شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذا باب ما ينتصب انتصاب الاسم بعد المقادير

وذلك قولك : ويحه رجلا! ولله دره رجلا! وحسبك به رجلا! وما أشبه ذلك ، وإن شئت قلت : ويحه من رجل! وحسبك به من رجل! فتدخل (من) هاهنا كدخولها في (كم) توكيدا وانتصب الرجل لأنه ليس من الكلام الأول ، وعمل فيه الكلام الأول فصارت الهاء بمنزلة التنوين ، ومع هذا ـ أيضا ـ أنك إذا قلت : ويحه! فقد تعجبت وأبهمت ، من أي الأمور تعجبت؟ وأي الأنواع تعجبت منه ، فإذا قلت : فارسا أو حافظا فقد اختصصت ولم تبهم ، وبينت في أي نوع هو. ومثل ذلك قول عباس بن مرداس :

ومرة يحميهم إذا ما تبدّدوا

ويطعنهم شزرا فأبرحت فارسا (١)

كأنه قال : فكفى بك فارسا ، وإنما يريد : كفيت فارسا ، ودخلته هذه الباء توكيدا.

ومثل ذلك قول الأعشى :

تقول ابنتي حين جدّ الرحيل

فأبرحت ربّا وأبرحت جارا (٢)

ومثله : أكرم به رجلا.

قال أبو سعيد : جميع ما ذكر في هذا الباب من الهاءات إنما هو ضمير ما قد ذكر ، وإنما يجري ذكر رجل ـ زيد أو عمرو أو غيرهما ـ فيبقي عليه ويذكر اللفظ الذي يستحق به المدح فيقال : ويحه رجلا! فإذا قلت ذلك دللت على أنه محمود في الرجال ، متعجب من فضله.

وإذا قلت : ويحه فارسا أدللت على أنه متعجب منه في فروسيته.

وإذا قلت : ويحه حافظا! فالتعجب وقع من حفظه دون سائر الأشياء فيه.

وكذلك لو قلت : ويح زيد بزّازا! كأن المدح له والتعجب منه وقع في البزّ ، وقد

__________________

(١) البيت في الكتاب ١ / ٢٩٩ ، والمقتضب ٢ / ١٥١ ، والأصمعيات ٢٠٦.

(٢) البيت في ابن يعيش ٧ / ١٠٨ ، الكتاب ١ / ٢٩٩ ، والنوادر لأبي زيد ٥٥.

٣

يكون مذموما مقصرا في غيره ، فلذلك صار المنصوب به على التمييز ؛ لأنه يقتضي الجنس الذي يذكره ويعلم المعنى الذي مدح به ، وهو يشبه باب (نعم راجلا وبئس غلاما).

ولو قال قائل : ويح زيد ولله دره وحسبك به ، لم يجر بأي شيء مدحه وكان مبهما وصار بمنزلة قولك : عندي عشرون بغير تفسير ، فإذا فسرته صار بمنزلة عشرين غلاما ، وإنما أدخلت (من) في هذا الباب ؛ لأنه قد يجوز حمل المنصوب فيه على الحال إذا قلت حسبك به فارسا ، وحسبك به معينا ، وتنصبه على الحال كما تقول احسبني زيد فارسا ، وكفاني معينا ، أي في هذه الحال فأدخلوا (من) ليعلم أنها تزاد للدلالة على الجنس المستحق به المدح دون الحال ، وكذلك يجوز دخول (من) في كل ما كان من المقادير يكون المنصوب فيه هو الأول وكقولك : لي مثله رجلا ، ولي ملؤه عسلا ؛ لأنه قد يجوز أن يقع فيه ما يذهب به مذهب الحال ، كقولك لي مثل زيد أخا وصديقا ، فيكون دخول (من) لتحقيق باب التفسير وقد ذكرت (من) في كائن (وكم) مثلها.

وقال أبو العباس محمد بن يزيد : دخول من في (كائن) و (كم) و (كذا كذا) من درهم لما منعته هذه الحروف من التمكن ، فعوضت هذا كما عوضت أن يعمل فيما فصل بينه وبينها. نحو : كم في الدار ـ رجلا ـ.

وأما راقود من خلّ وموضع كفّ من سحاب ، فإن ذلك جنس يستوي تعريفه وتنكيره ، وجمعه وواحده ، ألا ترى أنه يستوي في المعنى المفهوم عنك أن تقول : اصطنعت بالخل وبخلّ ، وشربت ماء وشربت الماء. وأما (عشرون) وما جرى مجراها من المقادير المعلومة ، فإذا دخلت (من) بعدها وقع على الجنس والجمع الذي يكون المميز تقول : عندي عشرون من الدراهم ، وخمسون من الثياب ، ولو قلت : عشرون من درهم ، وخمسون من ثوب لم يجز.

ومن الفرق بين : عشرين وما جرى مجراها من الأعداد المعلومة وبين كم وكأيّ وكذا وكذا ونحو ذلك ، أن العشرين قد عرف مقدارها ، وإنما تدخل (من) على النوع الذي (العشرون بعضه) فتحتاج أن تكون أكثر من العشرين في اللفظ.

(وكم) مبهم ، يجوز أن يكون جوابها واحدا ، كقولك : كم غلاما عندك؟ فيقول المجيب : غلام أو غلامان. إلا أنه يجوز أن تقول : عندي عشرون من درهم ودينار ومن غلام وجارية على غير التمييز ، ولكن على قولك : من بين درهم ودينار ، وليس ذلك بمنزلة ما أخلصته لجنس ، ولكن يقع كما يقع في غير التمييز ، كقولك : الناس من بين

٤

قائم وقاعد ، والمال عندي من ذهب وفضة ، فاعرف ذلك إن شاء الله.

وقوله : فأبرحت فارسا وأبرحت ربّا ، هو مأخوذ من البرح وهو الشدة التي يتعجب منها ، وقد استعمل البرح والبرحين في أسماء الدواهي.

فإذا قيل : أبرحت فارسا فقد تعجب من فروسيته وأنه أتى فيها بما لم يأت به غيره. كما قيل : كفى بالله شهيدا! وكفى بالشيب واعظا! ومعناه : كفى الله ، وكفى الشيب ، وعلى هذا تقول : كفى بك فارسا وكفيت فارسا ، وهو مثل : أبرحت فارسا.

هذا باب ما لا يعمل في المعروف إلا مضمرا

وذلك لأنهم بدءوا بالإضمار لأنهم شرطوا التفسير ، وذلك نووا ، فجرى ذلك في كلامهم هكذا ، كما جرت (إنّ) مجرى الفعل الذي تقدم مفعوله قبل الفاعل ، فلزم هذا هذه الطريقة في كلامهم كما لزمت (إنّ) هذه الطريقة في كلامهم.

وما أنتصب ـ في هذا الباب ـ فإنه ينتصب كانتصاب ما انتصب في باب : حسبك به ، وويحه ، وذلك قولهم : نعم رجلا عبد الله ، كأنك قلت : حسبك به رجلا عبد الله ؛ لأن المعنى واحد.

ومثل ذلك : ربّه رجلا ، كأنك قلت : ويحه رجلا في أنه عمل فيما بعده لا في المعنى. وحسبك به رجلا مثل : نعم رجلا في المعنى وفي العمل ؛ وذلك أنهما ثناء في استيجابهما المنزلة الرفيعة ، ولا يجوز لك أن تقول : نعم ، ولا ربه ، وتسكت ؛ لأنهم إنما بدءوا بالإضمار على شريطة التفسير ، وإنما هو إضمار مقدم قبل الاسم ، والإضمار الذي يجوز السكوت عليه إضمار بعد ما ذكر الاسم مظهرا ، والذي تقدم من الإضمار لازم له التفسير حتى يبينه ولا يكون في موضع الإضمار في هذا الباب مظهر.

ومما يضمر لأنه يفسره ما بعده ولا يكون في موضعه مظهرا قول العرب : إنه كرام من قومك ، وإنه ذاهبة أمتك ، وفاعلة فلانة ، فالهاء إضمار الحديث الذي ذكرت بعد الهاء. كأنه في التقدير ـ وإن كان لا يتكلم به ـ قال : إن الأمر ذاهبة أمتك وفاعلة فلانة فصار هذا الكلام كله خبرا للأمر ، فكذلك ما بعد الهاء في موضع خبره. وأما قوله : نعم الرجل عبد الله فهو بمنزلة : ذهب أخوه عبد الله. عمل (نعم) في الرجل ولم يعمل في (عبد الله).

وإذا قال : عبد الله نعم الرجل فهو بمنزلة عبد الله ذهب أخوه ، وكأنه قال :

٥

نعم الرجل فقيل لك من هو؟ فقال : عبد الله.

وإذا قال : عبد الله فكأنه قيل له : ما شأنه؟ فقال : نعم الرجل ، فنعم تكون مرة عاملة في مضمر يفسره ما بعده ، فتكون هي وهو بمنزلة : ويحه ومثله ، ثم يعملان ـ في الذي فسر المضمر ـ عمل مثله وويحه إذا قلت : لي مثله عبدا ، ويكون مرة أخرى يعمل في المظهر لا يجاوزه فهي بمنزلة : ربّه رجلا ، ومرة بمنزلة : ذهب أخوه ، فتجري مجرى المضمر الذي قدّم لما بعده من التفسير ، وسد مكانه ؛ لأنه قد بينه ؛ وهو نحو قولك : أزيدا ضربته؟ واعلم أنه محال أن تقول : عبد الله نعم الرجل والرجل غير عبد الله ، كما أنه محال أن تقول : عبد الله هو فيها وهو غيره.

واعلم أنه لا يجوز أن تقول : قومك نعم صغارهم وكبارهم ، إلا أن تقول : قومك نعم الصّغار ونعم الكبار وقومك نعم القوم ؛ وذلك لأنك أردت أن تجعلهم من جماعات ومن أمم كلّهم صالح.

كما أنك إذا قلت : عبد الله نعم الرجل ، فإنما تريد أن تجعله من أمة كلهم صالح ، ولم ترد أن تعرف شيئا بعينه بالصلاح بعد نعم.

مثل ذلك قولك : عبد الله فاره العبد فاره الدابة ، فالدابة لعبد الله ، ومن سببه ، كما أن الرجل هو عبد الله حين قلت : نعم الرجل ، ولست تريد أن تخبر عن عبد بعينه ولا عن دابة بعينها ، وإنما تريد أن تقول : أن في ملك زيدا لعبد الفاره والدابة الفارهة ، إذا لم ترد عبدا بعينه ولا دابة بعينها.

فالاسم الذي يظهر بعد (نعم) إذا كانت : نعم عاملة الاسم الذي فيه الألف واللام نحو : الرجل ، وما أضيف إليه ، وما أشبهه نحو : غلام الرجل إذا لم ترد شيئا بعينه.

كما أن الاسم الذي يظهر في (ربّ) قد يبدأ بإضمار رجل قبله حين قلت : ربّه رجلا لما ذكرت لك ، وتبدأ بإضمار رجل في (نعم) لما ذكرت لك.

فإنما منعك أن تقول : نعم الرجل إذا أضمرت ، أنه لا يجوز أن تقول : حسبك به الرجل إذا أردت معنى : حسبك به رجلا.

ومن زعم أن الإضمار الذي في (نعم) هو عبد الله ـ فقد ينبغي له أن يقول : نعم عبد الله رجلا ، وقد ينبغي له أن يقول : نعم أنت رجلا ، فتجعل (أنت) صفة للمضمر.

٦

وإنما قبح هذا المضمر أن يوصف ؛ لأنه مبدوء به قبل الذي يفسره ، والمضمر المقدّم قبل ما يفسره لا يوصف ؛ لأنهم إنما ينبغي لهم أن يبينوا ما هو.

فإن قال قائل : هو مضمر مقدم وتفسيره : عبد الله (بدلا) منه (محمولا) على نعم ، فأنت قد تقول : عبد الله نعم رجلا فتبدأ به ، ولو كان (نعم) بمضمر لعبد الله لما قلت : عبد الله نعم الرجل فترفعه ، فعبد الله ليس من (نعم) في شيء. والرجل هو : عبد الله ولكنه منفصل منه كانفصال الأخ منه إذا قلت : عبد الله ذهب أخوه فهذا تقديره ، وليس معناه كمعناه ، ويدلك على أن عبد الله ليس تفسيرا للمضمر أنه لا تعمل فيه نعم بنصب ولا برفع ولا يكون عليها أبدا في شيء.

واعلم أن (نعم) تؤنث وتذكر ، وذلك قولك : نعمت المرأة ، وإن شئت قلت : نعم المرأة كما قالوا : ذهب المرأة. والحذف في (نعمت) أكثر.

واعلم أنك لا تظهر علامة المضمرين في (نعم) لا تقول : نعموا رجالا يكتفون بالذي يفسره كما قالوا : مررت بكلّ. كما قال تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)(١) فحذفوا علامة الإضمار ، وألزموا الحذف كما ألزموا (نعم) و (بئس) الإسكان وكما ألزموا (خذ) الحذف.

ففعلوا هذا بهذه الأشياء لكثرة استعمالهم هذا في كلامهم.

وأصل نعم وبئس : نعم وبئس ، وهما الأصلان اللذان وصفا في الرداءة والصلاح ، ولا يكون منهما فعل لغير هذا المعنى.

وأما قولهم : هذه الدار نعمت البلد ؛ فإنه لما كان البلد الدار أقحموا التاء فصار كقولك : من كانت أمك وما جاءت حاجتك؟

ومن قال : نعم المرأة قال : نعم البلد ، وكذلك : هذا البلد ونعم الدار ، كانت البلد ذكرت فلزم هذا في كلامهم لكثرته ولأنه صار كالمثل ، كما لزمت التاء في : ما جاءت حاجتك؟

ومثل ذلك قول الشاعر وهو لبعض السعديين :

هل تعرف الدار يعفيها المور

__________________

(١) سورة النمل ، من الآية ٨٧.

٧

لكلّ ريح فيه ذيل مسفور

والدخن يوما والعجاج المهمور (١)

قال (فيه) لأن الدار مكان فحماه على ذلك.

وزعم الخليل أن حبّذا بمنزلة : حبّ الشيء ، ولكن (ذا) وحب بمنزلة كلمة نحو (لو لا) وهو اسم مرفوع كما تقول : يا ابن عمّ ، فالعم مجرور.

ألا ترى أنك تقول للمؤنث : حبّذا ولا تقول : حبذه ؛ لأنه صار مع (حبّ) على ما ذكرت لك ، وصار المذكر هو اللازم لأنه كالمثل. وسألته عن قول الراعي :

فأومأت إيماء خفيّا لحبتر

ولله عينا حبتر أيما فتى (٢)

فقال : (أيما) تكون صفة للنكرة وحالا للمعرفة ، وتكون استفهاما مبنيّا عليها ، ومبنية على غيرها ، ولا تكون لتبين العدد ولا في الاستثناء نحو قولك :

أتوني إلا زيدا. ألا ترى أنك لا تقول : له عشرون أيما رجل ، ولا أتوني إلا أيما رجل.

فالنصب في : لي مثله رجلا كالنصب في : عشرين رجلا ، فأيما لا تكون في الاستثناء ولا تختص بها نوعا من الأنواع ولا يفسر بها عدد.

وأيما فتى : استفهام. ألا ترى أنك تقول : سبحان الله ما هو ومن هو؟ فهذا استفهام فيه معنى التعجب ، ولو كان خبرا لم يجز ذلك ؛ لأنه لا يجوز في الخبر أن تقول : من هو؟ وتسكت.

وأما أحد وكرّاب وأرم وكتيع وعريب وما أشبه ذلك فلا يقعن واجبات ولا حالا ولا استثناء. ولا يستخرج به نوع من الأنواع فيعمل ما قبله فيه عمل عشرين في الدرهم ، إذا قلت : عشرون درهما.

ولكنهن يقعن في النفي مبنيّا عليهن ومبنية على غيرهن ، فمن ثم تقول. وما في الناس مثله أحد ، حملت (أحدا) على مثل ما حملت عليه (مثلا) ، وكذلك : ما مررت بمثلك أحد. وقد فسرنا لم ذلك ، فهذه حالها كما كانت تلك حال إنما.

__________________

(١) الرجز منسوب إلى حميد بن الأرقط في الكتاب ١ / ٣٠٢ ، والمخصص ١٧ ، والنوادر لأبي زيد ٢٣٦.

(٢) البيت في الأشموني ١ / ١٦٨ ، وشواهد العيني ٣ / ٤٢٣ ، وتاج العروس (حبتر).

٨

فإذا قلت : لي عسل ملء جرة ، وعليه دين شعر كلبين ، فالوجه الرفع لأنه وصف ، والنصب يجوز كنصب : عليه مائة بيضا.

وإن شئت قلت : لي مثله عبد ، فرفعت وهي كثيرة في كلام العرب ، وإن شئت رفعته على أنه صفة ، وإن شئت كان على البدل.

فإذا قلت : عليها مثلها زيد ، فإن شئت رفعت على البدل ، وإن شئت رفعت على قوله : ما هو؟ فتقول : زيد أي هو زيد ، ولا يكون (الزيد) صفة لأنه اسم والعبد يكون صفة ؛ تقول : هذا رجل عبد".

قال أبو سعيد : اعلم أن (نعم وبئس) فعلان ماضيان موضوعان للمدح والذم ، ف (نعم) للمدح العام ، وبئس (للذم العام) ومبناهما على فعل في الأصل ، وفي كل واحد منهما أربع لغات فعل : نعم وبئس. وفعل : نعم وبئس ، وكذلك كل ما كان من الأسماء والأفعال على فعل وثانيه حرف من حروف الحلق ففيه أربع لغات.

فالاسم نحو : فخذ يقال فيها : فخذ وفخذ وفخذ وفخذ والفعل نحو : شهد وشهد وشهد وشهد.

وإنما ألزموها الإسكان لكثرة استعمالها تخفيفا. وقد جاء على الأصل.

فقل لبني قيس على ما

أصاب الناس من شرّ وضرّ

ما أقلت قدم ناعلها

نعم الساعون في الأمر المبّر (١)

ويلزم باب نعم وبئس ذكر شيئين :

أحدهما : الاسم الذي يستحق به المدح أو الذم. والآخر : الممدوح أو المذموم.

وذلك قولك : نعم الرجل زيد ونعم البزاز أخوك. وبئس الخادم غلامك. فالذي يستحق به المدح أو الذم هو الاسم الذي تعمل فيه نعم أو بئس ، وهو الدال على المعنى الذي يستحق به المدح أو الذم والآخر هو زيد.

فإذا قلت : نعم البزاز زيد ، فالمعنى الذي استحق به المدح البزاز أنه محمود في البزازين. والمستحق للمدح هو زيد ، ولا بد من الإتيان بهما جميعا.

فإذا قلت : نعم البزاز زيد (فنعم) فعل ماض و (البزاز) فاعله وهو دال على المعنى المستحق به المدح ، وزيد مرفوع على أحد وجهين :

__________________

(١) البيتان لطرفة في الخزانة الشاهد ٧٥٩ ، وشواهد المقتضب ٢ / ١٤٠ ، وأمالي ابن الشجري ٢ / ٥٥.

٩

 ـ إما أن يكون مبتدأ النية فيه التقديم ، ونعم الرجل خبره فيكون تقديره :

زيد نعم الرجل ثم أخرته على هذه النية.

ـ وإما أن يكون على كلامين ، كأنك لما قلت : نعم الرجل فأبهمته ولم يعرّف به شيء بعينه قيل لك : من هو؟ فقلت : زيد. على تقدير : هو زيد.

ورد أبو العباس محمد بن يزيد ـ على سيبويه ـ ترجمة الباب وألزمه فيه المناقضة ؛ لأنه قال : هذا باب ما لا يعمل في المعروف إلا مضمرا ثم جاء بعده :

نعم الرجل عبد الله فجاء بالرجل مظهرا.

والذي أراده سيبويه : أنه لا يعمل في المعروف إلا مضمرا إذا بني ذاك المعروف على أن يفسر بما بعده ولا يكون ذاك إلا مضمرا. وشبهه بقولك : إنه كرام قومك ، وإنه ذاهبة أمتك ، فالهاء إضمار الحديث الذي يأتي بعده ولا يجيء إلا مضمرا ؛ لأنه قد لزمه التفسير.

وكذلك الاسم الذي تعمل فيه (نعم) ويبنى على التفسير لا يكون إلا مضمرا.

قال : فإن قال قائل : قد ذكرتم في قولنا : نعم الرجل زيد وجهين : أن زيدا مبتدأ في نية التقديم وتقديره : زيد نعم الرجل. فهل يجوز على هذا القياس أن تقول : زيد قام الرجل ، فالجواب أن هذا لا يجوز لأنه ليس في الخبر ما يعود إلى الاسم.

فأما زيد نعم الرجل فالضرورة فيها خاصة أدت إلى جعل الظاهر بمنزلة المضمر ؛ لأن في شرط (نعم وبئس) أن يقع بعدهما ما يدل لفظه على الجنس الذي يستحق به المدح والذم فلا بد من ذكر ذلك الظاهر.

وصار ذكر الظاهر بمنزلة المضمر الذي ينعقد به خبر الابتداء.

ومن أجل ذلك قال سيبويه : عبد الله نعم الرجل ، الرجل هو : عبد الله لأن الرجل قد قام مقام ضميره.

وأما قولهم : نعم رجلا عبد الله فإن في (نعم) ضميرا قدم على شريطة التفسير ، وتفسيره : النكرة التي بعده. والمضمر فيها معرفة من لفظ تلك النكرة.

ومما قدم من الضمائر على شريطة التفسير : إنه كرام قومك وإنه ذاهبة فلانة. ومنه قولهم : ربّه رجلا. وليست الهاء بضمير شيء جرى ذكره ، لو كانت ضمير شيء قد جرى ذكره لصارت معرفة ، ولم يجز أن تلي (رب) لأنها لا يليها إلا نكرة. ولكنها

١٠

ضمير مبهم. أشبهت بإبهامها النكرات ؛ لأنك إذا قلت : ربه رجلا احتاج إلى أن تفسره بغيره فضارع النكرات إذا كانت لا تخص (كما أن النكرات لا تخص) ومعنى : ربّه رجلا : رب رجل.

وقال أبو إسحاق الزجاج : معنى : ربّه رجلا. أقلل به في الرجال.

ومن أجل ما وضعت له (نعم وبئس) من دلالة ما بعدهما على الجنس على معنى المدح والذم احتيج إلى أن يكون ما يرتفع بهما من أسماء الأجناس أو الصفات أو ما كان مضافا إلى ذلك.

ولا يجوز أن ترفع بهما الأعلام ولا المبهم ولا المكني ولا المضاف إلى شيء من ذلك ؛ لأنه ليس في شيء منه معنى يقع به مدح ولا ذم.

فلذلك لم يجز : نعمت ولا نعمت ولا نعم زيد ولا نعم هذا ولا بئس غلام هذا.

وإنما يقع على ما يتحصل به معنى عام يقع به المدح والذم كقولك : نعم الغلام ، ونعم غلام الرجل ، ونعم الصديق وما أشبه ذلك.

وأما علامة التأنيث التي تلحق الفعل فإنها تلحق نعم وبئس إذا كان بعدهما مؤنث كقولك : نعمت المرأة وبئست الجارية ، وحذف علامة التأنيث منهما أحسن وأكثر من حذفهما من سائر الأفعال لنقصان تمكنهما في الأفعال. وبطلان استعمال المستقبل منهما وذلك أنّ دخول علامة التأنيث في المستقبل أقوى منه في الماضي ؛ لأن علامة التأنيث في الماضي زيادة وفي المستقبل وضع حرف مكان حرف ؛ وهو التاء مكان الياء ، فلخفة تكلف العلامة في المستقبل صارت ألزم.

ولما كانت (نعم وبئس) لا مستقبل لهما صار : نعم المرأة وبئس الجارية أحسن من قام المرأة وذهب الجارية ؛ لأنك في المستقبل يلزمك : تقوم المرأة وتذهب الجارية ، وليس ذلك في نعم وبئس.

فإن قال قائل : لم لم يكن لهما مستقبل؟ والأفعال لا تمتنع من الاستقبال إذا أريد بهما الاستقبال؟ قيل له : المانع من الاستقبال أنهما وصفا للمدح والذم ولا يصح المدح والذم إلا بما قد وجد وثبت في الممدوح والمذموم.

وفيما قاله سيبويه : هذه الدار نعمت البلد. قال ذو الرمة.

١١

أو حرة عيطل ثبجاء مجفرة

دعائم الزور نعمت زورق البلد (١)

وأما (حبذا) فإن (حب) فعل (وذا) فاعل ، وبني معه وجعلا جميعا بمنزلة شيء واحد يقع موقع اسم مبتدإ في الواحد والاثنين والجماعة والمؤنث والمذكر بلفظ واحد في معنى المدح والحمد.

فإذا قيل : حبذا زيد فكأنه قال : المحمود زيد ، وإذا قال : حبذا الزيدان فكأنه قال : المحمودان الزيدان ، وإذا قال : حبذا هند فكأنه قال : المحمودة هند ، وإذا قال حبذا الهندات فكأنه قال : المحمودات الهندات.

وناب لفظ (حبذا) عن ذلك كله وجرى مجرى الفعل للذي جعل مع الحرف كشيء واحد ، فجرى مع الواحد والاثنين والجماعة والمؤنث والمذكر على لفظ واحد ، وذلك (هلمّ) في لغة أهل الحجاز للرجل الواحد والاثنين والجماعة ، قال الله تعالى : (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا)(٢).

وذكر من الأسماء التي لا تستعمل إلا في النفي أسماء ليبين حكمها ومواقعها.

والذي ذكر : أحد وكرات وأرم وكتيع وعريب ، ومثله : ما بالدار دبيح ودبى وطويّ وطوري وطرأني ، ولا يقعن إلا في المواضع التي ذكرها من النفي.

وقد يصحّ في النفي ما لا يصح في الإيجاب كقولك : مررت برجل قائم ولا مضاجع ، وزيد لا أسود ولا أشقر. ولا يجوز : مررت بقائم مضطجع وزيد أسود أشقر.

وإنما كان كذلك لأنه يجوز نفي الضرين في الأشياء التي يتعاور فيها ثلاثة أضداد فصاعدا. والموجود منه واحد والماضي منفي كالألوان والأكوان في الأماكن ؛ لأن الألوان كثيرة كالسواد والبياض والحمرة والخضرة والصفرة وغير ذلك ، ولا يكون الشيء إلا على واحد منها موجود فيه ، وكذلك أكوان الأماكن كثيرة غير محصلة نحو كونه ببغداد بالكوفة وبمكة وبمصر وأندلس ، ولا يوجد إلا في واحد منها.

ويجري مجرى هذا من غير الأناس ما عليها من الحلي : هلبسيسة ولا خربصيصة وما به ظبظاب (٣) وما به وذية (٤) ، وغير ذلك مما تحيط به كتب اللغة.

__________________

(١) البيت في ديوانه ١٤٦ ، وابن يعيش ١٣٦ ، والخزانة الشاهد ٧٦٩.

(٢) سورة الأحزاب ، من الآية ١٨.

(٣) ما به ظبظاب : ما به قلبه : داء يتقلب منه على فراشه.

(٤) ما به وذية : إذا شفي من المرض.

١٢

ولا يدخل على شيء فيه من العوامل إلا ما كان متصلا بالجحد كقولك : ما بالدار أحد وما رأيت بها عربيا ، وما بها تومريا أحسن من زيد.

وقد ذكرت في أول الكتاب من ذلك ما فيه كفاية.

وتركت من الباب ما كلام سيبويه فيه مفهوم.

هذا باب النفي «بلا»

و (لا) تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين ، ونصبها لما بعدها كنصب (إنّ) لما بعدها ، وترك التنوين لما تعمل فيه لازم ؛ لأنها جعلت وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد نحو : خمسة عشر ؛ وذلك لأنها لا تشبه سائر ما ينصب مما ليس باسم وهو الفعل وما أجري مجراه ؛ لأنها لا تعمل إلا في نكرة و (لا) وما تعمل فيه في موضع ابتداء.

فلما خولف بها عن حال أخواتها خولف بلفظها كما خولف بخمسة عشر. (فلا) لا تعمل إلا في نكرة كما أن (رب) لا تعمل إلا في نكرة. وكما أن (كم) لا تعمل ـ في الخبر والاستفهام ـ إلا في نكرة. لأنك لا تذكر بعد (لا) ـ إذا كانت عاملة ـ شيئا بعينه كما لا تذكر ذلك بعد (رب).

وذلك لأن (رب) إنما هي للعدّة بمنزلة (كم) فخولف بلفظها حين خالفت أخواتها كما خولف ب (أيهم) حيث خالفت (الذي) وكما قالوا" يا الله" حين خالفت ما فيه الألف واللام.

وسترى أيضا نحو ذلك إن شاء الله.

فجعلت وما بعدها كخمسة عشر في اللفظ وهي عاملة فيما بعدها كما قالوا : " يا ابن أم" فهي مثلها في اللفظ وفي أن الأول عامل في الآخر.

وخولف بخمسة عشر لأنها إنما هي خمسة وعشرة" فلا" لا تعمل إلا في نكرة من قبل أنها جواب ـ فيما زعم الخليل ـ لقوله : هل من عبد أو جارية؟ فصار الجواب نكرة كما أنه لا يقع في هذه المسألة إلا نكرة.

واعلم أن (لا) وما عملت فيه في موضع ابتداء ، كما إنك إذا قلت : هل من رجل فالكلام في موضع اسم مرفوع مبتدأ ، وكذلك" ما من رجل" و" ما من شيء" والذي يبنى عليه في زمان أو مكان ولكنك تضمره وإن شئت أظهرته وكذلك" لا رجل" و" لا شيء" إنما تريد لا رجل في مكان ولا شيء في زمان.

١٣

والدليل على أن" لا رجل" في موضع اسم مبتدأ و" ما من رجل" في موضع اسم مبتدأ في لغة تميم : قول العرب من أهل الحجاز" لا رجل أفضل منك".

وأخبرنا يونس إن من العرب من يقول :

ما من رجل أفضل منك وهل من رجل خير منك.

كأنه قال : ما رجل أفضل منك وهل رجل خير منك.

واعلم أنك لا تفصل بين" لا" وبين المنفي كما لا تفصل بين" من" وما تعمل فيه وذلك أنه لا يجوز أن تقول في الذي هو جوابه : هل من فيها رجل؟

ومع (ذا) أنهم جعلوا (لا) وما بعدها بمنزلة خمسة عشر فقبح أن يفصلوا بينهما عندهم كما لا يجوز أن يفصلوا بين خمسة و" عشر" بشيء من الكلام لأنها مشبهة بها.

قال أبو سعيد : " لا رجل في الدار" جواب" هل من رجل في الدار" وذلك أنه إخبار وكل إخبار يصح أن يكون جواب مسألة.

ولما كان" لا رجل في الدار" نفيا علما كانت المسألة عنه مسألة عامة ولا يتحقق لها العموم إلا بإدخال" من".

وذلك إنه لو قال في مسألته : هل رجل في الدار؟ جاز أن يكون سائلا عن رجل واحد. كما تقول : هل عبد الله في الدار؟ وهل أخوك في الدار؟

فالذي يوجب عموم المسألة دخول" من" لأنها لا تدخل إلا على واحد منكور في معنى الجنس ، ولا تدخل على معروف ، لا تقول : هل من عبد الله في الدار؟ وهل من أخيك؟

وسبيل الاستفهام سبيل الجحد تقول : ما في الدار رجل ، فيحتمل العموم ويحتمل أن يكون رجلا بعينه ، كقولك : " ما في الدار عبد الله" ، فإذا قلت : ما في الدار من رجل لم يكن إلا عموما.

ولما كان : لا رجل في الدار جواب هل من رجل في الدار؟ وهل من رجل معبرا عن : هل رجل في الدار؟ بإدخال عامل عليه يخرجه إلى تحقيق عموم المسألة جعل معبرا عن الابتداء ليدل على عموم النفي ، فلم يبق بعد الرفع إلا النصب والخفض ، فعدلوا عن الخفض ؛ لأن الباب في حروف الخفض أن لا تأتي مبتدأة وإنما تأتي في صلة شيء ؛ كقولك أخذت من زيد ، ومضيت إلى عمرو. أو زائدة بعد شيء كقولك : هل من رجل في الدار

١٤

أو ما من رجل في الدار.

ونصبوا بحرف النفي الذي هو جواب ؛ إذ في حروف الجحد ما يعمل في الأسماء الرفع والنصب وهو (ما) في لغة أهل الحجاز على أن (لا) تعمل الرفع والنصب بمعنى (ليس) وسنقف على ذلك إن شاء الله.

ولما نصبوا بها (وكان الناصب بها لا يعمل) لم تعمل إلا في نكرة على سبيل حرف الخفض الذي في المسألة ، والخافض والمخفوض بمنزلة شيء واحد ؛ لأن مجرى حرف الخفض وما خفضه كمجرى المضاف والمضاف إليه. جعل (لا) وما نصبته بمنزلة شيء واحد. ودلوا على جعلهما كشيء واحد بحذف التنوين مما بعدها ولم يقولوا في الجواب : لا من رجل ؛ لأن التعبير الذي يكون" بمن" يحصل" بلا" فاكتفوا بتأثير" لا" في الاسم الذي بعدها عن إدخال (من).

واختلف أصحابنا في فتحة الاسم المبني مع (لا).

فقال أبو العباس محمد بن يزيد إنها بناء.

وقال أبو إسحاق الزجاج إنها إعراب.

وقد سقت كلامهما على ما حكى أبو بكر مبرمان عنهما :

قال أبو العباس : " الذي أوجب ل (لا) أن تعمل : إنها وليت الأسماء فلم تفارقها وكل شيء ولي شيئا فلم يفارقه وجب أن يعمل فيه. والذي أوجب لها النصب : أنها داخلة على مبتدإ وخبر ، وكل داخل على مبتدإ وخبر يجب أن يعمل النصب إذا ولي الأسماء دون الأفعال نحو : ليت وإنّ وكأن" ومضارعتها"" أن" إنها لا تلي الأفعال.

والذي أوجب البناء أنها خالفت العوامل ؛ لأن العوامل تتصرف ، وتصرفها أنها تلي المعارف والنكرات ، كقولك : " إنّ زيدا" و" إنّ رجلا" و" لا" هذه لا تفارق النكرات ، فلما لزمت النكرة هذا اللزوم وخالفت نظائرها من الحروف العوامل في الأسماء فعل بها ذلك.

وقال أبو إسحاق الزجاج" ليست مبنية وإنما شبهها بخمسة عشر ـ يعني سيبويه ـ لأنها لا تفارق ما تعمل فيه كما أن خمسة لا تفارق عشر" واحتج أبو إسحاق بقولك : لا رجل وغلاما عندك ، ولا رجل ظريفا عندك. واستدل بعطف المعطوف عليه أنه معرب.

قال أبو بكر : " فقلت له : فأنت تقول : لا رجل ظريف عندك ، فنبني" رجل" مع" ظريف" ... قال : " هذا قول بعضهم ويحتاج أن ننظر فيه".

وقال ـ أيضا ـ أبو إسحاق : " إنما حذفت التنوين للفرق بين معنيين" أي : لتفرق بين الذي هو جواب" هل من رجل"؟ وبين الذي هو جواب" هل رجل"؟

١٥

قال أبو سعيد : " قد سقت كلام هذين. والذي عندي : أن الفتحة في الاسم بعد (لا) إعراب وهو مذهب سيبويه لأنه قال" فتنصبه بغير تنوين ، ونصبها لما بعدها كنصب (إن) لما بعدها. وترك التنوين لما تعمل فيه لازم.

قال أبو سعيد : قد يعمل العامل في الشيء ويمنع التصرف الذي لنظائره ولا يكون ذلك مبطلا لعمله كقولك : حبذا زيد.

" حب" فعل ماضي و" ذا" فاعله وجعلا جميعا كشيء واحد ، ولا يغيّر في التثنية والجمع والتأنيث ، ولا يمنع ذلك من أن يكون" حب" قد عمل في" ذا" ومنع التنوين لما ذكرته لك من الدلالة على جعلهما كشيء واحد على مذهب (لا) المقابلة حرف الجر وما بعده في قولك هل من رجل في الدار"؟

وقد أجمعوا على أن ما بعد (لا) إذا كان مضافا أو كان تمامه بشيء يتصل به أنه منصوب معرب ، وأن ما لم يكن من ذلك مضافا فالتنوين يدخله ، وذلك قولك : لا غلام رجل في الدار ولا خيرا من زيد عندنا ، وله باب يأتي فيما بعد.

وقوله : و (لا) وما عملت فيه في موضع ابتداء.

إن قال قائل : أنتم تزعمون أنّ" ليت" و" لعل" و" كأن" إذا دخلن على المبتدإ وخبره غيرن معنى الابتداء حتى لا يعطف على موضع الابتداء كما يعطف في (إن) و (لا) حرف جحد دخل على الابتداء فهلا غيّر موضع الابتداء؟

والجواب : أن هذه الحروف لها معان لا تصح في الأسماء إذا كانت مبتدأة وقد يصح الابتداء فيها مع الجحد كقولك : لا زيد في الدار ولا عمرو.

ويقال : أقل رجل يقول ذلك. وأقل مبتدإ وفيه معنى الجحد ؛ لأن معناه : ما يقول ذاك أحد" ولا" أيضا جواب حرف دخل على مبتدإ وخبر لأن قولك : هل من رجل في الدار؟ " من رجل" في موضع مبتدإ و" في الدار" خبره و" لا" عملت في" رجل" وفيها جحد فقابلت (لا) (هل) في الجواب وقابلت (من) في العمل فصار" لا رجل" بمنزلة" هل من رجل؟ " في عملهما فيما بعدهما.

وأما استدلال سيبويه على أن" لا رجل" في موضع اسم مبتدإ في لغة بني تميم بقول العرب من أهل الحجاز :

لا رجل أفضل منك فكان بنو تميم يقولون : لا رجل ويسكتون عن إظهار الخبر ، واحتج بلغة أهل الحجاز لأنهم يظهرون الخبر.

وذكر أبو بكر مبرمان عن أبي العباس محمد بن يزيد : أنه زعم أن" لا" تعمل رفعا

١٦

ونصبا كما تعمل" إن" وقد يجوز" أفضل منك" أن يكون رفعا" بلا" ويجوز أن يكون رفع بخبر الابتداء لأن" لا" وما بعدها في موضع مبتدإ.

هذا باب المنفي المضاف ب (لام) الإضافة

اعلم أن التنوين يقع من المنفي في هذا الموضع إذا قلت :

لا غلام لك ، كما يقع من المضاف إلى اسم وذلك إذا قلت : لا مثل زيد.

والدليل على ذلك قول العرب : لا أبا لك ولا غلامي لك. وزعم الخليل أن التنوين إنما ذهب للإضافة ؛ ولذلك لحقت الألف الأب التي لا تكون إلا في الإضافة.

وإنما كان ذلك من قبل أن العرب قد تقول : لا أباك في معنى لا أبا لك ، فعلموا أنهم لو لم يجيئوا باللام لكان التنوين ساقطا كسقوطه في" لا مثل زيد" فلما جاءوا بلام الإضافة تركوا الاسم على حاله قبل أن تجيء اللام إذ كان المعنى واحدا وصارت اللام بمنزلة الاسم الذي ثنى به في النداء.

ولم يغيروا الأول عن حاله قبل أن يجيئوا به وذلك قولهم :

يا تيم تيم عديّ ... (١)

وبمنزلة الهاء إذا لحقت" طلحة" في النداء لم يغيروا آخر" طلحة" عما كان عليه قبل أن تلحق وذلك قولهم (في بيت النابغة):

كيلني لهم يا أميمة ناصب

 ... (٢)

ومثل هذا : " اللام" قول الشاعر إذ اضطر :

 ...

يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام (٣)

حملوه على أن اللام لو لم تجئ لقلت يا بؤس الجهل.

__________________

(١) جزء بيت لجرير في قصيدة له في هجاء عمر بن لجا ، والبيت بتمامه :

يا تميم تيم عدي لا أبا لكم

لا يوقعنكم في سوأة عمر

ديوانه ١٣١ ، الكتاب ١ / ٢٦ ، الخزانة ١ / ٣٥٩ ، ابن يعيش ٢ / ١٠.

(٢) هذا صدر بيت عجزه : وليل أقاسيه بطيء الكواكب.

في ديوانه ٢٠ ، الخزانة ١ / ٣٧٠ ، الشعر والشعراء ١ / ٦٦.

(٣) البيت للنابغة ، قاله لزرعة بن عمر العامري ، وهو عجز بيت صدره : قالت :

بنو عامر خالوا بني أسد

انظر : ديوانه ٩٨ ، ابن يعيش ٣ / ٦٨ ، الخزانة ١ / ٢٨٧.

١٧

وإنما فعل هذا بالمنفي تخفيفا كأنهم لم يذكروا اللام كما أنهم إذا قالوا : يا طلحة أقبل. فكأنهم لم يذكروا الهاء وصارت اللام من الاسم بمنزلة الهاء من طلحة.

لا تغير الاسم عن حاله قبل أن تلحق ، فالنفي في موضع تخفيف كما أن النداء في موضع تخفيف ، فمن ثمّ جاء فيه مثل ما جاء في النداء.

وإنما ذهبت النون في" لا مسلمي لك" على هذا المثال جعلوه بمنزلة ما لو حذفت بعده اللام ، وذلك قولك : لا أباك ، فكأنهم لو لم يجيئوا باللام قالوا : لا مسلميك.

فعلى هذا الوجه حذفوا النون في : لا مسلمي لك ، وذا تمثيل وإن لم يتكلم" بلا مسلميك" ليعلم أن النون إنما ذهبت حيث صارت اللام هاهنا بمنزلتها بعد الأب إذا قلت لا أبا لك.

قال مسكين الدارمي (١) :

وقد مات شمّاخ ومات مزرد

وأيّ كريم لا أبا لك يمنّع (٢)

ويروى" يخلّد".

وتقول : لا يدين بها لك ولا يدين اليوم لك إثبات النون أحسن. وهو الوجه ، وذلك أنك إذا قلت : لا يدي لك ولا أبا لك فالاسم بمنزلة اسم ليس بينه وبين المضاف إليه شيء نحو : لا مثل زيد ، فكما قبح أن تقول : لا مثل بها زيد فتفصل قبح أن تقول :

" لا يدي بها لك" ولكن تقول : لا يدين بها لك ولا أب يوم الجمعة لك. كأنك قلت لا يدين بها ولا أب يوم الجمعة ثم جعلت" لك" خبرا فرارا من القبح.

وكذلك إن لم تجعل (لك) خبرا ولم تفصل بينهما وجئت ب" لك" بعد أن تضمر مكانا أو زمانا كإضمارك إذا قلت : لا رجل ولا بأس. وإن أظهرت فحسن ثم تقول (لك) لتبين المنفي عنه.

وربما تركتها استغناء بعلم المخاطب وقد تذكرها توكيدا وإن علم من تعني.

__________________

(١) هو ربيعة بن عامر الدارمي ، نسبة إلى بني دارم من بني حنظلة بن تميم ، توفي ٨٩ ه‍ ، انظر : مقدمة ديوانه ، ومعجم الأدباء ١١ / ١٢٦.

(٢) البيت في ديوانه ٥٠ ، والخزانة ٢ / ١١٨ ، وشرح الكافية ١ / ٢٦٥.

١٨

فكما قبح أن تفصل بين المضاف والاسم المضاف إليه قبح أن تفصل يبن (لك) وبين المنفي الذي قبله.

لأن المنفي الذي قبله إذا جعلته كأنه اسم لم يفصل بينه وبين المضاف إليه ، قبح فيه ما قبح في الاسم المضاف إلى اسم لم تجعل بينه وبينه شيئا ؛ لأن اللام كأنها هاهنا لم تذكر.

ولو قلت هذا لقلت : لا أخا هذين اليومين لك ، وهذا يجوز في الشعر ؛ لأن الشاعر إذا اضطر فصل بين المضاف والمضاف إليه.

قال ذو الرمة (١) :

كأنّ أصوات من إيغالهن بنا

أواخر الميس أصوات الفراريج (٢)

وإنما اختير الذي تثبت فيه النون في هذا الباب كما اختير في" كم" إذا قلت : " كم بها رجلا مصابا" وأنت تخبر لغة من ينصب بها لئلا يفصل بين الجار والمجرور.

ومن قال : " كم بها رجل مصاب" فلم يبال القبح قال : لا يدي بها لك ، ولا أخا يوم الجمعة لك ولا أخا ـ فاعلم ـ لك.

والجر في : كم بها رجل مصاب وترك النون في :

لا يدي بها لك قول يونس.

واحتجّ بأن الكلام لا يستغنى إذا قلت : كم بها رجل ، والذي يستغنى به الكلام وما لا يستغنى به قبحهما واحد إذا فصلت بكل واحد منهما بين الجار والمجرور.

ألا ترى أن قبح : " كم بها رجل مصاب" كقبح" كم فيها رجل" ولو حسن بالذي لا يستغنى به الكلام لحسن بالذي يستغنى به ، كما أن كل كلام حسن لك أن تفصل فيه بين العامل والمعمول فيه بما يحسن عليه السكوت حسن لك أن تفصل فيه بينهما بما يقبح عليه السكوت.

وذلك قولك : " إنّ بها زيدا مصاب وإنّ فيها زيدا قائم" وكان بها زيد مصابا وكان فيها زيد مصابا.

__________________

(١) هو غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي ، من مضر ، شاعر من فحول الطبقة الثانية ، توفي ١١٧ ه‍ ، انظر : وفيات الأعيان ١ / ٤٠٤ ، جمهرة شعراء العرب ١٧٧.

(٢) البيت في ديوانه ٧٦ ، والخزانة ٢ / ١١٩ ، وابن يعيش ١ / ١٠٣ ، والإنصاف ٢٥١.

١٩

وإنما يفرق بين الذي يحسن عليه السكوت والذي لا يحسن في موضع غير هذا.

وإثبات النون قول الخليل رحمه‌الله.

وتقول : لا غلامين ولا جاريتي لك. إذا جعلت الآخر مضافا ولم تجعله خبرا له وصار الأول مضمرا له خبر ، كأنك قلت : لا غلامين في ملكك ولا جاريتي لك.

كأنك قلت : " ولا جاريتيك" في التمثيل. ولكنهم لا يتكلمون به.

فإنما اختصت" لا" في" الأب" بهذا كما اختصت" لدن" مع" غدوة" بما ذكرت لك.

ومن كلامهم أن يجري الشيء على ما لا يستعملونه في كلامهم نحو قولهم :

ملامح ومذاكير. لا يستعملون لا ملمحة ولا مذكارا ، وكما جاء" عذيرك" على مثال ما يكون نكرة ومعرفة نحو : ضربا وضربك ، ولا يتكلم به إلا معرفة مضافة وسترى نحو هذا إن شاء الله ومنه ما قد مضى.

وإن شئت قلت : لا غلامين ولا جاريتين لك إذا جعلت" لك" خبرا لهما ، وهو قول أبي عمرو ، وكذلك إذا قلت : لا غلامين لك. وجعلت لك خبرا لأنه لا يكون إضافة وهو خبر ؛ لأن المضاف يحتاج إلى الخبر مضمرا أو مظهرا.

ألا ترى أنه لو جاز : تيم تيم عدي في غير النداء لم يستقم لك إلا أن تقول ذاهبون.

فإذا قلت : لا أبا لك فهاهنا إضمار مكان ولكنه ترك استخفافا واستغناء.

قال نهار بن توسعة اليشكري فيما جعله خبرا :

أبي الإسلام لا أب لي سواه

إذا افتخروا بقيس أو تميم (١)

وإذا ترك النون فليس الاسم مع" لا" بمنزلة : خمسة عشر ؛ لأنه لو أراد ذلك لجعل" لك" خبرا وأظهر النون أو أضمر خبرا ثم جاء بعدها ب (لك) توكيدا ، ولكنه أجراه مجرى ما ذكرت لك في النداء ؛ لأنه موضع حذف وتخفيف كما أن النداء كذلك.

وتقول أيضا ـ إن شئت ـ لا غلامين ولا جاريتين لك ، ولا غلامين وجاريتين

__________________

(١) البيت في ابن يعيش ٢ / ١٠٤ ، الدرر ١ / ١٢٥ ، الشعر والشعراء ١ / ٥٣٧.

٢٠