شرح كتاب سيبويه - ج ١

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-5251-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

وربما احتجّ بعض النحويين بأن يقول : الفاعل من المفعول ؛ لأنه محتاج إليه ، فجعل له أقوى الحركات للمشاكلة. وقد احتج بعضهم بأن قال : أوّل ما يرد من الأسماء الفاعل ، فيرد والنفس جامّة ، فاستعمل له أقوى الحركات ؛ لقوة النّفس عند وروده على إتمام النطق ، وجعل أخفّ الحركات لما بعده.

وقد احتج بعضهم بأن الفاعل مضارع للمبتدأ ؛ لأنه يخبر عنه بفعله الذي قبله ، كما يخبر عن المبتدأ بخبره الذي بعده ، فالفعل والفاعل كالمبتدأ والخبر ، إلا في التقديم والتأخير والزّمان الذي يدلّ على صيغة الفعل ، ألا ترى أنّك إذا قلت : " قام زيد" فمعناه" زيد قائم" إلا أن" قام زيد" قد دلّ على زمان متقدّم ، والقيام الذي به خبّرت عن زيد ملفوظ به قبله. وإذا قلت : " زيد قائم" فهو غير دالّ على زمان متقدّم أو متأخر.

واعلم أن قولنا : فاعل وفعل ليس المقصد فيه إلى أن يكون الفاعل مخترعا للفعل على حقيقته ، وإنما يقصد في ذلك إلى اللفظ الذي لقّبناه فعلا في أول الكتاب الدال بصيغته على الأزمنة المختلفة ، متى ما بنيناه لاسم ورفعناه به ، سواء كان مخترعا له أو غير مخترع رفعناه به وسمّيناه فاعلا من طريق النحو ، لا على حقيقة الفعل ، ألا ترى أنا نقول : " مات زيد" ، ولم يفعل موتا ، ونقول من طريق النحو : " مات" فعل ماض و" زيد" فاعله ، و" طلعت الشّمس" و" انتصبت الخشبة" و" نظف ثوبك" ، وما أشبه ذلك من الأفعال التي لا تحصى.

وقد ينقل الفعل عن الاسم الذي سميناه فاعلا ، ويحذف الفاعل ، ويغير لفظ الفعل ، ويرفع به ما كان مفعولا في اللفظ ، كقولنا : " ضرب زيد عمرا" ، تحذف زيدا وتغير الفعل ، وتبنيه لعمرو. وسبيل هذا سبيل الفاعل الذي بنينا له الفعل ، ورفعناه به ، غير أنّ النحويين يسمّون هذا الفعل : فعل مفعول به ؛ لأنه قد كان له فاعل حذف وغيّر لفظ الفعل بالحركات ، والعمل فيها واحد ، فالذي يرتفع بالفعل هو الذي يشغل الفعل به سواء كان فاعلا أو مفعولا أقيم مقام الفاعل. ومعنى شغل الفعل به أنّك تجعله خبرا غير مستغن عنه. وذلك معنى قول سيبويه : " لأنّك لم تشغل الفعل بغيره" يعني إذا قلت : " ضرب زيد" لم تشغل الفعل بغيره ، ولو شغلت الفعل بغيره لنصبته كقولك : " ضرب عمرو زيدا".

ثم قال سيبويه بعد أن مثّل فعل الفاعل وهو : " ذهب زيد" ، وفعل المفعول وهو : " ضرب زيد" فقال : " والأسماء المحدّث عنها والأمثلة دليلة على ما مضى وعلى ما لم

٢٦١

يمض من المحدّث به عن الأسماء ، وهو الذهاب والجلوس والضّرب".

يعني أنك إذا قلت : " ذهب زيد" و" جلس عمرو" و" يضرب أخوك" فقد دللت على ذهاب في زمان ماض كان من زيد ، وجلوس كان من عمرو ، وضرب يقع بالأخ في زمان مستقبل ، فحدثت عن زيد بذلك الذهاب الماضي ، وحدّثت عن الأخ بالضرب الذي يقع به ، والأمثلة هي أمثلة الأفعال التي منها ماض وغير ماض ، والمحدّث به عن الأسماء هو المصادر والأسماء هاهنا هم المسمّون الفاعلون ، كأنه أراد أصحاب الأسماء. وقد مضى هذا في أول الكتاب.

فإن قال قائل : لم قال سيبويه : " فالأسماء المحدّث عنها والأمثلة دليلة على ما مضى ، وعلى ما لم يمض" ، ونحن نعلم أن الأمثلة وحدها هي الدالة على الأزمنة الماضية وغير الماضية ، والأسماء لا تدل على ذلك؟

فالجواب عنه أن يقال : إن الفعل بنفسه إذا عري من الاسم لم يكن كلاما ، وإنما يتمّ الكلام بذكر الفاعل معه ، فإذا ذكر الفعل والفاعل دلّ حينئذ على المصادر المحدّث بها عن الأسماء ، غير أن الدلالة على الأزمنة للأفعال وخلط الأسماء بها لاحتياجها إلى الأسماء أعني احتياج الفعل.

ثم قال سيبويه : " وليست الأمثلة بالأحداث ، ولا يكون ما كان منه الأحداث".

يعني أن قولك : " قام ويقوم" و" انطلق وينطلق" و" ضرب ويضرب" وما أشبه ذلك من أمثلة الفعل ليست هي المصادر ، وذلك أن هذه الأمثلة تدل على المصادر والأزمنة ، فليست هي المصادر وحدها ولا هذه الأمثلة الفاعلين الذين يكون منهم الأحداث ، كزيد وعمرو وسائر الأسماء التي يقع منها الأحداث.

وقوله : " هي الأسماء". يريد أصحاب الأسماء الفاعلين.

هذا باب الفاعل الذي يتعدّاه فعله إلى مفعول

قال سيبويه : " وذلك قولك : ضرب عبد الله زيدا ، فعبد الله ارتفع هاهنا كما ارتفع في ذهب ، وشغلت ضرب به ، كما شغلت به ذهب". وقد فسرنا هذا.

وشبه سيبويه رفع الفاعل الذي يتعدى فعله في" ضرب". برفع الفاعل الذي لا يتعدى فعله في" ذهب" ، لاجتماعهما في أنهما فاعلان قد شغل الفعل بهما ، وإن كانا قد اختلفا في التعدّي.

٢٦٢

ثم قال : " وانتصب زيد ، لأنه مفعول تعدّى إليه فعل الفاعل". وقد بينا هذا.

ثم قال : " إن قدّمت المفعول وأخّرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأوّل ، وذلك قولك : ضرب زيدا عبد الله ؛ لأنك إنما أردت به مؤخّرا ما أردت به مقدّما ، ولم ترد أن تشغل الفعل بأوّل منه ، وإن كان مؤخّرا في اللفظ ، فمن ثمّ كان حد اللفظ أن يكون فيه مقدما وهو عربيّ جيّد كثير ، كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم ، وهم ببيانه أعني ، وإن كانا جميعا يهمّانهم ويعنيانهم".

قال أبو سعيد : أمّا قولهم : " ضرب زيدا عبد الله" ، فإنهم قدّموا المفعول على الفاعل لدلالة الإعراب عليه ، فلم يضرّ من جهة المعنى تقديمه ، واكتسبوا بتقديمه ضربا من التوسّع في الكلام ؛ لأن في كلامهم الشّعر المقفّى والكلام المسجّع ، وربما اتفق أن يكون السجع في الفاعل فيؤخّرونه.

فإذا وقع في الكلام ما لا يتبين فيه الإعراب في فاعل ولا مفعول قدّم الفاعل لا غير ، كقولهم : " ضرب عيسى موسى" ، فعيسى هو الفاعل لا غير ، وإن بان الإعراب في أحدهما جاز التقديم والتأخير ، كقولك : " ضرب زيدا عيسى" و" ضرب عيسى زيدا".

والفاعل كيفما تصرفت فيه الحال ، فهو الذي يبنى له الفعل ، والمفعول كالفضلة في الكلام ؛ للاستغناء عنه ، والفاعل وإن كان مؤخرا في اللفظ فإن تقديره التقديم ؛ لأن الفعل لا يستغنى عنه.

وقول سيبويه : " فمن ثم كان حدّ اللفظ أن يكون فيه مقدّما".

يعني إنما أردت أن تشغل الفعل بالفاعل وتبنيه له ، وإن كان في اللفظ مؤخرا ، أو لم ترد أن يبنى الفعل لاسم قبل الفاعل ، وهو قوله : " أن تشغل الفعل بأوّل منه" يعني بالمفعول الذي هو قبله ، لأن حدّ اللفظ أن يكون مقدّما ، وليس يريد بقوله : " حد اللفظ" أن يكون تقديم الفاعل هو حدّ اللفظ الذي لا يحسن غيره ، وإنما نريد بحد اللفظ : ترتيبه وتقديره.

وقوله : " وهو عربي جيّد كثير". يريد به تقديم المفعول ، وردّ كلامه هذا إلى قوله : " وإن قدّمت المفعول وأخّرت الفاعل".

وقوله : " كأنهم يقدّمون الذي بيانه أهم". معنى ذلك أنه قد تكون أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه ، ولا يبالون من أوقعه به ، كمثل ما يريده الناس من قتل

٢٦٣

خارجي مفسد في الأرض ، ولا يبالون من قتله ، فإذا قتله زيد فأراد مخبر أن يخبر بذلك قدم الخارجي في اللفظ ؛ لأن القلوب متوقعة لما يقع به من أجله ، لا من أجل قتله ، فتقول : " قتل الخارجيّ زيد". وإن كان رجل ليس له بأس ، ولا يقدّر فيه أن يقتل أحدا ، فقتل رجلا ، فأراد الخبر أن يخبر بهذا المستبعد من هذا القاتل ، كان تقديم القاتل في اللفظ أهمّ ؛ لأن الغرض أن يعلم أنه قتل إنسانا ، فيقال : " قتل زيد رجلا". وهذا الكلام إنما هو على قدر عناية المتكلم ، وعلى ما يسنح له وقت كلامه وربما فعل هذا لطلب سجع أو قافية أو كلام مطابق ، ولأغراض شتي اكتفاء بدلالة اللفظ عليه.

ثم قال سيبويه : " واعلم أن الفعل الذي لا يتعدّى الفاعل ، يتعدّى إلى اسم الحدثان الذي أخذ منه ؛ لأنّه إنما يذكر ليدل على الحدث".

يعني أنّ الفعل يعمل في مصدره ، وإن كان لا يتعدّى الفاعل ، كقولنا : " قام زيد قياما". والمصدر أصحّ المفعولات ؛ لأن الفاعل يحدثه ويخرجه من العدم إلى الوجود ، وصيغة الفعل تدلّ عليه ، والأفعال كلها متعدّية إليه عاملة فيه ، كقولك : " ضرب زيد عمرا ضربا" و" قتل بكر خالدا قتلا". وأنا أذكر الأشياء التي تشترك الأفعال في تعدّيها إليها ، والأشياء التي تختلف فيها ، إن شاء الله :

فأما الأشياء التي تشترك في تعدّي الأفعال إليها ، وعملها فيها ، فهي المصادر وظروف الزمان والمكان والحال ، والمفعول معه ، والمفعول له. فأما المصدر فقد ذكرناه ، وظروف الزمان كقولك : " قام زيد يوم الجمعة" ، وظروف المكان : " قام زيد خلفك". والحال : " قام زيد ضاحكا" أي في حال ضحكه ، والمفعول معه قولك : " ما صنعت وأباك"؟ و" جاء الشّتاء والطّيالسة" ، تريد : ما صنعت مع أبيك؟ ، وجاء الشتاء مع الطيالسة ، والمفعول له : " قام زيد حذر الشّرّ" ، يريد لحذر الشّر ومن أجله. وأما اختلاف الأفعال في غير هذه الستة ، فمن الأفعال ما لا يتعدّى إلى شيء سوى هذه الستة ، كقولك : " قام زيد" و" ذهب عمرو". ومنها ما يتعدى إلى مفعول سواها ، كقولك : " ضرب زيد عمرا".

ومنها ما يتعدّى إلى مفعولين وهو على ضربين : أحدهما يجوز الاقتصار على أحد المفعولين فيه ، كقولك : " أعطى زيد عمرا درهما" ، ويجوز أن تقول : " أعطى زيد عمرا" و" أعطى زيد درهما" وتسكت والضرب الآخر : لا يجوز فيه الاقتصار على أحدهما ، وهو

٢٦٤

قولك : " حسب زيد عمرا منطلقا" ولا يجوز أن تقول : " حسب زيد عمرا" ولا" حسب زيد منطلقا".

ومنها ما يتعدى إلى ثلاثة مفعولين سوى الستّة ؛ كقولك : " أعلم الله زيدا عمرا منطلقا".

والنحويون يذكرون تعدّي الأفعال إلى أربعة من الستة ، واشتراكها فيها ، وهي المصادر ، وظروف الزمان ، وظروف المكان ، والحال ، ولم يذكروا المفعول معه ، ولا المفعول له مع هذه الأربعة ، وذلك أن كلّ فعل لا بدّ له من مصدر ، وظرف زمان ، وظرف مكان ، وحال ، وقد تخلو من المفعول له ، والمفعول معه ، وذلك أن المفعول له هو الذي وقع الفعل من أجله وهو الغرض الداعي للفاعل إلى إيقاع الفعل ، والمفعول معه هو الذي يشاركه الفاعل ويلابسه فيه ، تقول : " قام زيد حذر الشّرّ" ، فكأنه قام ، وكان غرضه في قيامه أن يكفى الشر الذي يحذره و" قام زيد ابتغاء الخير" أي لابتغاء الخير وكان قصده إلى ذلك.

ولو أن إنسانا تكلّم وهو نائم ، أو فعل فعلا وهو ساه ، ولم يكن له فيه غرض ، لم يكن في فعله مفعول له ، ولو فعل فعلا لم يشاركه فيه غيره لم يكن مفعول معه ، فذكر النحويون الأربعة التي يحتاج الفعل إليها ، ولا يستغني عن واحد منها مذكورا أو محذوفا ، وهذه المفعولات تجيء واحدا واحدا مشروحا إن شاء الله تعالى.

فقول سيبويه : " إن الفعل الذي لا يتعدّى ، يتعدّى ، إلى اسم الحدثان" نحو" ذهب زيد ذهابا" ، فذهب هو فعل لا يتعدّى ، والحدثان هو الذّهاب ، واسمه هذا اللفظ ؛ أعني لفظ الذهاب.

وقوله : " ألا ترى أنّ قولك : " قد ذهب" فيه دليل على أنه قد كان منه ذهاب".

قال أبو سعيد : اعلم أن سيبويه يجعل المفعول الذي تدلّ صيغة الفعل عليه أقوى من المفعول الذي لا تدلّ صيغة الفعل عليه ، والمفعول الذي تدل صيغة الفعل عليه اثنان : المصدر وظروف الزمان ، فبدأ سيبويه بالمصدر ؛ لأنه أقوى من ظروف الزمان ؛ لأن الفاعل قد فعله وأحدثه ، ولم يفعل الزمان ، وإنما فعل فيه.

ثم قال سيبويه : " وإذا قلت ضرب عبد الله ، لم يتبيّن أن المفعول زيد أو عمرو".

يريد أن" ضرب عبد الله" في تعدّيه إلى" زيد" ليس بمنزلة" ذهب عبد الله" في

٢٦٥

تعدّيه إلى الذهاب ، وذلك أنك إذا قلت : " ذهب عبد الله" فقولك : " ذهب" يدلّ على ضرب من المصادر والأحداث دون سائرها ، وهو" الذّهاب" ، فإذا قلت : " ضرب عبد الله" أمكن أن يكون الضرب واقعا بجميع الأسماء نحو" زيد" و" عمرو" و" بكر" و" خالد" ، فمفعول الضرب لم تدل عليه صيغة فعله ، كما دلت على المصدر.

ثم مثّل فقال : " وذلك قولك : ذهب عبد الله الذّهاب الشديد ، وقعد قعدة سوء ، وقعد قعدتين ، لمّا عمل في الحدث عمل في المّرّة منه والمرّتين ، وما يكون ضربا منه ، فمن ذلك : قعد القرفصاء ، واشتمل الصّمّاء ، ورجع القهقرى ؛ لأنّه ضرب من فعله الذي أخذ منه".

وقال أبو سعيد : اعلم أن المصادر على ثلاثة أنحاء : فنحو منها يدلّ على نوع المصدر فقط ، كقولك : " ضرب زيد ضربا" و" قعد قعودا" فضربا وقعودا يدلان على نوع الضرب والقعود ، ولا يدلان على مرّة ، ولا مرّتين ، ولا على صفة دون صفة.

والنحو الثاني : يدل على الكمية والعدد ، كقولك : " قعد زيد قعدتين" و" ضرب زيد عمرا ضربة".

والضرب الثالث : يدل على كيفية المصدر ، كقولك : " قعد القرفصاء" و" اشتمل الصّمّاء" و" رجع القهقرى" و" قعد قعدة سوء" ، وذلك أن" القرفصاء" هو ضرب من القعود على وصف لا يقع على كل قعود ، وهو أن يقعد مجتمعا متداخلا ، وتقديره : قعد القعود القرفصاء ، فحذف القعود ، وأقام القرفصاء مقامه ، و" اشتمل الصّمّاء" معناه : الاشتمالة الصّمّاء ، وهو أن يتجلّل بثوب ، ويكون يداه داخل الثوب ، وليس كلّ اشتمال كذلك ، و" رجع القهقرى" ومعناه : رجع الرجوع القهقرى ، كأنه رجع كما ذهب متوجّها الوجه الذي كان منه الذهاب ، وليس كل رجوع كذلك. وكذا" قعد قعدة سوء" ، القعدة هي حال قعوده ووصفه ، فقد يكون قعدة سوء وقد يكون قعدة صدق ، وليست من باب" قعدة" ؛ لأن قعدة تقع على مرّة فقط.

وهذه الأنحاء التي ذكرناها يتعدّى الفعل إليها ؛ لأنها كلها مصادر وإن كانت مختلفة في أنفسها ، فقوله : " الذّهاب الشّديد" هو من باب يدل على النّوع ، غير أنه أدخل الألف واللام فيه ، وعرّفه ، ووصفه بالشّدة.

وقوله : " لمّا عمل في الحدث عمل في المرّة منه والمرّتين" يعني لمّا عمل" قعد" في

٢٦٦

" قعود" من قولك : " قعد قعودا" عمل في" قعدة" و" قعدتين" إذا قلت : " قعد قعدة" و" قعدتين" وعمل في" القرفصاء" ، و" الصّمّاء" و" القهقرى" ، لأنه صفة المصدر وضرب منه ، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

قال سيبويه : " ويتعدّى إلى الزّمان نحو قولك : ذهب ؛ لأنّه بني لما مضى منه وما لم يمض ، فإذا قال : ذهب ، فهو دليل على أنّ الحدث فيما مضى من الزمان ، وإذا قال : سيذهب ، فهو دليل على أنه سيكون فيما يستقبل من الزّمان ، ففيه بيان ما مضى وما لم يمض منه ، كما أن فيه استدلالا على وقوع الحدث".

قال أبو سعيد : وقد بينا أن أولى المفعولات بعمل الفعل فيه ، ما دلّت صيغة الفعل عليه مجملا. وقد ذكرنا المصادر التي قد دلّت صيغة الفعل عليها ، وقد دلّت صيغة الفعل على الزمان مجملا أيضا ، فكان عمله فيه كعمله في المصدر.

فإن قال قائل : الفعل يدلّ على الزمان كدلالته على المكان ؛ لأنه قد علم أنه لا يقع إلا في مكان ، كما أنه لا يقع إلا في زمان.

قيل له : هذا المعنى وإن كان مفهوما منهما جميعا من طريق المعنى فإنّ صيغة الفعل تحصّل لنا زمانا دون زمان بذاتها ؛ لأنا إذا قلنا : " ذهب" حصل لنا زمان ماض دون غيره ، وإذا قلنا : " يذهب" حصل لنا زمان غير ماض بلفظ الفعل ، ولا يحصل لنا مكان بعينه دون مكان ، فلذلك كانت ظروف الزّمان أولى بالفعل.

قال سيبويه : " وإن شئت لم تجعلها ظرفا ، فهو يجوز في كل شيء من أسماء الزمان ، كما كان في كل شيء من أسماء الحدث".

قال أبو سعيد : اعلم أنّ الظروف على ضربين : منها متمكّن ، وغير متمكن فالمتمكّن منها ما يجوز أن يكون مرفوعا في حال ، نحو" اليوم" و" الّليلة" و" خلفك" ، و" قدّامك" ؛ لأنك تقول : " اليوم طيّب" ، و" الّليلة مظلمة" ، و" خلفك واسع". وغير المتمكّن ما لا يدخله الرفع ولا يستعمل إلا ظرفا نحو : " قبل" و" بعد" و" عند" ؛ لأنّك لا تقول : " قبلك قديم" ولا" بعدك متأخّر" ولا" عندك واسع".

وهذان النوعان يستقصيان في باب الظروف ، وإنما قدّمنا ذكرهما ؛ لأنّ الظرف المتمكن يجوز أن يجعل مفعولا على سعة الكلام ويقام مقام الفاعل ، والظرف الذي لا يتمكّن لا يجعل مفعولا على السّعة ولا يقام مقام الفاعل ، فإذا قلت : " صمت اليوم"

٢٦٧

جاز أن يكون ظرفا وجاز أن يكون مفعولا على السعة ، واللفظان واحد ، والتقديران مختلفان ، فإذا جعلته ظرفا فتقديره" صمت في اليوم" ، قدّرت وصول الصوم إلى اليوم بتوسط" في" ، فأنت تنويها ، وإن لم تلفظ بها ، وإذا جعلته مفعولا على السّعة ، فأنت غير ناول" في" ، ولكنك تقدّر فعل الصوم باليوم ، كما تفعل الضرب بزيد ، إذا قلت : " ضربت زيدا" ، وهذا على المجاز ؛ لأنّ اليوم لا يؤثّر فيه الصوم ، كما يؤثر الضّرب في زيد.

وقد جاء مثل ذلك في القرآن ، ثمّ في الشّعر ، قال الله عزوجل : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)(١) ، وليس لليل والنهار مكر ، وإنما المكر يقع فيهما ، فجعل ما يقع فيهما بمنزلة ما يوقعانه ، أو يوقع منهما ؛ لأن المصادر إنما تضاف إلى الفاعل أو المفعول. وقال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً)(٢) ، والنهار لا يبصر ، وإنما يبصر فيه.

وقال الشاعر :

أمّا النّهار ففي قيد وسلسلة

واللّيل في جوف منحوت من السّاج (٣)

فإذا قلت : " صمت اليوم" وجعلته ظرفا ، ثم كنّيت عنه قلت : " صمت فيه" ؛ لأنك تردّ الحرف المحذوف ، وإنما رددته ؛ لأنّ الكناية لا تقوم بنفسها ، ولا تقوم مقام" في" كما قام الظاهر وإذا كنّيت عنه فقد جعلته مفعولا على السّعة ، فقلت : " صمته" لأنّك لست تنوي حرفا ، كما تقول : " ضربته".

قال الشاعر :

ويوم شهدناه سليما وعامرا

قليل سوى الطّعن النّهال نوافله (٤)

وجعل : " صمت اليوم" مفعولا على السّعة ، فإذا جعلت الفعل لما لم يسم فاعله واستعملته مفعولا على السّعة قلت : " صيم اليوم" ، ولا يجوز أن تردّه إلى ما لم يسمّ فاعله حتى تنقله عن الظرف إلى المفعول على السّعة ، فإذا قلت" صمت عندك" لم يكن فيه إلا وجه واحد ؛ لأنه ظرف غير متمكن ، ولا يكون مفعولا على السّعة ، ولا ينقل إلى ما لم

__________________

(١) سورة سبأ ، آية : ٣٣.

(٢) سورة النمل ، آية : ٨٦.

(٣) البيت بلا نسبة في سيبويه ١ / ٨٠.

(٤) البيت لرجل من بني عامر في سيبويه ١ / ٩٠.

٢٦٨

يسمّ فاعله ، فيقال : " صيم عندك".

وأما قول سيبويه : " فهو يجوز في كل شيء من أسماء الزّمان" ، فإنه أراد لأكثر ؛ لأن في الزمان ما لا يستعمل إلا ظرفا ، كسحر يومك ، إذا لم يكن فيه ألف ولام كقولك : " سير عليه سحر" إذا أردته من يومك ، وكذلك : صحوة ، وعشيّة ، وعتمة ، إذا أردتهنّ من يومك. وهذا يستقصى في بابه إن شاء الله تعالى. ولفظ سيبويه عام ومراده الأكثر. وقد ذكرنا جواز هذا المعنى فيما مضى.

وقوله : " كما كان في كل شيء من أسماء الحدث" ، يعني أنه يجوز أن يجعل الظرف من الزمان مفعولا على السّعة ، كما جاز أن تجعل المصادر مفعولة على السعة ، والمفعول على السعة يراد به أن يجعل بمنزلة المفعول به كزيد وعمرو.

والمصادر تجيء على ضربين : منها ما يراد به تأكيد الفعل فقط ، ومنها ما يراد به إبانة فائدة فيه ، فما أردت به تأكيد الفعل فقط ، لم تجعله مفعولا على سعة الكلام ، وما كان فيه فائدة جاز أن تجعله مفعولا على السّعة ، إلا أن يكون متمكنا ، فإذا لم يكن متمكنا لم يقم مقام الفاعل ، ولم يكن إلا منصوبا ، كقولهم : " سبحان" و" شتان" ألا ترى أنك تقول : " سبّح في هذه الّدار تسبيح لله كثير" و" تسبيح الله كثيرا" ، ولا يجوز أن تقول : " سبّح في هذه الدار سبحان الله" ، وإن كان معناه معنى التّسبيح. وسوف نذكر المصادر المتمكنة ، وغير المتمكنة ، في بابها إن شاء الله تعالى.

وأما قول سيبويه : " كما كان في كلّ شيء من أسماء الحدث" ، فهو على ما عرّفتك من إرادة الأكثر باللّفظ العامّ ، ويجوز أن يكون قوله : " فهو يجوز في كل شيء من أسماء الزمان" ، يعني تعدّي الفعل إليه على سبيل الظرف ، لا على سبيل المفعول ، كما كان في كل شيء من أسماء الحدث على طريق المصدر ، لا على طريق المفعول.

قال سيبويه : " ويتعدى إلى ما اشتق من لفظه اسما للمكان ، وإلى المكان ، لأنه إذا قال : ذهب ، أو قعد ، فقد علم أنّ للحدث مكانا ، وإن لم تذكره ، كما علم أنه قد كان ذهاب".

اعلم أن سيبويه لما رتب المفعولات ، قّدّم المفعول الذي تدلّ عليه صيغة اللفظ وهو الحدث والزّمان ، ثم جعل المفعول الذي يدلّ عليه المعنى محمولا على ذلك ، وهو المكان ، وسائر المفعولات ، لأنه قد علم هذا في المعنى ، كما علم ذلك في اللفظ ، فاشتركا

٢٦٩

في العلم بوقوعه ، وإن كان أحدهما من طريق اللفظ ، والآخر من غيره.

وقوله : " كما علم أنّه قد كان" ، يريد : كما علم أن الحدث والهاء ضميره. قد كان : يعني قد وقع ، وكذلك أيضا قد علم أنه قد وقع في مكان. وفي بعض النسخ : " قد كان ذهاب" وهذا غني على تفسير الضمير في كان.

وقوله : " اسما للمكان ، وإلى المكان" ، فالذي هو اسم للمكان نحو قولك : " المذهب" و" المجلس" و" المقعد" و" المقام" ، وسائر الأمكنة المشتقة من لفظ الأفعال.

وأما قوله : " وإلى المكان" ، يريد : ما لم يكن مشتقّا من لفظ الفعل المذكور ، كقولك : " خلفك" و" قدّامك" و" المكان" وما أشبه ذلك.

واعلم أن ظروف المكان مختصّة ببعض ألفاظ الأمكنة دون بعض ، والألفاظ التي تكون لظروف الأمكنة ، هي الألفاظ التي لا يختص بها مكان دون مكان ، ويصلح استعمالها فيها كلها ، فمن ذلك الجهات الست ، وهي : خلف ، وقدّام ، ويمنة ، ويسرة ، وفوق ، وتحت ، وما كان في العموم مثلهن ، وذلك أنه لا شيء من المكان إلا وهو يصلح أن يكون خلفا لشيء ، وقدّاما لشيء ، ويمنة لشيء ، وكسرة لشيء ، وفوقا لشيء ، وتحتا لشيء.

وما جرى من الأماكن مجراهن فهو بمنزلتهن ، كقولك : النّاحية ، ووسط ، وجانب ، وذلك أنه لا شيء من المكان إلا وهو ناحية عن شيء ، وجانب لشيء ، ووسط لما يحيط به ، فما كان سبيله هذا السبيل ، جاز أن يكون ظرفا من المكان ، وما كان مختصا بضرب من البنية أو بشيء من البقاع على صورة لا يقع على غيرها لم يصلح أن يستعمل ظرفا نحو : المسجد ، والبيت ، والدّار ، والحمّام ، والسّوق ، والجبل ، والصّحراء ، والوادي ، وما أشبه ذلك ؛ لأن هذه أشياء سمّيت بهذه الأسماء ، لاختصاصها بضرب من الصور غير موجود في غيرها ، ألا ترى أن المسجد اسم لبقعة ما ، على صورة من الصّور ، إذا بطلت بطل أن تكون مسجدا ، وكذلك الدّار والحمّام ، والجبل : فتقول : " قمت خلف" و" قمت ناحية" و" كلّمت زيدا مكانا طيّبا" ، ولا يجوز أن تقول : " كلّمت زيدا المسجد ولا البستان" ، حتى تأتي بحرف الجرّ ؛ لأن ما لم يكن ظرفا من المكان ، فهو بمنزلة سائر الأسماء ، يصل الفعل إليه كما يصل إلى غيره ، بحرف جرّ أو بغيره ، فتقول : " قمت في المسجد" كما تقول : " تكلّمت في زيد".

٢٧٠

قال سيبويه :

" وقد قال بعضهم : ذهبت الشّأم ، وشبهه بالمبهم ، إذ كان مكانا وكان يقع عليه المكان والمذهب. وهذا شاذ ؛ لأنه ليس في" ذهب" دليل على" الشّأم" وفيه دليل على المذهب والمكان. ومثل" ذهبت الشّأم" : " دخلت البيت".

قال أبو سعيد : قد قدمنا أن الأماكن المختصة التي لا تقع ألفاظها على كل مكان لا تستعمل ظروفا ، فكان من حكم الشّأم أن لا يستعمل ظرفا ؛ لأنه اسم لبقاع بعينها ، فلما قالت العرب : " ذهبت الشّأم" وحذفوا حرف الجر ، وهو" في" أو" إلى" علمنا أن ذلك شاذ خارج عن القياس الذي ذكرناه ، إذ كان حكمه أن يقول : " ذهبت إلى الشّأم" و" ذهبت في الشّأم" ، وهو الأكثر في كلامهم ، إلا أن الذين تكلموا بالشاذ الذي ذكرناه ، قد ذهبوا فيه مذهبا ، وإن كان ضعيفا ، وذلك المذهب هو أنك تعلم أن كلّ بقعة ، وإن اختصت باسم ما ، كنحو : " المسجد" و" الدّار" فله اسم يشاركه فيه سائر البقاع نحو : " مكان" و" موضع" ، ألا ترى أن" المسجد" هو مكان ، وإن كان مسجدا ولو قال قائل : " قمت مكانا طيّبا" ، وهو يعني المسجد ، جاز ؛ لأنه أتى باللفظ الذي يشاركه فيه غيره ، فكذلك الشأم هو مكان ، فإذا قال قائل : " ذهبت الشّأم" وجعله ظرفا من حيث كان مكانا ، وإن لم يأت بلفظه ، جاز ، وهذا لا يقاس عليه ، كما لا يقاس على وضع الأسماء.

ومما لفظ بلفظ فيه ، وأجري على معناه ، لا على حقيقة اللفظ قوله :

فإنّ كلابا هذه عشر أبطن

وأنت بريء من قبائلها العشر

فقال : عشر أبطن. وحكمه أن يقول : عشرة أبطن ؛ لأن البطن مذكّر ، ولكنه ذهب بها مذهب القبائل ؛ لأنها قبائل.

وقال بعض النحويين : إنما قالت العرب هذا في الشّأم ؛ لأن معناه : " اليسار" وبه سمّي لأنه شأمة كقولك : " يسره" ولو قلت" ذهبت الشّأمة" و" اليسار" جاز. قال : ومثل هذا : " اليمن" ؛ لأنهم يريدون به اليمين واليمنة فأجاز أن تقول : ذهبت اليمن ، ولم يجز ذلك في" عمان" و" مكّة" ؛ لأنه ليس فيها ذلك المعنى. ولا أشباهها.

ويلزمه عندي أن يجيز في" العالية" و" نجد" ؛ لأنها مأخوذة من الارتفاع وأنت لو قلت : " ذهب فلان فوق" لجاز ؛ لأنه ظرف.

وقد حذفت العرب حرف الجرّ من الأماكن مع الدخول ، فقالوا : " دخلت البيت"

٢٧١

و" دخلت الدّار" ، وكان القياس أن تقول : " دخلت في البيت" و" دخلت في الدار" إلا أنهم حذفوا حرف الجرّ وجعلوه كالظروف ، لأنها أماكن.

وجعل سيبويه حذف حرف الجرّ من" الشّأم" بتأويل أنه مكان كحذف حرف الجرّ من : " دخلت البيت" بتأويل أنه مكان.

وقد رد ذلك عليه من وجهين أحدهما : أنه قيل للمجتمع عنه : ليس" ذهبت الشّأم" مثل" دخلت البيت" ، من قبل أن" الشّأم" اسم لموضع بعينه ، لا يقع على كل ما كان مثله من البلدان والمدن ، و" البيت" اسم لكلّ ما كان مبنيا ، فكان البيت أعمّ.

وهذا الذي قاله هذا القائل ، وإن كان مصيبا فيه ، فلم يذهب سيبويه حيث ذهب ؛ لأن سيبويه إنما أراد أن يرينا أن" ذهبت الشّأم" شاذ ، والأصل فيه استعمال حرف الجرّ ، كما أن" دخلت البيت" الأصل فيه استعمال حرف الجرّ ، وإن كان البيت أعمّ من" الشّأم".

والوجه الآخر من وجهي الردّ عليه : ما قاله أبو عمر الجرمي ، وهو أنّ" دخلت" فعل يتعدى بحرف وغير حرف تقول : " دخلته" و" دخلت فيه" ، كما تقول : " جئتك" و" جئت إليك" و" تعلّقتك" و" تعلّقت بك" على أنه مفعول به كزيد وعمرو ، وتارة يتعدّى بحرف ، وتارة بغيره. ومن الأفعال ما يكون هكذا.

وليس الأمر على ما قاله أبو عمر. والدليل على أن" دخلت" لا يتعدّى ، وأن" دخلت البيت" قد حذف منه حرف الجرّ وهو يراد قولك : " دخلت في الأمر" ، و" دخلت في كلام زيد" ، ولا يجوز : " دخلت الأمر" ولا" دخلت كلام زيد" ، فعلمت بهذا أنهم توسّعوا في حذف حرف الجرّ من الأماكن فقط ، وتركوا غيرها على القياس.

ومما يدل على أن الدخول هو نقيض الخروج ، والخروج لا يكون إلا بحرف جرّ ، كقولك : " خرجت من الدّار".

ومما يدل على ذلك أيضا أنّ الدخول في الشيء إنما هو انتقال من مكان إليه ، وهذا الانتقال إنما هو شيء تفعله في نفسك وتصير به إلى المكان الثاني ، والانتقال لا يتعدّى إلا بحرف.

وهاتان العلتان الأخريان قد كان أبو بكر السراج يحتج بهما.

قال سيبويه : " ومثل ذلك قول ساعدة بن جؤية" :

٢٧٢

لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

فيه كما عسل الطّريق الثّعلب (١)

قال أبو سعيد : وكان ينبغي أن يقول : " عسل في الطّريق الثّعلب" وعسل : عدا. وهو يصف رمحا يهتزّ متنه ، فجعل سرعة اهتزازه بمنزلة عسلان الثّعلب.

ولم يجعل سيبويه الطريق ظرفا ؛ لأن الطريق اسم خاصّ للموضع المستطرق ، ألا ترى أنه لا يقال للمسجد طريق ، ولا للبيوت طرق على الإطلاق ، وإنما يقال : " جعلت المسجد طريقا" أي استطرقته ، وليس الطريق المعروف على هذا المنهاج.

وقد قال بعض النحويين إن الطريق ظرف ؛ لأن كل موضع استطرقته فهو طريق.

قال سيبويه : " ويتعدّى إلى ما كان وقتا للأماكن ، كما يتعدّى إلى ما كان وقتا في الأزمنة ، لأنه وقت يقع في المكان ولا يختصّ به مكان واحد ، كما أن ذلك وقت في الأزمان ، ولا يختص به زمن بعينه".

قال أبو سعيد : يريد أن الفعل يتعدى إلى ما كان مقدار مسافته من الأمكنة ، نحو الفرسخ والميل ، وذلك أن الفرسخ والميل وما أشبهه يصلح وقوعه على كل مكان بتلك المسافة المعلومة المقدّرة ، وسمّاه وقتا ؛ لأن العرب قد تستعمل التوقيت في معنى التقدير ، وإن لم يكن زمنا ، ألا ترى أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقّت مواقيت الحجّ لكل بلد ، فجعلها أماكن ، فميقات أهل العراق" ذات عرق" وميقات أهل الشام" الجحفة" ، وميقات أهل المدينة" ذو الحليفة". وسبيل الفرسخ والميل في المكان كسبيل اليوم والشهر في الزمان.

قال سيبويه : " فلما صار بمنزلة الوقت في الزمن كان مثله" ، يعني لما صار الفرسخ في المكان بمنزلة الشهر في الزمن كان مثله في الظرف.

قال سيبويه : " وكذلك كان ينبغي أن يكون إذ صار فيما هو أبعد نحو ذهبت الشأم".

يعني أنّ العرب لما جعلوا الشأم ظرفا بالتأويل الذي ذكرناه ، كان الفرسخ والميل ، وما أشبه ذلك أولى بالظرف ؛ لأنه لكل مكان ، والشأم أبعد من ذلك ؛ لأنّه اسم مكان بعينه.

__________________

(١) البيت في ديوان الهذليين ١١٢٠ ، وسيبويه ١ / ١٦ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٧٤ ، واللسان (عسل).

٢٧٣

قال سيبويه : " وإنما جعل في الزمان أقوى ؛ لأنّ الفعل بني لما مضى منه وما لم يمض ، ففيه بيان متى وقع كما أنّ فيه بيانا أنه قد وقع المصدر".

وقد ذكرنا قوة الزّمان في باب الظروف على المكان وأن في الفعل بيانا لزمان محصّل من ماض أو غيره ، كما أن فيه دليلا على مصدر بعينه من بين المصادر.

قال سيبويه : " والأماكن لم يبن لها فعل ، وليست بمصادر أخذ منها الأمثلة". يريد أن الأماكن ليست بمنزلة الظروف من الزمان ، ولا بمنزلة المصادر.

قال سيبويه : " والأماكن إلى الأناسيّ ونحوهم أقرب ؛ ألا ترى أنهم يختصونها بأسماء كزيد وعمرو ، في قولهم : " مكّة" و" عمان" ونحوهما". يعني أنهم يلقّبون الأماكن ولا يلقّبون الأيام لقبا ينفرد به يوم بعينه من بين سائر الأيام ، كما انفردت مكّة عن سائر المدن بهذا الاسم ، ويوم السبت ، والجمعة ، ونحوه لكل يوم وقع في الأسبوع ذلك الموقع وإنما أراد سيبويه قوّة ظروف الزّمان وشدة إبهامها.

ثم قال : " ويكون فيها خلق لا تكون لكل مكان ولا فيه كالجبل والوادي والبحر. والدهر ليس كذلك ، والأماكن لها جثّة ، وإنما الدهر مضيّ الليل والنهار ، فهو إلى الفعل أقرب".

يريد أن الأماكن فيها خلق ثابتة مختلفة كاختلاف الناس وثباتهم ، وهي جثث كما أن الناس جثث. والدّهر جزء منه يبقى ولا يثبت ، وليس فيه خلق مختلفة ، وإنما هو الليل والنهار يتكرّران ويعودان بساعاتهما ، ويقرب من الفعل بأشد من قرب المكان ؛ لأن الفعل أيضا إنما هو حركات تتقضّى كتقضّي الزمان ، وإنما أعني بالفعل هاهنا ما عناه النحويون ، دون الفعل الحقيقي ؛ لأن العالم إنما هو فعل الله تعالى أحدثه وخلقه ، وإنما أعني اللفظ بفعل ويفعل ، وذلك أنّ الإنسان إذا كان في حال فعل ، فقلنا إنه يفعل الآن ، لم يثبت على هذا أكثر من وقت واحد حتى يصير إلى أن تقول فعل ، فحال الفعل متقضّية غير ثابتة كالزّمان ، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

هذا باب الفاعل الذي يتعدّاه فعله إلى مفعولين

فإن شئت اقتصرت على المفعول الأوّل ، وإن شئت تعدّى إلى الثاني كما تعدّى إلى الأول.

" وذلك قولك : أعطّى عبد الله زيدا درهما" ، و" كسوت بشرا الثّياب الجيادّ" ومن

٢٧٤

ذلك : " اخترت الرّجال زيدا" ، ومثل ذلك قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً)(١) و" سمّيته زيدا" و" كّتّبت زيدا أبا عبد الله" و" دعوته زيدا" ، إذا أردت" دعوته" التي تجري مجرى" سمّيته" ، وإن عنيت الدّعاء إلى أمر لم يجاوز مفعولا واحدا".

قال أبو سعيد : اعلم أنّ هذا الباب يشتمل على وجهين من التعدّي ؛ أحدهما : أن يتعدّى الفعل إلى مفعولين ، وأحد المفعولين فاعل بالآخر فعلا يصل إليه من غير توصّل حرف جرّ ، وذلك قولك : " أعطى عبد الله زيدا درهما" ، وذلك أن زيدا قد أخذ الدّرهم وهو فاعل به الأخذ ، وقد وصل الأخذ منه إلى الدرهم من غير توسّط حرف جر ، وكذلك" كسوت بشرا الثّياب الجياد". وكان الأصل." أخذ زيد درهما" و" لبس بشر الثّياب الجياد" وقد علم أنّ الأخذ لا بدّ له من مأخوذ منه ، واللابس لا بدّ له من كاس ، فأردت أن تبيّن من الذي أوصل إليه الأخذ ، والذي كساه ، فلمّا ذكرتهما لم يكن بدّ من رفعهما ؛ لأنهما أدخلا الفاعل في فعله ، وهو زيد وبشر ، فرفعتهما بفعلهما الذي فعلاه بالفاعل من إيصاله إلى فعله بالمفعول ، وهو الدّرهم والثّياب ، فاكتفى الفعل بالفاعل وارتفع به ، ونصب ما سواه ؛ لأن الفعل لا يرفع أكثر من واحد.

والوجه الثاني من وجهي ما يشتمل عليه الباب : أن يتعدّى الفعل إلى مفعول بغير حرف جر ، ويتّصل بآخر" من" ، ولم يكن المفعول في الأصل فاعلا بالذي فيه حرف الجر ، فنزع حرف الجرّ من الثاني ، فيصل الفعل إليه ، وذلك قولك : " اخترت الرّجال عبد الله". والأصل : " اخترت عبد الله من الرّجال" ، وحذفت" من" ، فوصل الفعل إلى الرجال ، ولم يكن" عبد الله" فاعلا بالرجال شيئا ، كما فعل زيد بالدرهم الأخذ. ومثل ذلك : " سمّيته زيدا" و" كتّبت زيدا أبا عبد الله" والأصل : " سمّيته بزيد" و" كتّبت زيدا بأبي عبد الله" ، ولم يكن زيد فاعلا بأبي عبد الله شيئا.

فإن قال قائل : أنت تقول : " تكنّى زيد أبا عبد الله" ، تجعله فاعلا ، وتنصب" أبا عبد الله" فتجعله مفعولا له ، فهلا جعلته من القسم الأول.

قيل له : ليس في قولنا : " تكنّى زيد أبا عبد الله" و" تسمّى أخوك زيدا" دلالة على أن أحدهما فاعل بالآخر ، إنما هو من باب قبول الفعل الذي أوقع به ، وهو قولك : " حرّكته

__________________

(١) سورة الأعراف ، آية : ١٥٥.

٢٧٥

فتحرّك" ، " كسّرته فتكسّر" ، والنيّة فيه حرف الجر ، كأنك قلت : " تسمّى زيد بعمرو" ولم يكن من باب الفاعل الذي بينت به من أدخله في فعله ، كقولك : " أخذ زيد درهما" ، ثم بينت من أدخله في الأخذ وسهّله له فقلت : " أعطى عبد الله زيدا درهما".

وأما قول سيبويه : " دعوته زيدا ، إذا أردت دعوته التي تجري مجرى سمّيته" ، فإنّ الدعاء في الكلام على ثلاثة معان ، أحدهما : التسمية. والآخر : أن تستدعيه إلى أمر يحضره. والثالث : في معنى المسألة لله تعالى.

فإذا كان الدّعاء بمعنى التسمية جرى مجرى التسمية ، فقلت : " دعوت أخاك زيدا" و" دعوت أخاك بزيد" ، كما تقول : " سمّيت أخاك زيدا" و" سمّت أخاك بزيد" ، وهو الذي يدخل في هذا الباب ، دون معنى الاستدعاء ، وهو الذي قاله سيبويه : " وإن عنيت الدعاء إلى أمر لم تجاوز مفعولا واحدا" ، يعني الاستدعاء إلى أمر ، ألا ترى أنك تقول : " استدعيت أخاك" ، ولا تقول : " استدعيت أخاك بزيد". وقول الشاعر :

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل (١)

فإنّه أراد : أستغفر الله من ذنب. وهذا هو من القسم الثاني.

وقال عمرو بن معد يكرب ؛

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب (٢)

والمعنى : أمرتك بالخير. وهو أيضا من القسم الثاني.

وقال سيبويه : " وإنما فصل هذا أنها أفعال توصل بحرف الإضافة ، فتقول : اخترته من الرجال ، وسمّيته بفلان ، كما تقول : عرّفته بهذه العلامة ، وأوضحته بها ، وأستغفر الله من ذلك ، فلما حذفوا حرف الجرّ عمل الفعل".

يعني أن هذه الأفعال التي تتعدّى إلى مفعولين مما كان في الأصل متعدّيا إلى واحد بغير حرف جرّ ، وإلى الثاني بحرف جرّ ، مما جعلناه القسم الثاني ، وجعلنا أحد المفعولين غير فاعل بالآخر في الأصل ، إنما فصله من القسم الأول ؛ لاختلاف معناهما في الأصل.

__________________

(١) البيت بلا نسبة في سيبويه ١ / ١٧ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٨٦ ، وابن يعيش ٨ / ٥١ ، واللسان (غفر).

(٢) البيت في سيبويه ١ / ١٧ ، والخزانة ١ / ١٦٤.

٢٧٦

وقد ذكرنا ذلك.

وأما قوله : " سمّيته بفلان كما تقول : عرّفته بهذه العلامة" ، فإن" عرّفته" على ضربين : فإن أردت شهرته حتى عرف به ، فإنه يجري مجرى التسمية ؛ لأنك إذا شهرته بشيء فعرف به فهو بمنزلة تسميتك له بالاسم الذي يعرف به.

والوجه الآخر : أن يكون" عرّفته" بمعنى أعلمته أمرا كان يجهله ، وتقول في الوجه الأول : " عرّفت أخاك بزيد" ، كما تقول : " عرّفت أخاك بالعمامة السّوداء" إذا جعلتها علامة له يعرفه غيره بها. وتقول على الوجه الثاني" عرّفت أخاك زيدا". إذا أعلمته إياه ، ولم يكن عارفا به من قبل ، وهذا من القسم الأول ؛ لأن الأصل : " عرف أخوك زيدا" ، كما تقول : " أخذ زيدا" ، كما تقول : " أخذ زيد درهما" ، وقولك : " عرّفت أخاك بزيد" وإن جرى مجرى : " سمّيت أخاك بزيد" فلا يجوز حذف حرف الجرّ منه ، كما جاز في" سمّيت" : لئلا يلتبس بالوجه الآخر من وجهي" عرّفت" وليس" لسمّيت" إلا طريقة واحدة.

قال سيبويه : " ومثل ذلك قول المتلمس"

آليت حبّ العراق الدّهر أطعمه

والحبّ يأكله في القرية السّوس (١)

يريد : على حب العراق. وإنما هذا شاهد لجواز حذف حرف الجرّ ، لا للذي يتضمنه الباب من تعدّى الفعل إلى مفعولين ، وهو متصل بقوله : " فلما حذفوا حرف الجر عمل الفعل" ، كما عمل" آليت" في" حبّ" لما حذفت" على". وقال بعض النحويين : " الحبّ منصوب بإضمار فعل كأنه قال : آليت أطعم حبّ العراق الدهر أطعمه ، ومعناه : لا أطعم حبّ العراق لا أطعمه ؛ لأن" آليت" بمعنى حلفت ، وجواب اليمين إذا كان فعلا منفيّا ، جاز حذف النفي ، كما قال تعالى : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ)(٢) يريد : والله لا تفتأ تذكر يوسف.

وقال سيبويه مستشهدا لجواز حذف حرف الجر : " كما قال نبّئت زيدا يريد : عن

__________________

(١) البيت للمتلمس جرير بن عبد المسيح الضبعي في ديوانه ١٨٠ ، وسيبويه ١ / ١٧ ، والخزانة ٣ / ٧٥.

(٢) سورة يوسف ، آية : ٨٥.

٢٧٧

زيد" ثم قال : " وليست (عن) هاهنا بمنزلة الباء في قولك : كفى بالله شهيدا ، وليس بزيد ؛ لأن على وعن لا يفعل بهما ذلك ولا بمن في الواجب".

قال أبو سعيد : واعلم أنّ الحروف التي يجوز حذفها على ضربين : منها ما يحذف وهو مقدّر منوي لصحّة معنى الكلام ، ومنها ما يكون زائدا لضرب من التأكيد ، والكلام لا يحوج إليه ، فإذا حذف لم يقدّر. وأما الذي يكون زائدا قولك : كفى بالله وليّا ، والمعنى : كفى الله. وليس أخوك بزيد ؛ لأن معناه : ليس أخوك زيدا. وما قام من أحد ، لأن معناه : ما قام أحد ، فإذا حذفنا هذه الحروف ، لم يختلّ الكلام ، ولا يحوج المعنى إلى تقديرها. وأمّا الذي يقتضيه معنى الكلام فنحو قولك : " نبّئت زيدا فعل كذا وكذا" تقديره : نبّئت عن زيد ؛ لأن" نبّئت" في معنى" أخبرت" والخبر يقتضي" عن" في المعنى ، وكذلك : " أمرتك الخير" الباء مقدرة ؛ لأن الأمر لا يصل إلى المأمور به إلا بحرف ، فأراد سيبويه أن" عن" المحذوفة في قولك : نبّئت زيدا ، و" على" المحذوفة في قوله : آليت حبّ العراق ، ليستا زائدتين ، وأن المعنى يحوج إليهما بأن قال : " على" و" عن" لم يزدادا قط ولا واحدة منهما ، ولم يدخلا إلا لمعنى يحوج إليه الكلام ، فإذا وجدناها في شيء ثم فقدناها ، علمنا أنّها مقدرة ، كأنهم لما قالوا : نبّئت عن زيد ، ثم قالوا : نبّئت زيدا ، علمنا أن" عن" مقدرة ، ولو لم تكن مقدرة عند حذفها كانت زائدة عند ذكرها ، وهي لم تكن قط زائدة كزيادة الباء في كفى بالله وليس أخوك بزيد.

ومعنى قوله : " ولا بمن في الواجب" يريد : أن" من" سبيلها في الواجب أنها تدخل لمعنى ، فإذا حذفت فهي تراد كنحو قولك : " اخترت الرّجال زيدا" ، يريد : من الرجال ، وقد تزاد في النّفي ، كقولك : " ما قام من أحد" ، فعن وعلى في كل حال ، ومن في الواجب دون النّفي تدخلن لمعان ، فإذا حذفن قدّرن.

قال سيبويه : وليست : أستغفر الله ذنبا ، وأمرتك الخير أكثر في كلامهم جميعا ، وإنما يتكلم بها بعضهم".

يعني أنّ حذف حرف الجرّ من هذين الفعلين ليس كثيرا في كلام العرب ، وإنما يتكلم به بعض العرب. وليس كلّ ما كان متعدّيا بحرف جرّ جاز حذفه إلا ما كان مسموعا من العرب سماعا ، ألا ترى أنك تقول : مررت بزيد ، وتكلمت في زيد ، ولا تقول : مررت زيدا ، ولا تكلمت زيدا ، كما تقول : أمرتك الخير ، ودخلت البيت ، في

٢٧٨

معنى : أمرتك بالخير ، ودخلت في البيت.

وقال سيبويه : " وأمّا سمّيت وكنّيت ، فإنما أدخلت الباء على حد ما دخلت في عرّفت".

يعني أن الباء في" سمّيته بزيد" و" كنّيته بأبي عمرو" يحتاج إليها في التقدير ، وإن حذفت كما يحتاج إليها في قولك : عرّفته بزيد ، إذا أردت : شهرته بهذا الاسم. ثم بيّن سيبويه احتياج" عرّفت" إلى الباء فقال : " تقول : عرّفته زيدا ، ثم تقول : عرفته بزيد ، فهو سوى ذلك المعنى".

يعني أنك تقول : " عرّفته زيدا" ، والمعنى : أعلمته. وتقول : " عرّفته بزيد" ، بمعنى شهرته ، فالمعنيان مختلفان ، ولا يجوز حذف الباء في : " عرّفته بزيد".

ثم قال : " وإنما تدخل في سمّيت على حدّ ما دخلت في : عرّفته بزيد". وقد بينا هذا.

ثم قال سيبويه : " وليس كلّ الفعل يفعل به هذا كما أنّه ليس كلّ فعل يتعدّى الفاعل ولا يتعدّى إلى مفعولين".

يعني : ليس كلّ ما كان متعدّيا بحرف جر جاز حذفه ؛ بل المتعدّي بحرف جر على قسمين ؛ أحدهما : يجوز حذفه كما ذكر في : " دخلت البيت" و" اخترت الرّجال زيدا". والآخر لا يجوز حذفه" كمررت بزيد" و" تكلّمت في عمرو" ، كما كان الفعل في الأصل على ضربين ، منه ما يتعدّى نحو : ضرب زيد عمرا" ، ومنه ما لا يتعدّى ، نحو : " جلس" و" قام" وهذا معنى قوله : " كما أنه ليس كل فعل يتعدى الفاعل" ، وقوله : " ولا يتعدى إلا مفعولين" ، كأنه قال : ولا كلّ فعل يتعدّى إلى مفعولين ، بل منه ما يتعدّى إلى مفعول ، ومنه ما يتعدّى إلى مفعولين ، فكذلك ليس كل فعل يتعدّى إلى مفعول بلا حرف جرّ وإلى مفعول ثان بحرف جرّ ، يجوز حذف حرف الجرّ من الثاني حتى يصير الفعل متعدّيا إلى مفعولين ، ألا ترى أنا إذا قلنا : " أخذت المال من زيد" لم يصلح أن تحذف" من" فتقول : " أخذت المال زيدا" كما صلح أن تقول : " اخترت الرّجال زيدا".

قال سيبويه : " ومنه قول الفرزدق :

٢٧٩

ومنّا الذي اختير الرّجال سماحة

وجودا إذا هبّ الرّياح الزّعازع" (١)

فهذا البيت شاهد لقولنا : " اخترت الرّجال زيدا" ؛ ولذلك أنّك لو رددت هذا إلى ما لم يسمّ فاعله قلت : " اختير زيد الرّجال" ، فإن قدّمت قلت : " زيد اختير الرّجال" وقوله : " منّا الذي اختير" في" اختير" ضمير قد أقيم مقام الفاعل يعود على الذي ، والرجال المفعول الثاني.

قال الفرزدق :

نبّئت عبد الله بالجوّ أصبحت

كراما مواليها لئيما صميمها (٢)

مستشهدا لما قدّم من حذف" عن" في قوله : " نبّئت زيدا" في معنى" نبّئت عن زيد".

وقد أنكر قوم هذا فقالوا : " نبّئت زيدا فعل كذا" بمعنى" أعلمت زيدا فعل كذا" ، ونحن إذا قلنا : " أعلمته زيدا قائما" فليست" عن" مقدرة ، وكذلك هي غير مقدّرة ، في قولك : " نبّئت زيدا".

فالجواب في هذا أن" نبّئت" وإن كانت تجري مجرى" أعلمت" في العمل ، ويتقارب معناهما ، فليست هي" أعلمت" ؛ وذلك أن" نبّئت" مأخوذ من" النّبأ" و" النّبأ" هو الخبر لا العلم ، بإجماع أهل اللغة ، والخبر يتعدّى بعن ، ألا ترى أنك تقول : " هذا خبر عن زيد" ، إذا أخبرك به مخبر عنه بخبر ما ، فكذا" هذا خبر عن دارك وعن أمرك" ، وما أشبه ذلك ، فأصل النبأ يصل بعن ، وإن حذفت في بعض المواضع. و" عبد الله" في البيت : قبيلة ، فلذلك أنّث مواليها وصميمها ، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

هذا باب الفاعل الذي يتعدّاه فعله إلى مفعولين وليس لك

أن تقتصر على أحد المفعولين

" وذلك قولك : حسب عبد الله زيدا بكرا ، وظنّ عمرو خالدا أباك ، وخال عبد الله زيدا أخاك ، ومثل ذلك : رأى عبد الله زيدا صاحبنا ، ووجد عبد الله زيدا ذا الحفاط".

__________________

(١) البيت في ديوانه ٥١٦ ، وسيبويه ١ / ١٨ ، والخزانة ٣ / ٦٦٩ ، وبلا نسبة في ابن يعش ٨ / ٥١.

(٢) البيت منسوب للفرزدق في سيبويه ١ / ١٨ ، ولم نقف عليه في ديوانه.

٢٨٠