت الأبيات في الخزانة ١ / ٣٥٩ ، واللسان (أله).

(٢) البيتان في شرح ابن يعيش ٢ / ٩ ، والخزانة ١ / ٣٥٨.

(٣) البيت في خزانة الأدب ١ / ٣٥٨ ، وشرح ابن يعيش ٢ / ٨.

(٤) البيت في ديوانه ص ٧٧١ ، والخزانة ٢ / ٢٦٩.

١٨٥

ثم فسر ذلك فقال : " فأما المستقيم الحسن ، فقولك ، أتيتك أمس ، وسآتيك غدا".

وهذا كما قال ؛ لأن ظاهره مستقيم اللفظ ، والإعراب غير دالّ على كذب قائله ، وكذلك كل كلام تكلّم به متكلّم ، فأمكن أن يكون على ما قال ، ولم يكن في لفظه خلل من جهة اللغة والنحو ، فهو كلام مستقيم في الظاهر ، وقد تبيّن في مثل هذا أن قائله كاذب فيما قاله ، فتحكم على كلامه أنه كذب غير مستقيم من حيث كان كذبا ، إلا أنه مستقيم اللفظ. ويلحق بقوله : " حملت الجبل" و" شربت ماء البحر" و" صعدت السّماء" في أنه كذب ، غير أن الذي استعمله سيبويه في المستقيم ، أن يكون مستقيم اللّفظ والإعراب فقط ، وعنى بالمستقيم اللفظ والإعراب أن يكون جائزا في كلام العرب ؛ دون أن يكون مختارا.

ثم قال : " وأما المحال فأن تنقض أوّل كلامك ، فتقول : أتيتك غدا ، وسآتيك أمس".

فهذا كلام محال. ومعنى المحال أنه أحيل عن وجهه المستقيم ، الذي به يفهم المعنى إذا تكلّم به.

وزعم قوم أن المحال إنما هو اجتماع المتضادّات ، كالقيام والقعود ، والبياض والسواد ، وما أشبه ذلك ؛ قالوا : لأن المحال هو ما لا يصحّ وجوده ، والكلام الفاسد الذي ذكرتموه من قول القائل : " أتيتك غدا" ، " وسآتيك أمس" كلام موجود ، على ما فيه من الفساد والخلل ، والمحال لا يوجد.

والذي نقول في هذا ، وبالله التوفيق : إنّ المحال هو الكلام الذي يوجب اجتماع المتضادات ، وقولنا إن القعود والقيام اجتماعهما محال ، إنما نريد به الكلام الذي يوجب اجتماعهما محال ، قد أحيل عن وجهه ، ألا ترى أنك تقول لمن تكلّم به : قد أحلت في كلامك ، فالكلام هو المحال ، كما أن الكلام هو الكذب.

ثم قال : " وأما المستقيم الكذب فقولك : حملت الجبل ، وشربت ماء البحر ، ونحوه".

وإنما خصّ" حملت الجبل" و" شربت ماء البحر" بالكذب ؛ لأن ظاهرهما يدلّ على كذب قائلهما ، قبل التصفّح والبحث ، وإلا فكل كلام تكلّم به ، وكان مخبره على

١٨٦

خلاف ما يوجبه الظاهر فهو كذب ، علم أو لم يعلم ، كقول القائل : " لقيت زيدا اليوم" و" اشتريت ثوبا" إذا لم يكن الأمر على ما قال ، فهو مستقيم كذب.

ثم قال : " وأما المستقيم القبيح ، فأن تضع اللفظ غير موضعه ، نحو قولك : " قد زيدا رأيت" و" كي زيد يأتيك".

وإنما قبح هذا ، لأنّ من حكم" قد" أن يليها الفعل ، ولا يفارقها ؛ لأنها جعلت مع الفعل بمنزلة الألف واللام مع الاسم ، وكذلك" سوف" مع الفعل ، فقبح أن يفصل بين" قد" وبين الفعل بالاسم ؛ لما ذكرنا من شبه الألف واللام. و" كي" قد جعلت بمعنى" أن" أو بمعنى اللام ، إذا قلت : " جئتك كي يأتيك زيد" ، فهو بمعنى : ليأتيك زيد ، ولأن يأتيك زيد ، فحكم الفعل أن يليها دون الاسم ؛ إذ كانت بمحل أن ، فإيلاؤهم إياها الاسم وضع الكلام في غير موضعه.

فإن قال قائل : كيف جاز أن يسميه مستقيما قبيحا؟ وهل هذا إلا بمنزله قوله : حسن قبيح؟ ؛ لأنّ المستقيم هو الحسن.

فإن الجواب في ذلك أن الكلام ينقسم قسمين : كلام ملحون ، وكلام غير ملحون ؛ فالملحون هو الذي لحن به عن القصد ، وكذلك معنى اللّحن ، إنما هو العدول عن قصد الكلام إلى غيره ، وما لم يكن ملحونا فهو على القصد ، وعلى النحو ، ومن ذلك سمي النحو نحوا ، والمستقيم من طريق النحو هو ما كان على القصد سالما من اللّحن ، فإذا قال : " قد زيدا رأيت" فهو سالم من اللّحن ، فكان مستقيما من هذه الجهة ، وهو مع ذلك موضوع في غير موضعه فكان قبيحا من هذه الجهة.

ثم قال : " وأما المحال الكذب فهو أن يقول" : " سوف أشرب ماء البحر أمس".

فهو محال كذب ؛ فأما استحالته ؛ فلاجتماع" سوف" و" أمس" فيه ، وهما يتناقضان ويتعاقبان. وأما الكذب فيه ، فإنا لو أزلنا عنه" أمس" ، الذي يوجب المناقضة والإحالة لبقي كذبا. وكان الأخفش ينكر أن يقال في المحال صدق أو كذب. فأما إنكاره الصّدق فبيّن ، وأما إنكاره أن يكون كذبا ؛ فلأنّ الكذب نقيض الصّدق ، والمحال لا يجوز أن يكون صدقا بحال ، فإن استحال أن يقال فيه صدق بوجه من الوجوه ، استحال أن يقال كذب.

قال أبو سعيد : والقول عندي ما قاله سيبويه ، وذلك أنّ قائلا لو قال : " زيد جمع

١٨٧

بين القيام والقعود في حال" ، كان قد خبّر باجتماع هذين المعنيين ، وقد علمنا أن الاجتماع الذي خبر به على غير ما خبّر ، والكذب إنما هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو به ، وإن كان ذلك الشيء مما لا يجوز فيه الصّدق البتّة ، ألا ترى أنك تقول للمشرك الذي يدّعي أن لله شريكا في ملكه وسلطانه ، جل الله وعز : إنه كاذب ، وإن كان هذا لا يجوز أن يكون البتة ، وكذلك الذي يقول : " إن لله ولدا" كاذب. قال الله عزوجل : (لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(١).

وقد ذكر سيبويه المحال في موضعين ؛ فقال في أحدهما : " وأما المحال فأن تنقض أول كلامك ، فتقول : " أتيتك غدا" و" سآتيك أمس". وقال في الموضع الآخر : " وأما المحال الكذب فأن تقول : " سوف أشرب ماء البحر أمس" فقال في الموضع الأول : " فأما المحال" ولم يقل : المحال الكذب. وقال في الثاني : " المحال الكذب" غير أنه مثل الأول بشيء هو محال كذب أيضا ، وإنما أبهم الأول ؛ لأن المحال قد يكون كذبا وغير كذب ، غير أن الذي يجمع ذلك كلّه تناقض اللفظ فيه.

فأما المحال الذي ليس بكذب ، فاللفظ الذي يستحيل في الأمر ، وفي الاستفهام ، وفي : موضع لا يقع فيه الكذب ؛ كقولك لمن تأمره : " قم أمس" ، ولمن تستفهمه : " أستقوم أمس؟ " و" هل قمت غدا"؟ والمحال الكذب قد مرّ ، فحصل من ذلك أن المحال على ضربين : كذب وغير كذب. والكذب على ضربين : محال وغير محال.

وقال أبو الحسن الأخفش : ومنه الخطأ ، وهو ما لا تعمّد فيه ؛ نحو قولك : " ضربني زيد" وأنت تريد : " ضربت زيدا" ، وهذا من جهة اللفظ مستقيم ، فيقال فيه على قياس ما مضى : مستقيم خطأ ، كما قيل : مستقيم كذب ، ومستقيم قبيح.

هذا باب ما يحتمل الشّعر

قال سيبويه : " اعلم أنه يجوز في الشّعر ما لا يجوز في الكلام ، من صرف ما لا ينصرف يشبّهونه بما ينصرف من الأسماء ؛ لأنها أسماء كما أنها أسماء".

قال أبو سعيد : اعلم أن سيبويه ذكر في هذا الباب جملة من ضرورة الشعر ؛ ليري بها الفرق بين الشّعر والكلام ، ولم يتقصّه ؛ لأنه لم يكن غرضه في ذكر ضرورة الشاعر

__________________

(١) سورة الصافات ، آية : ١٥١ ، ١٥٢.

١٨٨

قصدا إليها نفسها ، وإنما أراد أن يصل هذا الباب ، بالأبواب التي تقدمت فيما يعرض في كلام العرب ومذهبهم في الكلام المنظور والمنثور. وأنا أذكر ضرورة الشاعر مقسّمة بأقسامها ، حتى يكون الشاذ منها مستدلا عليه بما أذكره إن شاء الله وبالله التوفيق.

اعلم أن الشّعر لما كان كلاما موزونا ، تكون الزيادة فيه والنقص منه ، يخرجه عن صحة الوزن حتى يحيله عن طريق الشعر المقصود مع صحّة معناه ، استجيز فيه لتقويم وزنه من زيادة ونقصان وغير ذلك ما لا يستجاز في الكلام مثله ، وليس في شيء من ذلك رفع منصوب ولا نصب مخفوض ، ولا لفظ يكون المتكلم فيه لاحنا. ومتى وجد هذا في شعر كان ساقطا مطّرحا ، ولم يدخل في ضرورة الشعر.

وضرورة الشعر على سبعة أوجه وهي : الزّيادة ، والنّقصان ، والحذف ، والتّقديم ، والتأخير ، والإبدال ، وتغيير وجه من الإعراب إلى وجه آخر على طريق التشبيه ، وتأنيث المذكر وتذكير المؤنث.

فأما الزيادة ، فهي زيادة حرف ، أو زيادة حركة ، أو إظهار مدغم ، أو تصحيح معتلّ ، أو قطع ألف وصل ، أو صرف ما لا ينصرف. وهذه الأشياء بعضها حسن مطّرد ، وبعضها مطرد ليس بالحسن الجيد وبعضها يسمع سماعا ولا يطّرد.

فأوّل ذلك ما يزاد في القوافي للإطلاق ، فإذا كانت القافية مرفوعة مطلقة ، جاز إنشادها على ثلاثة أوجه : أحدها أن يجعل بعد الضمة واوا مزيدة.

كقول زهير :

صحا القلب عن سلمى وقد كان لا يسلو

وأقفر من سلمى التعانيق فالثّقلو (١)

فتلحق آخر" الثّقل" واوا إتباعا لضمّة لام الثقل.

ويجوز أن يجعل مكان الواو التنوين فينشد :

 ...

وأقفر من سلمى التعانيق فالثّقلن

وقد كنت من سلمى سنين ثمانيا

على صير أمر ما يمرّ وما يحلو (٢)

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ٩٦.

(٢) ديوان زهير ص ٩٦ ، واللسان (صير).

١٨٩

ومن يجعل الإطلاق تنوينا فهو يقلب الواو الأصلية تنوينا ، فيقول : ما يمرّ وما يحلن.

وكنت إذا ما جئت يوما لحاجة

مضت وأجمّت حاجة الغد ما تخلو (١)

والوجه الثالث في الإنشاد أن ينشد البيت على خفّة من الإعراب ، كقول جرير :

متى كان الخيام بذي طلوح

سقيت الغيث أيّتها الخيام (٢)

فتسكن الميم إذا وقفت ، وتضمّها بلا واو ولا تنوين إذا وصلت ، فتقول : " أيّتها الخيام"

بنفسي من تجنّبه عزيز

عليّ ومن زيارته لمام (٣)

فإذا وصل" لمام" نوّن ، فقال : " لمام".

ومن أمسى وأصبح لا أراه

ويطرقني إذا هجع النّيام (٤)

والذي ينون في إنشاد المطلق ، لا يقف على التنوين ، وإنما ينوّنه في الوصل ، والذي يزيد الواو للإطلاق ، قد يقف عليها ؛ لأنه ليس في الكلام شيء آخره تنوين في الوقف ، وقد يكون الوقف على حرف يبدل من التنوين ، ألا ترى أنك تقول : " رأيت زيدا" فتبدل الألف من التنوين ولا يجوز : " رأيت زيدا" بالتنوين في الوقف ، وبعضهم يقول : " هذا زيدو" و" مررت بزيدي" فيبدل من التنوين واوا أو ياء في الكلام ، وليس أحد يقف على التنوين ، فقد علمت أن الذي ينشد بالتنوين ، لا يقف عليه منونا.

وإذا كانت القافية مطلقة مخفوضة ، ففيها الأوجه الثلاثة ، غير أنهم يجعلون مكان الواو في المرفوع ، ياء في المخفوضة ، كقول الأعشى :

ما بكاء الكبير بالأطلال

وسؤالي فما يرّدّ سؤالي

دمنة قفرة تعاورها الصّي

ف بريحين من صبا وشمال (٥)

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ٩٧.

(٢) البيت في ديوانه ص ٥١٢ ، وشرح ابن يعيش ٤ / ١٥.

(٣) البيت في ديوانه ص ٥١٢.

(٤) البيت في ديوانه ص ٥١٢.

(٥) البيتان في ديوانه ص ٢ ، والخزانة ٤ / ١٥٥ ، واللسان (عور)

١٩٠

وإذا كانت منصوبة ، ففيها تلك الأوجه ، وتجعل مكان الواو في المرفوعة ، ألفا فيها ، كقول الأعشى :

استأثر الله بالوفاء وبال

حمد وولي الملامة الرّجلا (١)

وإنما جازت هذه الزيادة في الشعر في القوافي ؛ لأنهم يترنّمون بالشعر ، ويحدون به ، ويقع فيه تطريب ، لا يتمّ إلا بحروف المدّ ، وأكثر ما يقع ذلك في الأواخر ، وكان الإطلاق بسبب المدّ الواقع فيه للترنّم.

وقد شبهوا مقاطع الكلام المسجّع ، وإن لم يكن موزونا وزن الشّعر بالشّعر في زيادة هذه الحروف ، حتى جاء ذلك في أواخر الآي من القرآن ، كقوله تعالى : (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)(٢)(وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا)(٣)(قَوارِيرَا. قَوارِيرَا)(٤) و" قوارير" لا ينصرف ، وقد أثبت في الوقف منها ألفا ؛ لأنها رأس آية. وهذا مذهب أبي عمرو. وبعضهم ينون الأول من" قوارير" تشبيها بتنوين القوافي ، على مذهب من ينشدها منوّنة.

وهذه الزيادة غير جائزة في حشو الكلام ، وإنما ذكرناها ؛ لاختصاص الشّعر بها دون الكلام ، وهي جيّدة مطّردة ، وليست تخرجها جودتها عن ضرورة الشّعر ؛ إذ كان جوازها بسبب الشّعر.

ومن ذلك صرف ما لا ينصرف ، وهو جائز في كلّ الأسماء ، مطرد فيها ؛ لأنّ الأسماء أصلها الصّرف ودخول التنوين عليها ، وإنما تمتنع من الصرف ، لعلل تدخلها ، فإذا اضطر الشاعر ردّها إلى أصلها ، ولم يحفل بالعلل الدّاخلة عليها ، والدليل على ذلك : أن ما لا أصل له في التنوين لا يجوز للشاعر تنوينه للضرورة ، ألا ترى أن الشاعر غير جائز له تنوين الفعل ؛ إذ كان أصله غير التنوين ، وليس يردّه بتنوينه إلى حالة قد كانت له.

فمما جاء منوّنا مما لا ينصرف قول النابغة :

فلتأتينك قصائد وليركبن

جيش إليك قوادم الأكوار (٥)

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ١٥٥ ، والخزانة ٤ / ٣٨٤ ، واللسان (أثر).

(٢) سورة الأحزاب ، آية : ٦٧.

(٣) سورة الأحزاب ، آية : ١٠.

(٤) سورة الإنسان ، آية : ١٥ ، ١٦.

(٥) البيت في ديوانه ص ٩٩ ، والخزانة ٣ / ٦٨.

١٩١

فنون" قصائد" وهي لا تنصرف. وقال أبو كبير :

ممّن حملن به وهنّ عواقد

حبك النّطاق فعاش غير مهبّل (١)

فصرف" عوائد" وهي لا تنصرف.

وقال الكسائي والفراء : يجوز صرف كل ما لا ينصرف إلا" أفعل منك" نحو : " زيد أفضل منك" فإنهما لا يجيزان صرفه في الشّعر ، وزعما أن" من" هي التي منعت من صرفه.

وأبي أصحابنا البصريون ذلك ، فأجازوا صرفه ، وذكروا أن العلّة المانعة لصرف" أفضل منك" وزن الفعل ، وأنه صفة ، فيصير بمنزلة" أحمر" فكما جاز صرف" أحمر" في الضرورة ، جاز صرفه ، وليس" لمن" في منع صرفها تأثير ؛ لأنهم قد قالوا : " زيد خير منك" و" شرّ منك" فينونون لمّا لم يكن على وزن أفعل ، ولم يمنعوهما الصرف بدخول" من" عليهما.

ومما جاء من صرف ما لا ينصرف ، على غير البناء الأول قول أمية بن أبي الصلت :

فأتاها أحيمر كأخي السّه

م بعضب فقال كوني عقيرا (٢)

فصرف" أحيمر".

وقد ينوّن أيضا ما بني من الأسماء ، التي قد استعملت منونة في حال ، إذا اضطر الشاعر إليه ، كقولك : " يا زيد" في ضرورة الشّعر ، قال الشاعر :

سلام الله يا مطر عليها

ولي عليك يا مطر السّلام (٣)

وينشد بالنصب ، فيمن نصب ردّ الكلمة إلى أصلها ؛ لأن الأصل في النداء منصوب. ومن رفع ونوّن ، زاد التنوين على لفظه ، كما تفعله فيما لا ينصرف من المرفوع.

واعلم أن ما لحقه التنوين مما لا ينصرف في ضرورة الشّعر ، لحقه الجرّ ؛ لأنه يردّ الكلمة إلى أصلها ، فتحرّكها بالحركة التي تنبغي لها ، كقول النابغة :

__________________

(١) ديوان الهذليين ص ١٠٧٢ ، الخزانة ٣ / ٤٦٦ ، واللسان (هبل) ، ابن يعيش ٦ / ٧٤.

(٢) البيت في ديوانه ص ٤٤.

(٣) البيت للأحوص الأنصاري في الخزانة ١ / ٢٩٥.

١٩٢

إذا ما غدوا بالجيش حلّق فوقهم

عصائب طير تهتدي بعصائب (١)

فخفض" عصائب" لما ردّها إلى أصلها.

وقد أجاز الكوفيون والأخفش ترك صرف ما ينصرف وأباه سيبويه وأكثر البصريين ؛ لأنه ليس يحاول بمنع صرف ما ينصرف أصل يردّ إليه.

وأنشدوا في ذلك أبياتا كلها تتخرّج على غير ما أوّلوه ، وتنشد على غير ما أنشدوه. فمن ذلك إنشادهم قول عباس بن مرادس السلمي :

فما كان حصن ولا حابس

يفوقان مرداس في مجمع (٢)

فلم يصرف" مرداسا" وهو أبوه ، وليس بقبيلة.

ومن ذلك أيضا قول الآخر :

وممّن ولدوا عامر ذو الطول وذو العرض (٣)

فلم يصرف" عامرا" ولم يجعله قبيلة ؛ لأنه قد وصفه فقال : " ذو الطول وذو العرض" ولو كان قبيلة ، لقال : ذات الطّول وذات العرض.

وأنشدوا أيضا :

ومصعب حين جدّ الأم

ر أكثرها وأطيبها (٤)

فأما بيت عباس بن مرادس ، فإن الرواية عند أصحابنا :

" يفوقان شيخي في مجمع"

وشيخه هو مرادس ، ورأيت في شعر عباس بن مرادس في نسخة عمرو بن أبي عمرو الشيباني : " يفوقان شيخي".

وأما : " عامر ذو الطول وذو العرض" فإن عامرا أبو القبيلة فيجوز أن يعني بلفظه القبيلة ، فلا يصرف. ثم يردّ الكلام إلى لفظه ، فيصرف ، كما قال عزوجل : (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ)(٥) فصرف الأول ، وترك صرف الثاني ، على قراءة

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ٥٧ ، وابن يعيش ١ / ٦٨.

(٢) البيت في الخزانة ١ / ٧١ ، وابن يعيش ١ / ٦٨.

(٣) البيت لذي الإصبع العدواني في ابن يعيش ١ / ٦٨ ، وبلا نسبة في اللسان (عمر).

(٤) البيت لعبيد الله بن قيس الرقيات في ديوانه ص ١٢٤ ، وبلا نسبة في الخزانة ١ / ٧٢ ، وابن يعيش ١ / ٦٨.

(٥) سورة هود ، آية : ٦٨.

١٩٣

أكثر القرّاء ، فصرف الأول على لفظ أبي القبيلة ، وترك صرف الثاني ؛ لأنه أريد بلفظه القبيلة نفسها.

قال الشاعر في هذا المعنى :

قامت تبكّيه على قبره

من لي من بعدك يا عامر

تركتنى في الدار ذا غربة

قد ذلّ من ليس له ناصر (١)

فأنث المبكّية ، وحكى عنها أنها قالت لعامر : تركتني في الحيّ ذا غربة ، وكان حكمها أن تقول : ذات غربة ، ولكنه ردّ الكلام إلى معنى الإنسان ؛ لأنها إنسان ، فكأنها قالت : تركتني إنسانا ذا غربة. وكذا قوله : ذو الطول وذو العرض ، ردّه إلى نفس عامر.

وأما قوله : " ومصعب حين جدّ الأمر" ، فإن أصحابنا يروونه : " وأنتم حين جدّ الأمر" وقد يروى في نحو هذا بيت لدوسر بن دهبل القريعيّ :

وقائلة ما بال دوسر بعدنا

صحا قلبه عن آل ليلى وعن هند (٢)

والجيّد الصحيح في إنشاد هذا البيت : " وقائلة ما للقريعي بعدنا".

قال أبو سعيد وكان ابن السّرّاج يقول : لو صحّت الرواية في ترك صرف ما ينصرف ، ما كان بأبعد من قولهم :

فبيناه يشري رحله قال قائل

لمن جمل رخو الملاط نجيب (٣)

فإنما هو : " فبينا هو يشري رحله" فحذف الواو من هو ، وهي متحركة من نفس الكلمة ، وليست بزائدة ، فإذا جاز أن يحذف ما هو من نفس الحرف ، جاز أن يحذف التنوين ، الذي هو زائد ، للضرورة.

قال أبو سعيد : والذي قاله وجه ، غير أن حذف التنوين عندي ، وإن كان زائدا أقبح من حذف الواو في" هو" ؛ لأن التنوين علامة تفرّق بين ما ينصرف وما لا ينصرف ، وسقوطه يوقع اللّبس ، وحذف الواو من" هو" لا يوقع لبسا ، ولا يلحقه بغير بابه.

وممّا زيد عليه حرف للضرورة قولهم في الشعر : " رأيت جعفرّا" و" مررت بجعفر" و" هذا جعفرّ" ، وذلك أنهم يقولون في الوقف : " هذا جعفرّ" و" مررت بجعفرّ" ليدلّوا على

__________________

(١) بلا نسبة في ابن يعيش ٥ / ١٠٥ ، واللسان (عمر).

(٢) البيت في الأصمعيات ص ١٦٨ ، والخزانة ٤ / ٣٦٦.

(٣) البيت منسوب للعجير السلولي في الخزانة ٢ / ٣٩٦ ، وبلا نسبة في ابن يعيش ١ / ٦٨.

١٩٤

أن آخره متحرّك في الوصل ؛ لأنهم إذا شدّدوا اجتمع ساكنان في الوقف ، الحرف الذي كان في الأصل ، والحرف المزيد ، وقد علم أن الساكنين لا بدّ من تحريك أحدهما في الوصل ، فشدّدوا ؛ ليدلّوا بالتشديد على التحريك في الوصل. وإنما يفعلون هذا فيما كان قبل آخره متحرّك مثل : " خالد" و" جعفر" إذا وقفوا عليه ، ولا يفعلون في زيد وعمرو ، لئلا تتوالى ثلاثة سواكن ، فإذا وصلوا ردّوا الكلام إلى أصله فقالوا : " مررت بجعفر يا فتى" ، و" هذا جعفر فاعلم" استغنوا عن التشديد بتحريك آخره ؛ إذ كانوا إنما شدّدوه ؛ ليدلّوا على التحريك في الوصل ، فإذا اضطر الشاعر إلى تشديده في الوصل شدّده ، وأجراه مجراه في الوقف فقال : " رأيت جعفرّا" و" مررت بجعفرّ" و" هذا جعفرّ".

قال الشاعر :

مهر أبي الحبحاب لا تشلّي

بارك فيك الله من ذي ألّ

ومن موصّى لم يضع قيلا لي

خوارجا من لغط القسطلّ

إذ أخذ القلوب بالأفكلّ (١)

وإنما هو : " الأفكل" ، و" القسطل" مخففان.

ونظير هذا قولهم : " الضّاربونه والقاتلونه" إذا وقفوا عليه ، يزيدون الهاء ، لبيان حركة النون ، وكذلك كلّ حركة ليست للإعراب يجوز أن تلحقها هذه الهاء ؛ فتقول : " أينه" ، و" كيفه" في الوقف. فإذا اضطر الشاعر جاز أن يجرى هذه الهاء في الوصل مجراها في الوقف ، ويجعلها كهاء من نفس الكلمة داخلة للضمير.

قال الشاعر :

هم القائلون الخير والآمرونه

إذا ما خشوا من معظم الأمر مفظعا (٢)

وقال آخر :

ولم يرتفق والنّاس محتضرونه

لديه وأيدي المعتفين رواهقه (٣)

والصحيح الجيد في هذا أن تكون الهاء هي هاء الوقف ، وجعلها في الوصل على

__________________

(١) الأبيات منسوبة لأبي الخضر اليربوعي في اللسان (ألل).

(٢) البيت بلا نسبة في الخزانة ٢ / ١٨٧ ، وابن يعيش ٢ / ١٢٥ ، وتاج العروس ١٠ / ٤٥٣.

(٣) البيت في الخزانة ٢ / ١٨٦ ، وابن يعيش ٢ / ١٢٥. وفيهما : (جميعا وأيدي).

١٩٥

حكمها في الوقف وحرّكها كما قال : " القسطلّ" و" الأفكلّ".

وقال بعضهم : هذه الهاء هي ضمير المفعول ، وضمير المفعول متى اتصل باسم الفاعل لم يجز فيه إلا حذف التنوين في الواحد والنون في الاثنين والجماعة ، ألا ترى أنك تقول هذا ضاربك ، وهذان ضارباك ، وهؤلاء ضاربوك ، ولا يقال : هذا ضاربك ، وهذان ضاربانك ، غير أن سيبويه قد أجاز هذا في ضرورة الشعر. وأنشد البيتين اللذين أنشدنا ، وضعّفهما وجعلهما موضوعين.

ومن ذلك أنهم قد يزيدون في آخر الاسم نونا مشدّدة ؛ كقولهم في" القطن" : " قطننّ" وهذا من أقبح الضرورة.

وقال الراجز :

كأن مجرى دمعها المستنّ

قطننّة من أجود القطننّ (١)

ويروي : القطنّ فزادوا نونا أخرى في القطنّة ، وأصلها بنون واحدة ، وإنما زادها إتباعا للنون الأولى ، وستقف على ما يزاد للإتباع ، إن شاء الله تعالى.

ومن ذلك قول الراجز لابنه :

أحبّ منك موضع الوشحنّ

وموضع الإزار والقفنّ (٢)

والأصل : الوشح : جمع وشاح ، والقفا. وزاد نونا مشددة ، وفتح لها ما قبلها ، تشبيها بالنون المشدّدة ، التي تزاد في آخر الأفعال للتأكيد ، وكسرها بحقّ الاسمية ، كما تدخل هاء التأنيث فيفتح لها ما قبلها ، ثم تعرب هي. ودخلت هذه النون على" قفا" فالتقى ساكنان ، الألف التي في" قفا" ، والنون الأولى من النونين ، وليس زيادة النون في هذين البيتين ، كزيادتها فيما قبل.

وأما زيادة الحركة ، فإنهم قد يحرّكون الحرف الساكن بحركة ما قبله ، إذا اضطرّوا إلى ذلك ، فمن ذلك قول رؤبة :

وقاتم الأعماق خاوي المخترق

مشتبه الأعلام لمّاع الخفق (٣)

وإنما هو : " الخفق" ، فحرك الفاء ، بحركة الخاء.

__________________

(١) الرجز لقارب بن سالم المري في اللسان (قطن)

(٢) الرجز لدهلب بن قريع في اللسان (وشح).

(٣) البيتان في ديوانه ص ١٠٤ ، والخزانة ١ / ٣٩ ، واللسان (خفق).

١٩٦

ومثله قول زهير :

ثم استمروا وقالوا إنّ موعدكم

ماء بشرقيّ سلمى فيدأو ركك (١)

واسم الماء ـ فيما ذكروا : ركّ ، فاضطرّ الشاعر إلى تحريك الكاف الأولى ، بحركة الراء ، ومثله في هذه القصيدة :

كما استغاث بسيء فزّ غيطلة

خاف العيون فلم ينظر به الحشك (٢)

وإنما هو : " الحّشك" ومعناه : الدّرّة ، وامتلاء الضرع ، من قولك : حشك يحشك حشكا. قال الهذلي :

إذا تجرّد نوح قامتا معه

ضربا أليما بسبت يلعج الجلدا (٣)

فكسر اللام من" الجلد" إتباعا للجيم ، والقصيدة من الضرب الأول من البسيط ، موضع اللام من" الجلد" متحرّك.

وأولها :

ما ذا يغير ابنتي ربع عويلهما

لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا (٤)

وأما قول الراجز :

علّمنا أخوالنا بنو عجل

شرب النبيد واعتقالا بالرّجل (٥)

فليس من هذا الباب ، وإنما هو من باب إلقاء حركة الحرف الأخير على الساكن الذي قبله ، وهو جيّد بالغ في الكلام والشّعر ، كقولك : " مررت ببكر" ، " وهذا بكر" ؛ كقول أوس :

 ...

كما طرّقت بنفاس بكر (٦)

أراد : " بكر" ومثله :

عجبت والدّهر كثير عجبه

من عنزيّ سبّني لم أضربه (٧)

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ١٦٧ ، واللسان (قيد).

(٢) البيت في ديوانه ص ١٧٧ ، واللسان (حشك).

(٣) البيت لعبد مناف بن ربع الهذلي في ديوان الهذليين ص ٦٧٢ ، واللسان (لعج)

(٤) البيت في ديوان الهذليين ص ٦٧١ ، واللسان (غير).

(٥) البيتان في اللسان (عجل).

(٦) البيت في ديوانه ص ٣١ ، واللسان (لمم) برواية أخرى.

(٧) البيت لزياد الأعجم في اللسان (لمم) وابن يعيش ٩ / ٧٠.

١٩٧

وإنما هو : " أضربه" في الوصل ، فألقي ضمة الهاء على الباء.

ومن ذلك زيادة الحركة على ما ينبغي أن يكون استعمال اللفظ عليه ، وهو إظهار المدغم ؛ كقولك في" رادّ" : " رادد" ؛ لأنه فاعل ، فأدغمت الدال الأولى في الثانية ، لأن تنطق بهما في مرة واحدة طلبا للتخفيف ، ولأنه يثقل أن يتكلم بالحرف ثم يعاد إليه فيتكلم به من غير فاصل. وستقف على علة استثقال ذلك إن شاء الله تعالى.

فإذا اضطر شاعر رده إلى الأصل ، فأظهره وحرّكه بما يكون له من الحركات ، فمن ذلك قول قعنب بن أمّ صاحب :

مهلا أعاذل قد جرّبت من خلقي

أنّي أجود لأقوام وإن ضننوا (١)

والذي يستعمل : ضنّوا فردّه إلى أصله ؛ إذا كان أصله : ضنن ، فمن ذلك :

الحمد لله العليّ الأجلل (٢)

والذي يستعمل : الأجلّ. ومنه :

تشكو الوجى من أظلل وأظلل (٣)

أراد : من أظل وأظلّ

ومن نحو هذا : تحريك المعتلّ فيما حقّه أن يكون اللفظ به على السّكون ، ورده إلى أصله في التحريك الذي ينبغي له مع ما فيه من الاستثقال ، لتقويم اللّفظ ، فمن ذلك قول ابن قيس الرقيات :

لا بارك الله في الغواني هل

يصبحن إلا لهنّ مطّلب (٤)

ومنه قول جرير :

فيوما يجارين الهوى غير ماضي

ويوما ترى منهنّ غولا تغوّل (٥)

وإنما الوجه ألا تكسر الياء المكسورة ما قبلها ، ولا تضمّ ؛ لاستثقال الضم والكسر عليها وإن كانت النية فيها التحريك ، فكان الوجه : لا بارك الله في الغواني ، بتسكين الياء

__________________

(١) البيت في اللسان (ظلل).

(٢) البيت لأبي النجم العجلي في الخزانة ١ / ٤٠١ ، واللسان (جلل).

(٣) البيت للعجاج في ديوانه ص ٤٧ ، واللسان (ظلل).

(٤) البيت في ديوانه ص ٣ ، وابن يعيش ١٠ / ١٠١.

(٥) البيت في ديوانه ص ٤٥٥ ، وخزانة الأدب ٣ / ٥٣٤ ، واللسان (غول).

١٩٨

وغير ماض ، بسقوط الياء لدخول التنوين ؛ لأنها تسكن والتنوين ساكن ، فتحذف لالتقاء الساكنين.

وأما قول جرير ؛ فإن أكثر رواة الشعر ينشدونه : " غير ما صبى"؟ والمعنى : يجارين الهوى بالحديث والمجالسة ، دون التخطي إلى ما لا يجوز.

ومن ذلك قوله :

ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت بني لبون بني زياد (١)

والوجه فيه : " ألم يأتك" تسقط للجزم الياء ؛ لأنها ساكنة في الرفع غير أن الشاعر إذا اضطر جاز له أن يقول : " يأتيك" في حال الجزم ، إذا كان من قوله : يأتيك في حال الرفع فلحق هذه الضرورة جزم أسكنها ، وكان علامة الجزم حذف الضمة.

وفي الناس من يتأوله على غير هذا فيقول : نحن إذا قلنا : " يأتيك" في حال الرفع تقدّر ضمّة محذوفة ، فإذا جزمناه قدرنا حذف تلك الضمة ، وإن لم يظهر شيء من ذلك في اللفظ ، كما تقول : " رأيت العصا" و" مررت بالعصا" ، " وهذه العصا" فتكون في النيّة حركات مختلفة لا تظهر في اللفظ ويشدّ هذا قراءة ابن كثير : " إنّه من يتّقي ويصبر" في بعض الروايات عنه. وهذا قليل في الكلام جدّا.

وهذا النحو قول عبد يغوث بن وقّاص الحارثي :

وتضحك مني شيخة عبشميّة

كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا (٢)

ويروى : " ترى" على خطاب المؤنث ؛ فمن قال : " ترى" على الخطاب ، فلا ضرورة فيه ، ومن قال : " ترى" فهو على التقدير الثاني في البيت الذي قبله ، وهو أنه جعل الجزم حذف الحركة المنويّة في الألف.

فإن قال قائل : فقد قرأ حمزة : لا تخف دركا ولا تخشى (٣) وليس في القرآن ضرورة.

قيل له : في ذلك وجهان سوى هذا ، أحدهما : أنه جعل الأول نهيا ، والثاني خبرا ،

__________________

(١) البيت لقيس بن زهير العبسي في الخزانة ٣ / ٥٣٣ ، وابن يعيش ٨ / ٢٤ ، واللسان (أتى).

(٢) البيت في الخزانة ١ / ٣١٦ ، وابن يعيش ١٠ / ١٠٦ ، واللسان (شوس).

(٣) سورة طه : آية : ٧٧.

١٩٩

كأنه قال : ولا تخف دركا وأنت لا تخافه امتثالا لما أمرناك به ، وانزجارا عمّا زجرناك عنه ، ومثله كثير في الكلام.

والوجه الثاني : أن تكون الألف في : " تخشى" زيدت لإطلاق الفتحة إذ كانت رأس آية كما تزاد في القوافي والكلام المسجوع.

مثل الآية قوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى)(١) يجوز أن يكون خبرا كأنه قال : سنقرئك ونزيل عنك النسيان ، فلست تنساه ، وذلك أنه عليه‌السلام قد كان قبل نزول هذه الآية يتلقى الوحي بإعادة ما أوحي إليه قبل استتمامه مخافة النسيان ، ويعجل في تلقّيه ، فنهاه الله تعالى عن ذلك بقوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(٢) وبشره بأنّه لا ينساه ، فهذا وجه.

والوجه الثاني : لا يكون نهاه عن التشاغل والإهمال المؤديين إلى النسيان لما أقرئ ؛ لأن النسيان ليس هو بفعل النّاسي ، فينهى عنه ، وإنما هو من فعل الله تعالى ، يحدثه عند إهمال ما ينسى وترك مراعاته.

وفي الآيتين التقدير الذي ذكرناه في البيتين ، وفي القراءة المروية عن ابن كثير.

واعلم أن الاعتلال قد يلحق البناء الذي لا ينصرف ، ولا يدخله التنوين ؛ فيدخله التنوين بسبب لحاقه ؛ فمن ذلك : " جواري" وبابها ومن ذلك رجل يسمى" بيرمي" و" يعيلي" والوجه في ذلك في حال الرفع والجر أن يقال : " مررت بجوار" و" هذه جوار يا فتى" و" مررت بيرم" ، " وهذا يرم يا فتى" ومثاله من الصحيح : " مررت بضوارب" و" هؤلاء ضوراب" و" مررت بيزيد"" وهذا يزيد" ، غير أن الياء لما انكسر ما قبلها وأسكنت دخل البناء نقصان ، فلزمه هذا التغير ؛ لعلل سنذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى.

فإذا اضطر الشاعر فحرك هذه الياء في حال الرفع والجر لزمه أن لا يصرف إلا أن يضطر إلى الصرف ، فيجريه مجرى ما لا ينصرف إذا اضطر إلى صرفه ، فمن ذلك قول الفرزدق :

فلو كان عبد الله مولى هجوته

ولكنّ عبد الله مولى مواليا (٣)

__________________

(١) سورة الأعلى ، آية : ٦.

(٢) سورة طه ، آية : ١١٤.

(٣) البيت منسوب للفرزدق في الخزانة ٢ / ٣٧٤ ، وابن يعيش ١ / ٦٤ ، واللسان (ولي).

٢٠٠