شرح كتاب سيبويه - ج ١

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-5251-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

لا بد له من فاعل ، وقد يستغنى عن المفعول ، فلم يكن بهم ضرورة توجب إضمار المفعول قبل الذكر.

فإذا ثنيت ، أو جمعت ـ على هذا الوجه ـ قلت : " ضربت وضربني الزيدان" ، و" ضربت وضربني الزيدون" ، " وضربت وضربتني الهندات" ، فإن أعملت الفعل الأول ـ في هذه الوجوه ـ قلت : " ضربت وضربني زيدا" ، وجعلت في" ضربني" ضميرا من زيد ، وتقديره : ضربت زيدا ، وضربني. وفي التثنية والجمع" ضربت وضرباني الزيدين" و" ضربت وضربوني الزيدين" ، و" ضربت وضربني الهندات".

وإذا كان الفعل متعديا إلى اثنين جرى على هذا المجرى ، وعلى هذا القياس. وإذا تعدى إلى ثلاثة مفاعيل : فالجرمي ومن ذهب مذهبه لا يرون إجراءه على قياس هذا الباب ؛ لأن هذا الباب خارج عن القياس ، وإنما يستعمل فيما استعملته العرب ، وتكلمت به ، وما لم تتكلم به فمردود إلى القياس. ومن أصحابنا من يقيس ذلك في جميع الأفعال.

فما يتعدى إلى مفعولين ، تقول : " أعطاني وأعطيت أخاك درهما" ، فتجعل في" أعطاني" ضمير الأخ ؛ لأنه فاعل مضطر إلى ذكره ، وتحذف ضمير الدرهم ؛ لأنه مفعول ، وما في الفعل الثاني يدل عليه ، وتعمل الفعل الثاني في الآخر.

فإذا ثني أو جمع ـ على هذه الوجوه ـ قلت : " أعطياني وأعطيت أخويك درهما" ، و" أعطوني وأعطيت إخوتك درهما" ، و" أعطيتني وأعطيت الهندات درهما".

فإذا أعملت الفعل الأول ـ على هذا الوجه ـ قلت : " أعطاني وأعطيته إياه أخوك درهما" ، وتقديره : أعطاني أخوك درهما وأعطيته إياه ، فالهاء ضمير الأخ ، وإياه ضمير الدرهم ، وقد جرى ذكرهما في التقدير فأضمرتهما لذلك ، فإذا ثنيت أو جمعت قلت : " أعطاني وأعطيتهما إياه أخواك درهما" ، و" أعطاني وأعطيتهم إياه إخوتك درهما" ، و" أعطتني وأعطيتهن إياه الهندات درهما".

ويجوز حذف ضمير المفعول من الفعل الثاني على نحو ما مضى : فإذا قلت : " أعطيت وأعطاني زيد درهما" وأعملت الفعل الثاني حذفت المفعولين من الفعل الأول ، وإن كانا يرادان في المعنى ؛ لأن الفعل الثاني قد دل عليهما ، والمفعولان أحدهما زيد والآخر الدرهم ، كأنك قلت : " أعطيت زيدا درهما ، وأعطاني زيد درهما ، وإذا ثنيت أو جمعت قلت : " أعطيت وأعطاني الزيدان درهما" ، و" أعطيت وأعطاني الزيدون درهما" ،

٣٦١

و" أعطيت وأعطتني الهندات درهما".

وإذا أعملت الأول ـ على هذا الوجه ـ قلت : " أعطيت وأعطاني إياه زيدا درهما" ، و" أعطيت وأعطياني إياه الزيدين درهما" ، و" أعطيت وأعطوني إياه الزيدين درهما" ، و" أعطيت وأعطينني إياه الهندات درهما" ، ويجوز حذف إياه ؛ لأن المفعول يستغنى عنه.

وإن كان الفعل متعديا إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما ، فسبيله سبيل" أعطيت" الأول إلا في الاقتصار على أحد المفعولين ، تقول : " ظنني وظننت زيدا منطلقا إياه" ، أعملت الفعل الثاني في" زيد" ، و" منطلق" ، وجعلت في الفعل الأول ضمير" زيد" وهو الفاعل ، والنون والياء هما المفعول الأول من مفعولي الظن ، وأنت مضطر إلى ذكر الثاني ؛ لأنه لا يقتصر على أحد المفعولين فجئت به في آخر الكلام. وهو ضمير" منطلق" بعد أن جرى ذكره ، ولا يجوز أن تضمر قبل ذكره ؛ لأن المفعول لا يضمر قبل الذكر ، وكل ما تعلق بالفعل الأول فلا يجوز أن تذكره بعد الفعل الثاني حتى يتم فاعله ومفعوله.

ولو ثنيت أو جمعت ـ على هذا الوجه ـ لم يجز ؛ لأنك لو أخرته لقلت : " ظناني وظننت أخويك منطلقين إياه وإياهما" وكلاهما فاسد ، وذلك أنك إذا قلت : إياه فقد جعلت ضميرا واحدا ، وإذا قلت : إياهما فأضمرت المنطلقين ، فقد جعلت المتكلم اثنين وهما واحد ، وعلى هذا قياس جميع هذا الباب ، فيما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل.

وكان الكسائي إذا أعمل الفعل الثاني في الفاعل ، أعرى الفعل الأول من الفاعل ، ولم يجعل فيه ضميرا له.

وكان الفراء لا يضمر الفاعل قبل ذكره في شيء من هذه الأفعال التي ذكرنا ، فأما الكسائي فإنه يقال للمحتج عنه ، أخبرنا عن هذا الفعل ، أتنوي فاعله أو لا تنويه؟

فإن قال : لا أنويه فقد أحال ؛ لأن الفعل لا يتصور بغير فاعل ، وإن قال : أنويه قلنا : فإذا كنت تنويه قبل أن تذكره لحاجة الفعل إليه ، فلم لا تأتي بالعلامة التي تكون لما ينوى من الفاعلين؟

وأما الفراء فإن قوله مخالف لكلام العرب ؛ لأن الرواة قد أنشدوا قول طفيل الغنوي :

٣٦٢

وكمتا مدمّاة كأنّ متونها

جرى فوقها واستشعرت لون مذهب (١)

فنصب" لونا" باستشعرت ، وجعل في" جرى" ضمير فاعل ، كأنه قال : جرى فوقها لون مذهب ، واستشعرت لون مذهب مع ما حكاه البصريون من قول العرب : " ضربني وضربت زيدا" ، واختيارهم لإعمال الفعل الثاني ، وإذا أعملوا الفعل الثاني جعلوا في الأول ضمير فاعل.

قال سيبويه : مفسرا لترجمة الباب : (وهو قولك : " ضربت وضربني زيد" و" ضربني وضرب زيدا" ، فحمل الاسم على الفعل الذي يليه).

قال أبو سعيد : يعني أنك تعمل الفعل الثاني وهو الاختيار عنده. وقد ذكرناه. قال سيبويه :

(والعامل في اللفظ أحد الفعلين ، وأما في المعنى فقد يعلم أن الأول قد وقع ، إلا أنه لا يعمل في اسم واحد رفعا ونصبا).

يعني العامل في الاسم الظاهر هو أحد الفعلين ، كأنا إذا قلنا : " ضربت وضربني زيد" ، فالعامل في" زيد" هو" ضربني" ، وقد علم أن" ضربت" له مفعول مثل" ضربني" وإن لم يذكر ، وكذلك إذا قلت : " ضربني وضربت زيدا" فالعامل في" زيد" هو" ضربت" ، وفاعل" ضربني" ضمير زيد ، وإن لم تظهره ، فقد علم أن الفعل الأول كالفعل الثاني في وصوله إلى الفاعل والمفعول. ولا يجوز أن يكون الفعل الأول والثاني يعملان في الاسم الظاهر ؛ لأن الفعل الأول يوجب نصبه ، والثاني يوجب رفعه ، أو الأول يوجب رفعه والثاني يوجب نصبه ، ومحال أن يكون الاسم مرفوعا منصوبا.

وقد زعم الفراء أنا إذا قلنا : " قام أو قعد زيد" ، فالعامل في" زيد" الفعلان جميعا.

وهذا غير جائز ؛ لأنهما لو كانا عاملين في" زيد" جاز أن يبدل من أحدهما ما يوجب نصب" زيد" ، فتقول : " ضربت أو ضربني زيد" ، فيكونان جميعا عاملين في" زيد" وهذا فاسد.

قال سيبويه : (وإنما كان الذي يليه أولى ؛ لقرب جواره ، وأنه لا ينقض معنى ، وأن المخاطب قد عرف أن الأول قد وقع" بزيد").

__________________

(١) ديوانه : ٧ ، المقتضب ٤٤ / ٧٥ ، أساس البلاغة : ٢٣٧.

٣٦٣

يعني : أن الاختيار إعمال الثاني ؛ لأنه لا فرق في المعنى بين إعمال الأول والثاني ، ونحن نكتسب بإعمال الثاني حمل الشيء على ما يقرب منه ويجاوره ، والعرب تختار حمل الشيء على ما يقرب منه ، وقد بينا هذا.

قال سيبويه : (كما أن" خشّنت بصدره وصدر زيد" ، وجه الكلام ، حيث كان الجر في الأول ، وكانت الباء أقرب إلى الاسم من الفعل ، ولا تنقض معنى سوّوا بينهما في الجر كما يستويان في النصب).

قال أبو سعيد يعني : أن قولنا : " خشنت بصدره وصدر زيد" ، أجود من" خشنت بصدره وصدر زيد" وكلاهما جائز ؛ لأنك إذا جررت حملته على مجرور يجاوره لفظا ، وإذا نصبت حملته على المعنى ، كأنك قلت : " خشنت صدره وصدر زيد" وحمله على اللفظ أجود ؛ لأنه معه وإلى جنبه ، فكذلك الأول حمله على ما يقاربه ويجاوره أجود. ولا فرق بين النصب والجر في" خشنت" فلما لم يكن فرق كان مطابقة اللفظ أولى بالاختيار ، كما أنهم لو نزعوا الباء لسوّوا بين الأول والثاني في النصب ، وقالوا : " خشنت صدره وصدر زيد".

قال سيبويه : (ومما يقوى ترك نحو هذا لعلم الخاطب ، قوله تعالى : (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ)) (١).

أراد و" الحافظاتها" والذاكرين الله كثيرا والذاكراته. فترك مفعول الثاني لعلم المخاطب بذلك والاكتفاء بالأول لو كان منصوبا.

وكذلك قوله : (" ونخلع ونترك من يفجرك").

فلو كان منصوبا ب" نخلع" كان الاختيار أن يقول : ونخلع ونتركه من يفجرك ، ونصبه ب" نخلع" جائز أيضا ، فقد ترك إما مفعول" نخلع" وإما مفعول" نترك" اكتفاء بعلم المخاطب.

قال سيبويه : (وقد جاء في الشعر من الاستغناء أشد من هذا ، وذلك قول قيس بن الخطيم :

__________________

(١) سورة الأحزاب ، آية : ٣٥.

٣٦٤

نحن بما عندنا ، وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف (١)

أراد : نحن بما عندنا راضون.

ومثله قول ضابئ البرجمي :

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّارا بها لغريب (٢)

فجاء بخبر أحدهما.

وقال ابن أحمر :

رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ومن أجل الطّوي رماني (٣)

ويروى : ومن جول الطوى. وحق الكلام أن يقول : بريئين فهذه الأبيات أشد مما ذكر ؛ وذلك أنه حذف خبر الاسم الذي لا بد له منه اكتفاء بخبر الاسم الأخير ، وما ذكرناه فإنما حذف منه المفعول المستغنى عنه ، وحذف الخبر أشد من حذف المفعول.

فأما قول ضابئ البرجمي : " وإني وقيارا بها لغريب" ، فيجوز أن يكون" لغريب" خبرا للنون والياء وخبر" قيار" محذوفا. ويجوز أن يكون خبرا" لقيار" ، وخبر" إني" محذوف.

وكذلك بيت ابن أحمر ، يجوز أن يكون خبرا" للقاء" في" كنت" ، ويجوز أن يكون خبرا" لوالدي". ومن روى : ومن أجل الطّوي رماني يعني بسبب الطّويّ ، والطويّ : البئر. وإنما كان بينهما مشاجرة في بئر ، فبهته بسبب ما كان بينهما من المشاجرة ، وقذفه بما لم يكن فيه.

ومن قال : "ومن جول الطوي رماني" أراد : ما رماني به رجع عليه ؛ لأن من رمى من بئر رجع عليه ما رمي.

قال سيبويه بعد هذه الأبيات : (فوضع في موضع الخبر لفظ الواحد ؛ لأنه قد علم أن المخاطب سيستدل به ، والأول أجود).

يعني : أنه جاء بخبر واحد ، وقد ذكر أكثر من واحد ، فحذف الخبر اكتفاء بما ذكر والأول أجود ، يعني : حذف المفعول من الفعل الذي ذكره أجود.

__________________

(١) أمالي ابن الشجري ١ / ٢٩٦ ـ شرح ابن عقيل ص ١٢٥.

(٢) الخزانة ٤ / ٨١ ـ الكامل للمبرد ١ / ٢١٨ ـ الدرر اللوامع ٢ / ٢٠٠ ، ٢١٠.

(٣) الأعلم ١ / ٣٨ ، سيبويه ١ / ٣٨.

٣٦٥

(لأنه لم يضع واحدا في موضع جمع ، ولا جمعا في موضع واحد. قال : ومثله قول الفرزدق :)

يعني : مثله الاكتفاء بخبر واحد عن خبر جماعة :

إني ضمنت لمن أتاني ما جنى

وأبى فكان وكنت غير غدور (١)

ولم يقل : غدورين.

واعترض بعض النحويين على سيبويه فقال : " فعيل وفعول" قد يكونان للجماعة والواحد والمذكر والمؤنث ، ومن ذلك قولهم : "رجل صديق" و" قوم صديق" ، و" رجل خليط" ، و" قوم خليط" ، و" رجل عدو" ، و"قوم عدو"  كما قال تعالى : (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً)(٢).

قال فيجوز أن يكون" غدور" و" بديء" للاثنين. وهذا الذي ذكرنا يروى عن الزيادي. وهو غير ناقض لما ذكره سيبويه ؛ لأنه قد ذكر في أول هذه الأبيات" نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض" ، و" راض" لا يصلح إلا لواحد ؛ وغرضه أن يبيّن أنه يحذف الخبر اكتفاء بخبر واحد.

على أن" فعيل" و" فعول" ليس طريقهما في كل موضع أن يكونا للجميع والواحد ؛ ألا ترى أنك تقول : " رجل كريم" ، و" رجلان كريمان" ، و" رجل ظريف" و" رجلان ظريفان" ، وما سمع" رجلان ظريف" ، وكذلك" رجل صبور" ، و" رجلان صبوران" ، ولم نسمع : " رجلان صبور".

قال سيبويه : (ولو لم تحمل الكلام على الآخر لقلت : " ضربت وضربوني قومك" ، وإنما كلامهم : " ضربت وضربني قومك").

يعني : إذا أعملت الأول قلت : " ضربت وضربوني قومك" ؛ لأن تقديره : ضربت قومك وضربوني. والوجه" ضربت وضربوني قومك" على إعمال الثاني وترك مفعول الفعل الأول.

قال سيبويه : (فإذا قلت : " ضربني" لم يكن سبيل إلى الأول ؛ لأنك لا تقول :

__________________

(١) البيت للفرزدق سيبويه ١ / ٣٨ ، الأعلم ١ / ٣٨ ، الإنصاف ١ / ٩٥ واللسان (قعد) ٤ / ٣٦١.

(٢) سورة النساء ، آية : ١٠١.

٣٦٦

" ضربني" وأنت تجعل المضمر جميعا).

يعني إذا قلت : " ضربت وضربني قومك" لا يجوز أن تقول : " ضربت وضربني قومك" وقد أعملت الأول ؛ لأنك إذا أعملت الأول في" القوم" وجب أن تضمر في الثاني ضمير جماعة.

قال : (ولو أعملت الأول لقلت : " مررت ومرّ بي بزيد").

على تقدير" مررت بزيد ومرّ بي".

(وإنما قبح هذا ؛ لأنهم جعلوا الأقرب أولى إذا لم ينقض معنى).

يعني أن قولك : " مررت ومرّ بي زيد" أجود ؛ لأن" زيدا" أقرب إلى الفعل الثاني.

قال الفرزدق في إعمال الثاني :

ولكنّ نصفا لو سببت وسبنّي

بنو عبد شمس من مناف وهاشم (١)

ولو أعمل الأول في غير الشعر لقال : " سببت وسبّوني بني عبد شمس".

قال طفيل الغنوي :

وكمتا مدمّاة كأنّ متونها

جرى فوقها واستشعرت لون مذهب

أعمل" استشعرت" ولو أعمل الأول ، وهو" جرى" لقال : لون مذهب وقال رجل من باهلة :

ولقد أرى تغني به سيفانة

تصبي الحليم ومثلها أصباه (٢)

قال : أعمل" تغني" ، ولو أعمل" أرى" لقال" سيفانة". والسيفانة : المهفهفة الممشوقة ، ومثلها أصباه يعني : مثل السيفانة أصبى الحليم.

وقال : (فالفعل الأول في كل هذا معمل في المعنى وغير معمل في اللفظ والآخر معمل في اللفظ والمعنى).

قال سيبويه : (فإن قلت : " ضربت وضربوني قومك" نصبت إلا في قول من قال : " أكلوني البراغيث").

والاختيار : " ضربت وضربني قومك" عند البصريين ؛ تعمل الثاني في" القوم" ، وإذا

__________________

(١) ديوان الفرزدق ٨٤٤ ، المقتضب ٤ / ٧٤ ، ابن يعيش ١١ / ٧٨ ،

(٢) سيبويه ١ / ٣٩ ـ الأعلم ١ / ٣٩ ، الإنصاف ١ / ٨٩ ، المقتضب ٤ / ٧٥.

٣٦٧

أعملت الثاني فيهم أفردت الفعل ، وإن جمعت الفعل الثاني فقلت : " ضربوني" كان على وجهين :

أحدهما : أن تنصب" قومك بالفعل الأول وتضمر" هم" في الفعل الثاني ؛ كأنك قلت : " ضربت قومك وضربوني" وهذا هو المختار من الوجهين.

والوجه الثاني : أن ترفع" قومك" فقلت : " ضربت وضربوني قومك" فإذا فعلت هذا كان فيه وجهان :

أحدهما : أن تجعل" الواو" في" ضربوني" علامة للجمع لا ضميرا على لغة من يقول : " قاما أخواك" و" ضربوني إخوتك" ، و" أكلوني البراغيث".

والوجه الثاني : أن تجعل" الواو" ضمير الفاعلين وتجعل" القوم" بدلا منهم ، وجاز أن تضمر قبل الذكر على شرط التفسير ، وهذا معنى قول سيبويه :

(أو تحمله على البدل فتجعله بدلا من المضمر كأنه قال : " ضربت وضربني ناس بنو فلان").

قال : (وعلى هذا الحد تقول : " ضربت وضربني عبد الله" تضمر في" ضربني" كما أضمرت في" ضربوني").

يعني أنك إذا قلت : " ضربت وضربني عبد الله" جاز أن يكون في ضربني ضمير فاعل ، أضمرته قبل الذكر على شرط التفسير ؛ على أنه لا يظهر في اللفظ لأن كناية الفاعل الواحد في الفعل لا تظهر.

قال : (فإن قلت : " ضربني وضربتهم قومك" رفعت ؛ لأنك شغلت الآخر فأضمرت فيه ، كأنك قلت : " ضربني قومك وضربتهم" على التقديم والتأخير).

يعني أنك إذا قلت : " ضربني وضربتهم قومك" فوحّدت الفعل الأول ، فالاختيار أن ترفع" القوم" به ؛ لأنك لو لم ترفعهم به لوجب أن تضمر ضمير جماعة في الفعل الأول ؛ لأن الفعل الأول لجماعة فيكون تقديره : " ضربني قومك وضربتهم".

وقال : (إلا أن تجعل" ها هنا البدل كما جعلته في الرفع ، فإن فعلت ذلك لم يكن بد من" ضربوني" لأنك تضمر فيه الجمع).

يعني أنك إذا نصبت" قومك" فجعلتهم بدلا من الهاء والميم في" ضربتهم" وجب أن تأتي بفاعل الفعل الأول وهم جماعة ؛ فتأتي لهم بضمير الجماعة على شرط التفسير.

٣٦٨

قال عمر بن أبي ربيعة :

إذا هي لم تستك بعود أراكة

تنحّل ، فاستاكت به عود إسحل (١)

أراد : تنحّل عود إسحل ، فاستاكت به ، فأعمل الفعل الأول ، والشاهد إنما هو إعمال الفعل الأول.

قال المرار الأسدي :

فردّ على الفؤاد هوّى عميدا

وسوئل لو يبين لنا السؤالا

وقد نغنى به ونرى عصورا

بها يقتدننا الخرد الخدالا

أراد : ونرى الخرد الخدال بها يقتدننا في عصور : فالعصور : ظرف ، وأعمل الفعل الأول في الخرد ، وهو" نرى" ، ولو أعمل الفعل الثاني لقال : ونرى عصورا بها يقتادنا الخرد الخدال.

قال : (وإذا قلت : " ضربوني وضربتهم قومك" جعلت" يقوم" بدلا من" هم" ؛ لأن الفعل لا بد له من فاعل ، والفاعل ها هنا جماعة ، وضمير الجماعة الواو. وكذلك تقول : " ضربوني وضربت قومك" ، إذا أعملت الآخر فلا بدّ في الأول من ضمير الفاعل ، لأن الفعل لا يخلو من فاعل).

قال أبو سعيد : يعني أنك إذا أعملت الفعل الثاني في القوم ، فلا بد من أن تأتي بالواو التي هي ضمير" هم" في الفعل الأول ؛ لأنهم فاعلون للفعل الأول وهم جماعة فعلا متهم الواو.

قال سيبويه : (وإنما قلت : " ضربت وضربني قومك" فلم يجعل في الأول الهاء والميم ؛ لأن الفعل قد يكون بغير مفعول ، ولا يكون الفعل بغير فاعل).

يعني أنك إذا أعملت الفعل الثاني في القوم ، وهم الفاعلون له ، وقد وقع بهم الفعل الأول ، لم يحتج إلى ضمير لهم في الفعل الأول ؛ لأن الفعل قد يكون بلا مفعول ؛ ألا ترى أنه يجوز أن تقول" أكلت" ولا تذكر المأكول ، ولا تقول" أكل" من غير أن تذكر الأكل.

قال (وأما لقول امرئ القيس :

__________________

(١) سيبويه ١ / ٤٠ ، ديوان عمر بن أبي ربيعة ٤٩٠ ، الأعلم ١ / ٤٠.

٣٦٩

فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ولم أطلب قليل من المال (١)

فإنما رفع ؛ لأنه لم يجعل القليل مطلوبا ، وإنما كان المطلوب عنده الملك ، وجعل القليل كافيا ، ولو لم يرد ذلك ونصب ، فسد المعنى).

يعني أنه رفع قليلا و" كفاني" ولم ينصبه ب" أطلب" ؛ لأن امرأ القيس إنما أراد : لو سعيت لمنزلة دنيئة كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك. وعلى ذلك معنى الكلام ؛ لأنه قال في البيت الثاني :

ولكنما أسعى لمجد موثّل

وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي (٢)

ولو نصب بأطلب لاستحال المعنى ، وذلك أن قوله : " فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة" ، يوجب أنه لم يسع لها ؛ ألا ترى أنك تقول : " لو لقيت زيدا" لوجب أنك لم تلقه. فإذا قلت : " لو لقيت زيدا ... لم يقصر" يوجب أنك تلقه ، وأنه قد قصّر بسبب أنك لم تلقه. فإذا كان المعنى كذلك ، وجب متى نصبنا" قليلا" ب" أطلب" أن يكون معناه : لو سعيت لمعيشة دنيئة لم أطلب قليلا من المال ، فنفيت أنك سعيت لمعيشة دنيئة ، وأوجبت أنك طلبت قليلا من المال.

لأنك نفيت أنك لم تطلب قليلا من المال ؛ لأن جواب" لو" منفي ، كما أن الفعل بعدها منفي ، وذلك متناقض.

قال سيبويه : (وقد يجوز : " ضربت وضربني زيدا" ؛ لأن بعضهم قد يقول : " متى رأيت أو قلت زيدا منطلقا").

يعني : أن إعمال الفعل الأول جائز ، كما أن الذي قال : " متى رأيت أو قلت زيدا منطلقا" أعمل." رأيت".

قال : (والوجه : متى رأيت أو قلت زيد منطلق).

فيحكي ويعتمد على" قلت" لأنه الفعل الثاني.

قال : (ومثل ذلك في الجواز : " ضربني وضربت قومك" ، والوجه أن تقول : " ضربوني وضربت قومك" فتحمله على الآخر).

__________________

(١) الديوان ٣٩ ، الخزانة ١ / ١٥٨ ، الدرر اللوامع ٢ / ١٤٤ ، الأعلم ١ / ٤١.

(٢) المصدر السابق.

٣٧٠

يعني : أن" ضربوني وضربت قومك" قد أعملت فيه الفعل الآخر ، فهو أجود من :

" ضربني وضربت قومك" ؛ لأنك قد أعملت فيه الفعل الأول.

قال : (وإن قلت : " ضربني وضربت قومك" فجائز ، وهو قبيح أن تجعل اللفظ كالواحد كما تقول : " هذا أجمل الفتيان" ، و" أحسن وأكرم بنيه وأنبله").

يعني : أنك إذا وحّدت الفعل الأول ، وأعملت الفعل الثاني في مفعولين ، وقد علمت أن فاعل الفعل الأول جماعة ، والفعل لا بد له من فاعل ، فالضرورة تحوجك إلى أن تضمر في الفعل الأول ضميرا واحدا في معنى جمع ، حتى لا معرّي الفعل من فاعل فيكون تقديره : " ضربني من ثم" ، أو" ضربني جمع" ، " فمن ثم" و" جمع" إذا قدرته ، لفظه لفظ الواحد ، ومعناه جماعة. قال : وهذا وإن كان قبيحا ؛ لأنا نقول : " هذا أجمل الفتيان ، وأحسنه ، وأكرم بنيه ، وأنبله" وإنما تريد : أحسنهم ، وأجملهم.

قال : (ولا بد من هذا ؛ لأنه لا يخلو الفعل من فاعل مضمر أو مظهر مرفوع من الأسماء ؛ كأنك قلت : إذا مثّلته : " ضربني من ثم" ، و" ضربت قومك").

يريد : أنه لا بد لك من فاعل مقدر في الفعل الأول ، وإن أفردناه.

قال سيبويه : (وترك ذلك أحسن وأجود للبيان الذي يجيء بعده).

قال أبو سعيد : في هذا وجهان :

أحدهما : ما قاله بعض أصحابنا أن شيئا من الكلام قد سقط ، وأن تمامه. وترك ذلك جائز ، وذكره أجود ، وأحسن للبيان الذي يجيء بعده. يعني : وترك ضمير الجماعة جائز ، وإبانة ضميرهم أجود لذكر الجماعة التي تأتي بعده.

والوجه الثاني : أن قوله : (وترك ذلك أجود).

يريد : وترك إضمار الواحد في معنى الجماعة أجود بسبب ذكر الجماعة التي تأتي من بعد.

ثم قال : (وأضمر" من" لذلك. وهو رديء في القياس ، فدخل فيه أن تقول : " أصحابك جلس" تضمر شيئا يكون في اللفظ واحدا).

يعني : أن إضمار" من" الذي هو مفرد في معنى الجماعة رديء ؛ لأنك إذا ألزمت هذا القياس ، وجب عليك أن تقول : " أصحابك جلس" تضمر في" جلس" شيئا يكون بمعنى الجماعة وهذا قبيح جدا.

٣٧١

قال : (وقولهم : " هو أظرف الفتيان وأجمله" لا يقاس عليه. ألا ترى أنك لو قلت ، وأنت تريد الجماعة : " هذا غلام القوم وصاحبه" لم يحسن).

يريد أن قولنا : " هذا أظرف الفتيان وأجمله" أجود من" ضربني وضربت قومك" ، من قبل أنك تقول : " هذا أظرف فتى" ، فيكون بمعنى : أظرف الفتيان ، فلما كان الواحد في هذا الموضع يقع موقع الجماعة ، جاز أن تضمر بعد الجماعة واحدا وحسن ، ولم يحسن في" ضربني وضربت قومك" ، إلا أنه مع قبحه جائز.

هذا باب ما يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل قدّم أو أخّر

وما يكون الفعل فيه مبنيا على الاسم

قال أبو سعيد : اعلم أن بناء الشيء على الشيء كثيرا ما يدور في كلام سيبويه ، ونحن نبينه ، حتى تقف عليه من كلامه كلّ ما مرّ بك في موضع من الكتاب.

فإذا قال : بنيت الاسم على الفعل ، فمعناه : أنك جعلت الفعل عاملا في الاسم ، كقولك : " ضرب زيد عمرا" ، " فزيد ، وعمرو" مبنيان على الفعل.

وكذلك لو قلت : " عمرا ضرب زيد" ؛ لأن" عمرا" وإن كان مقدما فالنية فيه التأخير ، وإذا قال لك : بنيت الفعل على الاسم ، فمعناه : أنك جعلت الفعل وما يتصل به خبرا عن الاسم ، وجعلت الاسم مبتدأ كقولك : " زيد ضربته" ، " فزيد" مبني عليه ضربته و" ضربته" مبني على الاسم.

وجملة الأمر : أن الذي حكمه أن يكون مؤخرا مبنيا على ما حكمه أن يكون مقدما ، عمل في اللفظ أو لم يعمل ، إذا كان أحدهما يحتاج إلى الآخر. وقد ذهب سيبويه إلى أنك إذا قلت : " لو أن عندنا زيدا لأكرمناه" ، " أنّ" التي بعد" لو" مبنية على" لو" وإن كانت" لو" غير عاملة فيها ، لأن حكم" لو" أن تكون مقدمة على" أنّ" ولا يستغنى عنها.

قال سيبويه : (فإذا بنيت الاسم عليه قلت : " ضربت زيدا" وهو الحد ؛ لأنك تريد أن تعمله أو تحمل الاسم عليه ، كما كان الحد" ضرب زيد عمرا" ، حيث كان" زيد" أول ما تشغل به الفعل).

قال أبو سعيد : قد ذكر أن المفعول مبني على الفعل وقوله : وهو الحد.

يعني : تأخر المفعول هو الأصل والوجه.

٣٧٢

وقوله : (لأنك تريد أن تعمله وتحمل الاسم عليه).

يريد : لأنك تريد أن تعمل الفعل ، وتجعله صدر الكلام في النية ، وتعمله في الاسم ، وتحمل الاسم عليه.

وقوله : (كما كان الحد ضرب زيد عمرا).

يعني : أن الحد تأخير" زيد" في" ضربت زيدا" مع الفاعل المكني وهو التاء كما كان الحد تأخير المفعول مع الفاعل الظاهر.

قال : (وإن قدمت الاسم ، فهو عربي جيد ، كما كان ذلك عربيا جيدا ، وذلك قولك : " زيدا ضربت").

يعني أن" زيدا ضربت" بمنزلة" زيدا ضرب عمرو" ، ولا فرق بين الفاعل الظاهر والمكني.

قال : (والاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير سواء ، مثله في" ضرب زيد عمر" و" ضرب زيدا عمرو").

يعني : أن المكني والظاهر الفاعلين سواء في باب تقديم المفعول وتأخيره ، فإن كانت العناية بالمفعول فيهما أشد ، قدمت المفعول ، وإن كانت العناية بالفاعل أشد قدمت الفاعل ، وقد ذكرنا نحو هذا.

قال : (فإذا بنيت الفعل على الاسم قلت : " زيد ضربته" فلزمته الهاء).

يعني : أنك إذا جعلت" زيدا" هو الأول في الرتبة ، فلا بد من أن ترفعه بالابتداء ، فإذا رفعته بالابتداء فلا بد من أن يكون في الجملة التي بعده ضمير يعود إليه ، وتكون هذه الجملة مبنية على المبتدأ ، كأنك قلت : " زيد مضروب".

قال : (فإنما قلت : " عبد الله" فنبهته له ثم بنيت عليه الفعل ، فرفعته بالابتداء).

يعني : ابتدأت ب" عبد الله" ، فنبّهت المخاطب له فانتظر الخبر عنه فأخبرت بالجملة التي بعده.

قال : (ومثل ذلك قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ)(١)).

يعني : أن" ثمود" مبتدأ ، و" فهديناهم" في موضع الخبر مبني عليه وفيه ضمير يعود

__________________

(١) سورة فصلت ، آية : ١٧.

٣٧٣

إليه.

قال : (وإنما حسن أن يبني الفعل على الاسم حيث كان معملا في الضمير).

يعني أن" ضربته" إنما بني على" زيد" ؛ لأنه قد عمل في ضميره ، ولو لا ذلك لم يحسن إلا أن تنصب" زيدا" ، إلا أنك لو حذفت هذا الضمير ، وأنت تريده جاز على قول البصريين ، ولم يحسن فقلت : " زيد ضربت" على معنى" ضربته".

قال : (وإن شئت قلت : " زيدا ضربته" وإنما نصبته على إضمار فعل هذا تفسيره).

يعني أنك إذا قلت : " زيدا ضربته" فتقديره" ضربت زيدا ضربته" ، وحذفت الفعل الأول اكتفاء بتفسير الثاني له ، والدليل على أنه ينتصب بالفعل الأول : أنك قد تقول : " أزيدا مررت به" ، فتنصبه ولو لم يكن فعل مضمر يعمل فيه النصب لما جاز نصبه بهذا الفعل ؛ لأن" مررت" لا يتعدى إلا بحرف جر. فإذا قلت : " زيدا ضربته" لم يحسن إظهار الفعل الناصب لزيد مع الفعل المفسّر له ، لا تقول : " ضربت زيدا ضربته" فتجمع فيهما ؛ لأن أحدهما يكفيك من الآخر.

قال : (ومثل ذلك ترك إظهار الفعل ها هنا ، ترك الإظهار في الموضع الذي تقدم فيه الإضمار).

يعني : أن ترك إظهار الفعل المضمر في" زيدا ضربته" مع مجيء التفسير بمنزلة قولك : " نعم رجلا زيد" وتقديره" نعم الرجل رجل زيد" ، أضمر الرجل في" نعم" ؛ لأن" نعم" فعل ، ولا بد له من فاعل و" رجلا" تفسير له ، ولا يجوز أن يجمع بينهما فنقول : " نعم الرجل رجلا".

قال : (وقد قرأ بعضهم : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ)(١). وأنشدوا هذا البيت على وجهين : على الرفع والنصب. قال بشر بن أبي خازم :

فأمّا تميم تميم بن مرّ

فألفاهم القوم روبى نياما) (٢)

وقد مرّ وجه النصب والرفع ، غير أن النصب في" أما" بإضمار فعل مقدر بعد

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) الديوان ١٩٠ ، الأعلم ١ / ٤٢ ، آمالي ابن الشجري ٢ / ٣٤٨.

٣٧٤

الاسم كأنه قال : " فأما ثمود فهدينا فهديناهم".

قال : (ومثله قول ذي الرمة :

إذا ابن أبي ليلى بلالا بلغته

فقام بفأس بين وصليك جازر (١)

فالنصب عربي كثير والرفع أجود).

أراد : النصب عربي كثير في" زيدا ضربته" ، والرفع أجود ؛ لأنك إذا رفعت لم تحتج إلى إضمار شيء ، وإذا نصبت أضمرت فعلا ، وأنت لو أردت إعمال الفعل في الاسم كان يمكنك أن تحذف الضمير الذي في الفعل ، وتصل إلى الاسم ، ولم يكن يحتاج إلى هذا التأويل البعيد.

وأما قول ذي الرّمة ؛ فإن الاختيار فيه النصب ؛ لأن" إذا" فيها معنى المجازاة ، فهي بالفعل أولى. فإذا كانت بالفعل أولى ، كان إضمار الفعل الذي ينصبه أجود.

وقوله" فقام بفأس" هو دعاء ، ولو لم يكن دعاء لما جاز دخول الفاء ، تقول : " إن أتاني زيد أتيته" ، ولا يجوز" إن أتاني زيد فأتيته" ، وتقول : " إن أتاني زيد فأحسن الله جزاءه" ؛ لأن فيه دعاء. والرفع فيما بعد" أما" أجود ؛ لأن ما بعد" أمّا" مبتدأ ؛ لأنها من حروف الاستئناف.

قال : (ومثل ذلك" زيدا أعطيت" ، و" أعطيت زيدا" ، و" زيد أعطيته" ؛ لأن" أعطيت" بمنزلة" ضربت" وقد بيّن المفعول الذي هو بمنزلة الفاعل في أول الكتاب).

يعني : أن" أعطى عمرو زيدا" بمنزلة" ضرب عمرو زيدا" في مجازي إعرابهما وعمل الفعل فيهما ، فتقديم المنصوب على" أعطى" كتقديمه على" ضرب".

قال : (فإن قلت : " زيد مررت به" ، فهو من النصب أبعد من ذلك ؛ لأن المضمر قد خرج من الفعل ، وأضيف الفعل إليه بالباء ، ولم يوصل إليه الفعل في اللفظ ، فصار كقولك : " زيد لقيت أخاه").

يعني أنك إذا ابتدأت الاسم وجئت بالفعل فيتعدى إلى ضميره بحرف جر ، كان الرفع فيه أقوى ، والنصب منه أبعد ؛ لأنك إذا قلت : " زيدا مررت به" فتنصبه ، أضمرت

__________________

(١) البيت لذي الرمة الديوان ٢٥٣ / الخزانة ١ / ٤٥٠ / الخصائص ٢ / ٣٨٠.

٣٧٥

فعلا على غير لفظ الظاهر ؛ كأنك قلت : " لقيت زيدا أو جزت زيدا". فإذا قلت : " زيدا ضربته" ، أضمرت فعلا من لفظه ، كأنك قلت : " ضربت زيدا ضربته" ، فيكون الظاهر دالا على مثل لفظه ومعناه ، وفي الوجه الأول يكون الظاهر دالا على مثل معناه دون لفظه ، وما اجتمع فيه اللفظ والمعنى كان أقوى في الدلالة ، ومثل الوجه الأول : " زيد لقيت أخاه" ؛ لأنك لو نصبته لأضمرت فعلا على خلاف لفظ الظاهر ، كأنك قلت : " لا بست زيدا لقيت أخاه" وكل ما دل على المعنى واللفظ كان أقوى في النصب.

قال : (وإن شئت قلت : " زيدا مررت به" ، تريد أن تفسّر به مضمرا ، كأنك قلت إذا مثّلت ذلك" جعلت زيدا على طريقي مررت به").

و" جعلت زيدا على طريقي" بمنزلة إضمار" جزت" ، ولكنه لا يظهر هذا الفعل الأول ؛ لما ذكرت لك. يعني : الفعل المضمر لا يظهر مع التفسير.

قال : (وإذا قلت : " زيد لقيت أخاه" ، فهو كذلك ، وإن شئت نصبت ؛ لأنه إذا وقع على شيء من سببه فكأنه قد وقع به).

يعني : " زيدا لقيت أخاه" لما نصبت الأخ جاز أن تضمر فعلا ينصبه لأن وقوع الفعل بسببه كوقوعه بضميره.

قال : (والدليل على ذلك أن الرجل يقول : " أهنت زيدا بإهانتك أخاه ، وأكرمته بإكرامك أخاه ، وهذا النحو كثير في الكلام ، يقول الرجل : " إنما أعطيت زيدا" وإنما يريد لمكان زيد أعطيت فلانا ، وإذا نصبت" زيدا لقيت أخاه" ، فكأنه قال : لا بست زيدا لقيت أخاه ، وهذا تمثيل ولا يتكلم به ، فجرى هذا على ما جرى عليه قولك : " أكرمت زيدا" ، وإنما وصلت الإكرام إلى غيره).

يعني : أن نصب" زيد" بوقوع الفعل على سببه بمنزلة" أكرمت زيدا" ، وإن كان الإكرام وصل إلى غيره بسببه.

(والرفع في هذا أحسن وأجود ؛ لأن أقرب إلى ذلك أن تقول : " مررت بزيد" ، و" لقيت أخا عمرو").

يعني : أن الرفع في" زيد" في" زيد مررت به" ، و" عمرو لقيت أخاه" ، أجود ؛ لأنك لو أردت إعمال الفعل ، لأعملت هذا الظاهر في" زيد" فقلت : " مررت بزيد" و" لقيت أخاه".

٣٧٦

قال سيبويه : (ومثل هذا في البناء على الفعل ، وبناء الفعل عليه" أيهم" وذلك قولك : " أيهم تره يأتك" و" أيهم تر يأتك" والنصب على ما ذكرت لك ؛ لأنه كأنه قال : أيهم تر تره يأتك ، فقولهم : " أيهم تره يأتك" مثل" زيد" في هذا ، وقد يفارقه في أشياء كثيرة ، ستبين إن شاء الله تعالى).

قال أبو سعيد : يعني : أنك إذا قلت : " أيهم تر يأتك" ، نصبت" أيهم" ب" تر" ، كما تقول : " زيدا ضربت" وإذا قلت : " أيهم تره يأتك" ، فشغلت الفعل بضميره ، كان الاختيار الرفع ، كما كان في قولك : " زيد ضربته" ويجوز فيه النصب بإضمار فعل ، كأنك قلت : " أيهم تر تره يأتك" ، تقدر الفعل بعده ؛ لأن" أيا" في الاستفهام والمجازاة لا تقع إلا صدرا. ف" أي" في باب النصب والرفع واختيار أحدهما على الآخر بمنزلة" زيد".

وهو يفارق" زيدا" في أشياء لأنها تكون استفهاما ، وتكون مجازاة ، وتكون بمعنى الذي ، وليس في" زيد" شيء من ذلك.

هذا باب ما يجري مما يكون ظرفا هذا المجرى

وذلك قولك : (" يوم الجمعة ألقاك فيه" ، وأقلّ يوم لا ألقاك فيه و" أقل يوم لا أصوم فيه" ، و" خطيئة يوم لا أصيد فيه" ، و" مكانك قمت فيه" ، وصارت هذه الأحرف ترتفع بالابتداء كارتفاع" عبد الله" ، وصار ما بعدها مبنيا عليها كبناء الفعل على الاسم الأول).

قال أبو سعيد : اعلم أن الظروف على ضربين :

ضرب يكون اسما وظرفا وهو الظرف المتمكن.

وضرب لا يكون اسما وهو الظرف الذي لا يتمكن.

فأما الضرب الذي يكون اسما وظرفا ، فهو ما يكون مرفوعا في حال ومجرورا في حال ومنصوبا في حال على غير معنى الظرف ، وهذا هو تمكنه ، وكونه اسما ؛ لأنه يصير بمنزلة" زيد ، وعمرو" ، وهو نحو" اليوم ، والليلة ، والشهر ، والمكان" وما أشبه ذلك.

فأما الظرف الذي لا يتمكن ، فهو ما يمتنع من الرفع ولا يكون فاعلا ، ولا مبتدأ ، كقولك : " عندك ، وقبلك ، وبعدك" ، ألا ترى أنك لا تقول : " عندك واسع" ، ولا" قبلك يوم الجمعة" ، كما تقول : " وكأنك واسع" ، ولاستقصاء الفصل بين الظروف المتمكنة وغير المتمكنة موضع غير هذا.

٣٧٧

فإذا كان الظرف متمكنا ، وشغلت الفعل الناصب له بضميره عنه ، رفعته كما ترفع" زيدا" ، إذا شغلت الناصب له عنه فقلت : " يوم الجمعة ألقاك فيه" كما تقول : " زيد أضربه" ، " وعمرو أتكلم فيه".

واعلم أن الظروف المتمكنة إذا نصبت كان لك في نصبها وجهان : أحدهما : أن تنصبها من طريق الظرف ، فيكون مقدرا ل" في" وإن كانت محذوفة ، ألا ترى أنك لمّا حذفتها وصل الفعل فنصب.

والوجه الثاني : أن تقدر وصول الفعل إليها بلا تقدير" في". وهذا هو المفعول على سعة الكلام.

فإذا شغلت الفعل عنه وقد قدرته تقدير الظرف قلت : " يوم الجمعة قمت فيه" ، وإن كان بتقدير المفعول على سعة الكلام ، أضمرت من غير" في" ، كقولك : " يوم الجمعة ألقاكه" ، و" مكانكم قمته".

قال الشاعر :

ويوم شهدناه سليما وعامرا

قليل سوى الطّعن النّهال نوافله (١)

أراد : شهدنا فيه. وجعله مفعولا على سعة الكلام.

قال سيبويه : بعد الفصل الأول : (فكأنك قلت : " يوم الجمعة مبارك" و" مكانك حسن" وصار الفعل).

الذي هو" ألقاك فيه" ، " وقمت فيه".

(في موضع هذا) يعني صار الفعل في موضع الخبر كما أنك إذا قلت : " يوم الجمعة مبارك ، ف" مبارك" خبر ؛ كما أنك إذا قلت : " زيد ضربته" بمنزلة" زيد منطلق".

(وإنما صار هذا هكذا ، حين صار في الآخر إضمار اليوم والمكان).

قال أبو سعيد : يعني : حين اشتغل الفعل بضميرهما ، فلم يصل إليهما ، ورفع بالابتداء ، كما رفع" زيد" إذا قلت : " زيد ضربته".

قال : (فخرج من أن يكون ظرفا ، كما يخرج إذا قلت : " يوم الجمعة مبارك").

__________________

(١) البيت لرجل من بني عامر : الأعلم ١ / ٩٠ ـ الكامل للمبرد ١ / ١٣٩ ـ أمالي ابن الشجري ١ / ٦٠.

٣٧٨

يعني : أن قولك : " يوم الجمعة قمت فيه" ، بمنزلة" يوم الجمعة مبارك" لأن الفعل لما اشتغل بضميره لم يصلح أن ينتصب بالفعل.

قال : (فإذا قلت : " يوم الجمعة صمته" ، ف" صمته" في موضع" مبارك" ، حيث كان المضمر هو الأول ، كما كان المبارك هو الأول).

يعني : أنك إذا قلت : " يوم الجمعة صمته" ، فجعلت" اليوم" مفعولا على سعة الكلام ، جعلت الضمير العائد إليه غير متصل ب" في" وقد مضى هذا.

قال : (فيدخل النصب كما دخل في الاسم الأول).

يعني : أنك تقول : " يوم الجمعة صمته" على تقدير : " صمت يوم الجمعة صمته" فهو كما تقول : " زيدا ضربته" ، على تقدير : ضربت زيدا ضربته. ويجوز" يوم الجمعة آتيك فيه" ، على تقدير : " آتيك يوم الجمعة آتيك فيه" ، كما تقول : " زيدا تكلمت فيه" ، على تقدير : " ذكرت زيدا تكلمت فيه".

قال سيبويه : (كأنك قلت : " ألقاك يوم الجمعة" فنصبته لأنه ظرف ، ثم فسّرته فقلت : " ألقاك فيه" ، وقدرته : " ألقاك فيه" ، وإن شئت نصبته على الفعل نفسه ، كما أعمل فيه الفعل الذي لا يتعدى إلى مفعول واحد. وكل ذلك عربي جيد).

يعني : أنك إذا قلت : " يوم الجمعة ألقاك فيه" وقدرته : " ألقاك يوم الجمعة ألقاك فيه" ، فالفعل المضمر الناصب ليوم الجمعة ، إن شئت أعملته فيه من طريق الظرف ، وإن شئت أعملته على طريق المفعول على السعة ، وقد ذكرنا هذين الوجهين ، لأنه يكون ظرفا ، وغير ظرف.

قال سيبويه : (ولا يحسن في الكلام أن تجعل الفعل مبنيا على الاسم ؛ ولا تذكر علامة إضمار الأول ، حتى يخرج من لفظ الإعمال في الأول ، ومن حال بناء الاسم عليه ، وتشغله بغير الأول حتى يمتنع من أن يكون يعمل فيه).

يعني : أنك إذا جعلت الاسم مبتدأ ، وجعلت الفعل خبرا ، والوجه أن يظهر الضمير الذي يعود إلى الاسم ، حتى يخرج من لفظ ما يعمل في الأول.

يعني أنه قبيح أن تقول : " زيد ضربت" ؛ لأن" ضربت" في لفظ ما يعمل في" زيد" ؛ لحذفك الضمير في اللفظ ، ولا بد من تقديره حتى يصح أن يكون خبرا للاسم الأول ، إذ قد جعلت الاسم مبتدأ ، ولا يصح أن يكون الفعل خبرا له ، حتى يكون فيه ما يعود إليه.

٣٧٩

قال سيبويه : (ولكنه قد يجوز في الشعر ، وهو ضعيف في الكلام. قال أبو النجم العجلي.

قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع) (١)

فهذا ضعيف ، وهو بمنزلته في غير الشعر ؛ لأن النصب لا يكسر الشعر ولا يخل به.

قال : (فترك إضمار الهاء ، فكأنه قال : كله غير مصنوع).

قال أبو سعيد : يعني أن إضمار الهاء إذا قلت : " زيد ضربت" هو قبيح ومع قبحه هو جائز في الكلام. قال : والدليل على جوازه في الكلام ، أن الشاعر لو قال : " كله لم أصنع" لاستقام البيت ولم ينكسر ، فلم تدعه الضرورة من جهة الشعر إلى رفعه فعلم بذلك جوازه في غير الشعر.

وكان الفراء يجيز" كلهم ضربت" ، ولا يجيز" زيد ضربت".

قال : لأن معنى" كلهم ضربت" معنى الجحد ، كأنه قال : " ما منهم أحد إلا ضربت". وليس هذا بحجة ؛ لأن كل موجب يتهيأ رده إلى الجحد ، فيمكن للقائل أن يقول : " زيد ضربت" ، معناه : " ما زيد إلا قد ضربت ، وما زيد إلا مضروب".

وقد أنشد سيبويه مع القياس الذي ذكرناه أبياتا منها :

(قول امرئ القيس :

فأقبلت زحفا على الرّكبتين

فثوب لبست وثوب أجرّ) (٢)

لم يقل أجره ولم ينصب الثوب.

(وقال النمر بن تولب : وسمعناه من العرب ينشدونه :

فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نساء ويوم نسرّ) (٣)

أراد : يوم نساء فيه ، أو نساؤه ، فأضمر الهاء ، ولم ينصب يوم فهو بمنزلة قولك :

__________________

(١) البيت لأبي النجم العجلي الخزانة ١ / ١٧٣ ـ الخصائص ١ / ٢٩٢ ، ٣ / ٦١ ، المغني ١ / ٢٠١ ، ٢ / ٤٩٨ ـ الدرر اللوامع ١ / ٧٣.

(٢) الديوان ١٥٩ ق ٢٩ / ١٧ ـ الخزانة ١ / ١٨ ـ الأعلم ١ / ٤٤.

(٣) الأعلم ١ / ٤٤ ـ الصمع ١ / ١٠١ ـ ٢ / ٢٧ ـ الدرر اللوامع ١ / ٧ ، ٢ / ٢٢.

٣٨٠