شرح كتاب سيبويه - ج ١

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-5251-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

قال أبو سعيد : اعلم أنّ الأفعال التي يشتمل عليها هذا الباب ، إنما هي أفعال من أفعال تدخل على مبتدأ وخبر ، لتبيّن اليقين أو الشّكّ ، وهي سبعة أفعال : ظننت ، وحسبت ، وخلت ، ورأيت ، إذا أردت بها رؤية القلب ، ووجدت ، إذا أردت به وجود القلب ، وزعمت ، وعلمت.

والاعتماد بهذه الأفعال على المفعول الثاني الذي كان خبرا للمفعول الأول ، وذلك أنك إذا قلت : " حسبت زيدا منطلقا" فأنت لم تشكّ في زيد ، وإنما شككت في انطلاقه ، هل وقع أو لا ، وكذلك إذا قلت : " علمت زيدا منطلقا اليوم" فإنما وقع علمك بانطلاقه إذا كنت عالما به من قبل ؛ وإنما كان كذلك ، لأنك إذا قلت" زيد منطلق" قبل دخول هذه الأفعال ، فإنما تفيد المخاطب انطلاقه الذي لم يكن يعرفه ، لا ذاته التي قد عرفها ، فكذلك إذا قلت : " حسبت زيدا منطلقا" فالشكّ في انطلاقه ، لا في ذاته.

وهذا الاسمان ، وإن كان الاعتماد على الثاني منهما ، فلا بد من ذكر الأول ، ليعلم صاحب القصة المشكوك فيها أو المتيقّنة ، ولا بد من ذكر الثاني ؛ لأنه المعتمد عليه في اليقين أو الشكّ ، كما كان هو المستفاد قبل دخول هذه الأفعال ، فقد صحّ أنه لا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر. ولو لم تذكر واحدا منهما وجئت بالفعل والفاعل فقط ، جاز في كل هذه الأفعال ، كقولك : ظننت. ومن أمثال العرب : " من يسمع يخل" ، ففي" يخل" ضمير فاعل ، ولم يأت بمفعولين.

ولو جئت بظرف أو مصدر ، ولم تأت بواحد من المفعولين ، جاز كقولك : " ظننت ظنّا" و" ظننت يوم الجمعة" و" ظننت خلفك". وقال الله تعالى : (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ)(١) ، فأتى بالمصدر فقط.

وحروف الجرّ إذا اتّصلت بها هذه الأفعال فهي بمنزلة الظروف ، كقولك : " ظننت بزيد" و" ظننت في الدّار" ، أي وقع ظنّي في هذا المكان ، كما تقول : " ظننت يوم الجمعة" و" ظننت خلفك".

وقد يتوجه بعض هذه الأفعال على معنى لا يحتاج فيه إلى مفعولين ؛ فمن ذلك : " ظننت" قد تكون بمعنى اتّهمت ، ومنه يقال : " رجل ظنين" أي متّهم ، فإذا كان كذلك

__________________

(١) سورة الفتح ، آية : ١٢.

٢٨١

تعدّى إلى مفعول واحد ، تقول : " ظننت زيدا" كما تقول : " اتّهمت زيدا".

ومنه : " علمت" إذا أردت به معرفة ذات الاسم ، ولم تكن عارفا به من قبل كقولك : " علمت زيدا" أي عرفته ولم أكن أعرفه من قبل ، وليس بمنزلة قولك : " علمت زيدا قائما" إذا أخبرت عن معرفتك بقيامه ، وكنت عارفا من قبل.

ومنه" رأيت" إذا أردت به رؤية العين ، بمنزلة : " أبصرت" يتعدّى إلى مفعول واحد ، تقول : " رأيت زيدا" ، كما تقول : " أبصرت زيدا" ، وإذا كانت الرؤية للقلب تعدّت إلى مفعولين ، على ما ذكرنا ، وكان لها معنيان : العلم والحسبان. قال الله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً)(١) أي يحسبونه بعيدا ونعلمه قريبا.

" والظّنّ" أيضا قد يكون بمعنى العلم ، كقولك الله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ)(٢) وقال الشاعر :

فقلت لهم ظنّوا بألفى مدجّج

سراتهم في الفارسيّ المسرّد (٣)

ومعناه : أيقنوا.

ومنه : " وجد عبد الله ضالّته" إذا أصابها ، فهو يتعدى إلى مفعول واحد.

وأما" حسب" و" خال" و" زعم" ، فلا يكون لهنّ معنى غير ما ذكرنا.

وقد جاءت سبعة أفعال لم يسمّ فاعلوها ، تجري مجرى هذه الأفعال التي قدمنا ذكرها وهي : نبّئت ، وخبّرت ، وأخبرت ، وأعلمت ، وأريت ، وحدّثت ، وقد كانت متعدّية في الأصل إلى ثلاثة ، فأقيم واحد منها مقام الفاعل ، وبقى الآخران كمفعولي الظنّ في جميع أحكامها ؛ لأن معنى : أعلمت ، وأريت ، يعود إلى : علمت ، ورأيت وأنبئت ، ونبّئت ، وخبّرت ، وأخبرت ، وحدّثت يعود معناها إلى : حسبت.

وقد كان تعدّي الفعل في هذه الخمسة الأفعال بحرف جرّ ؛ لأن معنى : " أنبئت زيدا منطلقا" : " نبّئت عن زيد" ، وقد مر هذا.

قال سيبويه : " وإنما منعك أن تقتصر على أحد المفعولين هاهنا أنّك إنما أردت

__________________

(١) سورة المعارج ، آية : ٦ ـ ٧.

(٢) سورة البقرة ، آية : ٤٦.

(٣) البيت لدريد بن الصمة في اللسان (ظن).

٢٨٢

أن تبيّن ما استقر عندك من حال المفعول الأوّل يقينا كان أو شكّا".

يعني من خبره وقصته.

" وذكرت الأوّل لتعلم الذي تضيف إليه ما استقر عندك".

يعني أنك إذا قلت : " علمت زيدا منطلقا" بيّنت ما استقر عندك من حال زيد ، وهو الانطلاق ، وكان يقينا لا شكّا ، وذكرت زيدا ، وهو الأول ، ليعرف صاحب الانطلاق أيّ شيء استقرّ له عندك من الانطلاق ، فمعنى قوله : " لتعلم الذي تضيف إليه" لتعلم زيدا الذي أضفت إليه الشيء الذي استقر له ، يعني لزيد ، عندك وهو الانطلاق.

ثم قال : " وإنما ذكرت" ظننت" ونحوه ، لتجعل خبر الأوّل يقينا أو شكّا". وقد ذكرنا هذا.

ثم قال : " ولم ترد أن تجعل المفعول الأوّل فيه الشك ، أو يعتمد فيه على اليقين".

يعني أنك إذا قلت : " حسبت زيدا منطلقا" ، فليس الشكّ في زيد ، وإذا قلت" علمت زيدا خارجا" فالعلم لم يقع به ، وإنما وقع بخروجه ، فلم يعتمد على زيد في العلم.

ثم قال : " ومثل ذلك : علمت زيدا الظّريف ، وزعم عبد الله زيدا أخاك". وهذا مثال لما يتعدى إلى مفعولين.

ثم قال : " وإن قلت : رأيت ، فأردت به رؤية العين ، أو وجدت ، فأردت وجدان الضالّة ، فهو بمنزلة : ضربت". وقد ذكرنا هذا.

ثم قال : " ولكنّك إنما تريد بوجدت : علمت ، وبرأيت : ذلك أيضا".

يعني : أردت بوجدت الذي يتعدّى إلى مفعولين بمعنى : علمت ، وهو الوجود بالقلب ، وكذلك : رأيت ، الذي هو رؤية القلب.

ثم قال : " ألا ترى أنه يجوز للأعمى أن يقول : رأيت زيدا الصّالح ، وقد تكون بمعنى : عرفت".

يعني : وقد تكون" علمت" بمعنى" عرفت" وقد تكون" علمت" لحدوث العلم بالأول. وقد ذكرنا هذا. وهو بمنزلة" عرفت" ؛ لأن" عرفت" إنما يراد به حدوث المعرفة بالاسم ، فإذا قلت : " عرفت زيدا" فإنما عرفت ذاته ، ولم تكن عارفا ، ولو قلت" عرفت زيدا منطلقا" كانت المعرفة بذات زيد لا بانطلاقه ، و" منطلقا" نصب على الحال ،

٢٨٣

كأنك قلت : عرفته في حال انطلاقه.

ولا فرق بين العلم والمعرفة ، ووجود القلب ورؤيته إذا أردت بها العلم في التّحصيل ، غير أنّ العرب تجعل عرفت زيدا لمعرفة ذاته فقط ، وتجعل" وجدت" و" رأيت" لمعرفة قصّته فقط ، كقولك : وجدت زيدا منطلقا ، و" رأيته متكلّما" ، وتجعل" علمت" مرّة لمعرفة الذات فقط ، في مذهب" عرفت" ومرّة في معرفة القصّة ، في مذهب" وجدت". وقال الله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ)(١) وقال الله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ)(٢).

قال سيبويه : " أمّا ظننت ذاك ، فإنما جاز السّكوت عليه ؛ لأنك تقول : ظننت فتقتصر".

يعني : أنّ قول العرب : " ظننت ذاك" إنما يعنون ذاك الظّنّ ، وقد جاز أن تقول : ظننت ، كما بينّا ، فإذا جئت بذاك ، وأنت تعني به المصدر ، فإنما أكّدت الفعل ، ولم تأت بمفعول يحوج إلى مفعول آخر.

قال سيبويه في تفسير هذا : " تقول ظننت ثم تعمله في الظن ، كما تعمل ذهبت في الذهاب ، فذاك هاهنا الظن كأنك قلت : ظننت ذاك الظنّ وكذلك : خلت وحسبت.

يعني إذا قلت : خلت ذاك ، وحسبت ذاك.

قال : " ويدلّك على أنه الظن أنك لو قلت : خلت زيدا وأرى زيدا يجز". وهذا بيّن.

ثم قال : " وتقول : ظننت به ، أي جعلته موضع ظنّك ، كما تقول : نزلت به ، ونزلت عليه" :

وقد بينا أن اتصال هذه الأفعال بحروف الجر كاتصالها بالظروف ، ولا تحوج إلى ذكر مفعول آخر.

ثم قال : " ولو كانت الباء زائدة بمنزلتها في قوله : كفى بالله ، لم يجز السّكوت عليه".

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٦٥.

(٢) سورة الأنفال ، آية : ٦٠.

٢٨٤

يعني : لو كانت الباء في قولك : " ظننت بزيد" زائدة ، لاحتجت إلى مفعول آخر ؛ لأنك لو قلت : " ظننت زيدا" لاحتجت إلى مفعول آخر ، والباء في" كفى بالله" زائدة ، لأنّ معناه : كفى الله.

ثم قال : " فكأنك قلت : ظننت في الدار ، وشككت فيه".

يعني أنك إذا قلت" ظننت بزيد" ، فهو كقولك : ظننت في الدار ، وشككت في زيد.

وقد بيّنا هذا فاعرفه.

هذا باب الفاعل الذي يتعدّى فعله إلى ثلاثة مفعولين

قال سيبويه : " لا يجوز أن يقتصر على مفعول واحد دون الثلاثة ؛ لأن المفعول الأول هاهنا كالفاعل في الباب الذي قبله في المعنى ، وذلك قولك : أرى زيدا بشرا خير الناس ، ونبّأت زيدا عمرا أبا فلان ، وأعلم الله زيدا عمرا خيرا منك".

قال أبو سعيد : اعلم أن هذا الباب منقول من الباب الذي قبله ، وذلك أن الباب الذي قبله كان متعديا إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما ، فنقلت الفعل عن الفاعل إلى من أدخله في فعله ، فصار الفاعل مفعولا ، واجتمع ثلاثة مفعولين ، وصار المدخل له في الفعل هو الفاعل ، وذلك أنك إذا قلت : " علم زيد عمرا منطلقا" ، فيجوز أن يكون أعلمه معلم ، فإذا ذكرت ذلك المعلم ، صيّرت زيدا مفعولا له ، فقلت : " أعلم بكر زيدا عمرا منطلقا".

وهذا الباب يشتمل على ثلاثة أضرب : ضرب منها كان متعديا إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما من السبعة الأفعال التي قدمنا ذكرها في الباب الذي قبل هذا ، وهي ظننت وأخواتها ، وهذا الضرب في فعلين من تلك الأفعال فقط ، وذلك أرى وأعلم منقولان من رأى وعلم. وكان الأخفش يقيس عليها الجميع ، فيقول : " ظنّ زيد عمرا أخاك منطلقا" ، " وأزعمته ذاك إيّاه" ، وكذلك يعمل في الأفعال السبعة ، وغيره لم يجاوز ما قالت العرب.

والضرب الثالث : ما يكون متعديا إلى مفعول أو مفعولين ، ثم يتعدى إلى الظرف ويجعل الظرف مفعولا على سعة الكلام ، فيقال فيما يتعدى إلى مفعول : " سرق زيد عبد الله الثّوب اللّيلة" ، فعبد الله هو المفعول الأول ، وقد سقط منه حرف الجر ، والثوب هو المفعول الصحيح ، والليلة ظرف جعلته مفعولا على السعة ، و" أعطيت عبد الله ثوبا

٢٨٥

اليوم" إذا جعلت اليوم مفعولا على السعة.

وفي النحويين من يقول : إنّ الظرف لا يجعل مفعولا على السعة بعد تعدي الفعل إلى ثلاثة مفعولين ، لأنها نهاية التعدّي ، وإنما يجعل مفعولا على السعة فيما كان يتعدى إلى مفعول ليلحق بما يتعدى إلى ثلاثة.

قال سيبويه : واعلم أن هذه الأفعال إذا انتهت إلى ما ذكرت لك من المفعولين ، فلم يكن بعد ذلك متعدّ ، تعدّت إلى جميع ما يتعدّى إليه الفعل الذي لا يتعدى الفاعل".

قال أبو سعيد : أراد أنّ الفعل الذي يتعدى إلى مفعول أو إلى مفعولين أو إلى ثلاثة ، يتعدّى بعد تعدّيه إلى المفعول أو المفعولين أو الثلاثة إلى الظرف من الزمان والمكان ، والحال ، والمصدر ، وقد بينا هذا فيما مضى.

ومثله سيبويه فقال : " وذلك قولك : " أعطى عبد الله زيدا المال إعطاء جميلا ، فزيد والمال هما مفعولا" أعطى" و" إعطاء" مصدر و" جميلا" نعت ، فتعدّي" أعطى" إلى" إعطاء" ، كتعدّي قام إلى القيام ، إذا قلت : " قام زيد قياما حسنا".

ثم قال سيبويه : " وسرقت عبد الله الثّوب اللّيلة ، لا تجعله ظرفا".

يعني : لا تجعل" الليلة" ظرفا ، ولكنك تجعلها مفعولا على السعة. وقوله." لا تجعلها ظرفا". يعني : أن" سرقت عبد الله الثوب الليلة" يتعدى إلى ثلاثة مفعولين ، إذا لم تجعلها ظرفا وجعلتها مفعول على السعة. وذكر ضمير الليلة في قوله : " لا تجعله ظرفا" ؛ لأنه أراد الوقت ، أو هذا اللفظ.

ثم قال : " ولكن كما تقول : يا سارق الليلة زيدا الثوب ، لم تجعلها ظرفا".

والضرب الآخر : ما كان في معنى الخبر والتقدير فيه" عن" وهو في خمسة أفعال.

نبّأت ، وأنبأت ، وخبّرت ، وأخبرت ، وحدّثت ، كقولك : " أخبرت أباك زيدا منطلقا" و" حدّثت عمرا بكرا أخاك".

وقد قال الحارث بن حلّزة :

 ...

فمن حدّثتموه له علينا العلاء (١)

__________________

(١) البيت في القصائد السبع ٤٦٩.

٢٨٦

فالتاء والميم المفعول الأول ، وقد أقيم مقام الفاعل ، والهاء المفعول الثاني ، و" له علينا العلاء" جملة في موضع المفعول الثالث.

وهذان الضربان المفعول الثالث فيهما خبر عن المفعول الثاني ، ولا يجوز ذكر أحدهما دون الآخر ، ويجوز الاقتصار في هذين الضربين على المفعول الأول ؛ لأن المفعول الأول في هذين الضربين بمنزلة الفاعل ، والفاعل يجوز أن يقتصر عليه ، ألا ترى أن قولنا : " أعلم الله زيدا عمرا منطلقا" : أصله : " علم زيد عمرا منطلقا" وأنت لو قلت : " علم زيد" وسكت عليه جاز ، وكذلك يجوز أن تقول : " أعلمت زيدا" وكذلك : " نبّأت زيدا" ، ولا تذكر أي شيء نبأته ، ويجوز ألا تذكر المفعول الأول وتذكر المفعولين الآخرين ، فتقول : " أعلمت دارك طيّبة" ، وأنت تريد : أعلمت زيدا ؛ لأن زيدا ليس يتعلق بالمفعولين الآخرين ، وليس يضطر الكلام إلى ذكره ؛ لأنه مفعول يستغنى عنه.

وقول سيبويه : " لا يجوز أن يقتصر على مفعول واحد دون الثلاثة" فإن معناه لا يحسن ، ألا ترى إلى قوله : " لأنّ المفعول هاهنا كالفاعل في الباب الذي قبله". ويجوز الاقتصار على الفاعل في الباب الذي قبله.

وكثير من مفسري كتاب سيبويه من المتقدمين والمتأخرين ، ربما قالوا : لا يجوز الاقتصار على واحد من الثلاثة ، تلقّنا من لفظ سيبويه من غير تفتيش ولا تحصيل. والصحيح ما خبرتك به.

يريد : أنك إذا قلت : يا سارق الليلة ، فقد جعلتها مفعولا له على السعة لا غير ، وأضفت إليها اسم الفاعل ، كما تقول : يا ضارب زيد. وإذا قلت : " سرقت عبد الله الثوب الليلة" جاز أن تكون" الليلة" مفعوله على السعة ، وجاز أن تكون ظرفا ، فإن لم تجعلها ظرفا فقد صيرتها بمنزلة" يا سارق الليلة" التي لا تكون ظرفا.

فإن قال قائل : لم جاز أن تكون" الليلة ظرفا إذا لم تضف إليها ، ولا يجوز أن تكون ظرفا إذا أضفت إليها؟

قيل له : معنى الظّرف ما كانت" في" مقدرة محذوفة ، فإذا ذكرنا" في" أو حرفا من حروف الجر ، فقد زال عن ذلك المنهاج ، فإذا أضفناه إليه فقد صارت الإضافة بمنزلة حروف الجر ، فخرج من أن يكون ظرفا.

ثم قال سيبويه ممثلا لما قدم : " وتقول : أعلمت هذا زيدا قائما العلم اليقين

٢٨٧

إعلاما"." فالعلم" مصدر و" اليقين" نعت له ، و" إعلاما" مصدر أيضا ، فجاء بمصدرين ، أحدهما فيه فائدة ليست في الفعل ، وهو العلم اليقين ؛ لأنّ معناه العلم اليقين الذي تعرف ، و" إعلاما" هو تأكيد لأعلمت ، لأنه ليس فيه فائدة أكثر مما في أعلمت.

وقال سيبويه في التمثيل : " وأدخل الله عمرا المدخل الكريم إدخالا" ، فعمرو المفعول الأوّل ، و" المدخل" المفعول الثاني ، و" الكريم" نعت له ، و" إدخالا" مصدر.

هذا باب المفعول الذي تعداه فعله إلى مفعول

قال سيبويه : " وذلك قولك : كسى عبد الله الثّوب ، وأعطى عبد الله المال ، رفعت عبد الله هاهنا ، كما رفعته في ضرب ، حين قلت : ضرب عبد الله ، وشغلت به : كسي وأعطي ، كما شغلت به ضرب ، وانتصب الثوب والمال ؛ لأنهما مفعولان تعدى إليهما فعل مفعول ، هو بمنزلة الفاعل".

قال أبو سعيد : قد قدمنا أنّ الفعل يصاغ للذي يقع به كما يصاغ للذي يقع منه ، وإن كانت الصيغتان مختلفتين ، فإذا قلت : ضرب زيد ، فقد صغت : " ضرب" لزيد ، ورفعته به ، كما أنك إذا قلت : جلس زيد ، فقد صغت" جلس" لزيد ، ورفعته به.

و" ضرب" وبابه يسمى فعل مفعول ؛ لأن الذي صيغ له قد كان مفعولا ، وكان له فاعل مذكور ، فقد علمت أن الفعل إذا ارتفع به فاعله ، فجميع ما تعلّق به سوى الفاعل منصوب وكذلك إذا وضعته لمفعول فرفعته به فجميع ما تعلق به سواه منصوب. فوجب في قولك : " كسى عبد الله الثّوب" و" أعطى عبد الله المال" نصب الثوب والمال ؛ لأن عبد الله قد ارتفع بالفعلين وصيغا له ، وتعلّق الثوب والمال بالفعلين جميعا. فوجب نصبهما كما بينا.

وهذا الباب يتعدّى فعل المفعول فيه إلى مفعول آخر فقط ، واعتبار ذلك أنك تنظر الفعل الذي يتعدّى إلى مفعولين ، وقد سمّي فاعله ، فإذا أردت أن تنقله إلى ما لم يسمّ فاعله حذفت الفاعل وأقمت أحد المفعولين مقامه بصياغة الفعل له ، فصار الفعل للمفعول الذي رفعته ، ونصبت المفعول الآخر ، فصار المفعول متعدّيا إلى مفعول ، ولو كان الفعل الذي يسمى فاعله متعدّيا إلى مفعول واحد ، ثم نقلته إلى ما لم يسمّ فاعله ، أقمت المفعول مقام الفاعل ، فصار الفعل للمفعول ، ولا يتعدّى إلى غيره ، لأنّ المفعول الذي كان يتعدّى إليه قد صار مرفوعا مصوغا الفعل ، وذلك نحو قولك : " ضرب زيد" وقد كان أصله :

٢٨٨

" ضرب عمرو زيدا" فحذفت" عمرا" وقلت : " ضرب زيد". ولو كان الفعل يتعدّى إلى ثلاثة مفعولين ، ونقلته إلى ما لم يسمّ فاعله صار فعل المفعول يتعدّى إلى اثنين ، كقولك : " أعلم زيد عمرا منطلقا" وقد كان : " أعلم الله زيدا عمرا منطلقا" فافهم هذا الترتيب.

ولو كان الفعل غير متعدّ إلى شيء من المفعولات ، فنقلته إلى ما لم يسمّ فاعله أقمت المصدر ، أو الظرف ، أو حرفا من حروف الجرّ المتصلة بالاسم مقام الفاعل ، وذلك قولك : " سير بزيد السير الشّديد فرسخين يومين" ، تقيم الباء مقام الفاعل ؛ وإن شئت قلت : " سير بزيد السير الشّديد فرسخين يومين" ، تقيم" السّير" مقام الفاعل ؛ وإن شئت قلت : " سير بزيد السّير الشّديد فرسخان يومين" و" فرسخين يومان" ، أيّ الظرفين شئت ، أقمته مقام الفاعل.

واعلم أن الفعل الذي يتعدّى يجوز أن لا تذكر مفعوله فيما لا يسمّى فاعله وتقام حروف الجرّ أو الظرف أو المصدر مقام الفاعل ، كقولك : " ضرب بزيد" و" ضرب ضربتان في الدّار اليوم" ، " وضرب اليوم في الدّار ضربتين".

قال سيبويه : " فإن شئت قدّمت وأخّرت ، فقلت : " كسي الثّوب زيد" و" أعطى المال عبد الله ، كما قلت : ضرب زيدا عبد الله ، فأمره في هذا المكان كأمر الفاعل".

وقد بيّنا هذا ، ويجوز أن يقال أيضا فيه : " الثّوب كسي زيد" و" المال أعطى عبد الله" كما تقول : " زيدا ضرب عمرو".

قال سيبويه : " واعلم أن المفعول الذي لا يتعداه فعله إلى مفعول يتعدى إلى كل شيء تعدّى إليه فعل الفاعل الذي لا يتعدّاه فعله إلى مفعول".

يعني : أن قولك : " ضرب زيد" هو فعل للمفعول الذي لا يتعدى إلى مفعول آخر يتعدّى إلى الظرف من الزمان والمكان والمصدر والحال ، كما تعدّى فعل الفاعل إلى هذه الأربعة ، وإن كان لا يتعدّى إلى مفعول غيرها كقولك : " جلس" و" قام" و" ذهب".

ثمّ مثّل تعدّي فعل الفاعل إلى هذه الأربعة فقال : " وذلك قولك : ضرب زيد الضّرب الشّديد" ، فهذا قد تعدّى إلى المصدر.

ثم بيّن أن فعل المفعول قد يجوز أن يجعل الظرف معه مفعولا على سعة الكلام ، كما كان ذلك في فعل الفاعل فقال : " ضرب عبد الله اليومين اللّذين تعلم ، لا تجعله ظرفا" ، يعني اليومين " ولكن كما تقول : يا مضروب اللّيلة الضّرب الشّديد" ، الليلة في

٢٨٩

قولك : " يا مضروب اللّيلة" قد كانت مفعولة على سعة الكلام ، وأضيف إليها" مضروب" كما يضاف الفاعل إلى المفعول في قولك : " ضارب زيد" و" مكسوّ ثوب" و" معطى درهم" بمنزلة" ضارب زيد" ؛ لأن هذا مفعول صيغ له الفعل ، ثم أضيف إلى مفعوله ، كما أن" ضاربا" فاعل صيغ له الفعل ، وأضيف إلى مفعوله.

ومن تمثيله أيضا : " أقعد عبد الله المقعد الكريم" ، المقعد ظرف من ظروف المكان.

ثم قال : " فجميع ما تعدّى إليه فعل الفاعل الذي لا يتعدّاه فعله إلى مفعوله ، يتعدى إليه فعل المفعول ، الذي لا يتعدّاه فعله إلى مفعول" ، يعني : الظرفين ، والحال ، والمصدر. وقد بينا ذلك.

ثم قال : " واعلم أن المفعول الذي لم يتعدّ إليه فعل فاعل في التعدّي والاقتصار ، بمنزلته إذا تعدّى إليه فعل الفاعل ، لأن معناه متعدّيا إليه فعل الفاعل. وغير متعدّ إليه فعله سواء".

يريد : أن المفعول الذي لم يسمّ فاعله ، وهو الذي لم يتعد إليه فعل الفاعل ، إذا كان يجوز الاقتصار عليه في حال تسمية الفاعل ، جاز الاقتصار عليه ، وإن لم يسمّ الفاعل ، وإن كان لا يجوز الاقتصار عليه في حال تسمية الفاعل ، لم يجز الاقتصار عليه في حال ما لم يسمّ فاعله ، وذلك أنّك تقول : " ضرب عمرو زيدا" ، فتقتصر على" زيد" ولا تأتي بظرف ولا مصدر ولا غير ذلك ، و" كسى زيد عمرا" فيجوز الاكتفاء به ، فإذا نقلته إلى ما لم يسمّ فاعله ، قلت : " كسي عمرو" و" ضرب زيد" ، فلا يحتاج إلى غيره. ولو قلت" ظنّ زيد عمرا منطلقا" ، ثم نقلته إلى ما لم يسمّ فاعله قلت : " ظنّ عمرو منطلقا" ولم يجز : " ظنّ عمرو" وتسكت ، كما لم يجز أن تقول : " ظنّ زيد عمرا" وتسكت.

ونقل الفعل إلى ما لم يسمّ فاعله ، لا يجلب للفعل مفعولا لم يكن له في حال تسمية الفاعل ، ولا يزيل عنه مفعولا كان له ، ألا ترى أنك تقول : " ضربت زيدا" فلا تجاوز هذا المفعول ، وتقول : " ضرب زيد" فلا يتجاوزه أيضا الفعل ؛ لأنّ المعنى واحد ، وتقول : " كسوت زيدا ثوبا" فتجاوز زيدا إلى مفعول آخر ، ثم تقول : " كسي زيد ثوبا" فلا تجاوز الثوب.

قال سيبويه : " لأن الأوّل بمنزلة المنصوب" ، يعني" زيدا" في قولهم : " كسي زيد

٢٩٠

ثوبا" بمنزلته في : " كسوت زيدا ثوبا" ، لأن المعنى واحد ، وإن كان لفظه لفظ الفاعل ، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

هذا باب المفعول الذي يتعدّاه فعله إلى مفعولين

وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر

قال سيبويه : " وذلك قولك : نبّئت زيدا أبا فلان ، لما كان الفاعل يتعدّى إلى ثلاثة ، تعدّى فعل المفعول إلى اثنين".

يعني : " نبّأت زيدا عمرا أبا فلان". وقد ذكرنا هذا.

قال : " وتقول : أرى عبد الله أبا فلان ؛ لأنك لو أدخلت في هذا الفعل الفاعل ، وبنيته له ، لتعدّاه فعله إلى ثلاثة مفعولين".

يعني : أنك إذا قلت : " يريني زيد عبد الله أبا فلان" ، تعدى إلى ثلاثة مفعولين فإذا نقلته إلى ما لم يسمّ فاعله تعدى إلى مفعولين ، وقد مر هذا.

ثم قال : واعلم أن الأفعال إذا انتهت هاهنا ، فلم تجاوز ، تعدّت إلى جميع ما يتعدّى إليه الفعل الذي لا يتعدّى المفعول".

يعني : أن الفعل بعد تعدّيه إلى المفعولين في هذا الباب يتعدّى إلى المصادر والظرفين والحال كما تعدى" ضرب زيد" إلى ذلك.

ثم مثل فقال : " أعطي عبد الله الثّوب إعطاء جميلا ، ونبّئت زيدا أبا فلان تنبيئا ، وسرق عبد الله الثّوب اللّيلة ، لا تجعله ظرفا ، ولكن على قولك : " يا مسروق اللّيلة الثّوب".

قال أبو سعيد : أما قوله : " أعطي عبد الله الثّوب إعطاء جميلا" ، فإنه عقد الباب على مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما ، ثم جعل الشاهد : " أعطي عبد الله الثّوب" ، وساغ ذلك ، لأنه أراد أن يبيّن المصدر ، وهو" إعطاء جميلا" ولم يرد أن يمثّل نفس الفعل ، وحين أراد أن يمثل نفس الفعل قال : " نبّئت زيدا أبا فلان" و" أرى عبد الله أبا فلان".

وأما قوله : " نبّئت زيدا أبا فلان تنبيئا" مصدر" نبّئت".

وقد قال سيبويه في باب المصادر : إن" فعّلت" إذا كان لام الفعل منه همزة ، فهو بمنزلة ما لام الفعل منه ياء ، فينبغي أن يجيء على" تفعلة" ، فيقال : " تنبئة"" سرّيته

٢٩١

تسرية" و" سوّيته تسوية" ، وإذا كان صحيحا من غير الياء والهمزة ، جاء على" تفعيل" و" تفعلة" نحو : " كرّمته تكريما وتكرمة" ، و" عظّمته تعظيما".

ورد عليه أبو العبّاس فقال : الهّمزة بمنزلة سائر الحروف الصحاح تجيء على تفعيل ، وظنّ أنّ سيبويه لم يجز التفعيل في باب الهمز ، وقد تكلّم به في هذا الباب ، ولو لا أنه جائز عنده ما تكلّم به ، ولكن الأكثر في باب الهمز التّفعلة ، لأنها يلحقها التليين ، وإن كان التفعيل جائزا في الهمز ، ولكنه ذكر في باب المصادر الأكثر في كلام العرب.

وأما قوله : " سرق عبد الله الثّوب اللّيلة" فإنما قصد أن يبيّن أنّ فعل المفعول قد يجوز إذا كان متعدّيا إلى مفعول واحد أن يجعل الظرف معه مفعولا على السّعة ، وقد ذكرنا نظير هذا.

ثم قال : " صيّر فعل الفاعل والمفعول حيث انتهى فعلهما ، بمنزلة الفعل الذي لا يتعدّى فاعله ولا مفعوله ، ولم يكونا أضعف من الفعل الذي لا يتعدّى".

يعني : أن المفعول والفاعل اللذين يتعدّى فعلهما في تعدّيهما إلى المصدر والظرفين والحال ليسا بأضعف من الفعل الذي لا يتعدّى في تعدّيه إلى هذه الأشياء.

هذا باب ما يعمل فيه الفعل فينتصب

وهو حال وقع فيه الفعل وليس بمفعول

قال سيبويه : " كالثوب في : كسوت الثّوب ، وكسوت زيدا الثّوب ؛ لأنّ الثّوب ليس بحال وقع فيها الفعل ، ولكنه مفعول كالأوّل".

قال أبو سعيد : ضمّن سيبويه هذا الباب ما ينتصب لأنّه حال ، وفرّق بينه وبين ما ينتصب لأنه مفعول ثان ، فيما يتعدّى من الفعل إلى مفعولين ، ولك أن تقتصر على أحدهما ، من قبل أنّ الحال إنما هي وصف من أوصاف الفاعل والمفعول في وقت وقوع الفعل ؛ كقولك : " قام زيد ضاحكا" أي وقع فعله في الحال التي هو موصوف فيها بضاحك ، و" ضرب زيد هندا قائمة" أي وقع الضرب بها في الحال التي هي موصوفة فيها بقائمة ، وإذا قلت : " كسوت زيدا الثّوب" ، فالثوب ليس هو الكاسي ، ولا هو المكسوّ ، فليس بحال وقع فيها الفعل من أحوالهما ، فوجب أن يكون الثوب مثل زيد في فصول الفعل إليه وتناوله له. وهذا معنى قوله : " ولكنّه مفعول كالأول" يعني : الثوب

٢٩٢

مفعول كزيد.

ثم قال : " ألا ترى أنه يكون معرفة ، ويكون معناه ثانيا كمعناه أولا ، إذا قلت : كسوت الثّوب ، وكمعناه إذا كان بمنزلة الفاعل ، إذا قلت : كسي الثّوب".

قال أبو سعيد : أما قوله : " يكون معرفة" ، يعني أن المفعول الثاني مما يتعدّى إلى مفعولين يكون معرفة ، كقولك : " كسوت زيدا الثّوب" ، والحال لا تكون معرفة ، لأنك لا تقول : " قام زيد الضّاحك" فأراك الفرق بين المفعول الثاني وبين الحال.

وأما قوله : " ويكون معناه ثانيا كمعناه أولا" ، يعني : أنّ المفعول الثاني إذا كان معه مفعول ، فهو بمنزلته إذا لم يكن معه مفعول غيره ، وذلك أنك إذا قلت : " كسوت زيدا الثّوب" ، فالثوب هو مفعول ثان ، وقد وصل الفعل إليه ، وإذا قلت : " كسوت الثّوب" ولم تذكر غيره ، فهو أوّل ، ومعناه في الوجهين جميعا واحد ؛ لأنك ، وإن لم تذكر غيره ، فقد علم أنّك ألبسته شيئا ما ، والحال ليس كذلك ؛ لأن الحال لا تقوم بنفسها منفردة عن الأسماء التي هي حال منها كما انفرد الثوب عن المفعول الأوّل ، لا تقول : " ضربت قائمة" وتنصب قائمة على الحال ، وأنت تريد : " ضربت هندا قائمة".

وأما قوله : " كمعناه إذا كان بمنزلة الفاعل" ، يعني : أن الثوب قد يقوم مقام الفاعل فيقال : " كسي الثّوب" ، ولا تقام الحال مقام الفاعل ، ففرّق بينها ، لاختلاف حكمها.

ثم مثّل الحال الذي عقد الباب عليه فقال : " وذلك قولك : ضربت عبد الله قائما ، وذهب زيد راكبا ، فلو كان بمنزلة المفعول الذي يتعدّى إليه فعل الفاعل : نحو عبد الله وزيد ، ما جاز في ذهبت".

يعني لو كان ما ينتصب بالحال كالمفعول نحو : عبد الله وزيد ما جاز الحال من" ذهب" لأنّ" ذهب" لا يتعدّى إلى مفعول فلما جاز" ذهبت راكبا" ولم يجز" ذهبت زيدا" علمنا أنه ليس مثله.

ثم قال : " ولجاز أن تقول : ضربت زيدا أباك ، وضربت زيدا القائم ، لا تريد بالأب ولا بالقائم ، الصفة والبدل".

يعني : أنه لو كان الحال بمنزلة الاسم المفعول لجاز أن تأتي" لضربت" بمفعول ثان فتقول : " ضربت زيدا أباك" على أن تجعل : " زيدا" المفعول الأول ، و" أباك" مفعولا ثانيا ،

٢٩٣

ولا تجعله نعتا لزيد ، كذا" ضربت زيدا القائم" ، كما قلت : " ضربت زيدا قائما" ونصبته على أنّه حال ، فلما جاز في" ضربت زيدا" أن تأتي بمنصوب آخر حال ، ولا تأتي بمنصوب آخر مفعول ، كزيد وعمرو ، علمنا أن الحال لا تشبه المفعول.

قال سيبويه : " فالاسم الأوّل المفعول به في ضربت ، قد حال بينه وبين الفعل أن يكون فيه بمنزلته ؛ لأن ضربت إنما يتعدّى إلى مفعول واحد ، كما حال الفاعل بينه وبين الفعل في ذهب ، أن يكون المفعول به فاعلا ، وكما حالت الأسماء المجرورة بين ما بعدها وبين الجار ، في قولك : لي مثله رجلا ، ولي ملؤه عسلا ، وما في السّماء موضع راحة سحابا ، وكذلك : ويحه فارسا".

قال أبو سعيد : أما قوله : " فالاسم الأوّل المفعول في ضربت ، قد حال بينه وبين الفعل" ، يعني : أنّك إذا قلت : " ضربت زيدا قائما" فزيد الذي هو المفعول الأوّل قد اكتفى به" ضربت" في التعدّي إليه ، فامتنع" قائم" من وصول الضرب إليه ، كما يصل إلى المفعولات ، فانتصب ، لأنّه حال ، كما أنك إذا قلت : " ذهب زيد راكبا" فقد اكتفى" ذهب" بزيد ، لأنه فاعل له ، فلم تصر الحال فاعلا ، فقد صار الفاعل حائلا بين الفعل وبين الحال أن يكون فاعلا. ومثل ذلك أنّك إذا قلت : " لي مثل هذا الجيش رجلا" و" ملء هذا القدح عسلا" فقد أضفت" مثل" إلى الجيش. ونصبت" رجلا" على التمييز ، وكذلك" عسلا" ؛ لأنّ المضاف إليه وهو المجرور قد حال بين الاسم المضاف وهو" مثل" و" ملء" وما أشبه ذلك ، وبين" رجلا" و" عسلا" وما أشبه ذلك ، أن يكون مجرورا ؛ لأنّه قد استوفى الجرّ ، وليس ينجرّ به اثنان ، فانتصب لأنه تمييز كما انتصب الحال ، بعد استيفاء الفعل لفاعله ومفعوله ؛ لأنه حال ، ولم يصر فاعلا ولا مفعولا ، وكذلك : " ويح زيد فارسا" بمنزلة : " لي مثل الجيش رجلا" والهاء في" مثله" و" ملؤه" و" ويحه" أسماء مجرورة.

ثم قال : " وكما منعت النون من عشرين أن يكون ما بعدها جرّا".

يعني أنك تقول : " عشرون درهما" فتنصب" درهما" على التمييز ، وقد حالت النون بين" عشرون" وبين" درهم" أن ينجرّ الدّرهم ، بإضافة العشرين إليه ، ألا ترى أنك تقول : " عشرو زيد" إذا أردت إضافتها إلى مالكها ، وتحذف النون ، فقد علمت أن النون حائلة بين" عشرو" وبين" الدرهم" أن يكون منجرّا.

ثم قال : " فعمل الفعل هاهنا فيما يكون حالا ، كعمل : لي مثله رجلا ، فيما بعده".

٢٩٤

يعني : أن عمل الفعل في الحال ، كعمل ما ينصب على طريق التمييز ، وذلك أن الحال لا تكون إلا نكرة ، والتمييز لا يكون إلا بنكرة ومعناهما متقارب ، وذلك أنّك إذا قلت : " جاء زيد" فإن مجيئه يصلح أن يكون واقعا في حال من أحوال يمكن أن يكون له ، فإذا قلت : " راكبا" فقد ميّزت هذه الحالة من سائر الأحوال المقدّرة ، وإذا قلت" جاءني عشرون" يصلح أن يكونوا من أنواع كثيرة ، فإذا قلت : " رجلا" بينت واحدا من الأنواع الممكنة ، غير أنّ النوع المميّز غير الشيء المميّز ، والحال هي اسم الفاعل والمفعول في حال وقوع الفعل ، فهما مختلفان في أنفسهما ، ومتقاربان في طريق نصيبهما.

ثم قال سيبويه : " ألا ترى أنه لا يكون إلا نكرة ، كما أن هذا لا يكون إلا نكرة" يعني : لا تكون الحال إلا نكرة ، كما لا يكون التمييز إلا نكرة.

ثم قال : " ولو كان هذا بمنزلة الثّوب وزيد في : كسوت لما جاز في ذهبت راكبا ، لأنه لا يتعدى إلى مفعول".

يعني : لو كان الحال بمنزلة الثوب لما جاز ذهبت راكبا ، ما لا يجوز : " ذهبت الثّوب و" ذهبت زيدا".

ثم قال : " وإنما جاز هذا لأنه حال وليس معناه كمعنى الثوب وزيد ، فعمل كعمل غير الفعل ولم يكن أضعف منه ، إذ كان يتعدّى إلى ما ذكرت من الأزمنة والمصادر ونحوه".

يريد : إنما جاز تعدّي الفعل إلى الحال ، وإن كان الفعل لا يتعدّى إلى مفعول كما يعمل غير الفعل وهو" عشرون درهما" ونحوه ، " ولي مثله رجلا" ، ولم يكن الفعل في تعدّيه إلى الحال بأضعف من عمل العشرين في التميز ؛ لأنّ الفعل يتعدّى إلى الظروف والمصادر وليس كذلك العشرون.

هذا باب الفعل الذي يتعدّى اسم الفاعل إلى اسم المفعول

واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد

" فمن ثم ذكر على حدته ، ولم يذكر مع الأوّل ، ولا يجوز فيه الاقتصار على الفاعل ، كما لم يجز في ظننت على المفعول الأول : لأنّ حالك في الاحتياج إلى الآخر هاهنا ، كحالك في الاحتياج إليه ثمة ، وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى".

٢٩٥

قال أبو سعيد : اعلم أنّ هذه الأفعال التي ضمّنها هذا الباب أفعال تدخل على مبتدأ وخبر فتفيد فيها زمانا محصلا أو نفيا أو انتقالا أو دواما ، فمن ذلك : " كان" ولها ثلاثة معان ، أحدها : ما ذكرناه ، كقولك : " كان زيد عالما" ، وكان الأصل : " زيد عالم" فدخلت" كان" لتوجب أنّ ذلك في زمان ماض ، وكذلك : " يكون زيد منطلقا".

وقد يكون ما جعلته" كان" في الزّمان الماضي منقطعا ، وغير منقطع ؛ فأما ما لم ينقطع فقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)(١) وهو في كل حال موصوف بذلك عزوجل ، وأما ما قد انقطع فقولك : " قد كنت غائبا وأنا الآن حاضر". وقد يحتمل أن يكون" وكان الله عليما حكيما" في تأويل المنقطع ، ومعناه : ما وقع عليه العلم والحكمة ، لا العلم والحكمة ، كما قال الله تعالى : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ)(٢) والمعنى : حتى يجاهد المجاهدون منكم ونحن نعلمهم.

والمعنى الثاني من معاني كان : أن تكون في معنى : حدث ووقع ، كقولنا : " كان الأمر" أي حدث.

والوجه الثالث : أن تكون زائدة. وقولنا : " تكون زائدة" ليس المعنى بذلك أنّ دخولها كخروجها في كل معنى ، وإنما يعني بذلك أنه ليس لها اسم ولا خبر ، ولا هي لوقوع شيء مذكور ، ولكنها دالّة على زمان ، وفاعلها مصدرها : وذلك قولك : " زيد كان قائم" و" زيد قائم كان" تريد ذلك الكون ، وقد دلّت كان على الزمان الماضي ؛ لأنك لو قلت : " زيد قائم" ولم تقل : " كان" لوجب أن يكون ذلك في الحال.

وقال الشاعر :

سراة بني أبي بكر تساموا

على كان المسوّمة العراب (٣)

يريد : على المسوّمة العراب كان ذلك الكون. ومثل ذلك قولنا : " زيد ظننت منطلق" وألغينا" ظننت" ولم نعملها ، ومع ذلك فقد أخرجت الكلام من اليقين إلى الظنّ. كأنك قلت : زيد منطلق في ظنّي. وكذلك قولك : " زيد منطلق كان" وإن لم تعمل" كان" في اللّفظ ، فقد أوجبت أن هذا المعنى في زمان ماض.

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ١٠٤.

(٢) سورة محمد ، آية : ٣١.

(٣) البيت بلا نسبة في الخزانة ٤ / ٣٣.

٢٩٦

ولكان أخوات وهي : صار ، وأصبح ، وأمسى ، وظلّ ، وأضحى ، وبات ، وليس وما زال ، وما دام ، وما تصرّف منهنّ ؛ فأما صار ففيها معنى الانتقال ، وهي تدخل على جملة لم يكن لها مثل تلك الحال من قبل ، كقولك : " صار زيد عالما" و" صار الطين خزفا" ، أي انتقل إلى هذه الحال. وقد تدخل على غير جملة لما فيها من معنى الانتقال كقولك : " صار زيد إلى عمرو". وأنت لا تقول : زيد إلى عمرو ، ولكنه بمعنى انتقل إلى عمرو.

وأما أصبح وأمسى وأضحى وبات وظلّ فهي أوقات مخصوصة دخلن على جمل ، فإذا قلت : " أصبح عالما" فكأنك قلت : دخل في وقت الصباح وهو عالم ، وإذا قلت : " أمسى" فقد قلت : دخل وقت المساء وهو كذلك : " أضحى" : دخل وقت الضّحى. و" ظلّ زيد منطلقا" : أتى عليه النهار وهو منطلق. و" بات زيد قائما" : أي أتى عليه الليل وهو قائم ، فهذه أوقات مخصوصة. والذي يعمّها ويكون مبهما واقعا لكل وقت : " كان".

وبينهنّ وبين" كان" فرق ، وذلك أنّ" كان" لما انقطع ، و" أضحى" و" أمسى" و" بات" غير منقطع ، ألا ترى أنّك تقول : " أصبح زيد غنيا" فهو غنيّ في وقت إخبارك ، غير منقطع غناه ، وربما توسّعت العرب في بعض هذه الأفعال ، فاستعملوه في معنى : " كان" و" صار" فيقولون : " أصبح زيد غنيّا" ولا يقصد إلى وقت الصباح دون غير هذا. قال الشاعر :

ثمّ أضحوا كأنّهم ورق جفّ

فألوت به الصّبا والدّبور (١)

ولم يقصد إلى وقت دون وقت.

وأما" ليس" فإنها تدخل على جملة فتنفيها في الحال ، كقولك" ليس زيد قائما" والأصل : " زيد قائم" قبل دخول" ليس" وفيه إيجاب قيامه في الحال ، فإذا قلت : " ليس زيد قائما" فقد نفيت هذا المعنى ، وكان الأصل في" ليس" : " ليس" مثل : " صيد البعير" فخفّفوه ، وألزموه التخفيف ؛ لأنه لا يتصرّف للزومه حالة واحدة ، وإنما تختلف أبنية الأفعال لاختلاف الأوقات التي تدلّ عليها ، وجعلوا البناء الذي خصّوه به ماضيا لأنّه أخفّ الأبنية.

فإن قال قائل : وما الدّليل على أن ليس فعل؟ قيل له : الدليل على ذلك اتصال

__________________

(١) البيت لعدي بن زيد العبادي في ديوانه ص ٩٠.

٢٩٧

الضمائر بها التي لا تتصل إلا بالأفعال ، كقولك : لست ولسنا ولستم والقوم ليسوا قائمين.

وأما" ما زال" فما للنفي و" زال" للنّفي فصار المعنى بدخول النّفي على النّفي إيجابا فإذا قلت : " ما زال زيد قائما" و" لم يزل بكر منطلقا" و" لا يزال أخوك في الدّار" فقد أوجبت ذلك كلّه بنفي النفي. ولا تستعمل" زال" إلا مع حروف النفي ؛ لو قلت : " زال زيد منطلقا" لم يجز ، ولو قلت : " ما زال زيد إلا منطلقا" لم يجز ؛ لأنّك لمّا أدخلت" إلا" انتقض معنى" ما" فصار تقديره : " زال زيد منطلقا" وهذا لا يجوز.

وأما قوله : " ما دام زيد منطلقا" فليست" ما" هاهنا مثلها في قولك : " ما زال زيد منطلقا" ؛ لأنّ" ما" في" ما زال" للنفي ، و" ما" هاهنا مع بعدها من الفعل في موضع مصدر يراد به الزّمان ، وذلك أنّك إذا قلت : " أنا أقوم هاهنا ما دام زيد قاعدا" فمعناه : " أقوم هاهنا دوام زيد قاعدا" ، وتريد بالدوام : وقت الدّوام ؛ تقول : " جئتك مقدم الحاجّ" ، تريد وقت مقدم الحاج. ولو قلت : " ما دام زيد قائما" من غير أن يكون معه كلام ، لم يجز ؛ لأنه في معنى ظرف من الزّمان ، فيحتاج إلى ما يقع فيه. ولو قلت : " ما زال زيد قائما" كان كلاما تامّا ، ولا يستعمل" ما دام" إلا بلفظ" ما" ؛ لأنّ" ما" وما بعدها بمعنى المصدر. و" ما زال" يجعل مكان" ما" حروف النفي فيقال : " لم يزل" و" لا يزال" ولن يزال".

وقد يقتصر في بعض هذه الأفعال على الفاعل ، كقولك : " أصبح الرجل" و" أمسى زيد" و" أضحى بكر" أي دخل في هذا الوقت ، كما يقال : " أظهر الرجل" أي دخل في وقت الظّهر ، ويقال : " دام الرّجل على فعل كذا" و" دام الرّخص بحمد الله تعالى".

وكل هذه الأفعال يستعمل فيها الماضي والمستقبل إلا" ليس" و" ما دام" فإنّ" ليس" ليس لها مستقبل ، و" ما دام" إذا جعلت في مذهب" كان" في جعل الاسم والخبر لها ، تقول : " آتيك ما دام زيد صاحبك" ، ولا يقال : ما يدوم زيد صاحبك ؛ وذلك أن قولك : " ما دام" ليس لها إلا طريقة واحدة ، فاختير له بناء واحد ، وإنما يستعمله القائل فيما قد وقع ويشترط اتّصاله ودوامه ، والفعل الذي يقع على" ما دام" مستقبل أبدا.

وهذه الأفعال إذا كانت مقدّرا دخولها على اسم وخبر لم يجز الاقتصار على الاسم دون الخبر ، ولا على الخبر دون الاسم ، كما لم يجز الاقتصار على المفعول الأوّل في" ظننت" ولا على الثاني. وقد بيّنا ذلك فيما مضى.

وذكر سيبويه من جملة هذه الأفعال : كان ، ويكون ، وصار ، وما دام ، وليس ، ثم قال

٢٩٨

بعقب ذلك : " وما كان نحوهنّ من الفعل مما لا يستغني عن الخبر". وقد ذكرنا جملة ذلك.

ويلحق به : " ما فتئ" وهو بمعنى : " ما زال" ، وكذلك : " ما انفكّ" ، ولا يستعملان إلا في النّفي ، كقولك : " ما فتيء زيد قائما" و" لا يفتأ منطلقا" و" ما انفكّ ذاهبا" و" لا ينفّكّ منطلقا" ، ويلحقون به أيضا : " طفق" ، تقول : " طفق زيد يفعل كذا" كما تقول : " ظلّ يفعل كذا" و" بات باللّيل يفعل كذا" غير أنّ" ظل" بالنهار ، و" بات" بالليل ، و" طفق" تصلح بالنهار والليل.

ثم مثل سيبويه فقال : " تقول : كان عبد الله أخاك" ، فإنّما أردت أن تخبر عن الأخوّة وأدخلت كان لتجعل ذلك فيما مضى ، وذكرت الأوّل كما ذكرت المفعول الأول في" ظننت".

يعني أن الفائدة في قولك : " كان عبد الله أخاك" الإخبار عن الأخوّة ، وكذلك الفائدة في كل اسم وخبر في الخبر دون الاسم.

وقوله : " أدخلت كان لتجعل ذلك فيما مضى" ، يعني أنّ كان دلت أن الفائدة المستفادة بالخبر فيما مضى من الزّمان ، وذكرت الاسم لتعلم أنه صاحب هذه الفائدة ، كما ذكرت المفعول الأوّل في باب" ظننت".

ثم قال : " وإن شئت قلت : كان أخاك عبد الله ، وقدّمت وأخّرت ، كما فعلت ذلك في : ضرب ، لأنه فعل مثله".

يعني أنّ تقديم المنصوب في هذه الأفعال كتقديم المفعول. فجاز أن تقول : " كان أخاك عبد الله" كما جاز" ضرب أخاك عبد الله" و" أخاك كان عبد الله" كما تقول : " أخاك ضرب عبد الله". ويجوز ذلك في سائر أفعال هذا الباب.

فأما" ما زال" و" ما فتيء" و" ما دام" فلا يجوز تقديم الأسماء على" ما" فيهنّ ، وذلك أن (ما) في" ما زال" و" ما فتيء" و" ما انفكّ" للنّفي ، ولا يجوز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها فلا يجوز أن تقول : " زيدا ما ضرب عمرو" وأنت تريد : " ما ضرب عمرو زيدا" وقد كان أبو الحسن بن كيسان يجيز : " قائما ما زال زيد". وقد بيّنّا فساد ذلك.

ويجوز في" لا" و" لم" تقديم الخبر ، فتقول : " قائما لم يزل زيد" و" قائما لا يزال زيد" كما يجوز أن تقول : " زيدا لم يضرب عمرو" و" زيدا لا تضرب".

٢٩٩

وأما" ما دام" فإنّ" دام" و" ما فتيء" واحد ، فلا يجوز أن يتقدم (ما) شيء عمل فيه" دام" ؛ لأنّ دام صلة لما ، ولا يفّرّق بين (ما) وبينها ، كما لا يفرّق بين (أن) الخفيفة والفعل ، فلا يقال : " آتيك قائما ما دام زيد".

وأما" ليس" فإن الذي يدلّ عليه قول سيبويه في باب سأقفك عليه ، إذا انتهينا إليه أن تقديم الخبر عليها جائز ، فتقول : " قائما ليس زيد". وبعض النحويين يأباه ولا خلاف بينهم في جواز تقديم الخبر على الاسم بعد ليس ، كقولك : " ليس قائما زيد".

قال سيبويه : " وحال التقديم والتأخير فيه كحاله في : ضرب إلا أنّ اسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد".

يعني تقديم الخبر على الاسم في" كان" كتقديم المفعول في" ضرب" إلا أنّ الاسم المرفوع والمنصوب في كان لشيء واحد ، وفي ضرب لشيئين.

قال سيبويه : " وتقول : كناهم ، كما تقول : ضربناهم. وتقول : إذا لم نكنهم ، فمن ذا يكونهم ، كما تقول : إذا لم نضربهم ، فمن ذا يضربهم".

أراد الدلالة على أن كان وأخواتها أفعال ؛ لاتصال الفاعلين بها ووقوعها على المفعولين ، كما يكون ذلك في ضربناهم.

وقوله : " إذا لم نكنهم" يكون على وجهين ؛ أحدهما : إذا لم نشبههم ، ألا ترى أنّك تقول : " أنت زيد" ، في معنى : مشبه له.

والوجه الآخر : أن يقول قائل : من كان الذين رأيتهم أمس في مكان كذا وكذا ، فيقول المجيب : " نحن كنّاهم" إذا كان السائل قد رآهم ، ولم يعلم أنهم المخاطبون. قال أبو الأسود الدؤلي :

فإن لا يكنها أو تكنه فإنّه

أخوها غذّته أمّه بلبانها (١)

فجعل" يكون" فعلا واقعا على الضّمير ، وفيه ضمير فاعل ، وإنما يصف الزّبيب والخمر وقبل هذا البيت :

دع الخمر تشربها الغواة فإنّني

رأيت أخاها مغنيا لمكانها

يعني بأخيها الزّبيب. ثم قال : " فإن لا يكنها" يعني إن لا يكن الزّبيب الخمر

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ٨٢ ، ولسان العرب (كون) ، والخزانة ٢ / ٤٢٦.

٣٠٠